دون مواربة من أي نوع يقدم لكتابه (ما بعد الكتابة – نقد أيديولوجيا اللغة) بالسؤال – السبب – في العمل على ظهور هذا الكتاب إلى النور, مع تأخره إلى أن وجد الناشر، عن السؤال المنبه كتب خضر في روايته (الوشيجة) يقول هنري ميلر: نحن لم نحدث، لأننا لم نكن موضوعاً لتفكير أحد. إن ما حدث أثناء قراءتي هذا المقطع هو أنني أصبت بقشعريرة غير مفسرة، شديدة الغموض، ناعمة، وواخزة أيضاً. يعود ذلك، على الأرجح، إلى سؤال ظهر حينها إزاء حدوثي الشخصي، ثم انتقل، هكذا، إلى الحدوث العربي. إذ إن العرب، حقاً، ومنذ انهيار حضارتهم الكلاسيكية، أو ربما، منذ انهيار الأندلس لم يحدثوا. فلقد تناولت مفهوم الحدوث على أنه التحقق الوجودي. من هذه القشعريرة، وفيها، حرفياً، وُلد هذا الكتاب. هكذا بدأ خضر، وانتهى بمقولة: يمكن أن تكون عبارة «كتابة الحدوث»هي العنوان المضمر لهذا الكتاب.
حين يصبح المبدع المثقف المنخرط في الحياة بكل ما تحمله كلمة حياة من معانٍ وآفاق، لا يستطيع أن يبقى في المتن دون حراك ديالكتيكي، بخاصة إذا كان يبحث عن جدوى ذات فعالية يكتنفها همّ حقيقي، والهمّ الحقيقي دائماً يمزج الخاص بالعام، إذ لا يمكن لأي دارس أن ينظر للإبداع العربي بمعزل عن أحوال العرب وطرائقهم في التعاطي مع أنفسهم بحيث هم جزء من هذا العالم. لهذا كانت الدراسة المتبعة في هذا الكتاب مرتكزة على منحيين، الأول، من داخل، والثاني، من خارج. من داخل فقد استعرض خضر تاريخياً ألبُنى الفكرية لموضوع علاقة الكلمة مع الشيء, أو علاقة الكتابة مع الوجود أو الكينونة. أما من خارج فقد توقف عند الحافّـة لينظر مليّـاً وبطريقة بانورامية إذا جاز لي التعبير، مستفيداً من النظريات الفلسفية والنقدية الكونية، في التحليل والمراجعة والمثاقفة، بلا تعصب، أو تشنج، أو تمسّـك بدوغما نظرية مسبقة أراد تطبيقها قسراً. يحتوي ألقسم الأول المعنون – من الكلمة إلى اللغة – على – برج بابل، الكلمة الخالقة (وحدة الكون)… في بابل لا وجود لشيء قبل تسميته، إنه ينوجد مع التسمية، ما يعني أن العلاقة بين الاسم والمسمى تطابقية. حين اكتملت الأنساق الصغرى وأُطلقت التسمية الأولى، تم التعبير عن ذلك ببناء النسق الأكبر: برج بابل، كبرج لغوي يحتضن الدلالات جميعها، ونصب الإله مردوخ في أعلى البرج على أنه إله الدلالة، معلناً اكتمال النظام العام لذلك الكون البدئي الشفاف بأضلاعه الأربعة: الرب والإنسان والطبيعة واللغة، حيث نصيب كلٍ منها في الخلق مساوٍ لنصيب الآخر، وحيث العلاقة بين طرفي العلامة علاقة تشابه، في أسطورة الخلق الأولى: الإينوماإيليش. الفصل الثاني: التوراة – الكلمة الضحية (الكون المشروخ)… وقف اليهود أمام ذلك البرج الذي يحتوي الوجود ويصونه, بارتياب. فقد وجدوا أن النظام العام لذلك الوجود يتعارض مع طموحهم وطموح إلههم «يهوه» في الاستئثار والتفرد والسيادة، فحاولوا، مستفيدين من نظام الكلمة الخالقة، العبث بذلك النظام، مع ما يترتب من حدوث اضطراب وفوضى عظيمين. وذلك كله لإنشاء وجود آخر يسمح بتحقيق طموحهم، ولم تنقصهم القدرة، فهم «سا. غاز» أي قطاع طرق -. ففصلوا الإله عن الإنسان، واستبدلوا بمردوخ يهوه، وبالإينوما إيليش التوراة: وثيقة انهيار البنية البابلية ونشوء بنية أخرى على حسابها. الفصل الثالث: المسيحية (الكلمة المصلوبة – الكون يائساً من وحدته -)… بقيت الكلمة بالمفهوم البابلي تقاوم، واستطاعت الظهور، هنا، على أنها مقدسة. فقد ظهرت بوصفها المسيح الذي دعا كثيراً للعودة إلى شفافية النظام الكوني العام، عبر طروحات المحبة والتسامح والسلام، ووضع لك في الأناجيل. إلا أن الإكليروس المسيحي ربط الأناجيل بالتوراة، وحدث، جراء ذلك، تصادم عنيف بين البنيتين، كان من نتيجته إعلان موت الكلمة، وقد تم التعبير عن ذلك بصورة تراجيدية: صلب المسيح. الفصل الرابع: المانوية – التبشير بالكتابة (الكون حدائق من نور)… من بابل ذاتها سيظهر ماني، متهماً: أن الأناجيل كتبها يهود، أو أنهم، في أحسن الأحوال، نقّحوها. ورهن حياته وفلسفته لإحياء الإنسان الأول والكون الأول، ونظّم ذلك فيما سمّاه: عمود النور، كاسم بديل عن برج بابل،فالبرج يقوم على نظام الكلمة الخالقة، فإن الكلمة ماتت، فيجب أن يحل محلها نظام خالق آخر، فأدرك بوعي مبكر، أن ذلك النظام هو الكتابة. فاعتبر، لمجرد أنه يكتب، أن ذلك دليل على صحة دعوته، وكي يؤكد عليها زين كتاباته برسوم احتفالية، إشارة إلى الزمن القادم زمن كتابة. القسم الثاني والمعنون – من اللغة إلى الكتابة – يجمع فصلين الأول: النص القرآني – من «التفكير حول اللغة» إلى «التفكير حول الكتابة». والثاني: الصوفية العربية الإسلامية – جنون اللغة – جنون الكتابة – 1 – إسرارية اللغة – 2 – الخلق كتابة -… في مكان قصي وناء سوف تكون اللغة «بيت الوجود» وفق تعبير لهيدغر. وسوف يقوم الشعراء العرب، بوصفهم يقيمون في منطقة الـ«ما – بين» بين الآلهة والبشر، بحراسة هذا البيت وإنشاء الوجود انطلاقاً من اللغة، سينشئون أبراجاً لغوية كبيرة تسمى قصائد ومعلقات: ينامون فيها ويعيشون في ردهاتها. لكنهم وإن كانوا كائنات من لغة، إلا أن أجسادهم اللغوية لم تتزامن مع أجساد كتابية، لذلك لم يكن من العسير حرف مساراتهم، واعتبارهم «جاهليين» يجب إيقاظهم. في الوقت الذي راحوا ينحسرون فيه، فإن دمهم اللغوي أخذ يتسرب في الكون، وسيفرض نوعاً من التفكير الحاد حول اللغة، سيتجلى في مظهر باذخ: النص القرآني. ظهر النص القرآني بوصفه لغة، لغة الله، فقد نشأ تفكير دامٍ حولها، كان من تداعياته نشوء ثقافة جديدة، وقد أثبت ذلك التفكير أن الكلمة البابلية عادت للظهور، مرة أخرى، إنما على شكل لغة خالقة: بدءاً منها تأسس معنى ووجود جديدان، تم بناء برج لغوي احتضن الدلالات جميعها. كان من دواعي حماية «الكتاب» من التحريف والتقويل، وبصفة أساسية، من اللحن في قراءته، كتابته. إذ إن اللغة، بالاستفادة مما حل بالحياة الجاهلية، كي تحقق غايتها يجب أن تكون مكتوبة. وعلى هذا سوف ينقسم التاريخ العربي إلى مرحلتين: ما قبل الكتابة، وما بعدها.
كما فعل الإكليروس المسيحي، كذلك فعل فقهاء المسلمين بالإسلام، فحولوه من كونه ثقافة إلى كونه مؤسسة تنتظم بشرائع ولوائح جعلت الله في مكان بعيد لا يطاله البشر، وجعلت البشر في مكان معزول، مطرود، مهدد، بصفة مستمرة، بالزوال. وحولت النص من كونه بيتاً للدلالة ومانحاً إياها إلى كونه نصاً مغلقاً جامداً لا يحمل سوى سيف القتل. فكان لابد لهذا النسق الكلي أن يفتح أفقاً يزيل الحجب عن العلامات ويصيغ علامات مرئية بالتأويل اللغوي مما أدى إلى نشوء الكون الصوفي. وفيما كان النص الصوفي يرى إلى الوجود يخرج من كتابته، وفيما كان يرى إليه مختلفاً مع كل كتابة، أدرك أن الوجود بعد الكتابة لاقبلها. وقد وصل الأمر بابن عربي ليعلن، دون تباطؤ, إن «الخلق كتابة». لكن الذي حدث أن همشت الثقافة العربية الرسمية النص الصوفي، وحتى اللحظة لم ينظر إليه على أنه جزء من نسيج الثقافة العربية. يقول خضر الآغا: أردت الدخول في فراغات الثقافة العربية بعامة، وثقافة المنطقة بخاصة، بغية قراءة العلامات التي لم تزل نائمة في هذه الفراغات لإيقاظها وإنطاقها، لعل قراءتها تصنع بداية ما لتشكيل ثقافي محتمل. في القسم الثالث: الوجود كأثر للكتابة يحوّل ما عرضه في القسمين السابقين الى بنية معرفية مرنة تناقش هذا الثبات والموات الذي تعانيه الثقافة العربية منذ عهود، وكيفية الخروج من العماء إلى النور، والعودة للمساهمة بالحضارة الكونية الإنسانية عن طريق الإبداع – أو كتابة الحدوث – وهي عنوان الفصل الأول – المتضمن: تعريفات. الجذر التاريخي. كتابة الحدوث والتأويل. كتابة الحدوث وأيديولوجيا اللغة. الحدوث مستويان: ذهني وواقعي. الذهني هو الكتابة، التي تنقل الحدث الواقعي من مستوى زواله إلى مستوى بقائه أثراً يدل عليه. أن يحدث الذهن، يعني أن ينتقل من دائرة مصادره التي صاغته، والتي جعلت من نفسها، بالوقت ذاته، سلطات عليه، إلى مستوى يستطيع فيه ومعه أن يخط سيرته بعيداً عن أية سلطات تقسره، أو تمنحه سيرة أخرى، وبعيداً عن أي كيان افتراضي أو تاريخي يدعي أنه حامل المعنى. ويتابع…الوعي العربي مصاغ مسبقاً بالموروث بعلاقة إصغاء لا حوار. وايضاً بالمؤسسة عبر ربط كافة الاتجاهات الثقافية بالدين كمرجع نهائي. كذلك بالآخر، الغربي بعامة والأمريكي بخاصة وصيغ بثلاثة خطابات، رفض.. أو استلاب أو بين هذا وذاك، بحيث ظل الغرب هو الهاجس الذي يحرك الوعي العربي. إن مصادر الوعي المذكورة وهي سلطات عليه، تتكثف جميعها لتكّون ما يسمى بالسائد. إذاً كتابة الحدوث هي تفكيك الوعي العربي، وتفكيك مصادره، وتعريتها، وتبيان طرائق تشكلها وآليات عملها، وتفحص الشروط التي أنتجتها تفحصاً دقيقاً. وفيما تفعل ذلك، فإنها تخط سيرة أخرى.
التفكير حول اللغة، لغوياً، قاد إلى مايمكن تسميته: أيديولوجيا اللغة – إن كان على المستوى العربي أو غير العربي، فتم إنشاء خطاب بلاغي متقعر يزيف الوجود، ويموه عليه. إن نقد اللغة يتخذ لدينا منحى محدداً ودقيقاً: هو نقد أيديولوجيا اللغة. فتصبح حسب الآغا الكتابة هي بيت الوجود، بمعنى أن معنى اللغة هو معنى الإنشاء الكتابي للوجود، وليس معنى حلولها محل الوجود. ويتابع المؤلف في الفصل الثاني بعض التجارب التي ساهمت بالاختراقات، في المركز الغربي ثقافيأ، – ادوار سعيد، رشدي وتوني موريسون. ومحلياًالطفح العشبي الذي ترفده الثقافة الشعبية. وأخيراً وليس آخراً، الفصل الثالث: – المكتوب – / الكتابة الكتابة / الحدوث. ما الذي يجعل من المكتوب كتابة ؟.. أولا: التأتأة داخل اللغة.. ثانيا: يصل إلى / يعبر عن.. ثالثا:الهجرة / الاستقرار.. رابعا: العشبية – الـ «ما ـ بين «.. خامسا: الكتابة بلا غاية.
التأتأة أو إيقاف التدفق الفطري للغة، بالخروج عن السياق أو النسق، مثال: الماغوط وأنسي الحاج. التأتأة تقدم ثقافة مضادة للسائد. في الختام يدعو خضر الآغا إلى حرق السماكات التي لم تنفك تعيق الوجود العربي من التحقق، وبصفة خاصة سماكات السلطتين: الدينية بمظهرها المؤسساتي الآمر المانع، والدنيوية بأدواتها المسيطرة. مع الحفاظ على المكتبات الشخصية لأنها مكتبات تسمية.. مكتبات خلق. هنا ينحاز المؤلف إلى الحرية الفردية مهما كان الثمن المدفوع، كي ينزع عن كاهل – كل من له علاقة بفعل الكتابة بلا غاية – أي نوع من أغلال التسلط المادي القهري، وحتى الشفاف المقنع برهبة الكتاب المؤسساتي.
يمكنني القول أن هذا الكتاب يعتبر إضافة ضرورية لكل من لديه هاجس وجودي في أن يكون وأن يحدث. إذ تناول الوقائع المفصلية التي ترتكز عليها الصيرورة التاريخية ما بعد الكتابة من منطلق الندية أثناءاستشهاده بالمدارس الفكرية المختلفة من هوسرل إلى بلوم، من البنيوية إلى التفكيكية، من فوكـو إلى هيدغر ، مرة يتفق على نقاط ومرة يختلف على نقاط ويناقش تلك الاختلافات بروية وانفتاح، وذهن متحرر من صنوف الانصياع المعرفي.
المجموعة الشعرية (الجاهليّ الذي أنا), وفيها يستعيد الشاعر خضر الآغا معنى كتابة الحدوث بقصائد شعرية، يبدو أن هاجس الكتابة وقلقها الوجودي يتملكه بالعمق، إن تمثل بالجاهلي، أو كان الجاه له حسب تقطيع الكلمة على غلاف الكتاب، لا أعرف إذا كان عن قصد تأويلي أم لحالات فنية ! من أول الكتابة تبدأ عملية التمثيل، على فرضية قراءة لوح أول أبجدية في العالم،بمدينة (إيبلا) السورية. اللوح حقيقي والأبجدية كذلك، لكن الكتابة، افتراضية، قادمة من الحافة الغامضة، من كلمات الشعر،من التأملات الأكثر عمقاً، الأكثر خاصيّة، وهي غالباً قابلة للاتصال بالموضوع.. بالقارئ.. بالانفلات من الزمن القائم والمضني، الذي لا يشبه الزمن الحي، الزمن الذي يبكي فيه جوهر الكينونة !
الجاهلي الذي: أنا
والجاهلية أنتِ
نارٌ واحدة في الأتون ذاتـه
……………………………………
يدخلان بيت الشِّعر، وينامان
جاهليان يرثان الحمى
ويُراقان فيما تبقّى من وثنٍ
ومن وأد ٍ
وتتحول المدينة فيهما إلى وثن الطاغية
وإلى وأد الجميع
جاهليان يخلعان التاريخ من أوسمته
ومن لحيته الشعثاء
ويرتبان عقالَه وحواسه
وخطواته الباذخـةَ
ويتركانه في عمى الصحراء كنبيّ عجوز
لا أتباع لـه
ولا رسالة
هو الوأد، وإن اختلفت سمات أسبابه، الكتم حتى الموت، أو اختيار التمرد على لزوميات مالا يلزم من هذا التاريخ البالي والمتعجرف. هذا الجاهلي الذي يكتب بصيغة المخاطبة لشريكته الأنثى الجاهلية،ويعود لمخاطبة نفسه، بتصريح فادح…..
ماذا إليكَ هنا
….
هنا: شعراء يجلسون في المقاهي
يشكلون القصيدة تحت الطاولة
فنتهتك، أنا – أنا الخارج عنهم –
والشِّعر
شعراء: يسحبون الماء من القصيدة
وينظفونها، تماماً، من اللغة
شعراء: يهدرون الأنوثةَ
والإشارة َ
في الإناء المعدني ّ للمعنى
ويسفحون – بين أرجل الكراسي – الكتابة.
مرة أخرى الكتابة، الكتابة المهدورة، والشعر النظيف، المجفف، المتواطئ الذي ينتهك الشعر والشاعر المتمثل برفضه للطهارة الشعرية، ولهدر أنوثة القصيدة، ينتهك وشعره. إن العنصر المهيمن: هاجس الكتابة ربما، منح العمل الإبداعي – قصائد المجموعة – باستثناء قصيدة وحيدة وهي – أبي اسم الضحك – بؤرة تبلوره ويسر وحدته، أو نظامه الكلي، مع أن خضر استخدم الحوافز الحرة، تارة، والحوافز المقيدة تلك المتعلقة بالجانب الفكري – الذهني، لكنها تلك المقيدة ساعدت في حكم غيرها من العناصر، والمكونات وحورتها لتدور كالفراشات حول العنصر المهيمن. إنها عملية استبدال لإيصال ما يريد الشاعر، استبدال لنمط بتشكيلة، وهكذا… الاستعارة لجأ إلى رمزيتها، إلا أن رمزيتها لم تكن غامضة، أو تحتاج إلى مراجع وقواميس, الرمزية متكشّــفة ساهمت في تعدد المعاني، وانعكاسها على الصور الشعرية اللافتة، كأنها سلسلة من المساقات،والتتابعات، أحياناً تتناوب، وأحياناً تتواشج، وأحياناً تنفصل، مع ذلك يبقى هناك خيط رهيف يجدد علاقة الجزء بالكل.
ألمٌ يصيب الكتابةَ
كلما سمّـتْهُ الكتابة
البدائي الذي أنا: وردةٌ مصابةُ بجثتها
……..
أنني: ستخرج مني اللغة
وأتضاءل تحت الطاولة
أدخل في فقه الخيانة، أمدحها،
وأنظف العشاق مني…
هو الكائن الحداثي، المعزول، المهمش، الوحيد. يقول باشلار: «أنا أكون وحيداً، إذاً أنا أحلـم بالكائن الذي كان قد شفى عزلتي، الذي كان بإمكانه شفاء عزلاتي.» لذا ربما استحضر الجاهلية، وهو يعيد استحضار – قراءة – التاريخ، قراءة مضادة لاتجاهه، بالإمساك بصوت، أو أكثر من صوت، من أصوات الماضي وتوجيهه لأداء مقصده التأويلي بالمفارقات، بالصورة الشعرية، وأحياناً في دوران العلامات،في كل هذا نلمس جمالية (التحوّل) إلى جاهلي.. بدائي.. ومتصوف.. وهو الحداثي كما أرى علاماته، وتمثله (اليوتوبيا المتحررة)، وإن استعاد بعض المفاهيم من ثقافة غيبية رجعية / غواية. إثم. معصية. ضلالة… إلخ / بوعي مجازي ليفتح سجون المحرمات، ويعزز العوالم المتخيلة في النص. إذاً هو منفصل عن التراث السائد، وغريب عنه، غرابة مثيرة، يرفض الحاضر على صورته الحالية، ويقيم قطيعة مع الاستمرارية، استمرارية هذا الواقع. كتب أوكتافيو باث: «تستطيع الحداثة أن تتبنى القديم جداً إذا رفضت تراث اللحظة واقترحت تراثاً مختلفاً مكرساً من القوى المثيرة للجدل نفسها كالجديد، ما هو قديم جداً ليس ماضياً وإنما بداية.. يحييه ولعنا بالتناقضات، ينفخ فيه الروح، ويجعله معاصراً لنا.»
فإذا كان الشعر يمارس عنفاً منضبطاً على اللغة العملية، فإن خضر الآغا يمارس عنفاً مضاعفاً على لغته الشعرية، فلا كلمات شارحة، أو فائضة، أو هائمة، وإن تكررت بعض الكلمات في أكثر من نص، / العماء، الطيور، الوردة، الصورة / للتأكيد على استعارات من الثقافة / التاريخ / المغفل والمحجوب والمُــدان أيضاً. كتب منذر مصري «ليكن الحب قاطع طريقك.» أما خضر الآغا الذي كان عنيفاً بخطابه للسائد الثقافي، برر ذلك بـــ «الحبُّ: قاطعُ طريق» » هكذا أراد خضر من الشعر، متمثلاً بمقولة باشلار: «الشعر كوظيفة يقظة».
نضــــال حمـــــارنة
كاتبة من الاردن