محمود قرني
إنه يوم الجمعة
الذي لا أحبُّ منه إلا صوت أمي
أُهاتِفُها عادةً منتصف نهاره
فيأتيني صوتُها كوردةٍ جرَحها عاشقان
أنا أكبرُ أبنائِها
لكنني لستُ أَرْجَحهُم عقلًا
عندما كنتُ صغيرا
كانت تَقْضِمُ وَحدتي
بأناشيد عن الأراضي البيضاء
وعندما تنامَت وحدتي معي
كانت تَنْهاني عن مغازلة الأشباح
التي تراها خارجة كل مساءٍ
من رفوف مكتبتي
تسألني عادة:
متى ستعودُ أيها الغريب؟
أقول لها:
رائحتي لا زالت بين يديك
والرائحة تستردُّ البعيد
تقول لي:
بالأمس رأيتُكَ على شاشة التليفزيون
لَمْ أفهم شيئا مما قلتَ
لكنك كُلَّما ابتسمتَ
أجدني قد فهمت كل شيء
أقول لها: إنني معتلٌّ يا أمي
تقول لي:
عندما منحني الله اسمك ورسمك
لم ينتقص مِن أعضائك شيئا
حماقاتك أفسدتْ ما أصْلَحَته السماء
أقول لها:
لعلَّها الصفقة الخاسرة
التي عقدْتُها مع شيطانٍ
يَسكُن جلبابَ بائع الكتب القديمة
عندما استبدلت بـ “صحيح البخاري”
عشرة أعداد من مجلة تضِجُّ بتصاوير النساء.
أمي كانت لا تزال صغيرة
عندما قام رجالٌ مهابو الجانب
بثورتهم على المَلِك
لكنَّ جَدِّي لم يَكُفَّ عن إملائها شكاياتِهِ الحارقة
ضد “سعد بك العيسوي” عُمْدَة بلدتنا
كانت تحفظُ خَلْفَ جدِّي بيتين جميلين مِنَ الشعر
يقدم بهما كل شِكاياتِه:
“لا تَلُم كَفّي إذا السيف نبا
صحَّ مني العزم والدهر أبى
رُبَّ ساعٍ مبصِر في سعيهِ
أخطأ التوفيق فيما طلبا”
عرفتُ، عندما كبرت، أنهما لشاعرٍ غليظ
اللفظ حسن المعنى هو”حافظ ابراهيم”.
وفي ليلةٍ ما
دخل حكمدار “الفيوم” على جدي دون حِراسته
سلَّمه خطاب شكر لِمؤازرته الثورة
وقال له: لقد نزعت الثورة ثوب البكَوية عن أكتاف أعدائها
فنم قريرا أيها الشيخ.
أمي أطلقت زغرودةً طويلة خلف الحكمدار
فكافأها جدي بخمسة قروش من الفضة الخالصة
ولطمةٍ ثخِينة على وجهها
لأنها أطلقت صوتها في حضرة رجل غريب.
بعدما كبرت أمي
وتسربت شعرات المشيب
من أسفل طرحتها
دخل عليها أبي بزوجة ثانية
فصادقت زوج حمامٍ يهدل فوق رأسها
حممتني أنا وإخوتي الثلاثة
بينما تغني بصوتٍ جافٍ وخفيض:
“يا ويلهم راحوا مع مَنْ راحْ
لا ردهم فارسْ ولا رمَّاحْ”
إنه يوم الجمعة
وقد أدركني منتصف نهاره
سأهاتف أمي حالاً
ولن أُقيم أي اعتبارٍ
للنَعي الذي نشرهُ إخوتي عن وفاتها
صبيحة الثلاثاء الماضي.