شريف الشافعي
في ديوانه الثالث «شيطان» (دار الدراويش للنشر والترجمة، بلغاريا، 2020)، يجرّد الشاعر السوري علاء زريفة قصائده من أسمائها الشعرية، ليتهجّى بها خطوط الدم المشتعلة ونقاطه الحمراء المتفجّرة في صدره وبين أصابعه. فالشاعر الذي التحم مع الحراك الثوري في ديوانه الأول «المسيح الصغير» متسلحًا بالتفاؤل، وَتَعَاطَى مع قسوة الواقع المحيط منسحبًا منه بحذر في إصداره الثاني «شوكولا»، يقترب في عمله الجديد من تخوم موته البطيء، ذلك الموت الذي لم يعد يخصه وحده في تراجيديا الهلاك الجماعي، حيث الأنقاض والخرائب والشرور والأبالسة: «الأبطال المعدمون ماتوا/ ولم يبق إلا الممثلون/ لم يبق من أثر الأرض.. سوى أطلال مملكة/ وجنود طيبين تركوا أسماءهم/ في سِفْرٍ ناقص.. أخفاه الجنرال».
عبر صفحات لا تكاد تتخطى المئة، يشحن زريفة قصائده المكثفة بالنهم القديم، وفحولة التعطش إلى المجهول، مستعيذًا بالشيطان (كوجه من وجوه جماليات القبح) من السلطة الأبوية المطلقة المتحجرة، ومستعينًا به وبلعناته على البشر المأفونين، الذين ربما هم أكثر قبحًا وشراسة وبشاعة. فما هو كائن على الأرض ينبغي الخلاص منه بأي ثمن وأية وسيلة متاحة، وإن لم يُتَح تغييرٌ أو هربٌ فليكن التلاشي أو العدم حلًّا سحريًّا استثنائيًّا، مع شهادة الشاعر وتطاير أوراق قصيدته في العراء «استُشهد الشاعر/ وقعتْ قصيدته».
يجسد ديوان زريفة أحدث انزياحات قصيدة النثر في سورية، فهي الطاغية على المشهد الشعري عمومًا لما تتمتع به من حرية الشكل والمضمون ومقدرتها على الغوص عميقًا في سبر النفس البشرية، والاتصال باليومي الحسي المباشر، وربطه بالمتناهي البعيد، وذلك في ظل الغياب شبه الكامل للقصيدة الكلاسيكية التي حنطتها النمطية والخطابية الخشبية الممجوجة في أغلب تجارب كتابها المعاصرين، إذ إنها مؤسسة على الصوتية الجمعية دون الاكتراث في الغالب لأزمة القلق الوجودي التي هي جوهر وخاصية الحساسية الشعرية.
ومع اتكاء بنية ديوان «شيطان» على الفكاك من هيمنة الأب «أبي المخبول: أنا بريء منك/ أنا ملحد بك/ وما كفرتُ/ سامحني لأنني لا أحبك»، يبدو النص منحازًا كليّة إلى التمرد، في سياق حركة قصيدة النثر السائدة في سورية اليوم، التي لم تخلص من الاستغراق بالرمزية غير المفهومة والمجانية والتأثر اللاواعي بالمنجز الشعري لرواد سابقين. فعلى أهمية هذا التأثر، فإن منجز زريفة يمضي صوب ما يمكن تسميته قتل هؤلاء الآباء شعريًّا، وتجديد الحركة الجمالية بما يتصل بواقع سوري مغاير، مزقت أطرَه الفكرية والثقافية قذائفُ الحرب وأدخنتها.
يرتكز زريفة، شأن رفاق جيله، على فكرة إيجاد الصوت الخاص، مفتشًا عن ضفة ثالثة أو فضاء خارج نطاق الدم المتواتر وأصوات المدافع وصور الدمار، محاولًا استجلاء المأساة أو صراع الموت العبثي الذي عانت منه سورية ولا تزال تعاني لأعوام، وقد استطاع بعض شعراء هذا الجيل من أمثال زريفة ومحمد دريوس وعماد الدين موسى وغيرهم الخروج من القوالب الشعرية الجاهزة والاشتغال على البناء النفسي الخاص لنصوصهم وتمثيل الحركة الشعرية الراهنة بعمق وإعطاء النص بعده الكوني الذي ينطلق من خصوصية الحالة السورية. يقول زريفة في أحد نصوص «شيطان»: «لا ليل في هذا اليوم/ ولا دليل للنجم/ أصرخ في نومه: أين يدك؟ أين جناحي؟».
إن خلخلة المفاهيم، والاستغراق في البحث عن الذات الحرة، والمشاغبة المحببة، التي قد تأخذ طابعًا ساخرًا وتهكميًّا، وكذلك الانحياز نحو العنصر الجمالي كقيمة مجردة، من أبرز سمات تجربة زريفة، فالتيار الغالب على أبناء هذا الجيل هو الرمزية الواقعية الشفافة، التي لا تزال في إطار التجريب المستمر (العزلة – شغف الوقوف على الهاوية – لذة الخلاص)، فهي ضرورة بالمقام الأول، وصورة تعبيرية تحلق بعيدًا عن نمطية واتباعية السابقين، واستمرار للحداثة وإعادة صياغتها لغويًّا وثقافيًّا بما يناسب الراهن اليومي وينسجم مع الحلم المبتغى شعريًّا «لا تنس سوسنة في العتمة خائفة/ حرر ثور الملك المتكبر/ خيط الحرير دليلك إلى خارج المتاهة».
وعلى الرغم من انشغالها بالهم الذاتي، والشأن المحلي، فإن نصوص ديوان «شيطان» لعلاء زريفة هي ذات طابع إنساني في المقام الأول، كما أنها مشحونة بهواجس وجودية ورؤى فلسفية عميقة «رأس المتعة: إسقاط المجاز قبعة البداهة، ليخرج أرنب الحقيقة ضريرًا». فالقصيدة كاللوحة والمقطوعة الموسيقية، تحاول أن تملأ هذا البياض الكوني والفراغ اللانهائي بالكلمات والخطوط والنغم الفردي الخالص، وتصوير الخواء الشاسع، فالأدب والفن تاريخيًّا ينزعان نحو تتويج الفرد سيدًا لعدمه الخاص والأبدي، راميًا خلفه مخلفات الشهوة والأنانية المتوحشة.
ويكاد يعترف الشاعر بأنه لا يدعي معرفة ثابتة مطلقة، كما أنه لا يسعى إلى أن يكون تطهيريًّا بالمعنى الأرسطي، ولا انفعالًا تسجيليًّا لمصير مأساوي لبطل تراجيدي، بل إن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة، الأمر الذي يحرر الذات من أهوائها، ويبث فيها روح التغيير الواعي، الذي يعززه الحضور الجمعي لذوات متعددة حرة. ويتعرى الصراخ البطولي المنفرد، إذ لا يعترف الشاعر بأي شيء ولا أية فكرة، ويقف على حافته الفردية ناظرًا نحو الهاوية، ومتوجعًا من كوابيس عصور البلادة والغيبية الفكرية المكرسة منذ قرون.
من سمات تجربة «شيطان» اللافتة كذلك، توجيه الشعرية البكر إلى محاربة التناهي، الذي يوضح عقدة الوجود وعثرة الكينونة، فالشاعر هو ابن الرعب والتأرجح بحبل الانتحار، وهو الباحث عن أسرار الموت والساعي إلى الغوص فيه، لا محاكاته بغرض الاستعراض وسرد اليوميات المكرورة. هكذا، تصير الشعرية قلقًا لامنتميًا يكرس الجمال والذاتية، فالفرضية الأخرى السائدة تقول إن الأزمات والحروب والحرمان تخلق الشاعر في الفرد. وفقًا لذلك، قد تكون الكتابة مجرد آلية تعويضية ونتاج أزمة لا تحبل إلا بشعراء أزمات، ولا يسعى علاء زريفة إلى أن يكون أحدهم بطبيعة الحال، فهو صاحب الأفكار الشاردة، والرؤى المبتكرة «ما الحكمة من قطع رأسي، ما دامت الأفكار تنتقلُ بالعدوى؟/ ما الفائدة من جلدي ما دام دمي فاسدًا؟!».
ويمضي الشاعر علاء زريفة في سلسلة خطواته السرابية وحسراته المتصاعدة متسائلًا عن جدوى الحاجة إلى التاريخ، ومعنى الرجوع، وحقيقة نفع الحقائب، حال غياب الوطن؟! وفي مواجهة العدم، الذي لا ينفيه الشاعر كدستور للحياة، فإنه لا يزال يتمسك لآخر نفس ببصيص ضوء خافت، قد يتسرب ذات ليل من نفق ما، ليقول كلمة مغايرة؛ دافئة أو عاشقة، بإمكانها تأجيل الانقراض «ونحن مهددون بالانقراض، يا إخوتي، لا تخشوا تحطم الطائرة، فالصندوق الأسود هو قلبي».