تقدم رواية «تبليط البحر»(1) للروائي اللبناني رشيد الضعيف أمثولة للإنسان العربي الذي يحقق النجاح في الغرب ثم يجازى أسوأ الجزاء عندما يعود للوطن.
وتسرد الرواية قصة (فارس منصور هاشم) الذي ولد عام 1861 في بيروت، وحصل على شهادة الطب من أرقى الجامعات في الولايات المتحدة الأمريكية. وهذه الشهادة لم يحصل عليها بسهولة، فقد كان مضطراً إلى العمل بائعاً جوالاً في الصيف ليوفر مصروفات دراسته في الجامعة. وبعد تخرجه عمل طبيباً وحقق نجاحاً عظيماً في مهنته حتى صار طبيباً مشهوراً. وخدم في الجيش الأمريكي كطبيب متطوع في حربها ضد إسبانيا، وبسبب جهوده حصل على الجنسية الأمريكية. تزوج من فتاة صينية تعرف عليها في كوبا، وأصاب ثروة من عيادته سمحت له بشراء عدة شقق في نيويورك وكذلك مسكن في وطنه الأم لبنان. ثم اتخذ قراره بالعودة فصفى أملاكه وباع أسهمه وسافر بصحبة زوجته الصينية (ساوا) وفي رحلة القطار من باريس إلى مرسيليا فارق الحياة تاركاً زوجته الحامل لوحدها. تحلت (ساوا) بالشجاعة، وقررت دفن زوجها الطبيب الشهير في مسقط رأسه، وحين وصل التابوت إلى بيروت، سلبه بالحيلة ثلاثة طلاب أشقياء من طلاب الطب في الجامعة الأمريكية، وعلى الفور تقريباً جرى تقطيع (فارس منصور هاشم) وتبعثرت أشلاؤه بين الطلبة:
« لكنه أجبرها بهذه الطريقة على البقاء واقفة أمامه مدة طويلة من الوقت، حتى استطاع الطالبان وضع التابوت في العربة، والمضي به إلى البحر في عتمة الليل الذي كان حل بالكامل، وقد أخرجا هناك الجثة وحفرا للتابوت حفرة طمراه فيها، ثم ألبسا الجثة ثياب «خواجا» جديدة مع قبعة إفرنجية، ووضعا سيجاراً مشتعلاً بين شفتيها، وأجلساها في العربة في الوسط بينهما ليسنداها من كل جهة، ومضيا بها إلى الجامعة الأمريكية من بابها الشرقي الذي يسمى اليوم المديكل غايت…. لكن العربة التي كانت فيها الجثة وصلت قبل أن تصل الدورية. وكان الكمين في الخارج منصوباً وكانت الجثة في الداخل يتوزع أطرافها الطلاب بعدما نودي عليهم من المكتبة ومن غرف نومهم وأماكن لهوهم، وراح كل منهم يشرح ما كان من نصيبه، تحت إشراف أستاذهم. كانت الجثة تشرح فور وصولها حتى يستحيل استرجاعها بالمطلق. وحتى لا يبقى أمل فيها لذويها ولا لأي كان»ص 197ـ 199.
هذه النهاية التي يتفطر لها القلب لطبيب عربي لمع اسمه في الغرب، تشير من طرف خفي إلى الحروب الطائفية والأنظمة الديكتاتورية التي تنهي حياة خيرة أبنائها والصفوة العبقرية من كوادرها بتلك الطريقة الوحشية، إن هذا التشريح المريع لبطل الرواية هو اختصار مكثف لتاريخ العرب في العصر الحديث، لأن الملايين من المثقفين والأدباء والفنانين والأطباء والمهندسين والعلماء في شتى فروع العلم الذين ظهروا في المائة وخمسين عاماً الأخيرة قد وقعوا ضحايا الاستبداد والعنف والاضطرابات السياسية التي حدت من قدراتهم الإنتاجية، وأعاقت تطورهم الإبداعي، ونتج عن ذلك تراجع أوطانهم العربية إلى أدنى سلم الحضارة بين الأمم.
الرواي العليم يتجاوز حدوده
ترتبط أحداث رواية «تبليط البحر» بزمن محدد، إذ تبدأ الرواية من ميلاد بطل الرواية (فارس منصور هاشم) عام 1861 وتنتهي بموته في عام 1900 تقريباً. أي أن المؤلف رشيد الضعيف حصر الزمن الروائي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. وهو بلا شك بما له من باع طويل في التأليف الروائي قد نجح في استلهام أجواء بيروت وعبق تاريخها في تلك الفترة التاريخية الخصبة التي شهدت بزوغ النهضة العربية الحديثة، وأول بشائرها على يد قامات فكرية عظيمة مثل جرجي زيدان وأحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني وغيرهم.
لكن ما أفسد هذا اللحن الروائي الجميل هو قيام الراوي العليم بتجاوز حدوده، واستحضار أمور يفترض أنها لا تزال في علم الغيب وتحدث في أزمنة أخرى «القرن العشرين». وهو خلل جسيم كان ينبغي على المؤلف أن يلجم هذا الراوي العليم ويوقفه عند حده. فهذا الراوي العليم مثلاً يذكر أن بطل الرواية (فارس) عندما ركب السفينة مسافراً إلى أمريكا للدراسة ورأى كثرة المهاجرين حزن لأجلهم، ولكنه يستشهد بأغنية لوديع الصافي! أية مبررات لن تشفع لهذا الراوي العليم إقدامه على التعبير عن مشاعر وأحاسيس (فارس) بأغنية لم يسمعها ولم تكن قد وجدت بعد في عصره. (ص 110ـ 111).
ويتعدى الراوي العليم هذا المحظور الزمني مرة أخرى عندما يصل (فارس) إلى مدينة مرسيليا وينبهر بالأضواء الكهربائية، فيقطع الراوي العليم السياق السردي ليورد مقطعاً شعرياً لجبران خليل جبران من قصيدته أعطني الناي وغن. والرواية تذكر أن (فارس) وصل إلى مرسيليا في عام 1883، ويقر الراوي العليم بأمانة أن جبران خليل جبران كتب قصيدته الشهيرة بعد هذا التاريخ بسنوات (ص113).
وفي موضع ثالث يقع الراوي العليم في ذات الخطأ، فيورد بيتاً من شعر الزجل قاله الزجلي اللبناني الشهير طانيوس الحملاوي في القرن العشرين (ص 122).
وقيام الراوي العليم بإيراد شواهد لاحقة لعصرها هو خرق للميثاق الضمني الموقع مع القارئ بأنه سيقرأ رواية تدور أحداثها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
الدلالة الرمزية لتشريح جثة البطل
تظهر الخبرة الروائية لدى رشيد الضعيف حين نستكشف الرموز الفنية المبثوثة في روايته «تبليط البحر». والرمز المحوري في الرواية هو تشريح جثة (فارس) وتقطيعها إلى أشلاء في مشرحة كلية الطب. والروائي يرمز بهذه الحادثة التي تمت في الجامعة الأمريكية وتحت ستار خدمة العلم ومن أجل التطور والنهضة إلى تقسيم الشام التي كانت في الأصل إقليماً واحداً ثم أمست ثلاث دويلات هي فلسطين ولبنان وسوريا. ومن الرواية ننتزع مقطعاً دالاً على هذه الرؤية الرمزية:
«وكانت الدلائل تتكاثر على أن بيروت ستصبح عاصمة رسمية للبنان الذي سينفصل عن سورية وفلسطين وسيصبح دولة لها شأن. لم يكن أحد يتوقع أن يصيب هذا البلد ما أصابه في ما بعد من ويلات، وأن يعاني ما عاناه أبناؤه من مآس ٍ وحروب دورية»(ص 193).
إن نجاح (فارس) العظيم وعصاميته وذكاءه الحاد وكبرياءه واعتزازه بنفسه هو صورة ناصعة الألوان لإقليم الشام، وكذلك ما جرى على (فارس) عندما مات فجأة، وتعرضت جثته للتشويه والبتر والتقطيع عل يد مواطنيه، ما يهبنا الصورة الأخرى «السلبية» للشام التي تمزقت إلى ثلاث دول، واحدة منها هي فلسطين التي تعرضت لنكبة الاحتلال وحروب متتالية لا تنبئ بانفراج قريب، والثانية هي لبنان التي تعرضت لحروب أهلية بالغة الضراوة والتوحش، ولا يزال هذا البلد يعاني حتى يومنا هذا من النزاعات الطائفية، والتخوف من نشوب حرب أهلية مرة أخرى. والدولة الثالثة هي سوريا التي تشكل قلب الشام ولكن بلا جناحين.
لم تتمكن الشام من الحفاظ على وحدتها كإقليم واحد كما فعلت مصر.. وربما لهذا السبب وهو سبب فني وجيه أورد رشيد الضعيف شخصية جرجي زيدان في الرواية، وجعله رفيق درب بطل الرواية، ولهذه الرفقة دلالة تخدم الرمز المحوري للرواية وتضفي عليه عمقاً حافلاً بالرؤية. لأن جرجي زيدان الذي اتجه إلى مصر وسكن فيها أصاب النجاح والشهرة وصار علماً من أعلام الأدب العربي الكبار، وذلك على العكس من رفيقه (فارس منصور هاشم) الذي عاد للشام جثة هامدة ولم يحفل التاريخ بذكره. هذا التلازم يقودنا إلى نتيجة مفادها أن تقسيم الشام كان عملاً مضاداً لتطور ونهضة الشاميين الذين كانوا هم من وضع الأساس المتين للنهضة العربية، وبثمرات عقولهم دخل العرب العصر الحديث.
هذا الرمز الفني الذي وفق فيه كثيراً الروائي رشيد الضعيف يرتقي بروايته إلى مصاف الروايات العربية الهامة، ويجعلها جديرة بالقراءة عدة مرات لاستكناه روائحها الخفية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ(1) تبليط البحر: رشيد الضعيف، رواية، رياض الريس للكتب والنشر، بيروت، 2011.