تتناغم الأصوات الساردة في مجموعة قصص «حنين» للقاصة زهرة زيراوي بين رجال ونساء، وفي نصوص قليلة في المجموعة يعلو صوت الأنثى على صوت الذكر، فتشعر برقة هذا الصوت، وعذوبة نداءاته العاطفية، وحنان عباراته وشفافيتها وتدفقها الهامس كمياه نبع عذب، وتدهشنا خلال ذلك القدرة القصصية للقاصة، للولوج إلى دواخل شخصياتها، مستخدمة ضمير المخاطب الكاف، أو ضمير نا، فتقول: أحدثك، وأسمعك، وأعانقك، ولم يكن عليك أن تفعل كذا وكذا، وصوتك العذب يملأ كياني، أو حين تقول، وهي ترفق صوت الساردة مع أصوات المحكي عنهم، كقولها: خرجنا وفعلنا ومشينا، وأحببنا. القاصة في نصوص كثيرة ضمتها المجموعة تتحدث عن بطلة واحدة، هي بطلة المجموعة القصصية المحورية، التي تدور حولها أغلب القصص، فهي تستخدم قناع الساردة بمهارة، للحديث عنها – هي لا غيرها – أو بمعنى أوضح قصص بطلتها «القاصة»، في فترات عمر مختلفة، ابتداء من طفولتها ثم سنواتها الأولى، التي قضتها على مقاعد الدراسة، فسنوات مراهقتها الأولى، وقصص احباطاتها مع من كان في سنها من الشباب، وروت لنا حكايات عن خيبة أملها بالسياسيين حين كبرت قليلا، وعرفت أن رجال الأحزاب، الذين كانوا يلهبون صدورهم في الجامعة بشعارات الثورة والوطنية ليسوا إلا دجالين، كان همهم الوحيد أن يصلوا إلى كراسي المسؤولية، والتمتع بمزايا الحاكم وثروات البلاد.
المتواليات القصصية
لقد نسجت قصص مجموعتها الآخيرة «حنين» كامتداد سردي لما كتبته من إبداع قصصي سابق، والذي أزعم أنها جددت فيه مضمون القصة النسائية المغربية الحديثة، ونقلته من أدب اعتراف وسيرة، ويوميات نساء محبوسات، وضجرات يمارسن حياتهن اليومية في مدن كبيرة ماتت العلاقات الإنسانية فيها، وانعدم الشعور المتبادل بآلام الآخرين، وصعوبات حياتهم اليومية، إلى قصة فنية مكتملة الجوانب الفنية والمضمونية، تذكرنا معظمها بفن القص الحديث أو ما يسمى بالمتواليات القصصية، التي نسجت على منوالها الكثير من التجارب القصصية الفرنسية الحديثة، والايطالية، والتي يعتبر هنري باربوس الكاتب الفرنسي الأب الروحي لهذه المتواليات، من خلال روايته «الجحيم» التي روى فيها عن بطل يسكن في غرفة فندق، ويطل عبر ثقب في الجدار عما يحصل في غرفة مجاورة لغرفته، فهو يروي من خلال ذلك الكثير من القصص عبر تغيير مستمر لساكني الغرفة، فهو يسمعهم ويراهم وينقل لنا ما يفكرون فيه، وهو في الحقيقة ينقل لواعج نفسه، وانطباعاته عن العالم البرجوازي، الذي وجد نفسه لا يستطيع أن يعيش فيه، ويفضل الإقامة المستمرة في غرفة الفندق المعزولة، ليكون شاهدا على فساده وانحطاطه الإنساني، وتلته فرانسواز ساغان، في روايتها المشهورة، «صباح الخير أيها الحزن ـ Bonjour tristesse» حيث صار الخلط الذي حدث بين شخصيتها الحقيقية ككاتبة، وبطلتها «سيسيل» في النص المشار إليه مبررا، لهذا النوع من القصص، وهي إشارة انطلاق للكتابة القصصية التي تنسج على منوال السيرة الذاتية، مع توالي القصص المختلفة لشخصية واحدة، والتي طورها فيما بعد ذلك بسنوات قليلة الكاتب الأيطالي الموهوب أيتالو كالفينو صاحب «مدن غير مرئية» والتي بين نسجه للمتواليات القصصية في مجموعته القصصية الكبيرة عن شخصية واحدة لجميع قصص مجموعته «ماركو فالدو» وجاء اسم المجموعة بذات اسم بطل القصص المختلفة، وقد نسجت القاصة زهرة زيراوي قصصها أيضا على منوال هذه المتواليات القصصية الفنية، وروت لنا في معظمها عن خيبة أمل الأنثى حين تحب من طرف واحد، وكذلك خيبة أمل الرجل بمحيطه وعلاقاته بالنساء، لقد أثارت القاصة في الكثير من قصصها جوانب غامضة، وغير معروفة عن علاقة الرجل بالمرأة، ونقلت بذلك السرد القصصي إلى آفاق شعرية ذكرتنا بما يحيط هذه العلاقة من قبل الأديان السماوية من قداسة وطهر وجمال…
قصة بلاحكاية
فهي في مجموعتها «حنين» سردت عن الفتاة المغربية وحياتها الضاجة بالآمال والاحباطات، بالضبط كما في مجموعتها القصصية السابقة «مجرد حكاية» الصادرة عام 2004 في الدار البيضاء، وهي المجموعة الثالثة للكاتبة بعد مجموعتين، الأولى كانت بعنوان: «الذي كان» 1994 ومجموعة «نصف يوم يكفي» 1996، والقاصة في مجموعتها مجرد حكاية التي أعود إليها بين الوقت والآخر كلما شعرت بشوق لقراءة إبداع كاتبة عربية صادقة استطاعت أن تمزج الحياة بكل ألوانها، لتغني الروح المغربية بغناء رقيق يحكي عن نبل الإنسانة في الأم والحبيبة والأخت، والابنة. قصص استطاعت أن تؤسس كما في المجموعتين السابقتين لقصة مغربية نسائية لم تسبقها إليها أي كاتبة مغربية سابقة، فهي تكتب قصة بلا حكاية، وأبطالها في معظم قصصها نساء ورجال مهمشون: نادلات في المقاهي، حبيبات مخذولات من أحبائهن، مطلقات ساءت أحوالهن المعيشية، وهي بهذا تختلف مثلا عن كاتبة مغربية معروفة سبقتها في الكتابة القصصية، وكتبت في شأن المرأة المغربية، هي القاصة والروائية خناثة بنونة، أو قاصات مغربيات شابات مثل لطيفة باقا أو مليكة مستظرف، وزهرة رميج، وغيرهن تناولن الجانب العاطفي من علاقات المرأة المغربية في مجتمعهن، وربطن ذلك الجانب بشكل مباشر بالواقع السياسي والاجتماعي في المغرب، وانطلقن منذ لحظة الكتابة القصصية الأولى ليؤشرن حالات اجتماعية من خلال بطلات (شابات و عجائز)، وقد بدت هاته البطلات كأقنعة تضعها الساردة لتعبر من خلالها عن رؤى، وأحلام لتغيير الواقع من حولها، وأنا في هذا الحيز الضيق لا يسعني أن أتحدث عن عشرات المقالات الأدبية، وعشرات القصائد، التي نشرتها هذه الكاتبة هنا وهناك أو أحصر إبداعها فقط بما كتبته بل وما رسمته ايضا من لوحات تشكيلية، فهي رسامة تشكيلية معروفة، عرضت لوحاتها في الكثير من المعارض التي أقيمت في الدار البيضاء والرباط، ومدن مغربية أخرى وحازت على الثناء والأعجاب.
القصص الاجتماعية
عالم قصص مجموعة «حنين» يضج بالحكايات والأفكار العميقة عن الانسان، وأحلامه بحياة نظيفة ومجتمع تشرق فيه المواهب وتتفتح، والحث على السعي الحثيث لبلوغ الكمال الإنساني في سماحته، ولطفه في تعامله مع الناس من أبناء وطنه، وكسر حواجز الطبقات الاجتماعية، وفوارقها المبنية على مقاييس المال والجاه، وضمت المجموعة ثلاثة وعشرين نصا من نصوص القاصة الجديدة، ونجد في هذه النصوص المماحكات الفكرية، كما في قصة السيد وبستاني حديقته الفقير، البستاني الذي يفكر بثلاثمائة درهم – 35 دولارا – ليعيد رسم حياته بالزواج من الفتاة التي أحبها بجزء من ذلك المبلغ الضئيل، وبجزء آخر منه يستخدمه كرأسمال يستخدمه ليشتري به خضارا ليبيعه في سوق المدينة، ومما يربح من ذلك يجعله مصدرا يوميا لمعيشته مع زوجته، بينما السيد يفكر بهذا البستاني كلص لا يؤدي عمله بالشكل الصحيح، لكنه يطلب المال بشكل دائم من سيده، وتحكي الساردة عن ذلك التناقض في الرغبات، والأفكار بين البطلين: «ماذا لو كانت لديه ثلاثمائة درهم؟ سيأخذ القطار «الأوردينير» إلى قريته بثلاثين درهما.. ولن يكلفه زواجه من ابنة عمه أكثر من مائة درهم، ستبقى لديه مائة وسبعون درهما، يشتري نقالة خشبية بمائة درهم، أما السبعون درهما الباقية فستكفيه لاقتناء خضروات من السوق العام. هكذا يبدأ حياته التجارية.. « ص 58 وهو ما نجده أيضا في قصة «الرهان» وهي تحكي عن رهان بين زميلين على مقعد الدراسة أولهما الفتاة الساردة للقصة، ولآخر الذي صار بعد عشرين سنة وزيرا، وهو يتعلم من اصحابه الذين يدورون في «فلك منصبه» جميع فنون النصب على البنوك والحيلة في الحصول على مزايا الوظيفة، تقول الساردة عن ذلك: «هو، هو. لا شك أنه هو، عشرون عاما.. ثم ها يلتقيان أخيرا على خط تناظري. هي/ هو – مدرسة موسيقى/ وزير.. تسترجع سنين خلت وهما يجلسان على مقاعد الدراسة».(ص96) ويقول صاحبه له: «لقد شيدت قصرا بمليارين من السنتيمات، ثم وبعد خمسة عشر عاما تبين لي أن قصري هذا قد انحدرت قيمته إلى مليار، احتلت على البنك بعملية رهن له، مكنتني من مليار سأسكن قصري لثلاثين عاما قادمة، قبل أن يستلمه البنك مني. ما رأيك في حيل الأزمات يا معالي الوزير؟»(ص98)، وفي القصص المشابهة في هذه المجموعة يمكن أن تدرج تحت مسمى القصص الاجتماعي الهادف إلى التغيير من خلال النقد المباشر للبني الاجتماعية، والسياسية في المجتمع المغربي، وهذا النوع من القصص نستطيع أن نضع تحت لوائه، قصصا كتشي غيفارا يستريح، هكذا يشاء المكان، الحنين العاري، السيد، الثورة، نهار زائف الضوء، الرهان.
الحب من طرف واحد
تنسج القاصة في الكثير من قصص مجموعتها على حدث أثير لدى القاصة، هو كيف تعالج الأنثى واقعة الحب من طرف واحد، وكيف تتعامل مع هذا الشقاء؟ هل تقاوم بأسلحة الأنثى صدود الرجل عنها؟ أم تنتقم لمجرد عدم حصولها على ماتريد من عواطف متبادلة من الرجل؟ هل الأسلوب العاطفي بإظهار الشقاء، والحزن لتحصل على ما تريد أم بالأسلوب المداهن، المبني على الكيد للرجل المحبوب، وجعله يركع لما تريد منه الأنثى غير المحبوبة؟ وفي الجانب الآخر ما الذي يفعله الرجل حين يقع في حب أنثى من طرف واحد، ولا تبادله أنثاه المشاعر ذاتها ؟ هل يصب على وجهها ماء النار، لكي لا يتمتع أحد بجماله من دونه؟ أم يتحمل آلامه ويبحث عن حب آخر في إبداع يبدعه أو عمل يحقق له الفرادة على بني جنسه، ليجعل أنثاه ومحبوبته التي لا تبادله الشعور ذاته تقع في الندم ؟ لأنها لم تبادله حبا بحب وعاطفة بعاطفة، القاصة تنسج كل تلك العوالم بروح الأنثى الحزينة المجروحة، التي تحاول أن تعالج جراحها الخاصة، من خلال نصوص شفافة غلب عليها روح الشعر وموسيقاه، نجد ذلك في قصة «جسمي ومالكوه» التي تبدأ بمقطع شعري للشاعر المصري عبد المنعم رمضان يقول فيه: «إن جسمي ومالكيه بأرض/ وفؤادي ومالكيه بأرض»(ص65) فالمرآة تحب بطريقتها حلما مستحيلا، والرجل يحبها من طرفه حبا حسيا خالصا تقول عن ذلك الحب الملتبس: «كانت الردود جاهزة لديك، كأنها مرتبة في درج مكتب، مهيأة للاستعمال الآني والسريع، قلت لي: نوعي أغابي، واستدركت: Agape لا أعني غبيا. / قلت لك: لم أفهم. / قلت: أعرف أنها مرت بعقلك، انها ذلك الحب الذي يجمع الرغبة الجسدية والوفاق الروحي. هذا يحول دون أن يصبح الفعل الليلي مجرد عادة»(ص67) وتتحدث في «الحنين العاري» عن العاشق الاول، الذي يوقع الفتاة في حبائل حبه ويمضي في طريقه لا يتذكر من أوقعها، وجعلها تتذكره حتى بعد عقدين من حياتها الشقية، تقول عن ذلك « لقد جعلها يومها تشعر بأنوثة مثلومة، وفي حاجة إلى ترميم كامل. أصبحت أنوثتها الآن مختلفة، هذا العاشق الشاعر والذي لم يتجاوز عشقه لها رصيف الشارع الممتد في ذلك المساء الربيعي، ثم غاب مع أول منعطف،،، لقد جعلها تراقص نفسها، تدور حولها ولا تتعب، لقد رممت ما كان مثلوما، أو على الأقل ذلك ما أوحى به ساخرا في يوم «ما»(ص84) وكذلك ما نجده في نصوص أخرى كـ«رسام عاشق» و«شيء ما» و«في فم السراب».
قصص للتغيير
وقد بدت بطلاتها وأبطالها كأقنعة تضع كل واحد منها في موقف ما من هاته المواقف التي تعيشها الشخصية، لتعبر من خلالها عن رؤاها وأحلامها، لتغيير الواقع المغربي، وتغيير قناعاته، تلك القناعات التي تتناول أوضاع المرأة، ودورها في المجتمع المديني الجديد، في عصر العولمة والانفتاح الفضائي، والاتصالي الجديد عبر وسائل اتصال حديثة، كالانترنت والهاتف الجوال، ونجد في هذه القصص الكثير من بطلات المجموعة يستخدمن هذا النوع الاتصالي الجديد من خلال استعمالهن للرسائل الالكترونية المرسلة عبر البريد الالكتروني أو من خلال رسائل SMS من خلال وسائل الاتصال السمعي. ويمكن أن نحصر تطور المنهج الاجتماعي في قصص الكاتبة من خلال نتاجها القصصي السابق: – الذي كان!…/ مجموعة قصصية الصادرة عن مطبعة النجاح الدار البيضاء 1994 نجد بداياته الحقيقية. – نصف يوم يكفي/ مجموعة قصصية عن دار النشر المعرفة 2000، نجد في هذه المجموعة أنها وجدت الشكل والمضمون القصصي الاجتماعي الخاص بها. – شيء «ما» !../ مجموعة قصصية دار النجاح الجديدة/2004 الدار البيضاء، وفي هذه المجموعة حاولت أن تضيف القاصة لتقنياتها القصصية، ما يسمى بتحريك الأشياء، أو استخدام عين الكاميرا لنقل الواقع المهمش، ورسم ملامح ادانته، من خلال وصف قصصي آخاذ، محاولة تقليد حركة العدسة، وهي تصور البؤر التي تريد الإشارة إليها وادانتها. – مجرد حكاية / صدرت عن دار النجاح عام 2007 في الدار البيضاء، وكذلك في مجموعتها الأخيرة «حنين» التي اكتمل فيها أسلوب القاصة الاجتماعي، وامتلكت ناصية السرد المؤدي، لهدف التغيير، في البنى الفكرية والعاطفية، وبناء ذائقة رافضة للظلم والقبح، وسوء استخدام السلطة أو المال، وشقاء المحبين من طرف واحد، لقارىء قصصها من خلال تعاطفه مع الأبطال، وشعوره بأن العالم تنقصه القيم النبيلة، والرحمة، وأيضا الكثير من النظام والشعور بالمسؤولية مما يحدث من أخطاء هنا وهناك. القاصة زهرة زيراوي التي تقيم في بلجيكا منذ سنوات، وتحكي في قصصها القصيرة عن الدار البيضاء مسقط رأسها، وعن سنوات الدراسة التي أمضتها في تلك المدينة الصناعية الكبيرة، لم تنس واقعها الجديد، فقد رفدته أيضا بعدة قصص في هذه المجموعة تحكي فيه عن وضع المرأة العربية في المحيط الأوروبي، ومعاناتها في خضم التحولات الأخيرة في المزاج الأوروبي عن العرب والمسلمين، خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية. [ «حنين» مجموعة قصص/ القاصة زهرة زيراوي/ صدر الكتاب عن دار النجاح الجديدة – الدار البيضاء / المغرب/ 102 صفحة من القطع المتوسط.