عندما كنت في لندن حجزت غرفة مريحة بأحد الفنادق العائلية ونمت نوما هنيئا. وفي الغد استيقظت باكرا على ضوضاء حوار كانت تنبعث من الغرفة المجاورة, كنت أتبين جيدا فحوى الحديث الذي كان ينطق بانجليزية أمريكية مغلفة بلكنة أهل الغرب. كان الحوار يدور بين رجل وامرأة يتحدثان بشغف:
– أولي لم ذهبت دون علمي? لماذا? لماذا?
– لأن حبي لك يا شيسلام يعوق حريتي وهي عندي أغلى من الحب.
– هكذا إذا يا »أولي« الشقراء أحببتني, وكان الحب سببا في فقدانك.
– نعم ياشيسلام, فقد كدت أستسلم لاغراءاتك وأتزوجك وبذلك اتخلى عن فني.
– سأنتظرك إلى الأبد يا أولي المتوحشة.
وينساب الحوار على هذه الوتيرة: (أولي): المستقلة ترفض طلب الزواج من شيسلام المتيم. وقد كبرت دهشتي حين أيقظت, في الصباح الموالي, على حوار جديد متبادل هذه المرة بفرنسية أمريكيي الغرب. كان شيسلام يحادث امرأة:
– أنت لم تعد تحبني, يا شيسلام, فأنت دائما تحوم حول أولي/ مروضة الكلاب الضامرة كعود المكنسة. قبل شهر فقط كانت النشوة تسقطك حين تصغي إلى غنائي, لم يكن صوتي مضبوطا لكن الحب كان يملي عليك ذلك.
– لقد أدركت نفسي, يا آنسة كريكيت, ثم إنك لا تحبينني بل تدعين غنجك يطوح بي.
– هل نسيت وعدك بأن نتزوج ونسكن منزلا ريفيا في قرية على ضفاف لالوار حيث سنقضي شهر العسل?
– آنسة كريكيت, عندما سأتزوج سأذهب الى (لومين) لكن في الولايات المتحدة.
– أنت على حق اذهب ياشيسلام لأني ما كنت لأتزوج بهذا الوجه الغريب, الوجه الغريب.
كنت ارتدي ثيابي وأنا أفكر: لهذه الفرنسية لهجة غريبة. ربما اقامت لزمن طويل في كاليفورنيا. يا إلهي, أي تدقيق هذا الذي تطبع به تعبير الوجه الغريب أو أي طيش يقود هذا الرجل!
لكن النزل العائلي عموما لم يكن يقصده إلا زوار قليلون, وفي اليوم التالي ايقظت فجأة كما حدث بالأمس. كان الحوار ايطاليا وبلكنة غزاة الغرب الضعيفة:
– يا لوكاتيللي الحسناء. اذعني لحبي, لنتزوج! ولنتخل عن السفر ونذهب لاخفاء سعادتنا في الفيلا التي سأشتريها في كاليفورنيا بسان ديجو! سأختار موقعا يطل على الخليج الصغير الساحر. وسنزرع أشجار البرتقال حول مسكننا..
– هذا مستحيل, يا سينيور شيسلام, فأنا مخطوبة لمواطن إيطالي يعمل ضابطا في Boulogne ولا يملك إلا راتبه الشهري, سنتزوج عندما نوفر المهر الكافي.
– إذن وداعا يا سينيوريتا لوكايتللي فمهرج مسكين مثلي لا يأمل في أن يفوز بقلبك أمام ضابط متألق, وداعا يا سينيوريتا! وحتى تكوني سعيدة في أقرب وقت, اسمحي لي أن أكمل المهر الذي حدثتني عنه.
قلت في قرارة نفسي: هذا العاشق الولهان رجل شجاع. غير أن هوسه اليومي بالزواج متعب جدا فهو يوثبني من فراش النوم مع انه ليس من عادتي أن أستيقظ باكرا. لكني في الليلة الرابعة حشرت في أرق أليم ولم يغمض لي جفن, كان السيد شيسلام يحاور رجلا ما بانجليزية جديدة وبلهجة الغرب الأمريكي:
– صحيح يا شيسلام فلست إلا شخصا تعيسا ستموت وحيدا بدون عائلة محروما من الحب.
– أنت محق ياشيسلام, علي أن استسلم للأمر الواقع بعد ان رفهت, في حياتي, عن الملايين من المخلوقات في كل قارات العالم ولم أعثر على زوجة واحدة.
– لقد كنت ياشيسلام تختزل الفرح الكوني وتضحك العالم بأسره. وهذا ما لا تتحمله أية امرأة, لأن ما يسعد الجميع يمكن أن يرعب فردا واحدا.
– هكذا أغدو, أنا الذي أعتقد أني أكبر مبسط, أشد الناس حزنا.
– واحسرتاه ياشيسلام, أنا أوافقك الرأي فخيالك المبدع الذي كان يهب الحبور الخارق لكل الشعوب. لم يكن كافيا لتعجب بك فتاة عادية قد يضحكها كلامك, لكن ما أن تجمعك بها الصدفة رأسا لرأس وتشرع في مكاشفتها بالحب حتى تغمرها الكآبة التامة.
– هي ذي حال العالم يا شيسلام.
– يا شيسلام, هي ذي حال العالم.
– وليس لي أحد ليواسيني, ياشيسلام, إلا نفسي.
– لا أحد إلا نفسك ياشيسلام.
كان بامكان هذا الحوار الشقي بين هذين الشيسلامين الغامضين أن يستمر طويلا لولا أني, نافد الصبر, طرقت على الحائط الذي يفصل بيننا وأنا أصرخ:
– ما زال الوقت مبكرا يا جنتلمان, إنها ساعة النوم.
وسرعان ما سكت الرجلان فغصت في سبات عميق, وحوالي الساعة الثامنة صباحا لم أفاجأ, وأنا أهب من فراش النوم, بجاري يستعيد الحديث بلطافة زوجية مفتعلة مع أولي المستقلة التي كانت أول امرأة أسمع صوتها.
ارتديت ملابسي بسرعة وذهبت لمقابلة مضيفة الفندق المحترمة:
– يستحيل أن أنام في تلك الغرفة, فمنذ الفجر يبدأ جاري في محاورة زائرته, وفي الليل يحادث زواره.
– نومكم خفيف يا سيدي. لكننا سنوفر لكم غرفة في طابق آخر… إن جاركم شخصية مرموقة, فهو المبسط الجميل »شيسلام بارو« المولود في كاليفورنيا, وقد أتاحت له أدواره وتقطيباته ومشاهد المقمقة والتنكر بأن يمثل وحده ويحظى بشهرة عالمية, وهو فضلا عن ذلك مثقف يتقن عدة لغات, أما الآن فقد شاخ وأفلس وأنهكته الوحدة والعزوبة وانعدام الأهل.
ومنذ ثلاث سنوات وهو يقيم هنا في هذا الفندق ولا يكلم إلا نفسه, ذلك أن مقمقته تسمح له باختلاق الأنيس متى شاء, وهو غالبا ما يحاور إحدى النساء اللواتي كان يرغب في الزواج منهن, وأحيانا يحادث نفسه فيفوح من حواراته حزن قاتل…
إن شيسلام يا سيدي يثير الرأفة لأن ذكرياته الثرثارة, كما لا يخفى عنكم, لا تعادل رغم تنوعها أبسط جملة تنطق بها زوجة تقاسمه عزلته وشيخوخته وتؤنس غربته…
بعد ذلك بأيام غادرت لندن دون أن أنعم برؤية شيسلام بارو.
ترجمة: عزيز الحاكم شاعر من المغرب