يمر كفرس شقراء
برهافة الظل
يمر كفارس الطعان
ليخلب الغياب ويصارع الفراغ.
من ديوان (زينغارو متوالية فروسية) للشاعر اندريه فلتر.
ينتمي (بارتاباس) الى ميثولوجيا افينيون، عندما بدأ وزملاؤه في سيرك (اليغر) التجوال على ظهور الجياد في ميدان الساعة، خلال فترة المهرجان، في نهاية السبعينات، لكنه اليوم يأتي كضيف متميز وكأحد نجومه ليقدم (مسرح الفروسية زينغارو).
– زينغارو تعني الغجري- ضمن البرنامج الأساسي، حيث يتزاحم الجمهور لمشاهدة عروضه التي اعتمرت مدة شهر كامل. وقد تحول العرض لدى (بارتاباس) من مشهدية السيرك الى عرض فني مسرحي راقص تحت فضاء الخيمة والعربات المحيطة بها والحلبة الدائرية، وهي ما تبقى من السيرك وكان استعراضه (ملهى الفروسية) الذي تحول الى (زينغارو) وهو مسرح فروسي موسيقي، وباختصار حاليا (المسرح الفروسي) واحتوى على موسيقى الكلام الطنان، صلصلة الخطام، طرق حوافر الخيل، أنفاس الرجال والخيول. وتولد من هذا الاستعراض ثلاثة عروض أخرى تحمل نغمى الاسم، ميزت الفرقة ورسمت لها ذكريات لا تنسى في مخيلة الجمهور، الذي اكتشف منذ البداية سحر تلك المسارح المؤقتة والمشاهد المرتحلة، تجول المدن والقرى، تعرض مملكة الوهم والحلم، ويبتكر افرادها جوا من الابهة المؤقتة داعين الجمهور للمشاركة فيه… هكذا كان الممثلون في السابق، وهكذا هم أفراد فرقة (زينغارو).
اصبحت الموسيقى جزءا أساسيا في عمل الفرسان والخيول ابتداء من استعراض (اوبرا) حيث يعلو صوت الغناء القادم من أقصى البقاع، من الجنوب والشمال، من منطقة الاطلس او القوقاز، سبع نساء من البربر وثمانية رجال من جورجيا، يتردد صدى شكواهم وتتعدد الاصوات والنغمات، بينما يعدو خيالة القوقاز والبدو على جيادهم، مروضو الخيول، الاكروبات، تظهر امرأة تغني، ملوحة برأس حصان، ويقوم هنا (بارتاباس) وحصانه (زينغارو) بدور الرجل الرفيع الشأن المتبجح، ويتحول بعدها الى فارس يؤدي رقصة على صوت الكمان. هذا الانعطاف في البحث المسرحي لدى (بارتاباس) اشارة الى تحوله من زمن الملهى الهزلي الى النقاء الكوروغرافي، تنفتح فيه أغنيات العالم، حضارات وثقافات من جميع الآفاق تجتمع لخلق عالم آخر. لهذا عندما فكر (بارتاباس) في تقديم استعراضه (وهم) سنة 1994، سافر الى الهند لاختيار موسيقيي ومغني فن (لانغاس) و(ماناغانيراس)- المغنون الجوالون للشعر الملحمي في راجاستان – غير بعيد عن صحراء (ثار) الموطن الاصلي للغجر. وقد نال (جائزة موليير) لأفضل استعراض موسيقي. ثم يأتي (الخسوف) مغايرا لما سبقا فالوقت هنا معلق، وتنويعات حول اللونين الاسود والابيض، الظل والضوء، غناء مرتفع حاد للمغنية الكورية (منغ سوك – شانغ) والرقص البطيء لجسد للمغنية الكورية (منغ سوك – شانغ) والرقص البطيء لجسد ومروحتي يد، حلم ليلة متوهجة تنتهي والحصان (زينغارو) جاس ينظر الى الفوج يدور حول الحلبة. وقد نال هذا الاستعراض نجاحا كبيرا، تجدد في نيويورك حيث مات (زينغارو) ذلك الجواد الاسود والصديق الذي يشكل ا(بارتاباس) جزءا من ذاته وذاكرته وأمله. يقول عنه (انه الذاكرة الحية لمسرحنا في البداية كان لدي الحصان، ثم أمست الفرقة، ولا استطيع الى اليوم ان استوعب فكرة موته) ولعل هذا الموت هو أساس فكرة (الثلاثية) التي تقدمها وبشكل جريء غير متوقع هذه الفرقة، وقد اختار (بارتاباس) موسيقى (تقديس الربيع) و(سيمفونية المزامير) لـ(يغور سترافينسكي)، وتؤطر (حوار الظل المضاعف لبيير بولين) والمؤلفة خصيصا ليؤديها اثنان من راقصي (موريس بيجار). ويقول (بوليز): العلاقة بين (بارتاباس) والحيوان، ورغبته في عمل شيء آخر غير الترويض، هي التي جذبتني الى الموافقة. ومن المعروف ان (بارتاباس) يستمع الى الخيل، ويعمق علاقته معها سنة بعد أخرى.
وقد فكر منذ فترة طويلة في تقديم استعراض على أنغام (تقديس الربيع) وقدمت له (بينا باوش) تصورا كروغرافيا، فكان هذا الرهان كبيرا لفرقة (زينغارو) حيث دربت الخيول على موسيقى لم تؤلف لها خصيصا. وتوجب عليها البقاء في الحلبة في المشاهد الثلاثة منذ البداية وحتى النهاية. وهو عمل جماعي بين الخيول والراقصين، ويأتي الاختلاف في دقة الاداء. يقول (بارتاباس): الخيول حساسة للموسيقى في نطاق سرعة حفظها في الذاكرة، ولا اقول هنا انها تتدرب على الموسيقى فقط، لكنها تمتلك القدرة على تحويلها الى شيء آلي، وقد يكون هذا الامر ايجابيا او يخلق مشكلة، وبما أننا نقدم كل استعراض على مدى سنتين، اعتقد انها مدة كافية للخيل المدربة جيدا لتقديم عروض بلا اخطاء. فجاء استعراض ادهش حتى (بارتاباس) نفسه، فلم يعد هذا الاستعراض، في ذكرى حصانه (زينغارو) بل اجابة للاسئلة التي كان يطرحها منذ بداياته: أين هي علاقتنا مع الخيل؟ أين هي علاقتنا مع أنفسنا؟ وما نكتشفه هو الغموض الذي يثير اهتمام (بارتاباس) عن اللقاء الاول بين الانسان والحصان، وبطريقة ما، فان (الثلاثية) تجيب على ذلك. فمن بين السبعة الراقصين الهنوا الذين يشاركون في هذا الاستعراض، لم ير بعضهم حصانا من قبل، ويمارس هؤلاء الراقصون نوعا من فنون القتال يدعى (كالاريبايات) الذي طور في جنوب الهند، وهو الاقدم في العالم، ولا يستخدم منه في الثلاثية غير حركات (الاحماء) التي تسبق عادة قتالهم بالعصي والسيوف والدروع.
وتقابل صدورهم السمراء العارية صدور الخيول وتؤدي المواجهة الى الهروب، الى دوران الخيل والمطاردة، وزوبعة تنتهي بفرار احد الرجال، ووقوفه وحيدا أمام حصان يمتطيه فارس عدواني. يقول (بارتاباس) (..لم أعلم هؤلاء الراقصين الفروسية، لقد تركتهم كما هم (مقاتلين) لقد تركت لهم ابجديتهم الحركية التي يستقونها من حركات الحيوانات، انهم محاربون تحولوا الى راقصين. وعلاقتهم مع الخيل في هذه الحلبة الطينية علاقة يمتزج فيها الخوف والانبهار، انهم يقتربون ويهربون، ويعترضون الخيل، عندها تتعاقب مطاردة الانسان ومطاردة الخيل، بعنف وسرعة وحشية وتطوف في هذا الفضاء تقنية (بينا باوش). مرة أخرى (زينغارو) ضد النزاع بين قوتين، الاصلية الهمجية والروحانية. لكن هذا الاحتفال الوثني الهمجي الذي يستمد ايقاعه من (سترافنيسكي) يبدأ شيئا فشيئا ليصبح رقيقا تاركا مكانه للغموض، وللتركيز في رجل واحد (ألان دامين) في حلبة خالية من الجياد يعزف مقطوعة (حوار الظل المزدوج لـ(بوليز)، ولاول مرة يتجرأ (بارتاباس) في نقل مركز الاهتمام، فالحصان هنا حاضر على هيئة تماثيل للنحات (جان لوي سوفا)، ونحس بالخوف عندما تهبط فجأة الهياكل (جان لوي سوفا)، ونحس بالخوف عندما تهبط فجأة الهياكل البيضاء للخيول المعلقة بأطراف الحبال: رؤوس، سيقان وصور تتأرجح برفق في فضاء مظلم، في جو مغبر يشبه فضاء ما بعد المعركة، واذا كان (خسوف) استعراضا ذا علاقة بالحلم، فان (الثلاثية) حكاية ارضية تثير التساؤل حول موت الرجل العجوز والحصان العجوز والولادة من جديد، وهنا يترك للجمهور بناء حكايته، وقد تعودت فرقة (زينغارو) منحه هذه الحرية، فله ان يرى في (حوار الظل المزدوج) حوار الرجل والحصان يتكرر الى ما لا نهاية، صدى المزمار، ثنائية الراقصين تكمل حركتهما هياكل الخيول التي تحتل وحدها مع الاجساد البشرية كل الحلبة، وللجمهور أيضا ان يتخيل هذا الرجل المنبثق من قماشة بيضاء تشبه المشيمة، انها (السنتور- كائن خرافي نصفه رجل ونصفه فرس، كان يعيش حسب الاسطورة في تاساليا) وبعد هذا الاحتفال الفلسفي الذي يبتعد عن الحواس ويقترب الى الروح، يختمه (بارتاباس) بلحن سحري وبنوتة موسيقية بثلاثة أزمنة، يذهب الاستعراض فيها من التعبير البربري للقوى الغامضة، الى البحث عن الصفاء الآتي من الرقة والجمال عندما نسمع الأجزاء الأولى لسيمفونية المزامير، وتدخل ست فارسات كأنهن الاميرات يمتطين خيولا بلون القمر. وتصبح الحلبة مملكة للخيول فقط، حيث تبقى الفارسات على ظهور الخيل التي تقودهن الى البعيد، الى عالم لا يتقاتل فيه الانسان.
ويترك (بارتاباس) للجمهور تفسير ظهوره القصير والوحيد في نهاية الاستعراض ممتطيا حصانه، في حركة بطيئة بشكل دائري، لقد اكتملت الحلقة، وهذه الحركة المستمرة الدائرية بشكل الحلبة، الشكل الذي لا ينتهي. يقول (بارتاباس): العروض التي أقدمها انعكاس لنفسي، و(الثلاثية) تعبر عني جيدا، فهنا أتحدث عن غياب الخيل، تلك التي فقدتها، والأخرى التي لم أجدها بعد، انني في نقطة الاتصال، بين كل ما قدمته وانتهى، وبين كل ما أسعي لتقديمه وأجهله حتى هذه اللحظة.
كلثوم أمين (كاتبة من البحرين)