حاوره : ياسر الششتاوي
الشاعر رفعت سلام تنتسب تجربته الشعرية المتميزة إلى جيل السبعينات، هذا الجيل الذي أحدث طفرة كبيرة في جماليات القصيدة العربية، وكان لديه رغبة جارفة في التجديد والتجريب, ويعد رفعت سلام من ألمع هؤلاء الشعراء الذين ساهموا في بناء مجد هذا الجيل شعرياً، ورغم ذلك كان لرفعت سلام بصمته الخاصة حتى بين أبناء جيله، وكان له نفَسه الإبداعي السامق، وشخصيته الشعرية الخاصة، التي لا تتلبس بأي شاعر آخر، وهذا ما كان يشغله طوال الوقت ألا يكون صدى أو تكراراً لأي شاعر آخر.
ولد رفعت سلام عام 1951م بمدينة منيا القمح في محافظة الشرقية، التحق بجامعة القاهرة عام 1969م، ودرس الصحافة فيها، ثم تخرج منها عام 1973م شارك في تأسيس مجلة “إضاءة 77، كما أسس مجلة “كتابات” الأدبية، التي نُشرت على صفحاتها للمرة الأولى مصطلح “جيل السبعينات” وصدر منها ثمانية أعداد، صدر له تسعة دواوين شعرية، بدأها بديوان«وردة الفوضى الجميلة»1987م و«إشراقات رفعت سلاَّم» (طبعة غير كاملة)،1987م والمطبعة الكاملة 1992م ثم «إنها تُومئ لي» 1993م و «هكذا قُلتُ للهاوية»1993 م و «إلى النَّهار الماضى» 1998م «و كأنَّها نهاية الأرض» 1999م و«حجرٌ يطفو على الماء» 2008م و«هكذا تكلَّم الكَركَدن» 2012م وأخيراً «أرعى الشِّـيَاه على الميَاه» 2020م
ولم يكن رفعت سلام شاعراً فحسب، بل كان أيضاً مترجماً بارعاً، ولكننا يمكن أن نلاحظ أن الشعر كان بوابته لعالم الترجمة، وهو الذي صنع تلك الوشائجية بينه وبين الترجمة، فهو لم يترجم إلا لشعراء باستثناء كتاب واحد عن يوسف إدريس، وكان يردد دائما «الشعر هو مفتاح العالم بالنسبة لي، وهو البوابة لأى طريق آخر، وقد دخلت إلى عالم الترجمة للتعرف إلى شعراء العالم الكبار، وبسببه قصرت الترجمة عندي على الشعر»
أما بالنسبة لترجماته الشعرية فمن أبرزها: الأعمال الشعرية الكاملة لبودلير، الأعمال الشعرية الكاملة لـ«كفافيس»، الأعمال الشعرية الكاملة لـ»رامبـو»، «البعيد.. مختارات شعرية شاملة لـ يانيس ريتسوس»، «أنا.. الآخر» مختارات شعرية عالمية، «الغجر وأعمال أخرى» مختارات شعرية ومسرحية لـ بوشكين، بالإضافة إلى ترجماته للشاعر والت ويتمان، وقطف من شجرة تلك الترجمة جائزة «أبو القاسم الشابي» في الترجمة عام 2018م عن ترجمته ديوان «أوراق العشب» للشاعر الأمريكي والت ويتمان للغة العربية.
وكما صدر له في الدراسات: «المسرح الشعري العربي» 1986، «بحثًا عن التراث العربي: نظرة نقدية منهجية» 1990، «بحثًا عن الشعر»، مقالات وقراءات نقدية 2010. ، وقد شرفنا بهذا الحوار الكاشف والماتع قبل رحيله بقليل في 6 ديسمبر 2020م.
– لم تكن بداياتك الإبداعية الأولى مع الشعر، بل جذبتك فنونٌ أخرى، حتى رسوت على الشعر. حدثنا عن تلك البدايات المبكرة.
كنت أبحث عمّا لا أدري، في المرحلة الإعدادية [12-15 سنة]، وخاصة في شهور الإجازة الصيفية الطويلة، التي أمتلك فيها حريّة مطلقة، طوال الليل والنهار، قطعتُ شوطًا في ممارسة كرة القدم، والحلم بالانضمام إلى فريق أشبال النادي الأهلي، في مركز “قلب الدفاع” [لكن كيف السبيل إلى ذلك؟ فكيف يمكن الوصول إلى النادي في القاهرة، التي تبدو كحلم بعيد؟ ولابد أن أبي سيكون لي بالمرصاد، خوفًا على انتظامي في الدراسة، فالدراسة- بالنسبة له- هي الضمان الأول لمستقبل أولاده].
فلا بد إذن من الاعتماد على الممكن، وخاصةً خلال الإجازة الصيفية الطويلة الباعثة على الملل: هو الرسم، واكتشاف أقلام “الفحم” بإحدى مكتبات “شبين القناطر”؛ وبعده- حين أحس بانغلاق الطريق- تأتي كتابة الخواطر والمذكرات الشخصية والقصة، ومع بداية المرحلة الثانوية تأتي المحاولات الشعريّة، والشعر هو القصائد العمودية، والمعاناة للسيطرة على الوزن والقافية بالنسبة لطالب في السنة الأولى الثانوية.
لقد كانت المرحلة الإعدادية هي مرحلة البحث، ومع السنة الأولى الثانوية، وضعت قدمي على طريق الشعر.
– كتبت القصيدة العمودية في بداياتك الشعرية، هل كنت تؤمن وقتها أنك ستظل شاعراً عمودياً إلى الأبد؟ وما إحساسك بعد كتابة أول قصيدة؟
كنت في الصف الأول الثانوي، حين بدأت أولى محاولات الكتابة الشعرية، كانت القصيدة العمودية هي الشعر، ولا شعر سواها، فمعرفتي الشعرية كانت مستمدة من كتاب اللغة العربية بالمدرسة، وفي الكتاب لا شعر سوى القصائد العمودية، وقضيت العام الأول في محاولة ترويض الوزن والقافية، مرة وراء أخرى، لا شيء سوى الوزن والقافية، وكنت أعرف أن ما أقوم به ليس سوى تلك المحاولات المضحكة للقبض على الوزن والقافية كخطوة أولى ضرورية لكتابة الشعر، لكن هذه المحاولات “المضحكة” أسعدت كثيرًا الأستاذ “محمد درويش”، أستاذ اللغة العربية، حين عرضتها عليه، وذهب بي-من باب الاكتشاف والفخر- إلى ناظر المدرسة.
وفي العامين التاليين، سيتحسن الوضع شيئًا ما، وتبدأ القصائد.. ومن هذه القصائد، ستُنشر لي- فيما بعد- قصيدتان عموديتان بمجلة “الأديب” البيروتية، وسيصلني العددان في تلك القرية الصغيرة المغمورة “منية شبين” [هما أول ما سيُنشر لي، على وجه الإطلاق في الجرائد والمجلات].. حالة من الانبهار أن أرى اسمي مطبوعًا في مجلة، قادمة من بيروت، إلى شاب صغير مجهول بقرية مجهولة، وأواصل إتقان الكتابة العمودية إلى أن أكتشف القصيدة التفعيلية في العام الأول من الجامعة.
– الانتقال من القصيدة العمودية إلى قصيدة التفعيلة، ثم إلى قصيدة النثر؛ هل كان هذا الانتقال سهلاً؟ وما الدافع وراء كل انتقال؟ وهل كانت هناك مطبات في الطريق؟
الانتقال الأول- وكنت في حوالي العشرين من عمري- كان بمثابة قفزة رهيبة، مرعبة، في الفراغ، كنت بالكاد قد تمكنت- فيما يبدو لي- من تقنيات الكتابة العمودية، وبدت لي صعوباتها الأولية- الخاصة بالسيطرة على الوزن والقافية وبناء الصورة- قد تلاشت، فكيف يمكنني التخلي عما أمتلك (ما قضيت سنوات من العناء في سبيل امتلاكه) من أجل مجهول، قد لا يزيد عن سراب؟ هو الخوف- بل الرعب- من الفشل، وخسارة ما عانيت من أجله، ولكني تعاملت مع نفسي آنذاك بسذاجة جميلة: فلتقفز في المجهول؛ فإن أسفرت المغامرة عن سراب، فلتقفز إلى الوراء خطوة أو خطوتين، لتستعيد وضعك السابق، دون أن تخسر شيئًا، وقفزت إلى المجهول.
احتجتُ إلى بضع تجارب/ نصوص جديدة “تفعيلية” لأطمئن إلى المسار الجديد، ولإحساسي بالحرية، وقدرتي على امتلاك أدواته، والتعبير الأفضل من خلاله؛ واحتجتُ إلى نحو عامين لتُنشر لي أول قصيدة “تفعيلية” بمجلة الإذاعة والتليفزيون (1972)، بفضل شاعر العامية القدير مجدي نجيب (المشرف الفني على المجلة آنذاك)، وقد كانت القصيدة تحمل أصداء واضحة من صلاح عبدالصبور، لكنها تنطوي على إحكام مبكر للبنية العامة، وصياغة الصورة، وحداثة اللغة.
وحين كتبت “منية شبين” (1975)، أحسست أنها قصيدتي الأولى التي تحمل صوتي الصافي، بلا أصداء، ونقطة الانطلاق إلى أفق خاص بي، بلا مزاحمة من أحد.
– ما السر وراء تكوين جماعة إضاءة 77 الشعرية؟ وما دورها في المشهد الشعري في ذلك الوقت؟
في عام 1972، أصدرت- مع الصديق الشاعر حلمي سالم- ديوان “الغربة والانتظار”، ونحن ما نزال طالبين بكلية الآداب بجامعة القاهرة. وتواصل ارتباطنا فيما بعد تخرجي (مايو 1973) وتخرجه في العام التالي (كان قد رسب في مادة اللغة الإنجليزية، في السنة الرابعة، فأعاد العام بكامله!). قضيت ثلاث سنوات وثلاثة شهور في الخدمة العسكرية بسيناء (كنت ضابط احتياط)، وعدت إلى الحياة المدنيّة في يناير 1977، لنبدأ التفكير معًا في إصدار مجلة شعريّة مستقلة، خاصة بنا، كأول مجلة شعرية مستقلة منذ “أبولو” (1932).
كانت الأجيال والتيارات الشعرية مكدسة في طريقنا إلى النشر والتحقق الشعري والثقافي العام. ومَن يقبل بحضورنا الفردي، يفرض علينا منطقه الأبوي (لا تنس أننا- حلمي وأنا- من أبناء انتفاضة الجامعة 1972، ودفع كل منّا ثمن موقفه السياسي العفوي في سجون السادات- هو لأسبوع، وأنا لأسبوعين!). فهو وضع لم يكن مقبولاً.
هكذا، بدأنا التنفيذ العملي- مع الشاعرين جمال القصاص وحسن طلب- عند إنهائي الخدمة العسكرية، ليصدر العدد الأول في يوليو 1977 ولدى صدوره خصص الناقد القدير رجاء النقاش مقالاً كاملاً بمجلة “المصور” احتفاءً بالعدد، تحت عنوان “صفعة في وجه الذوق العام” (عنوان بيان الحركة المستقبلية الروسية- 1912). وخصص مقالاً ثانيًا للعدد الثاني، عند صدوره.
لقد أدرك ببصيرته – هو والدكتور عبدالمنعم تليمة، صديقنا وأستاذنا الذي دعم المجلة بقوة منذ التفكير في إصدارها- أن المجلة هي إشهار ولسان حال جيل شعري قادم في الثقافة المصرية والعربية؛ جيل شعري قادر على افتتاح أفق جديد للشعر العربي، يشبه تلك الحركات الكبرى في التاريخ الشعري بالعالم، المستقبلية، السيريالية، إلخ.. وهو ما كان.
– جيل السبعينيّات جيل التمرد والتجريب، فماذا أضاف هذا الجيل الذي أنت واحد من أعلامه للقصيدة العربية؟
يحتاج الأمر إلى ناقد لاكتشاف الإضافة، لكني أعتقد أنه جيل فتح أفق القصيدة على مصاريعه، بعد أن كانت قد دخلت إلى منطقة رمادية، سكونية، نمطية، فقد انغلقت قصيدة التفعيلة آنذاك على نفسها، وأصبح شعراؤها يدورون حول أنفسهم بلا قدرة على اكتشاف مخرج لهم من الدائرة المغلقة، التي يكررون بداخلها إنتاج قصائدهم، ويحولون القصيدة إلى نمط تقليدي ذي مواصفات وحدود مشهرة وملزمة قَبليًّا.
وكان لا بد أن يأتي جيل آخر، قادر على التحرر من ميراث “التفعيلة”، الذي أنجزه رواد كبار، ويمتلك القدرة على الإضافة الفارقة، حتى لو استدعى الأمر القفز خارج سفينة التفعيلة ذاتها.
هكذا، انطلق شعراء السبعينيّات من الحرية المطلقة للشاعر (نعم، الحرية المطلقة! تلك الحرية المرعبة!)؛ لا من “القاعدة” الخارجية، المسبقة على فعل الكتابة، فالشاعر لا سواه ـ وفقًا لهم- هو مَن يخلق القاعدة الإبداعية، ويمتلك الصلاحية لتعديلها، وتغييرها، ولهذا لم يكترثوا- على سبيل المثال- باتهامات “الغموض” التي نالتهم في البداية، ثم اتهامات التعالي على الجمهور (من مثقفي اليسار بالذات).
فالدفاع عن حرية الشاعر أصبح بديهية في الواقع الثقافي العام، بعد أن انهزم التقليديون أمام السبعينيين، وانتفت الخطوط الحمراء من الشعر.
– مع أنك من جيل السبعينات إلا أن ديوانك الأول (وردة الفوضى الجميلة) تأخر صدوره حتى الثمانينيّات. ما السر في ذلك؟
في السبعينيات، لم تكن الأبواب مفتوحة أمامنا للنشر، فاخترعنا المطبوعات المستقلة (فيما كان الآخرون يعتمدون بشكل كليّ ومباشر على المطبوعات الحكومية)، ابتداءً من مجلة “إضاءة-77″، لنمتلك صوتنا وحريتنا، بلا وصاية، وخلالها ظهرت طريقة “الماستر” في الطباعة (طريقة متقشفة، وغير باهظة الثمن)، فبدأ الأدباء “الشبان”- ومن بينهم الشعراء- في نشر أعمالهم الأولى بهذه الطريقة، ورغم مشاركتي بقوة في هذه المطبوعات (بعد مشاركتي في تأسيس وإصدار “إضاءة”، أسست وأصدرت “كتابات” مع أصدقاء شعراء)، إلا أنني لم أتحمس لنشر ديوان لي بهذه الطريقة الطباعية.
وذات يوم، آنذاك (النصف الأول من 1980)، مررت على صلاح عبدالصبور في مكتبه برئاسة هيئة الكتاب، سألني عن شعري، وطلب قراءته، بعد أسبوع مررت عليه بملف مكتوب بخط اليد يضم قصائدي، أمهلني أسبوعًا لقراءته، بعد أسبوع حين عدت إليه، اعتذر عن عدم القراءة لضيق الوقت؛ لكنه قال لي: سأقرؤه مطبوعًا، خذ الملف، واصعد إلى الأستاذ فوزي العنتيل في الطابق العلوي، وسأتصل به قبل وصولك إليه، حين وصلت إليه، أخبرني أن الأستاذ صلاح اتصل به، وطلب منه أن يكتب تقرير صلاحية الديوان للنشر، وأنه سينجز التقرير خلال أسبوعين. وهو ما تم. ووصل المخطوط والتقرير إلى إدارة النشر.
وفي صيف ذلك العام، توفي صلاح عبدالصبور، وظل الديوان يتأجل عامًا وراء عام بإدارة النشر، لمدة سبع سنوات..! [لم يكن لديَّ مدخل إلى الدكتور عزالدين إسماعيل، رئيس الهيئة التالي لصلاح عبدالصبور. ولم أكن متحمسًا لمضاعفة جهودي لإصداره على عجل، ربما لأنني كنت متحققًا بدونه! مجلات غير دورية- “إضاءة”، ثم “كتابات”، والنشر في الدوريات العربية، قصائد وحوارات ومقالات، إلخ]. وصدر بلا بهجة كبيرة، بعد أن قمت بحذف القصائد القديمة، وإضافة الجديدة.
– تكتب القصيدة الديوان. ما سبب قيامك بتلك التجربة، مع أنّها قد تكون مرهقة للشاعر؟
إنه “العمل الشعريّ”، لا “الديوان” فـ”الديوان” تجميع لقصائد منفردة، كتبها الشاعر بصورة منفصلة، ثم استعادها عند الطباعة، بترتيب “مزاجيّ” فهو يقوم على تجميع “الجزئيّ” ليصنع منه “كُلاًّ” متجاورًا أو متتالي الأجزاء. أما “العمل الشعري”، فهو “كُلٌّ” موحّد، مندمج في بنيته، ومؤسس على العضوية منذ لحظة الكتابة.
فمبكّرًا، منذ منتصف السبعينيّات، بدت لي “القصيدة”- في أشكالها المتاحة، حتى لدى مَن سيشكلون فيما بعد ظاهرة “شعراء السبعينيّات”- أضيق مني، لا تتسع لي، كنت أختنق داخلها، دون أن أدري لماذا، فالآفاق تنفتح بداخلي، مع شراهتي إزاء العالم وأشعاره المختلفة، والمصادر التي تتضاعف بقراءاتي بالإنجليزية ثم الفرنسيّة، لكن القصيدة تضيق [كلما اتسعت الرؤية، ضاقت القصيدة!].
وبدأتُ- بلا وعي أو قصد- في البحث عن بديلٍ ما، يفتح أفق النص الشعري، ويخرج به عن السكونية والتكرار، ويخرج بي عن الاختناق، وبدأت التجربة في بعض قصائد ديواني الأول “وردة الفوضى الجميلة”، وخاصةً “تنحدر صخور الوقت..”.. التي فتحت الطريق نسبيًّا لأول الحلول: “إشراقات رفعت سلام”. فالإشراقات هو العمل المفتوح على مصاريعه، الخارج على السياقات، والمتحرر من كل شروط قبلية، وهو المنطلق إلى “هكذا قلت للهاوية”، و”إلى النهار الماضي”.. وصولاً إلى “حجر يطفو على الماء” و”أرعى الشياه على المياه”.
ولأن الأعمال انفتحت على مصاريعها، كان من الطبيعي أن تدخل إلى فضاءاتها الكائنات، والأيقونات، والرموز التشكيلية، لتتعدد اللغات الأبجدية والبصرية، وتتعدد البنية التشكيلية في الصفحة، مثلما تتعدد العوالم والقارات والجغرافيات والأزمنة.. بلا أحادية أو واحدية.
– هل يمكن تجاور الأشكال الشعرية من قصيدة عمودية وتفعيلة ونثر في الوقت الحاضر؟ أم أن قصيدة النثر هي وعاء التجديد الوحيد؟
ليس هناك أفق وحيد للتجديد الإبداعي. فهناك “آفاق”، تنتظر الاكتشاف والاختراق، ففي ظني أن هذه الأشكال تكتنز طاقات/ ثروات قابلة للاستخدام، لا لإنتاج نسخة من نفس النمط، بل لتجاوز النمط ذاته إلى أفق آخر لم يعرفه شعراء النمط، فهذا “النمط” أو ذاك ليس الغاية، بل الأفق المغاير، المخترق والمتجاوز للمألوف والسائد، وإن لم تتحقق المغايرة والتجاوز والاكتشاف، فسنكون قد وقعنا في “النمطية” والتكرار وإعادة الإنتاج، وهو ما يتنافى مع جوهر الإبداع عمومًا.
– هل تعتقد أنه ما زال أمام الأجيال الجديدة فرصة للتجريب والتمرد بعد الذي فعله جيل السبعينيات؟
لا التجريب ينتهي، ولا التمرد يمكن مصادرته، فهما مرهونان بوجود الإبداع ذاته، لا بوجود جيل أو تيار معين، وهما ينتظران فحسب من يمتلكون الشجاعة والجرأة المقتحمة، لا من يتكئون على ظلال الآخرين، فالاستقلالية الروحية والإبداعية شرط للتمرد والمغامرة، والتمرد والمغامرة- في ظني- شرط الإبداع، لكن هذا الشرط لا يتحقق سوى لدى الآحاد من المبدعين، النادرين؛ أما الأغلبية فهي تركن إلى التقليد وإعادة الإنتاج، ولهذا ففرادة الصوت الإبداعي نادرة، والتشابه هو القانون العام، كأن هناك “قصيدة عامة” يكتبها الجيل، أو غالبيته، قصيدة متوسطة، رمادية، لا تزعج أحدًا أو تقلقه.
– هل هناك من يكتبون قصيدة النثر بروح عمودية ؟!
بروح تقليدية! أو بروح “نمطية”، تكرر ما هو موجود، بلا نبرة خصوصية، وبلا وهج إبداعي.
فلدينا- في قصيدة النثر المصرية، بالذات- مَن يعيدون استنساخ قصائد بعض الأسماء العربية المشهورة، التي كانت قد استنسخت- من قبل- قصائد اليوناني يانيس ريتسوس (إنهم يتوارثون مبدأ الاستنساخ، جيلاً بعد جيل!). ولا يكتبون قصيدتهم المستقلة، بنبرات صوتهم، ورؤاهم، بحثًا عن أفق خاص، وأراضي لم تطأها قدم، فهم يخطون ويسيرون في طرق ودروب استهلكتها الأقدام، هنا أو هناك.
– ترجم رفعت سلام عدة ترجمات لشعراء مهمين، وحاز جائزة الشابي من تونس لترجمة أشعار الشاعر الأمريكي (والت ويتمان). فماذا أضافت الترجمة إلى تجربتك الإبداعية؟ وهل المترجم مظلوم في عالمنا العربي؟
أضافت الترجمة طبقات لا نهائية من الوعي النقدي والشعري، منذ وقت مبكر؛ ذلك الوعي الذي استندت عليه في التجريب والمغامرة، لأنه وعي بتعددية الآفاق الشعرية، لا أحاديتها. فلم أعد محصورًا في المسار التاريخي للإبداع الشعري العربي، منذ شعر المعلقات إلى الراهن، الذي يهيمن عليه التقليد؛ بل تعددت- عندي- مسارات الإبداع الشعري، وخاصة المؤسسة للحداثة؛ حين عكفتُ على ترجمة بوشكين وليرمونتوف وماياكوفسكي- في تأسيسهم للحداثة الشعرية الروسية، وقسطنطين كفافيس في تأسيسه للحداثة الشعرية اليونانية، وبعده يانيس ريتسوس؛ ثم بودلير ورامبو في تأسيسهما للحداثة الشعرية الفرنسية، وأخيرًا والت ويتمان في تأسيسه للحداثة الشعرية الأمريكية والبريطانية..
ومع أنّها تجارب “حداثية” في عمومها، وتنطوي على سمات عامّة مشتركة، إلا أنّ كل تجربة تتمايز عن الأخرى، وتنطوي على خصوصياتها الفارقة، فهي تجارب نافية للتقليد والتكرار، مضادة للسكونية. وتلك هي القيمة الأساسية للترجمة عندي.
وخارج هذه القيمة التي تمنحها لي الترجمة، دائمًا ما أعزي نفسي: “إنما أترجم لوجه الله، لا أريد جزاءً ولا شكورًا”.. فذات يوم- على سبيل المثال- نشرت “الأعمال الشعرية الكاملة” لأحد مؤسّسي الحداثة الشعرية في العالم، وضربني الذهول حين وجدت المكافأة- بعد النشر- لا تزيد عن ثلاثة آلاف جنيه مصري، مكافأةً على معاناة تواصلت نحو خمس سنوات، بمعدل 600 جنيه في السنة، بمعدل 50 جنيها في الشهر! والمفارقة أنّ المسؤولين عن هذه المؤسسة كانوا أصدقاء لي، فلم أستطع مناقشتهم في الأمر، واعتصمتُ بالصمت.
وطبعة أخرى للأعمال الشعرية الكاملة، لشاعر آخر، لم تزد المكافأة عنها- بمؤسسة أخرى- عن خمسة آلاف جنيه مصري! ويمكن للمسؤولين عن هاتين المؤسستين الكبيرتين أن يردوا بصورة بيروقراطية بأنها “اللوائح”! ويمكنني أن أرد في المقابل- عن معرفة بيروقراطية- بأن “اللوائح” ليست مقدسة، وأنها بالضرورة البيروقراطية تتضمن “استثناءات”؛ لكنهم لا يطبقون هذه “الاستثناءات” المفيدة إلا على أنفسهم ومعارفهم وأحبائهم!
– رغم إسهاماتك الكبيرة إبداعاً وشعراً ونقداً إلا أنك لم تنل ما تستحق من جوائز؟ كيف ترى هذا الأمر ؟ وما أثر الجائزة على المبدع؟
في رصيدي جائزتان: “جائزة كفافيس” الدولية في الشعر (1993)، و”جائزة الشابي” التونسيّة في ترجمة الشعر (2019)، لا أكثر، وهو أمر ليس سيئًا، ولا جيدًا.
فالجوائز المصرية والعربيّة عمومًا- وما أكثرها، ما أفدحها- تعكس الورطة الثقافيّة التي نتخبط فيها، كثقافة ومؤسسات ومثقفين، دون أن يبين لنا طريق للخروج، فهي ليست تعبيرًا عن التميز الإبداعي أو الثقافي للفائز بها، بقدر ما تعبر عن حسابات معينة خاصة بالمؤسسة التي تمنحها؛ وأحيانًا ما تكون حسابات لإفساد السياق الإبداعي، أو توجيهه، مثلما يحدث بالذات في الشعر (فسقف الإبداع الشعري في الجوائز الخليجية هو قصيدة “التفعيلة”، في زمن هيمنة قصيدة النثر على المناخ العام): نفي الشعر من بعض الجوائز، منح جوائز باهظة على التنكيل بالشعر في جوائز من قبيل “أمير الشعراء” التي تبتذل لقب وصفة أحمد شوقي، وتمنحه لنظَّامين ورصَّافين من الدرجة العاشرة.
ولأني أنأى بنفسي عن تلك الحسابات- غير الثقافية وغير الإبداعية- ومتمسك بصرامة بتوجهاتي الشعرية والثقافية بلا تواطؤ، فلا يحق لي انتظار مكافأتي على خروجي على هذه السياقات؛ فلا أسًى ولا ندم على شيء، فالجوائز لا تمنح على “الاستقلالية”، على “الإنجاز” الإبداعي أو الثقافي الخالص.
أما في الوضع الحالي، فهي قيمة مالية لا أكثر، لا تعني سوى الفائز بها.. أما أية قيمة أخرى، فهي بحاجة إلى ميكروسكوب لاكتشافها.