خيري الذهبي
ربما يكون هذا مقالي الرابع أو الخامس عن صديقي غالب هلسا، الذي لن أنسى سنوات الصداقة الطويلة التي جمعتنا، عبر عديد من مدن العرب، ولن أنسى كيف كانت صداقتنا تلك تأخذ في كل مدينة شكلاً مختلفاً عمّا قبلها، من القاهرة إلى بيروت ودمشق.. وأخيراً عمّان. فقد قضى غالب أيامه الأخيرة في مدينتي دمشق، وأنا أعيش الآن منفاي الثالث في مدينته عمّان، منتظراً الرحيل إلى منفاي الرابع.. تقاطعت بنا الأقدار وتبادلنا الأدوار: القوي والضعيف، المنفي والمستقر، الكاتب والقارئ… في عمّان التي أعيش بها منذ سنتين أتجول وأرى ما تبقى من عوالم غالب هلسا التي شاهدتها في كتبه، أنحني أمام أدراج عمّان التي وصفها في «سلطانة»، وأزور معين ومادبا والأغوار، تلك التي عرفها غالب الشاب وكتب عنها في منفاه.. وأبادله الأدوار؛ فأكتب في عمّان عن دمشقي وغوطتها وسوريا وتفاصيلها.
كنت أسمع عن غالب منذ دمشق، أي منذ كنت شاباً في بدايات معاركي مع القلم، كنت أقرأ كتاباته التي شارك بها في النضال ضد الاستعمار (وهو الاسم الذي كانوا يطلقونه على التدخلات العدوانية للغرب في الشرق الضعيف أضعفه طولُ الزمن الذي كان فيه الشرق يستعمر الشرق)!
كان وعي غالب كبيراً في معرفة مأزق الأمة الحقيقي وليس ما يحاول الحكام تضليلنا به عبر معارك جانبية تتمحور حول الطائفية والأديان والصراع الغبيّ على السلطة في البلاد العربية، كانت بغداد أولى محطات تغريبته، حتى كرّت سبحة علاقات غالب مع المدن العربية من بيروت إلى القاهرة ودمشق وبيروت مجدداً وصنعاء ثم دمشق حتى عودته الحتمية إلى عمّان مجلَّلاً بالعلَم الأردني ومنها إلى معين مسقط رأسه..
كانت كل مدينة تمنح غالب سحراً ومعنى جديداً للشرق، تجعله يتأمل في فلسفة وتقنية «حلم اليقظة» التي كان يعيشها شخصياً واعتمدها في أغلب أعماله الروائية كمفتتح للسرد، فمن بغداد شاهد العرب من منظار لا يشبه غيره أبداً، وبادل المدينة تلك، العشقَ نفسه، فأهداها روايته «ثلاثة وجود لبغداد»، تلك الرواية الجميلة التي شرّح عبرها غالب المجتمع البغدادي وأسئلته اللانهائية بحثاً عن أجوبة يعرفها الجميع ولا يقبلون بها، وكانت الصدمة في رفض الرواية من الجميع: النظام كما عرّته الرواية في ثناياها، والمعارضة القابعة في دمشق وقتها حينما رأت صورتها في ظلال شخصيات تمارس الأنانية على حساب مفهوم الوطن.
مفهوم الوطن ذلك الذي شربه غالب فيما بعد في مرحلة تثوير بيروت وتفجُّرها أمام غولَيْ حربها الأهلية واجتياح إسرائيل لها، ووقوف غالب اصطفافاً إلى جانب الثوار وتبنّيه هزيمتهم ورحيلهم عن بيروت وسط تواطؤ عالمي وعربي، كانت بيروت هي هزيمة غالب الثانية بعد بغداد، في القاهرة بعدها وكما رأينا في روايته الأثيرة «الروائيون» التي فصّل فيها مأزق مثقفي القاهرة عرباً ومصريين، واستعصاء المثقف أمام السلطة المتآمرة عليه، كانت هزيمته الثالثة التي قرر بعدها ألّا ينتمي لمدن عربية، فالرحيل إلى مسقط الرأس وقبوله الهزيمة هناك أخفّ وطأة من تعرُّضه لهزائم لا يقوى على تغييرها بقبضة يده.
وربما من هنا ننطلق لصداقة غالب مع «كارلوس» الذي تعرفتُ عليه عابراً برفقة غالب، فأثارت علاقة غالب به في داخلي استغراباً كبيراً، فأنا لم أكن أتخيل أن غالب المسالم يجالس أحد الرجال ممن يؤمنون بالتغيير بالقوة وحتى درجة ارتكاب العنف الثوري من أجل التغيير، هذا العنف الثوري الذي سموّه لاحقاً «الإرهابي». لم يكن غالب رجل تنظير فقط، بل كان يسعى للتأثير على من استطاع التأثير عليه من أجل التغيير، وكنا في دمشق التي احتضنتْه منهَكاً ومتعَباً من أسفار ونضال وخيبات كثيرة، اختبر عبرها مدائن العرب أغلبها وهو يبحث عن منصة لإطلاق أحلامه.. حيث لم يجبه أحد على «السؤال» الذي أطلقه في روايته التي حملت الاسم نفسه. غالب الذي حمل سلاح المقاومة حينما كانت المقاومة تقبل أمثال غالب أن ينخرطوا بها، بكامل حريتهم ووطنيتهم وسؤالهم الدائم عن العدالة الكاملة للشعوب كافة، فكان حَمْلُه السلاح في بيروت رمزياً بقدر ما كان مؤثراً، كانت صرخته في وجه ذلك الإحباط، وكذلك كان ارتحاله مع المقاومة الفلسطينية إلى اليمن تضامناً كاملاً منه، وتحمُّلاً هائلاً عبره لجزء من تلك الهزيمة، التي لو قُسمت على الجبال لخرّت الجبال تحتها.
تبقى «زنوج وبدو وفلاحون» هي جوهرة تأثر غالب بمسقط رأسه، وفيها فنّد المجتمعَ الأردني بمبضع جراح، وغاص في تفاصيل جمالياته التي لم يسبقه إليها أحد.
كان غالب هلسا قد درس في عمّان الدراسة الأولى ثم اضطر إلى الهرب إلى بغداد، بعد إصرار البوليس الأردني في ذلك العصر على مطاردته، ومحاولة اعتقاله مع الشيوعيين في ذلك الحين، والحق أنهم لم يكونوا جادّين في مطاردة غالب الشاب الثائر المتحمس، ولو جدّوا لقبضوا عليه، ولكنهم أغمضوا عيونهم، وتركوه يفرّ وهو الشاب المتحمس.. تركوه يفرّ إلى العراق رغم أن العراق في الوقت نفسه كانت تابعة بطريقة ما إلى البريطانيين، ولكنهم ربما كانوا يسعون إلى تجريده من الذراع الأردنية التي كان يحتمي بها، أيْ العشائر والقرابات القويّة، وقد حافظت الحكومات الأردنية المتعاقبة على حكم غالب بعشرات السنين من السجن. وكان غالب في منفاه البريطاني (مصر) ينتظر السماح له بزيارة الأردن، وكان كذلك حتى في المراحل الأخيرة في دمشق التي اعتاد فيها التفاخر بعضلاته أمامي متفاخراً بأنه سيعيش طويلاً، ثم يتحدث عن عمّه الذي قارب المئة من السنين وأبيه الذي عاش حتى السأم، وأخواله، وكنت أستمع إلى ماي قول في أسف غيور صامت، فأنا أنتمي إلى عائلة لم يعمّر أكثر الرجال فيها ما يزيد على الستين عاماً، وفيما بعد كنت أتأمل ما تبقى من «جبل مادبا» في المستشفى في حزن، فلم تتحقق رغبات غالب المدعومة بالسيرة العائلية، فقد توفي في منتصف الخمسينات من عمره، وكان يتوقع التسعينات، أو المئة، ولكن العودة إلى الأردن بقيت حسرة في قلبه وهو على مسافة ساعتين من ملاعب الصبا في الأردن، وكنت أرى حسرته وأساه، ولا أستطيع شيئاً لعونه، وكان في السنوات الأخيرة قد استطاع سراً ودون إطلاعي على ما صنع، الوصول بالاتفاق مع السلطات الأردنية إلى السماح له بزيارة الأردن، ورؤية الأهل، ولكنه لسوء حظّه وحظّ محبّيه، توفي قبل زيارته الأخيرة لـ»ماعين» مسقط رأسه، ودون أن ينال هذا الحق! بل توفي في دمشق.. وعندئذ قبلوا بدخوله إلى الأردن نائماً، نادمين على خسارة الوطن الأردني لقامة حقيقية مثّلها غالب.
في دمشق حيث كتب رواياته الأخيرة، بدأت نوبات طلب الراحة لدى غالب، وخاصة حين أخذ الحنين إلى الأردن يمزّقه، وكان أن نشر روايته الجميلة «سلطانة»، التي كانت سيمفونية الحنين إلى الأردن حين كان يعتصر كلّ ما يعتلج في فؤاده من أشواق إلى بلده، والغريب أنه في تلك الرواية قد ترك لمشاعره الانفلات لتعبّر عن حنين الفتى إلى المدينة التي هجرها وهجرته، فتخلّى عن عمارة المدينة الحديثة في الفصول الأولى، وجعل البنت «سلطانة» المعبرَ إلى ذلك العالم.
تُرى هل كان هذا الحنين مظهراً من مظاهر شهوة الموت التي تراكمت لديه، وخاصة بعد الخيبة الفظيعة التي أصيب بها بعد الضغوط العربية والأميركية من أجل ترحيل الفلسطينيين عن لبنان، وكانوا قد اختاروا إثارة النعرات الطائفية والدينية والمذهبية.
أفّ.. كم يوجعني قلبي حين أذكر تلك السنوات التي كرّسوا فيها نضالاتهم كلها من أجل طرد الفلسطينيين من لبنان ليخلو لهم وجه لبنان.
كانت «سلطانة» كما وصفها غالب، فتاة هي الجمال البرّي الذي يتقرب بغالب، ومَن قرأ الرواية لا شك يذكر تلك الخرابة (الهربج) التي كانت سلطانة تشدّه إليها، وكانت اللمسات الأولى والقُبل الأولى التي يذكرها غالب في تَشَهٍّ إلى ذلك الماضي البهيج!
كانت «سلطانة» هي المعادل الموضوعي لذكريات غالب عن «ماعين»، ولكنها كانت أيضاً تلك الذكريات التي جعلته يرى سقوطها في التعامل مع المخابرات الصهيونية، ولنا أن نذكر تشهّيه لفلسطين التي سيراها عبر البحر الميت وهي تسقط مجلّلة بخيانة الحلم.
وهنا يبدأ الكابوس أيضاً، فلقد انزلق غالب إلى تذكُّر خيانات الحلم لدى الكثيرين أو الكثيرات، كـ»سلطانة» التي تعلمت التجارة مع العدو الصهيوني، فيرى أشباحهم عبر البحر الميت وهم يبيعون ويشترون الأحلام والأمنيات التي حلم بها غالب الصبي قبل هروبه من «ماعين»، أو حتى من كل المدن التي ارتحل إليها ككل …
هل كان غالب يعرف أن رواية «سلطانة» ستكون وصيته التي سيتركها للأجيال التالية، وأن عليهم ألّا ينخدعوا بالجمال، فالجمال كثيراً ما يخفي شيئا آخر خلف قناع الجمال والرغبة.
وللحقيقة فقط، فقد كانت «سلطانة» روايته الأثيرة والجميلة بل الأجمل على كل الأصعدة، إلا في محاولته شرح المشروح في نهاية الرواية، وسينشر بعدها رواية مسرحُها مصر؛ ولكنها لن تكون أبداً كـ»سلطانة»، بل ستكون رواية من كتاباته القديمة وقبل معاناته في الأردن مأساته ومرآته!
إذ اتخذت رواية «الروائيون» من القاهرة مسرحاً استعادّياً لها، وكان يروي سيرته فيها بشخصية «إيهاب» الذي يقود الرواية بصفته «غالب» ذاته بدلالات لا تنتهي وإشارات كثيرة، ولكن «إيهاب» هذا مصري كامل، يتحدث اللهجة المصرية وينخرط في المجتمع المصري كما لو أنه منهم (رحّل السادات غالبَ من القاهرة عام 1977)، ولقد كان غالب بالفعل مصرياً في القاهرة، وعراقياً في بغداد، ولبنانياً فلسطينياً في لبنان، وسورياً في الشام، وأردنياً في كل حلم يقظة أو حلم نوم.. تنتهي رواية «الروائيون» بانتحار «إيهاب» بعد أن أخذ السُّمّ من ضابط مخابرات مصري، ينتحر «إيهاب» هكذا وبكل بساطة قبل أن ينهي روايته التي يكتبها.. ينتحر «إيهاب» بطل رواية غالب الأخيرة، «إيهاب» الذي هو غالب، قبل وفاة غالب بأشهر فقط!
فكان تماهي الشخصية مع الكاتب في أقصى حدوده.. غالب الذي أدرك نهاية رحلته مع المدن، قرّر العودة إلى بلده عبر موته، لتكون مدينته التي هي مسقط رأسه فصلاً أخيراً من حياته أيضاً، وكأن كل شيء كان مدروساً، إذ ولد غالب في 18 ديسمبر، وتوفي في 18 ديسمبر! من دمشق إلى عمّان امتد رفقاء السلاح والقلم والكتاب في جنازة ضخمة تكريماً لرفيق المدائن العربية وهو عائد إلى حبيبته مسجّى.