بسام المسعودي
شاعر يمني
ما أدونه ليس شعرًا
إنني أدون فقدي مع أول محاولة عودة
وأترك الشعر لأهله
فأنا لا أهل لي
إلا الذين حبسوا غربتي وأُشْرِبوا دمي
ماء الانتظار.
أشبه ماضي رجل
حيلته في الحياة كحيلتي،
لم أمُتْ
منذُ صِرتُ
أفضل وسيلة في يدي، أعيش بها فارًا
من نفسي كثيرًا،
أشبه رجلًا أسكنته الشجاعةُ
قبوَ الهزيمة،
يشبهني في ديدن الحُزن ومُتشدِق بعُرفِ القبيلة،
أفرُّ من يديّ كي أحرُسَ ليل المتعبين
أحملُ في فمي صُراخَ نَبي
تفردت به أفعال العصاة لكنه لم يمل
وعلى عنقي
التفاتة معطلة لصوفي
مدَ بناظريهِ لجُنُحِ الليل ودَهَنَ
ظهور العائدين من الشتات بنور الفجيعة.
أُريقُ دمي
لوجه صبحٍ
له أنفاسٌ لا تُظمِئ وجوم يدي،ْ
أنا ابن أبي
وحفيد حصير جدي المُقفىٰ
بِغلالِ
دكة مديدة،
أنا منفىٰ أناقة كاذبة
وأصابعي مصابة بطين المجازات
والكنية،
على مفرق رأسي مشت جحافل أسنان مشطي
وفي نهدتي
ربت تكسرات دمي.
لستُ دفئًا لأحد
أُريد أن أكون على منصة الأهل
أقول:
كنتُ باردًا حين حاولتم دلق انتظاركم
داخل حوض الحنين،
أقول:
كنتُ باردًا وندفات شوقي لا زالت متجمدة مثل قوالب ثلج شققتُ بها مرايا ليلكم
وهيأتُ للفجر وجوهكم الكالحة
وقصيدة تكفلها أصابعي كماشطة لأحزان قلوبكم.
أُفكر بالذين ماتت أمهاتهم وهم رُضع،
هل أصل وقد تحررت دموعهم من قيد المناغاة وضمة الرضاعة؟
أُفكر بي يومَ
(كنتُ حشودًا حزينة وأنا أقسو على نفسي
أمارس لعبة الشتات
ثم أخبئ
البلاد كلها في قُمْقُمِ الحربِ
وأنسىٰ بعدها أي مدينةٍ أضحت آمنة
ولم أنْسَ
أن الفرح الذي كان من المُفترض أن أعيشه
عبارة عن غريزة
روحي في النجاة
وفي احتفائها بي
وأنا أدفن بيديّ كل المدن التي قتلتها الحرب)*.
تركتُ الجميع
وأنا أعلم أنّ ثمة عيونًا تراقبني كلما أهال الحنين
ترابه فوقي،
تحاول الإمساك بي،
أن تصطادني وأنا أعْشَىٰ، أرُكُضُ بقلبٍ مُصاب بالصداع منذ صِرتُ أمشي من دون رأس،
ثمة عيون
كأنها مسدس حزن بيد العودة
وكلّما صوبتها نحوي وضغطت على الزناد أُصاب بالبكاء وأُبلل الطرق بالدمع.
كنتُ أظن أنّ العائدين مثلي
لا وجوه لهم حين يرممونها أمام مرايا العتمة المختبئة في قعرهم،
أنا الذي ركض في الفراغ يوم كان قاعي مزدحمًا
بالمنتظرين.
أفزع من يديَّ
كطفل جرتهُ صرخة المناغاة الصاخبة
إلى البكاء،
أغرس في دروب الركض
أضداد ماء
ربّا في دلو حيرتي
ثم تلوك أسناني
هشهشته المتثلجة كخلاط قديم لعجوز لم يمتنع عن مضغ القات.
أصيبُ الوقت بالعودة مبتلًا
كقارعة ضنكىٰ
من البكائين في الظُّلمات الغفيرة
فتناديني أحراش الطرق:
يا تارك الفرح
لا تتعمد الصعود على ظهر الحزن وحيدًا،
دع كل شيء يعود معك،
قصص قلبك الدفينة
وذكريات الأصدقاء ووسادتك
المبالغ قطنها في امتصاص زيت رأسك ولا يمتص نسغ الأرق جعلك مكتظًا بعودة باردة.
أتساءل:
من يُحيي ظلي؟،
لقد تفلت عني ولم يعد صاحبي في السفر،
وجدار صيفي
الذي أحيته غيمة ماطرة
كيف صار آيلًا للسقوط؟،
وحين شربتُ العطش
تركتُ فمي يلوك الماء بحذرٍ حتىّ لا تنزف
بئري المعطلة
وكي تتنزل ساعة الوصول
على دربي الشارد والخائب، أنا للآن لستُ خائب رجاء.
أدفن أسفل عودتي شعرًا لا يُطاق
وفي درك نفسي قوافٍ مخبوءة
وعلى بابي
مقابض ظنوني بما أدونه
أتساءل:
هل من ظن بالشعر والعودة أغضب الوصول؟
هل هكذا تتلقى روحي هزائم نفسي؟
واسأل أعمى المدينة:
ماذا لو أن الرضا عني لم يكن مبصرًا؟
فيرد:
كل عائد بصيرٌ بنفسه، تحصي الطريق خطواته
وقدماه عكاز قصيدته.
ملاحظة:* مقتبس من نص آخر للشاعر.