1 – تطور تعليم النَّحو وفقه اللغة والبلاغة العربية في غضون القرن الثامن الميلادي، وقد تمَّ في المرحلة نفسها تحديد نظام اللغة والشعر وطريقة تحليلهما. هذا التزامن لم يكن وليد الصُّدفة، وذلك يرجع إلى المجموعة نفسها من العلماء الذين قاموا بتأسيس هذه العلوم المختلفة. نذكر من بين هؤلاء الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى حسب المصادر سنة 776، أو سنة 786 أو سنة 791 للميلاد.
لا يبدو لنا أن الخليل قد ترك أعمالا دوَّن فيها تعليمه للنَّحو، فليست منظومته النَّحويَّة التِّي نُسبت إليه خطأً سوى عمل متأخر، كذلك الأمر نفسه بالنسبة لكتاب الجمل الذي نسبه إليه قباوة، وهو كتاب لا يُعَدُّ في الأصل من تآليفه، بل هو على وجهِ الاحتمال لابن شُقير، الذي يُعدُّ معاصرا للمبرَّد (المتوفَّى بالقرن التاسع ميلادي) أو لابن خالويه المتوفَّى بالقرن العاشر للميلاد. لكن ما هو مؤكَّد أنَّ كتاب سيبويه (المتوفى سنة 786 أو 793 أو 796 للميلاد) والذي يعتبر مصدرا أساسيًّا قد أعاد بكثرة مفاهيم الخليل وآراءه، وقام سيبويه باستعراضها وذكرها في مناسبات عديدة من الكتاب. (فسيبويه ذكر مفردة الشَّيخ التي تدل على الخليل أكثر من ستمائة مرة ). وفقاً لروشال، فإنَّ تحليل هاته الشهادات يوحي بأنَّ الخليل كان على درايةٍ مسبقة بالنِّظام النَّحوي الكامل الذِّي قدَّمه سيبويه، غير أنَّ الجملة التي ترد كثيرا (سألتُهُ … فقال) تخون بدون شك الطابع الشَّفوي الأساسي للتلقين عند الخليل.
يعتبر الخليل أيضا أوَّلَ واضعٍ لمعجمٍ في اللُّغة العربيَّة، فكتاب العين (والعين اسمُ الحرف الثَّامن عشر من الأبجدية)، لم تُحفظ إلا أجزاءٌ منه. في الواقع، يدور الشَّك حول هذه التسميَّة ههنا، حيث يبدو أن من قام بتأليف جزءٍ كبيرٍ من الكتاب هو رجلٌ يدعى ليث ابن المظفَّر (المتوفَّى قبل سنة 200 للهجرة ما يوافق 815 للميلاد)، وربما هو المؤلف الحقيقي فعلا. فالخليل لا يردُ اسمُهُ إلا كمن يُرجَعُ إليه مثلما هو حال في باقي المراجع الأخرى، وإذا كانت العبارات الأولى من المقدِّمة منسوبة إليه، فإنَّه لم يكن له حينها على الأقل سوى أن يعلن أبوَّته على الكتاب، مثلما يعتقد في ذلك الباحثون المحدثون واصفين إياه بالأب الروحي. بشكل آخر، فإنَّ النَّواة الأولى للكتاب لاسيما في طريقة تأليفه، وأسلوب تنظيمه تعود بالفعل إلى الخليل الذي كان قد بدأ مثلما تذكر بعض الروايات في وضعهِ المؤَلَّف كتابةً. يبقى السُّؤال مطروحا حول عدم اعتبار ليث ابن المظفَّر بمثابة من وضع الكتاب، على الرَّغم من كونه كاتبا مجهولا، ثمَّ لماذا لم يورده تلامذة الخليل الأكثر شهرةً وانتشاراً.
إنَّ ترتيب المفردات في كتاب العين غير منظَّمٍ وفق الترتيب الأبجدي، ولكن وفق الترتيب الصَّوتي لمخارج الحروف، ابتداءً من الأصوات السفلى (الحنجرية، الحلقية) إلى الأصوات الأكثر علوًّا (الأصوات الشفوية). تحتوي المقدِّمة إذا على وصف دقيقٍ جدًّا لمخارج أصوات اللغة العربيَّة، وهي تعتبر حسب إطلاعنا أقدم مؤلفاته.
ربَّما ألَّف الخليل أيضا كتابين في الموسيقى، أوَّلُهُما كتابُ النَّغم وثانيهما كتاب الإيقاع. هذان الكتابان اللَّذان أضعناهما حتماً جعلاهُ تاريخيًّا ولمرَّةٍ أخرى رائداً في مجال علم الموسيقى.
على كلٍّ، فإنَّ مدوِّني سيرته يتَّفقون جميعا في كونه أوَّلَ من استخرجَ مبادئ علم العروض واستنبطها، وأول من وضع أوزان الأبيات وزحافاتها، وأوَّل من نظَّمها في قالبٍ نظريٍّ صارمٍ، وجمعها في كتاب العروض. بيد أنَّ هذا الكتاب وللأسف الشَّديد، لم يصل إلينا. إنَّ التحليل الدَّقيق لكتب العروض الأكثر تأخُّراً والتي تمَّ الحفاظ عليها، وتمَّ ذكرها بمختلف كتب السير والفهارس يمكنه أن يعيننا على محاولة إعادة بناء محتوى الكتاب المنسوب إليه، وتحديد الدَّور الحقيقي الذي يكون قد أدَّاه في تكوين هذا العلم. سيكون عملي إذاً محصوراً في هذا الجانب فقط.
2 – في الواقع، لا تزال معرفتنا بالثقافة العربيَّة القديمة (القرون الوسطى) مشلولة جدًّا، وذلك بسبب ضياع جزء كبير من الإنتاج الكتابي. ولم تنجُ من هذا الضَّياع لا كتب الأدب، ولا كتب العلم، ولا كتب الدِّين. فالمصادر التِّي تمَّ الإشارة إليها في كتب المتأخرين لم يتم حفظها من الضياع، وهذا ما سيترك أثرا –جزئيا حتما- على المعرفة التي نملكها حول هذه العلوم، وحول تاريخها الذي يبقى بالضرورة محاطاً ببعض الشَّك.
إنَّ أقدمَ كتابين في النَّظم تمَّ الحفاظ عليهما هما كتابا الأخفش الأوسط (المتوفَّى نحو سنة 830 للميلاد) والذي تناول بشكل منهجيٍّ علم العروض في (كتاب العروض) والقافية في (كتاب القوافي). عاصر الأخفش الأوسط سيبويه، وتوفِّي من بعده، رغم أنَّه كان أكبر سنًّا منه، ويبدو أنَّه الوحيد من وضع أسس الكتاب التي كان ينقلها إلى تلامذته، ونذكر منهم أبا عمرو الجَرمِي (المتوفَّى سنة 805 للميلاد)، أبا عثمان المازني (المتوفَّى سنة 862 للميلاد) والكسائي (المتوفَّى سنة 805 للميلاد). بالإضافة إلى هذين الكتابين، يوجد من بين تآليفه الأحد عشر كتاب آخر لم تسحقه يد الضياع، ونقصد بذلك كتاب معاني القرآن.
لو استشهدنا بما أفاد به فهرست ابن النَّديم، فإنَّ الجَرمي، المازني، المبرَّد (المتوفَّى سنة 900 للميلاد)، الزَّجاج (المتوفَّى سنة 923 للميلاد) وأبو الحسن العروضي (المتوفَّى سنة 953 أو 954 للميلاد) قد ألَّفوا جميعا، كلا على حده، كتابا في العروض وكتابا في القوافي، ولكن كتابين فقط من بين كلِّ هاته الكتب بقيا محفوظين من الضَّياع. كتاب العروض للمؤلفين الوارد ذكرهما تباعاً في الأخير. عملَ أبو الحسن العروضي مؤدِّباً للخليفة الرَّاضي (المتوفَّى سنة 934 أو سنة 940 للميلاد) وأبنائه، كان قد خلف بذلك شيخَه الزَّجاج الذِّي أدَّب المقتدر، والدَ الرَّاضي. كان الزَّجاج تلميذ المبرَّد، الذِّي قرأ على الجرمي والمازني، تلميذي الأخفش الأوسط. يعتبر ابن جنِّي أيضاً (المتوفَّى سنة 1002 للميلاد) أيضاً من قام بتأليف كتاب في العروض، وقد كان تلميذ أبي علي الفارسي (المتوفَّى سنة 987 للميلاد)، هذا الأخير كان بدوره تلميذاً للزَّجاج المذكور أعلاه. إنَّ سلسلة العلماء الرُّواة التِّي تمَّ توضيحها تمتدُّ على فترة طويلةٍ مقدارها أكثر من قرن ونصف، ما يعني تقريبا سبعة أجيالٍ من العلماء الذي يعَدُّون قبل كلِّ شيءٍ باستثناء أبي الحسن نحويِّين انتموا إلى مدرسة البصرة التي تحوَّلت فيما بعد إلى وريثتها بغداد. ولكن بمجرد اعتبار الكتب الأربعة التي أوردنا ذكرها بمثابة كتب ضائعة، فإنَّ ذلك سيجعل عملنا في غايةٍ من الصعوبة، لاسيما في إعادة صياغة دقيقة لكيفيَّة تناقل علم العروض لمدَّة خمسة قرون.
3 – حسب الزَّبيدي والمبرد، نقلا عن القِفطي، فإنَّ الأخفش الأوسط كان قد قرأ على الخليل قبل أن يقرأ على سيبويه، ولكن القفطي نفسه، والسيرافي أيضا والسيوطي لا يتفقون في ذلك. فهل تسمح دراسة المصادر التي أورد الأخفش ملاحظاته عنها في شكل نقاطٍ جزئيَّة ضمن كتابه بتحديد هذا الإشكال؟
في كتابه القوافي، يذكر الأخفش تلميذه المازني (أبو عثمان المتوفَّى سنة 861 أو 863 للميلاد) الذي نقل ثلاثة أبيات لشاعر جاهليٍّ صخر العي، أبا عمرو بن العلاء، المفضَّل الضَّبي، مؤلِّف المفضَّليات وهي أنطولوجيا شعريَّة، والعالم اللغوي فقيه البصرة ومعاصر الخليل، يونس بن حبيب (أبو عبد الرحمن المتوفَّى سنة 798 للميلاد) الذي ذكره لأربع مرات. ولكن أكثر ما يعود في كتابه هو اسم الخليل ورأيه، فقد ذكرهُ في أكثر من 21 مناسبة، بشكل مباشر غالباً: (كان الخليل يقول…)، (وكان الخليل يجيز ولا يجيز…)، ولكن تمَّ ذكرهُ أيضا بطريقةٍ غير مباشرةٍ في ثلاث مناسبات: (زُعِمَ أنَّ الخليل…)، (وقد روى بعض من أثق به نحو هذا البيت عن الخليل…).
فيما يخصُّ كتاب العروض، فإنَّ المرجع الوحيد الذي أورده الأخفش هو الخليل، في تسع مرَّات بالمجموع. من جهة أخرى تمَّ نقل فكرته ضمنياً في حالةٍ واحدةٍ فقط وذلك من خلال واسطةٍ مع التعبير نفسه الذي ورد بكتاب القوافي (وقد روى بعض من أثق به عن الخليل…) وعلى الرغم من أن شخصيَّة هذا الراوي موسومة بالثقة، فإنَّه للأسف الشديد غير معروف، ولكنَّه بإمكاننا -إن كان لدينا الحق- طرح فرضيةٍ في أن الأمر يتعلَّق برجل قريبٍ من الخليل والأخفش، وهو ينتمي على أغلب تقدير للغويِّي البصرة نهاية القرن الثامن الميلادي. ما عدا ذلك، فقد ورد رأي الخليل منقولا بطريقة مباشرة في باقي أجزاء الكتاب: (قال الخليل…)، (لم يجز الخليل…) (أكَّد الخليل…).
هذا التَّحليل السَّريع للمصادر المذكورة يقدِّم أولا دليلا غيرَ قاطعٍ على صحَّة هذا العمل ونسبته إلى الأخفش، كما أنَّ هذا التَّحليل يؤكد على أهميَّة الدور الذي لعبَه الخليل في تكوين علم العروض، وهو كما يبدو، في نظر الأخفش الخلفية الأساسيَّة بل الوحيدة في المجال. وأخيراً، فإنَّ الرجوع غير المباشر لآراء الشَّيخ يجعلنا نعتقد أنَّ الأخفش لم يقرأ على الخليل شخصيًّا.
4 – في القرن الموالي، ألَّف ابن عبد ربِّه (المولود بقرطبة سنة 860 للميلاد والمتوفَّى بها سنة 940 للميلاد) وهو يعدُّ كاتباً أندلُسيًّا وشاعر بلاط المروانيِّين، كتاباً من الأهميَّة بمكان وهو كتاب كبيرٍ جدًّا في مجال الأدب، سمَّاه العقد الفريد. هذا الكتاب هو منهل من المعارف المتعلِّقة بالثقافة العربيَّة. وقد ضمَّ في هذا الكتاب مجموعة من أبيات كان قد قام بنظمها. يضمُّ هذا الكتاب بابا في العروض، أي أنه قدَّم بدقَّةٍ وبوضوحٍ مبادئ هذا العلم. قسَّم ابن عبدِ ربِّه حديثه عن العروض إلى قسمين: سمَّى القسم الأول مختصر الفَرش والثَّاني الأمثال. يمثِّل القسم الأوَّل عرضاً عامًّا لمبادئ علم العروض. أمَّا في القسم الثاني، فإنَّه يحصي ثلاثة وستين نوعاً من نماذج الأبيات الشعريَّة التِّي تبنَّتها نظريَّة العروض. كل نوعٍ مرفوقٌ بشاهدٍ أو بمثال، وكثيراً ما يكون هذا المثال شعراً من نظمه متبوعا ببيتٍ قديمٍ ينطوي على الخصائص العروضية نفسها للأبيات التي سبقته. هذه الأبيات القديمة كما يقول ابن عبد ربِّه بحدِّ ذاته هي نفسها من قام بذكرها الخليل في كتابه العروض.
نجدُ أيضاً في كتاب الشَّنتريني (ابن السَّراج المتوفَّى سنة 1155 للميلاد) والذي يحمل عنوان المعيار في أوزان الأشعار والكافي في علم القوافي، ما يحيلنا على هذين القسمين (الفرش والمثال). ففي الجزء الأوَّل من الكتاب (الفرش)، يقدِّمُ المؤلف الإطار العام لنظريَّة الدوائر والتفعيلات التي تمثل البحور الشعريَّة، أمَّا الجزء الثَّاني (المثال)، فإنَّه يقدِّمُ البحور الشعريَّة بحراً بحراً مدَعَّمة بشواهد وأمثلة.
إنَّ الأبيات المعروضة على سبيل المثال هي نفسها وبدون استثناء ما وردت عند ابن عبد ربِّه وما وردت فيما كان قديماً من كتب العروض الأخرى. فهناك إذاً ما يجعلنا نفكِّر في أنَّ اختياراتهم، كما يقول ابن عبد ربِّه، توقَّفت على ما أورده الخليل.
5 – يروي الزَّبيدي، في إشارةٍ لعبَّاس بن فرناس (المتوفى سنة 895 للميلاد) روايةً قد تفيدنا كثيرا. إنَّ ابن فرناس الملقَّب بحكيم الأندلس كان مثلما ليوناردو ديفينشي في زمنه، مخترعا لمحركات الطائرة، كان موسوعة علميَّة، رياضيا، فلكياً، فيزيائيًّا، كيميائيًّا، ولكنَّه كان أيضاً شاعراً، متكلِّماً ونحوياً. ولد بقرطبة في نهاية القرن الثَّاني للهجرة، وعاش في ظلِّ إمارة حكم ابن هشام وابنه عبد الرحمن الثَّاني. مدح ابن فرناس ابن هذا الأخير وهو محمَّد ابن عبد الرَّحمن ببعض الأبيات. وقد اتُّهِمَ في مرحلةٍ من حياته بالزَّندقة والكفر، فكان محاطاً بالشَّك والحذر، لكونه كان كما يُعتقد مهووساً بما توحي له الشَّياطين، فقد عرِف بمخترعاته في مجال الكيمياء (خصوصاً عندما صنع الزُّجَاجَ انطلاقا من الأحجار وحبَّات الرمال»، وكان له السبق في مجال الفيزياء باختراع النَّظارات، وقام في مجال علم الفلك باختراع نظارات فلكيَّة، أمَّا محاولاته التي قام بها بعد صناعته لآلة التحليق والطيران، فقد باءت بالفشل، بل كانت ستودي بحياته. كل هذا جعله يمثِّلُ ثورةً في زمنه. يبدو من قبيل الصُّدفة، أنَّ كلَّ أعماله التِّي ألَّفها، انتهت بالضياع. يروي الزَّبيدي إذاً، أنه كان بإمكاننا، في عصر ابن فرناس بالأندلس أن نحصل من بعض التُّجار القادمين من المشرق على كتاب المثال في العروض للخليل، وهو الكتاب الذي كان محاطاً باعتناءٍ كبير من قبل محيط الأمير عبد الرَّحمن الثَّاني بقرطبة (822-853 للميلاد). بعد أن قام ابن فرناس بدراسة نسخة من هذا الكتاب، أعْلَمَ الأمير أنَّه يقوم بدراسة كتاب ثان احتوى على تفسيرات مبادئ علم العروض، وأكبر الظَّن أنَّه مجموعة من تعليقات كتاب المثال. أرسل الأمير إذاً ابن فرناس إلى المشرق، الذي جاء فيما بعد بنسخة كتاب الفَرش. مهما كانت صحة هذه الرِّحلة، فإنَّنا نعرف بفضل كتاب المُغرِب في حُلى المَغرِب أن ابن فرناس هو أوَّل من علَّق على كتاب العروض للخليل بالأندلس، نجد هذه المعلومة بكتاب المقَّرِي، وقد استشهد بها ليفي بروفنسال في كتابه : تاريخ اسبانيا الإسلامي، يقول: لقد استطاع أن يفكَّ الرُّموز الأكثر تعقيداً في كتاب العروض، عندما أقبل أحد التُّجار بكتاب العروض للخليل إلى الأندلس، لم يكن لأحد أن يفهم شيئا في القواعد العروضية وطرق التقطيع التي كان يحتويها. أخذ ابن فرناس الكتاب الذي كان مهملاً بِبعضِ أنحاء القَصر، فنظر فيه وتعمَّقَ، ثمَّ قام بشرحهِ…»
نعرف أيضا أن ابن فرناس كان تلميذ محمَّد ابن عبد السَّلام الخَشَني (المتوفَّى سنة 907 للميلاد)، والذي قيل عنه أنَّه سافر إلى المشرق قبل سنة 862 للميلاد وجلب معه إلى الأندلس الكثير من العلوم. في كتابه المزهر، يؤكِّد السُّيوطي أنَّ الخليل قد أَلَّف فعلاً كتابين سمَّى الأول بالفرش والثاني بالمثال. وفي الأخير، فإنَّ السَّخوي قد ذكر أيضاً في كتابه الضَّوء اللامع لأهل القرن التَّاسع في معرض حديثه عن محمَّد ابن بهاء الدِّين السُّنقُري، أنَّ هذا الأخير قد قرأ من بين ما قرأ في العروض على عبد القادر ابن شعبان، إمامِ جامع الأصلم، كتابَ الفرش ومُختصرَهُ الذي ألَّفهُ ابنُ عبدِ ربِّه.
يبدو من خلال ما ورد حتَّى الآن أنَّ الخليل قد ألَّف فعلاً كتابين وليس كتاباً واحداً في العروض، اللَّهم إلا إذا كان الأمر يتعلَّقُ بكتاب واحدٍ في الأصل مجموعٍ على هذين الجزءين، جزء نظري وهو جزء كتاب الفرش وجزء تطبيقي يتضمَّن ثلاثة وستين نظاما من العروض دعَّمه بأمثلةٍ وسمَّاه كتاب المثال.
يمكن أن نتساءل إذاً عن سبب وجود هذا التقسيم الثُّنائي للكتاب لدى الكتَّاب الأندلسيين فقط كما هو الحال لدى ابن عبد ربِّه والشنتريني، وعن سبب غيابه في كتب المشارقة كما هو الحال لدى الأخفش، الزَّجاج وأبي الحسن (العروضي). هل هؤلاء هم وحدهم من قرأوا وعلَّقوا على كتاب الخليل. هل درس المشارقة من جهتهم طريقة تعليم الأخفش ومنهجيته التي تبدو جديدة في صيغة التَّقديم وتحليل الأبيات، حتَّى ولو كان قد استوحى بشكل قويٍّ تعليمه من الخليل؟
6 – وصل إلينا كتاب الأخفش ناقصا في نسخة واحدة، مؤرَّخاً بتاريخ القرن الرَّابع عشر، يقوم الفصل الأول من الكتاب في مجمله بدراسة مسائل لم يتمَّ التَّطرق إليها في الكتب الأكثر تأخراً زمنياًّ، سوى في كتاب أبي الحسن العروضي، الذي نتناوله بالدراسة فيما بعد، وهي مسائل خصَّصت لها الأجيال اللاحقة كتباً مستقلَّة (في علم الصَّرف، في الضَّرورة الشعريَّة، للأسف الشَّديد، فإنَّ المخطوطة ناقصة: إنَّ أوراق الفصل الذِّي خُصِّصَ للصَّرف والضَّرورة الشعريَّة مجتزأة من الجزء رقم 9أ والجزء رقم 9ب، وهو الجزء الذي يدرس بحر الوافر، الذي يحتَلُّ المرتبة الأولى بالدائرة الثانية نظريَّة الخليل.
يحترم كتاب الأخفش الترتيب القديم في عرض البحور، وإنَّه من السَّهل أن نستنتج أنه في الجزء الضائع من المخطوط، قد قام بدراسة بحر الطَّويل، المديد والبسيط. يدرس إذاً الفصل الثَّاني من هذا المخطوط العروض، لكن هناك في محتواه ما يبعث في نفوسنا الذُّهول، إنَّ البحور القديمة وزحافاتها لم يتم عرضها بطريقة مألوفة كما كان الحال في الكتب التي أُلِّفَت فيما بعد ووصلت إلينا، فعلى الرَّغم من أنَّ الكاتب قد استشهد بالخليل، فإنَّه لم يلتفت ولو ضمنيًّا لنظريَّة الدائرة. إنَّه من الممكن حقًّا أن يكون الوصف التَّقليدي لنظريَّة الدائرة قد تمَّ عرضه وفق منطق التَّرتيب، وبشكل أقل، في الجزء الذي يحتلُّ ما بين المجتزأين 9أ و9ب وهو الجزء الذي ضاع من المخطوط.
لا تمثل خاتمة كتاب الأخفش إذا عرضاً آلياً للبحور وزحافاتها، بل على العكس من ذلك تماما، فأقدم كتاب وصل إلينا، وهو كتاب الأخفش، تلميذ الخليل وراويته، يولي أهميَّةً كبيرةً للتحليل الثَّاني، جاعلاً إياها تظهر بمثابة استكمال ضروري لنظريَّة الدَّوائر. فالأخفش يذكر في الفصل الثَّاني من كتابه هذا، وبطريقة انتظامية رأيَ الخليل، للتَّعبير في بعض الأحايين عن رأي مخالف له، وهو ما يعني أنَّ الشيخ نفسه (يعني الخليل) تفطَّنَ لأهميَّة خطئه الأساسي في نظريَّته –أي أنه قام بإعطاء أشكال نهائية مع أن الشعراء لا يستخدمونها- فأدمج تبعا لذلك في تعليمه وربَّما في كتابه أيضاً – ملاحظات تخص الطَّريقة الجيِّدة لتناول العلل والزِّحافات.
7 – لنأخذ الهزج مثالا على ذلك، فهو بحرٌ مكوَّنٌ من تفعيلة «مفاعيلن»، أمَّا الزِّحافات التي يمكن أن تصيب هذه التفعيلة حسب كتب العروض القديمة، فهي الكفُّ والقبض. لكنَّ المعاقبة تمنع استخدام هذين الزِّحافين معاً، حسب الأخفش، فإنَّ الكفَّ أولى من القبض، يقول: «إنَّ حذف النُّون من مفاعيلن أحسن من حذف الياء». هذا الرَّأي يوافق ما جاء في أوزان أشعار العرب، فالقبض لم يتمَّ استخدامه إطلاقاً. لكن يورد الأخفش أيضاً رأي الخليل، والذي يكره فيه الورود المستمر لتفعيلة «مفاعلن»، أي يتم استخدام الكف، وهو ما يجعل البحر شبيها بالرجز.
كثيرا ما يقترب تحليل أبي الحسن، الذي يعتمد فيه على مقارنة بين الزحافات التي تصيب تفعيلة واحدة أو بحراً واحداً من تحليل الأخفش، وهو تحليل كثيراً ما يعيد فيه الرأي ما يناقض رأي الخليل، فرأيا الشيخين متناقضان باستمرار، كما يدلُّ على ذلك مثال الهزج الذي أوردته قبل قليل.
يعرض أيضاً أبو الحسن بشكل متواصل ومتتابع رأي كلٍّ من الشيخين قبل أن يخلُصَ إلى رأيهِ مستدلاً بما كان قد قدَّمَهُ الخليل والأخفش، ومستعينا بحدس السَّامع الذي يسمح له بالاستماع لما هو جيِّد، ومستعيناً بالأذن التِّي تميِّزُ الجيِّد من الشعر ورديئه. أليس إذاً من الصُّدفة أن يكون الخيار الذي نستنتجه فيما بعد هو عموما ما ينسجم مع النَّظم العروضي للشعراء.
لقد حاول العروضيون وبشكل مبكِّرٍ جدًّا كما يشير إلى ذلك الأخفش تجاوز نظرية الدَّوائر العروضية وإطارها الجامد والشكلي، وذلك بإلحاق إضافات لها علاقة بالجانب التَّطبيقي، مركزين على مدى قابلية الزِّحافات بتنوعها لإدراجها، وعلى الاستخدام المنتظم أو النادر لبحر أو لآخر.
يمكن أن يعود هذا النَّوع من الاعتبارات إلى الخليل نفسه، الذي ساهم برأيه – حتَّى في الجزء الذي خصَّصه الأخفش للزِّحافات في كتابه – في دعم تمييزاته بين الزحافات وأحكامه لها يؤكد ابن بَرِّي (المتوفَّى سنة 1330 أو 1331 للميلاد)، الذي قال إنَّه يملك نسخة من كتاب الخليل، أن هذا الأخير تناول فعلا الزِّحافات الحسنة، الصَّالحة والقبيحة. بطريقة أخرى، فإنَّ مؤسس نظريَّة الدَّوائر، كما تشهد على ذلك آراءه نقلا عن الأخفش وأبي الحسن كان قد اقترح معايير لتقييم الزِّحافات الحسنة والقبيحة.
من هنا يمكن أن نقول إن الخليل كان حقًّا واعياً بأخطاء نظريته وأن تمكينه للزِّحافات في النَّظريَّة كان لغرض إيجاد طريقة لاستدراك أخطائه.
لم يبق سوى مسافة خطوة واحدة لاجتيازها، دون استبعاد فرضية أخرى منسجمة ومتوافقة مع الأولى، التي مفادها أن الخليل والأخفش كانا يريدان –مع بقائهما محصورين في الحدود الشكليَّة لنظريَّة الدوائر- إثبات جانبها الاستدلالي، وذلك بشرح أفضلية زحاف عن آخر من خلال مواقع الأسباب والأوتاد، كأن يبرِّرا لاحقاً طريقة تقطيع بحرٍ ما بإدماج وحدات تفعيلية صغيرة.
لا تمثِّل خاتمة كتاب الأخفش عرضاً آلياً للبحور وزحافاتها، وإنما تقديما لمختلف أنواع الزحافات مع عرض درجات قابليتها. إنَّ التحليل الذي يفضله الأخفش تطبيقيٌّ أكثر منه نظري.
إنَّنا مدينون لستوتزر بهذا التَّوضيح الذِّي ميَّز، انطلاقا من معاينته للأعمال التي وصلت إلينا، بين هاتين المقاربتين التَّكميليتين حول زحافات البحور: تقدم الأولى وهي نظريَّة تكوينية شاملة قائمة من التَّكوينات العروضية وتراكباتها (هنا يقصد بالتفعيلات)، البحور؛ زحافاتها وعللها، ويحدِّدُ عددا من الأسس المتينة لتكوين البحور وفي استخدام الشَّواهد والأمثلة، أمَّا الثَّانية، وهي تطبيقيَّة تهدف إلى تقييم أهميَّة وخطورة الزِّحافات المختلفة التِّي تمَّ إحصاؤها أثناء التَّحليل الوصفي الأول، وهي تميِّز كما يقول ستوتزر الزحافات التي أثبتها التَّقطيع انطلاقا من تأثيرها البنيوي الشعري على القصائد. فقد تمَّ وصف الزحافات بكونها (حسنة)، (صالحة)، (قبيحة).
وفي الواقع، فإنَّ جميع الكتب التي وصلت إلينا تنطوي تقريبا على جانب نظري. قليل منها فقط من قام بإلحاق جانب التَّحليل الوصفي، سواء بالنسبة للجانب الوصفي، لمنهج العرض، لإحصاء البحور وتقطيعاتها، أو للأمثلة التي تمَّ تقديمها، فإنَّ في ذلك ما يوحي مع اختلاف طفيف بين كتاب لآخر بأنَّ مصدرها سيعود إلى الخليل نفسه.
إنَّ اتفاق أغلب الكتَّاب الذين وصلت إلينا أعمالهم (كتبهم) في عرض النظرية الوحيدة للدوائر لا يعني إطلاقا أولوية التحليل النَّظري التَّكويني وأولويته على التَّحليل التطبيقي والجمالي. لكن يبدو أن هاته التبريرات النَّظرية التي ربما جاءت فيما بعد كانت أيضا لغرض توسيع مجال الدراسة التي استعانت في بداية الأمر ربَّما بالحدس وبالاستعمال. على الرغم من أنَّ كتابه يبدو متأخراً نسبياًّ، فإنَّ الأدلَّة التِّي يقدمها أبو الحسن من أجل أن يحسم الأمر بين الشيخين الخليل والأخفش، توحي بهذا التَّحليل ذي الطَّبيعة التَّجريبية التي تعتمد على الحدس.
8 – انطلاقاً من هذا العرض الذي قمنا به، يبدو أنَّه ليس من شكٍّ على الإطلاق أنَّ الخليل هو من قام بتأليف كتاب العروض بطريقة جيِّدة، وأن أغلب الكتَّاب الذين جاءوا فيما بعد، اطَّلعوا على نسخ من هذا الكتاب المؤسس مثلما تشهد على ذلك الفقرات التِّي أوردناها من كتاب ابن عبد ربِّه، الشنتريني، السُّيوطي وآخرون، ويبدو أيضا أنَّ كتاب الخليل كان مؤلَّفاً من كتابين: الفرش والمثال، خُصِّصَ الأول لتقديم الجانب النظري والثَّاني خصِّصَ لدراسة البحور الشعريَّة، كل بحر مدعَّمٍ –بمثال أو بأمثلة عديدة.
إنَّ تناول الأخفش وأبي الحسن الدقيق لآراء الشَّيخ المتعلِّقة بالزحافات توحي لنا بأنَّه قد قام سلفاً بإدراج آرائه حول هذا الموضوع، وربما كان ذلك بكتاب المثال.
يبدو في الأخير أن الخليل كان قد أتى بذكر كلِّ شيءٍ في الكتاب، وأنَّ مادَّة علم العروض التي تناقلتها الأجيال اللاحقة من علماء العروض كانت سلفا موجودةً بكتابه، حتى الأمثلة التي أوردها، والتي أعادها بصورتها الأولى كلُّ من خلفه، وأنَّ النقاشات لم تعد تدور إلا حول الصفات السطحيَّة أو بعض التفاصيل، كصحَّة بحر عن آخر أو أفضليَّة تحديدٍ ما للزحافات عن تحديدٍ آخر.
الهامش:
1 – برينو باولي بروفيسور بقسم الدراسات الشرقية بجامعة ليون الثانية.
برينو باولي(1)
ترجمة الهواري غزالي *