حسن طلب
هناك الكثير مما ينبغي قوله عن «أحمد عبد المعطي حجازي» ونحن نحتفل ببلوغه الخامسة والثمانين من عمره المديد بإذن الله، غير أنّي سأختار البدء بأهم ما أحببته فيه بعد أن رافقته في العمل بمجلة (إبداع) أعوامًا طويلة: منذ 1991 حتى 2014؛ فشهدت كيف أنه ينفرد أو يكاد- من بين الشعراء الروّاد؛ بل من بين رموز الحياة الثقافية على العموم- بأنه الأكثر ثباتًا على مبادئه، والأشد تمسكّا بانحيازاته الفكريّة وقناعاته الأدبية. ولعل مصداق هذا ماثل في شعره من أول ديوان (مدينة بلا قلب) في خمسينيّات القرن الماضي، إلى آخر ديوان: (طلل الوقت) 2011؛ فأنت إذا ما سألته: لماذا تغنِّي؟ لوجدت الجواب جاهزًا في قصيدته (لمن تغني- 1957) بديوانه الأول:-
من أجلِ أن تتفجرَ الأرضُ الحزينةُ بالغضبْ
وتُطل من جوفِ المآذنِ أغنياتٌ كاللهبْ
ثم إنك لو سألته من أنت؟ فستجد الجواب جاهزًا أيضا، وفي الديوان الأول كذلك (قصيدة دفاع عن الكلمة- 1958):-
أنا أصغرُ فرسانِ الكلمة
لكنّي سوف أزاحمُ من علمني لعبَ السيفْ
من علمني تلوينَ الحرفْ
سأمر عليه ممتطيًا صهوةَ فرسِي
لن أترجَّلَ.. لن يأخذَني الخوفْ
فأنا الأصغرُ..
لم أعرفْ بعدُ مصاحبةَ الأمراءْ
لم أتعلمْ خُلقَ الندماءْ
لم أبِعِ الكلمةَ بالذهبِ اللألاءْ
فهل يختلف الجوابان في شيء من حيث الرؤية والموقف الفكري، عن قوله في قصيدة (الطغاة) بالديوان الأخير:
الطغاةُ نقائصُنا
خوفُنا: جبروتُ الطغاةِ..
وسكِّينُهم جُرحُنا
صمتُنا صوتُهم
وملابسُهم عُريُنا
هكذا حين يكتملُ النقصُ بالنقصِ..
تصبحُ أمتُنا أمتيْنِ
وتنشقُّ نصفيْنْ:
ضدًّا وضدَّا
يصبح العبدُ طاغيةً
والذي كان طاغيةً صار عبدَا
يظلُّ يبدِّلُ بالقيدِ قيدَا
كان على «حجازي» أن يخوض مع رفيقه صلاح عبد الصبور، معركة التجديد الشعري في مصر، على اختلاف فنيٍّ بينهما في الرؤية والمعجم الشعري؛ إلى أن تمكّنا معا، وخلفهما فرسان موهوبون في الجيل التالي، من إقامة (عمود الشعر الحرّ) حسب التعبير الذي صكّه الدكتور لويس عوض، فأشاعه بين النقاد.
غير أن «حجازي» يكاد ينفرد بين أقرانه من الروّاد؛ بإخلاصه للرسالة التنويرية التي نذر نفسه لها شاعرا وكاتبا؛ ووعيه العميق بالدّور المنوط بالريادة؛ فإذا كان على الرائد لكي يكون رائدًا أن يُديم النظر في تراث لغته؛ فقد فعل في كتابه (قصيدة لا)، حيث وقف بنا عند شعراء التمرّد والرفض في التراث؛ وإذا كان عليه أن يُلمّ بإنجاز الأجيال السابقة، فقد فعل في كتابه: (النهضة وشعر النهضة) وكذلك في كتابه (أسئلة الشعر)؛ وإذا كان عليه أن ينتقل بنظرته إلى الأمام ليقف على ما تصنعه الأجيال التالية؛ فقد فعل في كتابه (أحفاد شوقي)، الذي سبق به النقاد المحترفين في التعريف بشعراء السبعينيّات؛ واستمر ليمتحن إنجاز قصيدة النثر على أيدي شعرائها الشباب الذين انتشرت أعمالهم منذ التسعينيّات بصورة غلب فيها الكم على الكيف؛ فأصدر كتابه الشهير (قصيدة النثر.. أو القصيدة الخرساء)، وأظنه الرائد الوحيد الذي واتته الشجاعة ليواجه الفيالق المنتشرة من شعراء قصيدة النثر، مواجهة صريحة لا مواربة فيها؛ بالضبط كما فعل وهو يواجه أئمة التطرف الديني ودعاته في كتابه (الدنيا والدين)؛ (وإذا كان عليه أن ينظر إلى روائع الشعر العالمي وينقل منها إلى العربية ما يراه مناسبا؛ فقد فعل في كتابه (مدن الآخرين)، وإذا كان عليه أخيرا أن يتأمّل رحلته مع الشعر؛ فقد فعل في كتابه (الشعر رفيقي).
أما القضايا الثقافية الكبرى، التي لا يستطيع أن يتجاهلها حامل قلم، شاعرا كان أو ناثرا، فقد كانت له فيها إسهامات ملحوظة؛ تمثلها كتب أخرى، منها: (عروبة مصر- حديث الثلاثاء- الدنيا والدين- نعم لفولتير.. لا لبونابرت- الثقافة ليست بخير) وغيرها. فكيف استطاع بسلاح وحيد هو الكلمة، أن يخوض غمار تلك الميادين!
لقد استطاعت قصيدة حجازي بإيقاعاتها الغنية، ولغتها النابضة، وروحها المتمردة، أن تجذب قراء الشعر؛ وتترك بصمتها على المتميزين من شعراء الأجيال التالية، في مصر والعالم العربي؛ وربما يعد «أمل دنقل» مثلا ناصعا على هذا التواصل الإيجابيّ الخصب، بين جيل الروّاد، ومن حمل الراية من الشعراء المجددين في الأجيال اللاحقة؛ لا سيما في عقدي الستينيات والسبعينيات؛ إن صيحة «حجازي» التي أطلقها في قصيدة (البحر والبركان) عام 1969:-
قل لا هنا
لتقولها في كل مملكة سواها
لتقولها يوم الحساب إذا أتى يوم الحساب..
وعادت الأشلاء تسأل: من رماها للكلاب؟
ومن اشتراها وافتداها!
هذه الصيحة ترددت أصداؤها لتكون دليل التمرّد والرفض عند الشعراء اللاحقين؛ يقول «أمل دنقل» في قصيد (كلمات سبارتاكوس الأخيرة):-
المجد للشيطان معبود الرياح
مَن قال «لا» في وَجْه مَن قال «نعمْ»
مَن علَّم الإنسانَ تمزيقَ العدمْ
وقال «لا» فلم يمتْ
وظلَّ روحًا أبديةَ الألمْ
ومن «أمل دنقل» إلى شعراء السبعينيات؛ الذين استوحى معظمهم هذه الصيحة ليجعل منها شعارا ثوريا، سواء في الإبداع الشعري، أو في الكتابات النظرية حول الشعر. ومن هنا تبدو تجربة «حجازي» نشيدا رائعا للحرية؛ وملحمة مهيبة تنتصر لكرامة الإنسان، في مواجهة سائر قوى الطغيان، مهما تنوعت صوره وتعددت أساليبه؛ ومهما تسترت خلف قناع السياسة أو قناع الدين.
تشرق علينا من تجربة حجازي الشعرية، لغة حية نابضة، فهي تحتفي بطلاوة اللفظ وأناقة الجملة الشعرية، دون أن تضحي بانتسابها الحميم لهموم البشر من جهة، ولروح العصر من جهة أخرى. وهكذا تستعيد العربيّة على يد «حجازي» نضارتها، فنطالعها في ديباجتها القوية الفاتنة، على النحو الذي كشف عنه الدكتور مصفى ناصف في أحدث كتاب له عن شعر «حجازي» بعنوان (اللغة الشاعرة).
ويستطيع قارئ شعر «حجازي»، أن يلمس الرؤى العميقة، التي تستحيل معها المعاني الفلسفية الكبرى إلى لوحات شعرية نابضة بروح الفن؛ فنحن نجد أنفسنا في معظم أعماله أمام لغة شعرية متعددة المستويات، ومن هنا فهي قادرة على أن تسبر أغوار الوجود الإنساني؛ إذ تجلو لحظاته الغنية المفعمة، التي تفلت منا دائما؛ لأننا درجنا في حياتنا العادية، على أن نحصرها ما بين سبب يسبقها ونتيجة تتلوها! فإذا بنا نكتشف أننا قد أضعنا بين السبب ونتيجته، أثمن لحظات الوجود، وأشدها توترا، وأكثرها اكتنازا بأسرار المصير، وأسئلة الحياة العميقة والمسكوت عنها.
وبوسع القارئ أن يكتشف نظائر مجازية لتلك اللحظات الحرجة، في قصائد كثيرة من شعر «حجازي»، ويكفي أن نشير هنا إلى قصيدته الشهيرة: (مرثية لاعب سيرك)، وكذلك قصيدة (اغتيال)؛ ففي الأولى يقتنص الشاعر بقوة الخيال، تلك اللحظة الخطرة عند انتقال لاعب السيرك فوق الحبال من موضع إلى آخر، في حركة يحدق بها شبح الموت:
في العالمِ المملوءِ أخطاءَ
مطالبٌ وحدكَ ألا تخطِئا
لأن جسمكَ النحيلْ
لو مَرة أسرعَ أو أبطأَ
هوى، وغطى الأرضَ أشلاءَ
في أيِّ ليلةٍ ترى يقبع ذلك الخطأ
في هذه الليلة! أو في غيرها من الليالْ
لقد أصبحت هذه القصيدة من فرائد «حجازي»، بل ومن فرائد الشعر الحديث كله؛ وقد اعتبرها الدكتور صلاح فضل من أهم ما كتبه حجازي، مشيرا في أثناء الاحتفال ببلوغه الثمانين منذ بضع سنوات، إلى أنّ «حجازي» هو أقرب شعراء العربية إلى روحها.
أما قصيدة (اغتيال)، فلا تقل عمقًا وجاذبيّة، فهي أيضا تجسّد لحظة درامية متوتّرة لكنها خاطفة كالبرق؛ إنها اللحظة الفاصلة ما بين الضغط على الزناد، واستقرار الرصاصة في قلب الضحية أيا كان صاحبها:-
إنني قاتلُهُ
أفرغتُ فيه عشرَ طلقاتٍ
تُرَى كيف يحسُّ الدمُ هذا المطرَ الناريَّ
ينهالُ فُجائيَّا عليهِ.. وهو يحلُمْ!
آهـِ .. ما بين ارتجافِ الوجهِ قبل الطلقِ..
حتى تستقرَّ النارُ في اللحمِ..
تُرَى أيُّ حديثٍ متلعثِمْ
كان يجرِي بيننا!
والقصيدة مكتوبة عقب واقعة اغتيال حقيقية، حين أقدم أحد الفدائيين الفلسطينيين على اغتيال رئيس الوزراء الأردني «وصفي التل» في بهو فندق شيراتون بالقاهرة 1971؛ وقد يوحي هذا بأننا أمام قصيدة من قصائد المناسبات؛ غير أن قراءة القصيدة تؤكد لنا كيف يمكن لأي عمل فنيّ كبير، أن يتخذ من المناسبة أو الحادثة الواقعية، نقطة انطلاق إلى آفاق وجودية أو فلسفية قد لا تمت إلى هذه الحادثة بصلة مباشرة! والحق أن الأعمال الأدبية أو الفنية الكبرى في التاريخ الإنسانيّ، هي تلك التي نجحت في أن تعلو على المناسبات التي أثارتها، فاستطاعت أن تتجاوزها إلى ما يكاد ينسينا المناسبة نفسها، بالقياس إلى العالم الجديد المدهش الذي يتكشف أمامنا بالتدريج، من خلال تلك الأعمال الفنية العظمى؛ وهذا هو ما ينطبق على قصيدة (اغتيال).