إعداد وتقديم وحوار: هدى الدغفق
كاتبة سعودية
منذ أن التزم مع النقد، لم ينقطع الدكتور سعد البازعي عن الكتابة والعطاء، حيث عُرِفَ عنه اتصاله الجيد بطلابه وبالإعلام، إلى جانب المواظبة على حضور المنتديات الثقافية والمناسبات التي تهتم بالفكر والأدب بشكل خاص، وليس هذا وحسب بل إن الدكتور البازعي مهتمٌ أيضا بشرح موقفه والتعبير عن أفكاره في تلك المناسبات، ولعل هذه المزية التي تميز ناقدًا مثل البازعي أضفت على فكره التجدد والحيوية والتطوير والابتكار، حيث يؤلف كتابًا تلو الآخر، ويتواصل مع الكثيرين في وسائل التواصل المختلفة وهو حاضر في المحافل الثقافية العربية والخليجية والدولية، كل ذلك إلى جانب مسؤولياته الجامعية، كما أنه يشرف على أكثر من ملتقى ويتجاوب مع الصحافة الثقافية، بل ويشتغل مع فريق من المترجمين السعوديين على الترجمة الثقافية والأدبية، تم اختيارهم ضمن مشروع هيئة الأدب والنشر.
لا شك بأن المنجز النقدي والفكري للبازعي قد حمل مضامين عديدة، فهو بمثابة مشروع رؤية جديدة للفكر العربي متسلحًا بخلفيات فلسفيّة ونقدية ومعرفيّة تنتظم في قراءة واقع الأدب والفكر والتاريخ، ولا غضاضة في ذلك كونه مفكّرًا فاعلًا في ميدانه ورصينًا في عطائه، وهذا ما نجده بجلاء في كتبه العديدة التي تجاوزت الخمسة وعشرين مؤلفًا؛ من أبرزها كتاب «ثقافة الصحراء: دراسات في أدب الجزيرة العربية المعاصر» الذي تناول أدب الحداثة في السعودية خلال الثمانينيات، ودافع فيه عن مفهوم الحداثة في النصوص التي تناولها، وأما كتابه «دليل الناقد الأدبي» بالاشتراك مع ميجان الرويلي، فطابعه معجمي يعرّف بمفاهيم ومصطلحات وتيارات نقدية أدبية وفلسفية تحتل مكانًا بارزًا في الخطاب النقدي المعاصر، واشتهر كتابه «المكون اليهودي في الحضارة الغربية» الذي عرض كثيرًا من الإسهامات الفكرية والأدبية والنقدية التي أنتجها مفكرون ونقاد وأدباء أوروبيون من أصل يهودي، حيث حلل أعمالهم من حيث هي تعبير عن إشكالية الانتماء الإثني والثقافي المزدوج منذ القرن السابع عشر، ويأتي كتاب البازعي «قلق المعرفة: إشكاليات فكرية وثقافية» زاخرا بمجموعة متنوعة من المقالات التي تتوحد تحت إشكالية القلق في تجلياته الفلسفية والنقدية والأدبية، وأما مقالاته المكتوبة حول مسائل فكرية مختلفة على المستويين العربي والغربي التي تدور حول إشكالية العقلانية فجمعها في كتابه «هموم العقل: مسائل وحوارات وإشكاليات». وضمن كتاب «مواجهات السلطة: قلق الهيمنة عبر الثقافات»، يرصد البازعي سعي الكتّاب عبر العصور إلى تجاوز أشكال مختلفة من الرقابة بطرح آرائهم ورؤاهم من خلال أساليب تحميهم من المساءلة دون أن تعيق تواصلهم مع قرائهم، وفي كتاب الناقد البازعي «مصائر الرواية» يجمع مقالاته حول بعض الأعمال الروائية العربية لاستكشاف الصلات بينها بالنظر في أساليب السرد وقضاياه، وفي «الفرح المختلس: رهانات الشعر» يعرض خمسة تجليات أو رهانات تسمح بالنظر إلى العديد من النصوص الشعرية الحديثة تحت مظلات إبداعية ونقدية تساعد على استكناهها جماليًا وموضوعيًا، ويحكي كتاب «هجرة المفاهيم» كيفية انتقال المفاهيم أو المصطلحات عبر الثقافات واللغات والعوامل التي تأثرت بها جراء ذلك الانتقال، ومن خلال كتاب «معالم الحداثة: الحداثة الغربية في ستين نصًا تأسيسيًا»، يترجم البازعي ستين نصًا فلسفيًا ونقديًا لفلاسفة وعلماء اجتماع ونفس وأدباء ونقاد برزوا في الثقافة الغربية ما بين منتصف القرن السابع عشر ومنتصف القرن العشرين، إذ تمثل تلك النصوص تيار الحداثة بمفهومها الواسع في الحضارة الغربية. أما كتاب «الثقافة في زمن الجائحة»، فيتضمن عددًا من المقالات المترجمة التي نُشِرَت في بعض الصحف والمجلات الغربية والشرقية، ويتمحور معظمها حول أثر جائحة فيروس كورونا المستجد.
في هذا الملف سوف نطالع فكر البازعي من منظور نقاد ومثقفين معاصرين له، ففي البحث الذي قدمته الدكتورة رانية العرضاوي أشارت إلى المقاربة والعلاقة بين النقد الأدبي عند البازعي وبين الفلسفة والترجمة، حيث حاولت أن تكشف عن تمظهرات حضور الحقول الثلاثة لديه ومناقشة العمق النقدي عند البازعي ومدارج تطويره حتى تكوّن المشروع الفكري لديه، لتقدم في النهاية لقارئ البازعي مفاتيح إفهامية تساعده على قراءة البازعي والحفر في أطروحاته القيّمة. أما الدكتور صالح زياد الغامدي فيتناول مقاله استثمار البازعي لموقف فكري منتج في حقل المقارنة والعلاقات الثقافية والفكرية وفي حقل القراءة للإبداع، حيث يناقش بعين ثاقبة المنتجات الفكرية والثقافية في حركتها الدائبة واختلافها وتعددها، لا في سكونها أو تجانسها أو توحدها، ولذلك فإن إدراك النصوص الإبداعية في مؤلفات البازعي -من وجهة نظر المقال- لا تختلف في المجمل عن إدراك المفاهيم النظرية في استثمار ما تصنعه من توترات وتعارضات، ترمي إلى إحداث تثاقف وتوالد.
أما الدراسة التي أعدتها الدكتورة لمياء باعشن فقد انفردت بتحليل وتتبع مؤلفات البازعي التي تناولت مفهوم القلق لدى البازعي، حيث تلازم مفردة «القلق» أطروحاته بشكل لا يمكن تجاوزه، وبالتالي فهي تفرض تقصّيها ومتابعة مدلولاتها داخل سياقات استخداماته المتكررة لها، وتكشف هذه الورقة عن ارتباطات وثيقة بين «القلق» و«الجدل»، حيث ينتقل من خلالها المعنى التوتري للمفردة إلى نطاقات التعامل مع بؤر الصراع، وكذلك بين مفاهيم فكرية حيوية متقابلة، فالجدل الهيغلي هو الأسلوب، بل والوسيلة التي يواجه بها البازعي مناطق الضغط العالي في اشتباك تلك المفاهيم ليصل بها إلى توافق منطقي يزيح التوتر، ويفتح إمكانات جدلية جديدة للتعامل مع نقاط قلق متوالدة.
أما الشهادة الأدبية فهي تعرفنا وتبوح لنا ببعض التفاصيل والحكايات والمشاعر والمفاجآت التي لم يكن للمتلقي أن يصل إليها دونها؛ كتب الأستاذ سلطان بن عبدالرحمن البازعي عن الطفولة والعلاقة الثقافية والعائلية التي لطالما جمعت بينه وبين الدكتور سعد البازعي.
واختلفت شهادة الدكتور صالح المحمود عن البازعي حيث كان الأخير أستاذه في الجامعة، ومن خلال شهادته تناول بعض الخصال التي اتصف بها الدكتور البازعي وأبرزها إنسانيته وعطاؤه الثقافي والنقدي. أما في الحوار الذي أُجرِي مع الدكتور سعد البازعي، فقد تحدث المثقف الناقد المفكر عن تطلعاته حول النقد والإبداع والفلسفة والشعر، هذا إلى جانب توضيحات تتعلق بما أُثير حول بعض مؤلفاته من تصورات ومواقف وردود فعل مغايرة لوجهات نظره الشخصية الناقدة والمنفتحة، كما يعرض هذا الملف بعض اللقطات المصورة التي خص بها الدكتور البازعي مجلة ( )، التي تعبر عن بعض مراحل حياته، في طفولته وشبابه، وكذلك بعض اللقطات الأخرى خلال بعض المناسبات الأدبية والنقدية التي حضرها.
ومن خلال هذا الملف، تعرض مجلة ( ) لقارئها تلك المسيرة المعرفية والثقافية والنقدية الحافلة بمشاريع وآفاق وتوجهات ومفاهيم مغايرة عن السائد، وأحلام لا تنظر إلى ما تقوم به سوى أنها مغامرة تحاول أن تعبّر عن نفسها ومواقفها وأفكارها دون تردد أو مجاملة أو تسويف، لأن هذا برأيها ما يعطي الانطباع السلوكي والأخلاقي الناضج صوب تطلعاتها ومبادئها، ولعل مضمون هذا الملف يكون بادرة احتفاء بهذه الشخصية الثقافية المصابة بقلق المعرفة والترجمة والإنسانية والكتابة، ذلك القلق المستنير الذي يقود وعيه نحو السؤال والتفكير والغاية والانفتاح على المستقبل.