ولدت في نهاية عصر الاسطوانات ، عرفتها صغيرة توضع على الجهان الخاص بها، ثم تدار .. اذ زان ينطلق الصوت دافئا وعذبا أما أسياد الغناء آنذاك وفي حياتي كلها فيما بعد، فهم : محمد عبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وفيروز ، كانوا يتسللون . :خفية لكن بعمق الى الطبقات الأبعد غورا في أرضي وكالجذور لم يغادروا ، بعد مكانهم في تلك الأغرار السحيقة .
بعد سنوات قليلة في بداية السبعينات ، اختفت فجأة وبشكل غامض .. تلك الإسطوانات وها قد جاوزت عتبة الثلاثين الكئيبة وتزوجت وأنجبت وبتية كتابا وسافرت الى أقطار لم أحلم بالسفر اليها يوما .. ما أنا ، الآن ملي ء بالحزن ، ذلك أنها ذهبت الى الأبد من هذا العالم الذي يتغير فيه كل شيء بسرعة غير مفهومة .
-2-
أكتب ، لأنني أريد أن استمتع بالكتابة ، آخرون وهم كثر يكتبون من أجل ايصال رسالة ما، أو لمجرد الزهو ليس إلا ، الأمر بالنسبة لي مختلف : أكتب لكي أتخفى ، لكي أترسب في القاع السحيق كصوت عبدالحليم حافظ الدافيء والملوع بمسحة الحزن النبيلة ، أقصد ذلك الصوت الذي كان ينطلق من الاسطوانات ثم يتسلل بعذوبة لا تضاهى الى الطبقات الأعمق والآ بعد غورا من حياتي وأرضي.
أكتب لكي أرثي ذلك الزمن الغابر ، المنقضي كطعنة تمت ويدين مغسولتين من دم المخلص ، ذلك الزمن الذي عرفته مبهما لكن جميلا عل نحو طاغ وبالغ الفتنة ، أكتب لأنتشل ذلك الصغير من طينه وبؤسه ، كي أرا0ثانية أمام عيني.. فأحضنه وأبكي بملإ صدره .. ذلك أنه ولد في عصر الاسطوانات ، ولد في الستيتات الذهبية التي منذ ولت لم يعد للكون من لون ومن مسحة جمال متبقية.
-3-
نشأت وحيدا وناحلا ودون حماية في مخيم يقع على أطراف العاصمة الأردنية عمان كان يدعى مخيم شنلر ثم أصبح "حطين " ولا أدري ماذا سيصبح أسمه فيما بعد.. أنذاك : أقصد في عصر نهاية الاسطوانات،. قبل ربع قرن نشأت وكبرت حافيا تحت سماء آلله ، دون رضا كأنما "الريح تحتي".
آنذاك ، كنت أسمع جرس الكنيسة يقر ء كل أحد. وكنت أرى الزهور في الجبال كحريق يشتعل أما الآن فإن أحدا لن يصدق ذلك الجمال ، إن أحدا لن يصدق أن مخيما للاجئين الفلسطينيين ، حيث المنازل التي على عجل بنيت ، المنازل الكثيرة المكتظة بالولادات السريعة ، حيث المنازل تتحه في من خيمة او ما يشبه البيت وحيث الشوارع مليئة بالماء الآسن ، ان مكانا كهذا يمكن له أن يحتضن جبلا أو اثنين يحترق فيهما ربيع دائم طيلة فصول السنة ، غير أنني أصدق ما أكتبه ،ذلك أنني رأيت ، ولتا رأيت ربيعا يتفجر على جبل ، وسمعت جرس كنيسة يقرع كل أحد ، ورأيت أطفالا يلهون بالقرب من مدرسة شنلر، تلك التي أسسها مبشر ألماني وأطلق عليها اسمه لرعاية الايتام دون هدف سوى المحبة التي مي قوية كالموت .
أنذاك : رأيت شابا يحمل جهاز الاسطوانات ويضجه على العشب على ذلك الجبل ثم يشغل الجهاز، كان الفتى في ضجعته تلك يشبه ما تتركه من أثر لوحات التعبيريين العظام ، حيث الطبيعة تكتنف وتلف الجمال الذي سيزول عما قريب بعد أدر يقر النسيان من هنا.
كان الشاب فتيا، وحزينا ، ومولها ، وكان يدندن مه المطرب الذي ينبعث صوته من الاسطوانة ، ثم رأيته يشعل سيجارة ، ثم يدفن رأسه في العشب ، بعد :لك دخلت المشهد فتاة صغيرة ما إن رأته في ضجعته تلك حتى تجمدت في ، فكانها . كان المشهد بالنسبة لي : اليوم كما في الأمس ، غامضا.. فما الذي يجعل الشاب يبكي: وما الذي يجمل الفتاة تتسمر في مكانها .. كان المشهد ثانتا وغامضا رغم أن ما تلاه كان بالغ الوضوح . 0.
-4-
كانت شقيقتي الكبري مغرمة ، كبقية أبناء وبنات جيدها، بعبد الحليم حافظ ، كانت تترك آلة التسجيل ، وقد اشتراها أخي ، قرب رأسها ثم تغيب في حالة تشبه النعاس ، في انتظار بث أحدى حفلاته في ساعة متأخرة من الليل، من أجل ذلك كان على أشقائها لصغار،الذين هم نحن أن يذهبوا الى أخر نقطة المخيم ، ليشتروا من الصيدلية الوحيدة أقراصا خاصة لطرد النعاس بعيدا عن جفنيها ، كي. تظل مستيقظة و لا تفوتها حفلته التي كان يبثها صوت العرب في وقت متأخر من الليل .
بعد ذلك كبرنا نحن ، وظل عبدالحليم حافظ سهران تحت جلودنا، و مستيقظا كحيوانات الليل ، وعندما توفي انخرطت شقيقتي الكبرى في البكاء، ولف المشهد ضباب شفيق من الحزن منذ ذلك الوقت الى الآن وأنا تراودني
فكرة دائمة ، وهي الكتابة عن عبدالحليم حافظ ، عن تلك الرومانسية التي ثم تبل، وعن ذلك السر الذي دفع نساء من الشرق الأوسط . . الى الانتحار من أجله فور شيوع نبأ وفاته .
آنذاك : انتاب أمي الفزع من احتمال انتحار أبنتها من أجل ذلك المطرب .. آنذاك : كان الموت حقا يطرق أبواب بيتنا كثيرا ،. حيث كان يختطف أخوة لي صغارا، دون سبب مفهوم .. منذ .. ذلك الوقت وأنا أريد أن أكتب عن ذلك الرجل الذي لم تنتحر من أجل غيره عبر تاريخ شرقنا كله امرأة واحدة.
منذ ذلك الوقت الى الآن وأنا أرغب بالكتابة عن عبدالحليم حافظ ، لا شيء إلا من أجل شقيقتي الكبرى، على ذلك يبعث فرحا في نفسها ، وهي التي لم تعرف في حياتها سور العذاب .
-5-
ماذا حدث بعد ذلك ؟
جاء رجل بكوفية فلسطينية (ما يرتدي الفلسطيني في الأدب والسينما غير كوفيته :؟!إ وانهال على الفتى الذي كان يدفن رأسه في العشب ركلا، الفتى أخذ يصرخ من الألم . أخذ يركض ، فيما خلع الرجل عقاله وتبعه وهو يضربه به على مؤخرة راسه وظهره وظلا يركضان حتى غابا المشهد.
ماذا حدث بعد ذلك؟
ظل جهار "الاسطونات في مكانه ،وظلت الفتاة مسمر ة في مكانها . بيعين تائهتين كأنما ظبي في شرك ملغز ، أما المطرب فظل يبث نجواه عبر الاسطوانة بصوت خفيض كانت ألاغنية عن الحب عن الحب فقط ، كانت الأغنية عن الفراق وما يخلفه من أسى ، كانت الأغنية لعبدالحليم حافظ . ولم يكن مصير الشاب بعيدا عن ختام الأغنية الحزينة . ككل أغاني عبدالحليم ، حيث الحزن شنيف ونبيل، حيث الحزن حصان جريح على
رأس جدل ، حيث الحب نفسه مجروح كذلك الشاب بالضبط .
ذلك الشاب الذي لم أفهم الى الحظة سر ضجعته تلك ، وسر بكائه الخافت فيما رأسه مغمور بالعشب ..
-6-
لنتأمل ما حدث ،. بدأت بالكتابة ممن الاسطوانات ثم اتنقلت الى ذلك الشاب ، في الرعشة هناك ذلك هناك الصوت العذب ، والوجه الشاحب ، في الرعشة من ذلك بالضبط هناك عبدالحليم حافظ ، لكن أين الفتاة نفسها؟! .
الفتاة تستدير ثم تنزل الجبل بخطوات تائهة شبهة ومتثاقلة ، تم تنسرب خطواتها بين الخيام الفقيرة , الى أن تصل الى خيمة أهلها ، انها غافلة عن الصراخ .. حتى أنها لم تسمع صوت البكاء الذي كأنه صوت جوفة في مسرح إغريقي، وإذ تدخل . قبل أن تلم بالرضع يفاجئها صوت أمها طالبا منها الهرب . وإذ تنفلت . خارج الخيمة بذعر غريزي ، تتبعها السكين طعنة في الظهر. فتلتفت الفتاة بعينين مذعورتين ورجاء يائس ، ثم طعنة في الظهر وقد استدار القاتل وضمها اليه من عنف الطعنة ثم طعنة في العنق، واذ ذاك ينطفيء البريق الذي في العينين وينفر الدم دافقا ، ثم يبتعد القاتل قليلا ، ويخفت صوت بكاء الأم. ويلتفت حموله خائفا . بعينين دامعتين ، وإذ يلتفت أراه شابا صغيرا لم ينبت شارباه بعد كالرجال ، وبوجح شاحب ونحيل ومرتجف ، ثم أراه يندفع نحو أبيه . على باب الخيمة ، ويختبيء في صدره . ينخرط في بكاء عال .. وإذ أغادر . أرى الدم على الأرض دافئا ورطبا ، وأرى الفتاة تنظر إلي بعينيها المذعورتين اللتين يلتمع فيهما رجاء يائس . إنهما تنظران إلي منذ ذلك الوقت الى الآن ، فهل حدث ذلك حقا أمام عيني . يا إلهي ؟!!
-7-
ولدت في نهاية عصر الاسطوانات . ولقد كان عصرا جميلا رغم كل شيء.
زياد بركات (كاتب من فلسطين)