بمضي سبعة عشر عاما على القيامة العجائبية ليسوع الناصر على الدروب الترابية التي تخترق السامرة ثم تغوص متلاشيا تحت رمال الصحراء المكدرة، ظهر من أسماه مريدوه بالساحر، سيمون الساحر* ومن لقبه اعداؤه،زراية به بـ "القرقار". بحسب البعض انه يتحدر، في الاصل، من احدى نواحي السامرة، جيته، فيما يزعم البعض الآخر انه وافد الى السامرة من نواحي سوريا او الاناضول وينبغي القول انه أسهم، عمدا، في شيوع هذا اللبس لانه اذا سئل عن مسقط رأسه اجاب بايماءة من ذراعه شملت في اشارتها نطاقا يبدأ من الكفر المجاور وينتهي عند صدر الافق.
كان متوسط القامة عاضلها، ذد شعر أسود مفلفل أجلح الهامة ولحيته المفلفلة ايضا شعثا، يخالطها شيب كثيف. وانفه العظمي المعقوف يجعل وجهه ضأنيا اشبه بخطم الخرفان. كانت له عين ابرز من الاخرى ما يضفي على سيمائه ملمحا ساخرا. اذنه اليسرى مزينة بقرط من الذهب أفعى تبتلع ذنبها.
وكان يتمنطق بحبل كتان يستخدمه ايضا في الاعيب الخفة التي يلجأ اليها احيانا؟ كان الحبل ينتصب فجأة على نحو عمودي وامام اعين المتفرجين الذاهلة يتسلقا كما يتسلق سارية. او يطوق بها رقبة عجل قبل ان يقطع رأسه بضربة سيف واحدة مبرطما ببعض الا دعية السحرية. يبقى الرأس والجيفة لهنيهات، على رمل الصحراء جنبا الى جنب؛ وعندئذ يردد الساحر لذلك الدعاء السحري ولكن معكوسا، فيعاود الرأس التصاقه بالبدن فيما يبقى حبل الكتان على الارض، ويفك سيمون عقدة الحبل ويتمنطق به مجددا الا اذا شاء أحد المتفرجين التثبت من طبيعة أليافه فاذ ذاك يمد اليه طرفا من الحبل المتصلب كأنه يمد اليه طرف عصا، وما ان يمسك به المتفرج الشكاك حتى يرتخي الحبل ويسقط على الأرض مثيرا سحابة من غبار.
كان يجيد اليونانية والقبطية والآرامية والعبرية، الى عدد من اللهجات المحلية، وان عاب عليه خصومة انه يتكلم هذه اللغات جميعها بلكنة بادية لم يكن سيمون ليعير ألسنة السوء هذه اي انتباه ما حمل البعض على الظن بأنه يستأنس بأقاويلها. وقيل ايضا انه كان متيقظ الذهن وخطيبا حاذقا خصومة حين يتوجه بخطبه الى تلامذته ومريديه او الى جمهرة من المستمعين فاذ ذاك "كانت عيناه تبرقان كنجمين"، بحسب احد تلامذته. "كان له صوت شيطان ونظرة ألعبان" بحسب احد خصومة.
خلال اسفاره على الدروب المتشعبة المفضية من الغرب الى الشرق ومن الشرق الى الغرب، يلتقي سيمون الساحر اعدادا غفيرة من المبشرين وغالبا ما تتقاطع دروبهم فتلاميذ يوحنا وبولس، ويوحنا وبولس نفساهما ينشرون كلام يسوع الناصري الذي لا تزال ذكراه حية في فلسطين. اليهودية والجليل والسامرة وغالبا ما يصادف سيمون اثر نعالهم عند مدخل البلدة. تبدو البلدة وادعة في منى تلك الساعة من النهار ويسمع نباح كلب وترانيم شفاء الخرفان. ثم كنتاج معزي يتناص من البعيد صوت رجولي، جهوري ورائق، غير مسموع تماما: انهم الرسل الذين يبشرون، معتلين براميل مخلعة، بكمال العالم والخلق الالهي. يلوذ سيمون بفيء كوخ ريثما يبتعدون، ثم يدخل البلدة بدوره قبل ان يتفوق الحشد.
عندئذ محوطا بصحبه، يبدأ بالتبشير هو ايضا، يتجمهر الاهلون من حوله متبرمين وقد اضجرتهم دعاوي الرسل. "لقد طردنا للتر كلا من بولس ويوحنا، ويقولون فقد نلنا من الخطب مؤونة عام وأزيد".
"اني لست رسولا، يقول سيمون، اني من ظهرانيكم هم يضعون الايدي عليكم فتمنحون روحا قدسا! أما أنا فأمد لكم يدي لانتشلكم من الغبار". ويرفع عندئذ ذراعيا نحو السماء فينحسر كماه بثنيات رخصة، عن يديه البيضاوين الجميلتين وأصابعهما المشيقة كما تكون أصابع المتبطلين ومحترفي ألعاب الخفة.
"انهم يعللونكم، يتابع سيمون قائلا، بالخلاص الابدي اما أنا فأعللكم بالمعرفة والصحراء. ولينضم الي منكم من يشاء". كان الناس قد اعتادوا امثال اولاء المتشردين، من كل رتبة ونوع، جوابي الآفاق، القادمين خصوصا من الشرق، وحدانا، وازواجا، ويتبعهم صحب في بعض الاحيان بعضهم يترك الركوبات كالبغال والجمال عند مدخل البلدة، او عند سفر الجبل او في الوادي المجاور، وبعضهم يفد مصحوبا بمواكبة مسلحة (فيشبه ان يكون تبشيرهم وعيدا او ملهاة)، اما البعض الآخر فيدخل ممطيا ركوبته، وينصرف، دون ان يترجل عنها، الى أداء عروضه البهلوانية، ولكن منذ نحو خمسة عشر عاما، منذ وفاة ناصري ما، أصبح الوافدون من الشباب المتعافين الاصحاء ذوي لحى مشذبة، او حتنى مرداه، مشتعلين بلفاعات بيضاء ممسكين بعصا الرعاة، زاعمين جميعهم انهم رسل وأبناء الله. نعالهم مكسوة بغبار الاسفار وخطبهم متشابهة كأنهم درسوا جميعا على كتاب واحد: كما انهم يتخذون جميعا من نفس المعجزة التي شهدوها مرجعا: لقد أحال الناصري أمام اعينهم الماء خمرا وأطعم جمهرة من الناس بضع سمكات. ويزعم بعضهم انه رآه بأم عينيه صاعدا الى السماء في كنف نور باهر مرتقيا الى القبة السماوية مثل حمامة. وكان العميان الذين يرافقونهم يشهدون بأن هذا النور هو الذي أعمى أبصارهم لكنه منحهم في المقابل نعمة النور الروحاني.
وجميعهم كانوا يزعمون انهم ابناء الله، وانهم أبناء ابن الله، يعللون المتصدق عليهم بكسرة خبز وزق من النبيذ بالحياة الابدية والنعمى، وعندما يطردهم القرويون من بيوتهم ويطلقون الكلاب في أثرهم، كانوا يتوعدونهم بجهنم الابدية حيث تشوي الابدان بنار غمر، كما تشوى الخرفان على السيخ.
ولكن قد يعثر من بين هؤلاء المبشرين على من يجيد صنعة الخطابة ومن له موهبة حيال توجس العامة والسلطات الأكثر توجسا، في ايجاد الاجوبة الشافية عما لا يحصى من اسئلة اللغو التي تتعدى شؤون النفس الى أحكام الجسم والعمل في الحقول وتربية المواشي. كما كانوا يشفون الفتيات من بثورهم ويقدمون للفتيات النصح حول نظافتهن واساليب الحفاظ على عذر يتهن واحتمالها على أهون السبل، ويشرحون للمسنين كيف التهيؤ لساعة الاجل وأي كلمات هي الاول بالتلاوة، عند الرمق الاخير، وكيف يشبكون الذراعين ليصبح انزلاقهم أيسر في الممر الضيق المفضي الى النور، وينصحون الامهات بما يعينهن على انقاذ مواليدهن دونما حاجة الى النطاسيين وعقاقيرهم الباهظة الاثمان، او بما يجنب ابناءهن مرارات الحملات العسكرية، ويلقنون النساء العواقر ادعية بسيطة وواضحة يكيفها ثلاثا في اليوم، صائمات، لكي يجعل الروح القدس – كما يسمونه – احشاءهن مثمرة.
كانوا يفعلون كل ذلك بالمجان، بلا مقابل، اذ لا يعقل ان. نحتسب اجرا كسرة الخبز تلك التي يقبلونها بامتنان أو زق المياه العذبة التي يشربونها بجرعات صغيرة مغمغمين بكلمات غامضة غير مسموعة. هكذا كان المبشرون يتوافدون على التوالي، قادمين من جهات العالم الأربع، مختلفين بلغاتهم وتقاليدهم، بلحي او من دون لحى، لكنهم يبشرون، برغم الاختلاف بأمر واحد وحيد، يعلنا البعض ويؤكده البعض الآخر وحدها التفاصيل تتشعب وبرغم التنويعات الضئيلة التي تشوبها فان حكاية معجزات الناصري وقيامته من الموت قد بدأت تصبح حقيقة. وقد اعتادت شعوب اليهودية والسامرة والاناضول اولاء الشبان ذوي النعال المغبرة الذين يبقون أيديهم مشبوكة امام نحورهم ويتحدثون بأصوات بتولية وينشدون متضرعين الى السماء.
كان الناس يهبونهم الخبز والماء فيبدون امتنانا ويعللونهم، بالمقابل بالحياة الابدية، واصفين لهم بلادا عجائبية ينتقلون اليها بعد الموت: هناك لا صحراء، ولا رمال ولا أفاعي ولا عناكب، بل شجر نخيل عريض السعفات، وينابيع ماء باردة عند كل موطىء قدم وعشب متطاول حتى الركب لا بل الى ما فوق الركب، حيث الشمس تسطع باعتدال والليالي مثل النهارات والنهارات سرمدية.. هناك ترعى الابقار والماعز والخرفان، وتضرع الازاهير بعطرها في كل الفصول، هناك الربيع سرمدي، لا غربان ولا نسور، بل بلابل تصدح بالشدو طيلة النهار. وهكذا دواليك.
إن لوحة جنائن عدن، هذه التي بدت، اول الامس، مثيرة للسخرية ومحالة – فمن أين للشمس ان تشرق الى الابد وللحياة ان تكون خالية من الألم والموت؟- والتي كان يصفها هؤلاء الشبان ذوو العيون العذبة الزرقاء، باقتناع وحماسة، تحولت الى حقيقة بدأ الناس يؤمنون بها. فعندما تتردد كذبة بإلحاح يبدأ الشعب بالايمان بها. ذلك ان الايمان ضروري للشعب. وهكذا انتعل عدد من الشبان أخفا ذات سيور طويلة وارتحلوا معهم فكان بعضهم يعود الى البلدة بعد سنتين او ثلاث من الغياب، والبعض بعد عشر سنوات، مرهقين من تجوالهم الطويل، وقد خالط الشيب لحاهم. ويصبحون قادرين على مخاطبة الناس بوداعة شابكي الاكف فوق بطونهم. يتحدثون عن معجزاته وعن تعاليمه، ويبشرون بسنن جديدة، منصرفين عن ملذات البدن، مرتدين الاسمال، طاعمين باعتدال، محتسين النبيذ في كؤوس تحمل بجماع راحتي اليدين. ولكنهم في المقابل، سرعان ما تحتدم حماستهم على نحو مباغت ما ارتأى مخاطبهم نقض اقوالهم او أبدى شيئا من الارتياب بتعليمهم وبمعجزاته، فالويل لمن يتجرأ على التشكيك في الحياة الابدية وجنائن عدن. فاذ ذاك يسترسلون بعباراتهم البليغة المعنفة بعباراتهم النارية التي تهدر بالوعيد، وقصاص التكفير الابدي "حفظتكم الالهة كتب أحد الوثنيين، من ألستنهم اللاذعة ومن لعناتهم" فقد كانوا يجيدون جبه المتشككين بالوعود البراقة وبالاغراء والوعيد وكلما اتسعت رقه نفوذهم وازداد عدد مريديهم ازدادوا عنفه وغطرسة. كانوا يبتزون الاسر، ويزرعون الشقاق في النفوس، ويدبرون المكائد لكل من ارتاب، ولو قليلا، بتعاليمهم، وكان لهم دعاتهم ومحرضوهم ومحاكمهم السرية التي يصدرون أمامها الاوامر والنواهي والعواقب ويحرقون كتابات خصومهم ويرمون بالجرم كل المرتدين، وكان الناس ينضمون اليهم باعداد متزايدة لانهم كانوا يكافئون الاتباع ويعاقبون العصاة.
في ذلك الزمن، اذا ظهر سيمون الملقب بالساحر
كان سيمون يبشر بأن اله الرسل طاغية وان الطاغية لا يمكن ان يكون إله أي انسان له عقل. فربهم الذي يدعونه يهوه، الله، ينقض على الجنس البشري ويمسك بخناقه ويفتك به ويبتليه بالاوبئة والوحوش المفترسة كالأفاعي والعناكب السامة والنمور والاسود، وبالبرق والرعد والطاعون والجذام والسفلس والاعاصير والعواصف بالقحط والطوفان بالكوابيس والارق، بأحزان الصبا وعجز الشيخوخة. واذا كان قد انعم على سلفيينا المغبطين، بجنان الفردوس فقد حرمهما من اعذب ثمارها، الثمرة الوحيدة التي يستحقها الانسان، والوحيدة التي بها يتميز الانسان عن الكب والجمل والحمار والقرد – أي معرفة الخير والشر.
وعندما أراد سلفنا التعس، مدفوعا بالفضول، امتلاك هذه الثمرة، ماذا فعل إلههم، إلهكم، العادل، العظيم القادر: أجيبوني، ماذا فعل؟" صاح سيمون مترجحا فوق برميله المتخلخل. "انتم تعلمون جيدا، لا بل جيدا جدا. (الا يعظكم بذلك، كل يوم، رسله ومريدوه وعبيده؟) لقد طرده كأنه مصاب بالطاعون او كأنه مجذوم، طرده بلا رأفة متوعدا إياه بسيف النار ولم؟ لانه اله اللؤم والمكر والجسد. عوض الحرية يدعو الى العبودية، وعوض التمرد يدعو الى الخضوع، والى الزهد عوض الشهوة، والى العقيدة عوض المعرفة.. أيا شعب السامرة.. ألم يعمد هذا الحاقد مؤخرا الى هدم بيوتكم: ألم يعرض حقولكم للقحط والجراد:؟ ألم يبتل بلدتكم بعشرات المجذومين؟ ألم يهتك حرمة بيوتكم، منذ أقل من عام، بعدوى الطاعون؟ أي إله هو اذن، وأي عادل هو، كما يزعم رسلكم، لكي يتجرأ اليوم أيضا على الثأر منكم لخطيئة مزعومة اقترفت على يد سلفيينا الاقدمين؟ أي عادل هذا الذي يبكينا بالطاعون والصاعقة والرعد والاوبئة والشقاء وبئس المصير، فقط لأن سلفيينا، مدفوعان بالفضول، تلك الشعلة المتوقدة التي تولد المعرفة، قد تجرأ على قطف التفاحة؟ فمنى هذا، يا شعب الساحرة، ليس ربا بل ضاغن، وأثيم وشقي يتوسل زمر ملائكته المدججين بالسلاح تحت اسنانهم المسلحين بسيوف من نار وسهام مسمومة، لكي يقطع عليكم الطريق. عندما تثمر أشجار التين يمسها بالامراض، وعندما يحين قطاف زيتونكم يجعل الهبوب عاصفا فيقطع الاشجار، ويقصف البرد لكي يجرش الثمار ممزوجا بالتراب فيستحيل طينا. وعندما تضع نعاجكم يحسن وفادة الطاعون أو الذئاب أو النمور لاجتياح مراعيكم؟ وعندما يولد طفل يبكيه بالتقبض فيزهق روحه. أي إله هذا اذن، أي عادل مزعوم، لكي يتجرأ على فعل كل ذلك؟ ليس هذا هو الإله، ليس هذا هو المتربع على عرش السماء، ليس هذا هو الله. انه أحد سواه، ذلك أن الله هو خالق السموات فى الارض، والرجل والمرأة، والافاعي والطيور، بديع كل شيء حي، الذي رفع الجبال فوق البحار، موجد البحار والانهار والمحيطات والمراعي وظل النخلة، والشمس والمطر، والهواء والنار، انه هو الإله الحق، الاب العادل. اما ذاك الذي يبشر بكلامه بطرس ويوحنا وبولس، واتباعهم، فانما هو أثيم قاتل. وكل ما تعللون به من ملكوته عن لسان يوحنا وبولس ويعقوب وبطرس، كله يا شعب السامرة الا فلتصغ، ليس الا بهتانا! كذب – أرض ميعادكم، كذب – إلههم، كذب – معجزاتهم. انهم يكذبون لأن الإله الذي نذروا الاخلاص له هو، مثلهم، كاذب؛ ولذا يكذبون كما يتنغمون، واذ واذ يتخبطون في أحابيل كذبهم يخيل اليهم انهم يصدقون. فحيث يكذب الجميع. لا أحد يكذب. وحيث كل شيء كاذب لا شيء كاذب. ملكوت السموات؛ ملكوت العدل هو كذب. كل صفة من صفات إلههم هو كذب. العادل: كذب. المنصف: كذب. الواحد: كذب، السرمدي: كذب. وكتبهم هي منهل الاكاذيب، لان التعلة فيها كذب، يعدون بالفردوس والفردوس كذب، لان الفردوس بين أياديهم، لانهم هم، الواقفون عند أبواب الفردوس، وهم كروبيوه المسلحون بسيف من نار، وقضاته الممسكون بقسطاس كاذب".
كان الناس يسمعون كلامه بلا مبالاة، وحذر، على غرار ما يصفي الناس عادة الى الدعاة: بحثا عن معنى خفي خلف العبارات الغامضة. ذلك ان الناس كانوا قد اعتادوا توسل المقتدرين. وذوي السلطان والقديسين، صيغ المحاباة والتعليل والوعود والاكاذيب، لما يضمرونه من وعيد وابتزاز. لذا يقيمون على التريث ريثما يفضح الدعي نفسه ويصرح آخر الامر بسبب مجيئه والغرض من أقواله الباطلة هذه، ومن خطابه الغامض المجرد من كل وضوح ومعنى. ولذا يقيمون على الاصغاء، ورجاؤهم أن يلجأ هؤلاء، آخر الامر، الى التدليل على صحة رطانتهم بألاعيب بهلوانية او ادوار من الخفة.
" لقد شيد ملكوت السماوات على أركان من الكذب، أردف سيمون قائلا، شاخصا الى الشمس القاسية، وسقفه قائم بركيزتين: الوهم والكذب. ومدوناتهم مكتوبة بعبارات كاذبة ووصايا كاذبة، كل وصية هي كذبة: عشر وصايا، عشر أكاذيب، ولا يكفي، في عرفهم، أن يكون إلههم طاغية متعطشا للثأر، حقودا كمثل عجوز متشف، بل منيتهم، وهذا الادهي، أن تجلوا مقامه، وأن تنحنوا إجلالا أمامه، وأن تصرفوا الفكر عن سواه ! وأن تسموا هذا الطاغية، الواحد، العادل، القدير! وأن تخضعوا له وحده ! أيا أهل السامرة أي دجالين يفدون اليكم ويملأون مسامعكم بالاكاذيب، والوعود الباطلة؟ لقد استأثروا بنعمه ويطلبون منكم، أنتم، ان تخضعوا دونما تردد، وأن تكابدوا كل تجارب الحياة، الجراح، والمرض والزلازل والطوفانات والطاعون، والى ذلك أنتم مطالبون بالا تجدفوا باسمه. والا لم يحظر عليكم التلفظ باسمه؟ كذب ! اني أقول لكم يا أهل السامرة أن كل ما يبشر به بطرس وبولس ليس سوى حلم اتباعهما وريائهما، ليس هذا كله سوى خدعة هائلة ! ومن هنا وصيته: لا تقلا! ذلك أن القتل هو شأن واحدهم وقديرهم وعادلهم ! شأنه ان يذبح الاطفال في المهد حتى الموت، والامهات الواضعات والمسنين العجائز! هذا شأنه هو لذا يقول: لا تقتل ! له هو واتباعه ان يقتلوا! وحدهم تناط بهم هذه المهمة ! قدرهم ان يكونوا الذئاب وانتم الحملان ! فاتبع اذن وصاياهم يا شعب السامرة ! وأحرص: الا ترنى، لكي تباح لهم أن يقطفوا زهرة بناتكم ! ويقول أيضا: لن تشتهي ما لغيرك لان ليس لديك ما تحسده عليا! يسألونك ان تبذل ذاتك، جسدا وروحا، نفسا وفكرا، وبالمقابل، يعللونك بالوعود، مقابل خضوعك اليوم، وصلاتك وكتمانك ها هنا، يغدقون عليك بالاكاذيب. والوعود، ويعللونك بالمستقبل، بالمستقبل الذي لا وجود له…".
لم يلحظ سيمون، أو تظاهر فقط بأنه لم يلحظ، جمهرة الناس وقد تفوقت من حوله وانه لم يبق من السامعين سوى اولاء الذين يزعمون انهم اتباعه، فيما راحت صوفيا، امراته الوفية، تمسح جبينه وقد ناولته إبريقا فتر ماؤه برغم حرصهم على ابقائه مطمورا في الرمال.
كانت صوفيا امرأة ثلاثينية، ضامرة الجسم، ذات شعر وافر، وعينين سوداوين مثل عنبتين، وكانت تتشح فوق ثوبها اللهله الخفيف، بمشامل من حرير ملون جاءت بها بلا ريب، من الهند. واذا كان أتباع سيمون يرون اليها بوصفها تجسيدا للحكمة والحسن الانثوي في ذروة نضوجه، فان الحجاج المسيحيين يشيعون بشأنها عددا من الأخبار والشائعات: فيلمحون الى أنها امرأة مغناج وداعرة ومثيرة ومداهنة ومكارة راقت في عيني رفيقها المكار حين التقيا عند مدخل أحد مواخير سورية. ولم يكن سيمون لينكر ذلك. بل ان ماضيها كأمة وداعرة كان يعطى، في أحاديثه، كمكر؟ كمنى وأمثولة للتدليل على طغيان يهوه وقسوة هذا العالم. ملك مخلوع، نعجة ضالة، يؤكد قائلا، انما هي ضحية الجور الالهي، نفس طاهرة رهينة البدن.
أقامت روحها على الهجرة منذ قرون، من وعاء الى وعاء، من جسد الى آخر، من مظهر الى آخر. انها ابنة لوط؟ إنها راشيل وهيلينة الجميلة. (لقد عبد الاغريق والبرابرة، اذن، مظهرا بحتا وأهرقوا الدماء من أجل طيف). وكان آخر تجسد لها في صورة تلك المومس في ماخور سوري.
"وفي الاثناء" أردف سيمون قائلا، باصقا "جرعة" من المياه الفاترة، وقد لمح رهطا من الحجاج بمشامل بيضاء يظهر فجأة، من ظل البيوت وأدرك للتو انه بطرس وتلاميذه وبأيديهم عصي رعيان…" في الاثناء، تحت كفن السماوات المظلم، وبين أسرار الارض السماء، في حبس الوجود، قابلوا الثروة بالازدراء، كما يعلمونكم، واجتنبوا ملذات الجسد، واحتقروا المرأة، زق الكوثر تلك وكأس الهناءة، باسم فراد يسهم المزيفة ونار جهنم المزعومة، وكأن مثل هذه الحياة ليست هي جهنم…
– البعض يختار الملكوت الأرضي، والبعض الآخر ملكوت السماء، خاطبه بيار، اذ ذاك، قائلا وقد اتكأ بجماع كفيه على عصاه.
– وحده من تنعم بالثروة استطاع أن يزدريها، أجابه سيمون محملقا به بالكبرى من عينيه. ووحده المعوز يمتدح العوز؟ كما يقبح ملذات الجسم من تذوقها.
– لقد كابد ابن الله الألم، قال بطرس.
– ومعجزاته هي البرهان على انصافه، صاح أحد اتباع بطرس.
– المعجزات ليست البرهان على الانصاف، أجاب سيمون. ولا تكون المعجزة برهانا، وبرهانا حاسما الا في روع شعب، يريد أن يصدق. وقد اتبع هذه الطريقة يهوديكم البائس الذي انتهى به المطاف على الصليب.
– وحده من له مثل هذا السلطان يتحدث على هذا النحو، قال بطرس.
عندئذ قفز سيمون من على برميله المترجح وانتصب، وجها لوجه، قبالة مناظره.
"سأصعد توا الى السماء، قال سيمون.
– كم أود أن أراك فاعلا، أجاب بطرس وقد شاب صوته بفض التهدج.
– إني عالم بمستطاعي، اردف سيمون قائلا، وأعلم جيدا، أنني لن أتمكن من بلوغ السماء السابعة، غير أني سأجتاز السماوات الست الاخرى. وحده الفكر قد يبلغ السماء السابعة، لأن كل ما فيها نور وغبطة. والغبطة محرمة على الانسان الفاني.
– كفانا ثرثرة، قال أحد اتباع بطرس، "ان بلغت تلك الغيمة هناك نجلك كما نجل الناصري".
واذ ذاع في أرجاء القرية أن أمورا عجيبة غريبة تجري عند مدخل القرية، بقرب الزيتونة المسنة، وأن هذا الثرثار سيؤدي أخيرا، احدى ألاعيب الخفة، تجمهر الناس مجددا من حولهم. "عد الينا بسرعة، صاح أحد المتفرجين ساخرا، ولكن اترك لنا شيئا مثابة كراء".
فما كان من سيمون إلا أن حل حبل الكتان عن خصره ووضعه عند قدميه.
"هذا كل ما أملك".
فقالت صوفيا: "خذ هذا الوشاح. فالجو بارد هناك كأنك، في قعر بئر". ولفت المنديل حول عنقه.
"حتام ننتظر، قال بطرس.
– ريثما تغرب الشمس فيداري خيبته بجنح الليل، أردف أحد أتباع بطرس قائلا.
– الى اللقاء، قال سيمون مقبلا صوفيا على جبينها.
– وداعا قال أحد اتباع بطرس، واحرص على اتقاء البرد".
فجأة قفز سيمون، كما يقفز ديك، مضموم القدمين، محاكيا بيديه رفرفة خرقاء، ناعفا بخفيه سحابة غبار من حوله.
"كوكوديكو!" صاح أحدهم ممازحا. انه فتى ذو وجه أمرد ماكر العينين اللتين تستحيلان أخدودين مائلين عندما يضحك. يلتفت سيمون اليه ويقول:
– إنه ليس بالأمر اليسير يا بني، فكل جسم، حتى أخف ريشة، تجذبه الأرض اليها. فما بالك برمة بشرية ترن نحو مائتي ليبرة…"
يحاول بطرس جاهدا أن يكتم ضحكا حيال هذه المماحكات، فيحجبه طي لحيته.
"لو كنت قادرا على التحليق كما تفلسفت. أردف الممازح قائلا، لأصبحت الآن بين الغيوم.
– إن الكلام أيسر على المرء من التلحيق، أقر بذلك، قال سيمون وفي صوته رنة حزن. فأنت مثلا، تجيد التهكم في حين أنك لم تتمكن، طوال حياتك البائسة، أن ترتفع عن الارض مقدار متر واحد… أعني الآن استجمع قواي وأفكاري. متنكرا ما استطعت بهول الوجود الأرضي، ولإكمال العالم، وسراب الحيوات المحطمة، بالمفترسات وهي تفترس بعضها بعضا، بالأفعى التي تعض الجدي الساعي بين الاشواك، بالذئاب التي تذبح الحملان، بالسرعوفة التي تلتهم ذكرها، بالنحلات التي تموت بعد لسعتها، بمخاض الامهات اللواتي يلدننا، بجراء الهر التي يرميها الاولاد في النهر، برعب الاسماك في جوف الحوت، بهلع الحوت المشطط على الرمال، بحزن الفيل الذي يموت من الشيخوخة، ببهجة الفراشة العابرة، بجمال الزهرة الخادع، بوهم الوطء العابر، بفظاعة البزار المنثور، بعجز النمر المسن، باهتراء الاسنان في الفم، بأكوام أوراق الشجر اليابس التي تكسو أرض الغابات، برعب فرخ الطير الذي تدفعه أمه الى خارج العش، بآلام دودة الارض الجهنمية التي تسفعها أشعة الشمس كأنها على نار حامية، بفراق العاشقين المؤلم، بفظاعة المجذومين، بالتحول البغيض الذي يطرأ على نهدي المرأة، بالجراح، بعذابات العميان…"
ورأوا فجأة جسم سيمون الساحر الفاني يرتقي عن الأرض، يرتفع مستقيما الى أعلى فأعلى، خابطا برفق بذراعيه كما تخبط السمكة بزعانفها، رويدا رويدا، بحركة شبه خفية، وخصلات شعره ولحيته تتطاير فيما هو يحلق متمهلا فيما هو يطير.
لم تسمع صيحة واحدة، لم تسمع زفرة واحدة، وساد صمت مباغت، كانت الجمهرة ساكنة بلا حراك، كأن من فيها جمد في مكانه وشخصت العيون نحو السماء، حتى العميان شخصوا بمحاجرهم الفارغة نحو السماء. اذ أدركوا، حيال الصمت المطبق، حقيقة ما يجري من حولهم، والى أي جهة شخص الجميع والى أي ناحية التفتت العيون. والى أي صوب استدارت الرؤوس.
لبث بطرس، هو أيضا، جامدا، فاغر الفم مذهولا. لم يكن لبث بطرس، هو أيضا، جامدا، فاغر الفم مذهولا. لم يكن مؤمنا بالمعجزات، الا معجزات الايمان، ولا يمكن للمعجزة الا ان تكون صنيعه هو الساحر الوحيد، الذي أحال الماء خمرا، وما تبقى ليس سوى ألاعيب خفة، وخيوط غير مرئية. ولم يعط الاتيان بمعجزة سوى للمسيحيين، ومن بين المسيحيين جميعا، فقط لمن كان ايمانهم صلبا مثل صخرة، كمثل ايمانه هو الناصري.
لهنيهة ملكا الاضطراب، وأفزعه الوهم – لأن ما جرى لا يعقل الا ان يكون وهم الحواس، وسحر الموالد المصرية – ففرك عينيه وألقى نظرة الى حيث كان يقف للتر (أو الى حيث ينبغي أن يكون مازال واقفا) سيمون الساحر. ولم يكن هناك ولم يكن هناك سوى حبل الكتان ملتفا كأفعى والغبار الذي يرسب رويدا، الغبار الذي نعفه سيمون بقفزه. مثل ديك أخرق. باسطا ذراعيه كجناحين متصوفين. ثم رفع عينيه محدقا بما تحدق به كل العيون المرفوعة ورأى الساحر مجددا. فقد بدا شخصه الداكن بوضوح طي غيمة بيضاء، وبدا شبيها بنسر هائل الحجم، سوى أنه لم يكن نسرا، بل رجل في هيئة رجل، فالساقان ساقا رجل، والذراعان ذراعا رجل والرأس رأس رجل، وان تعذر على الرائي التثبت من أن الرجل الذي بات محاذيا للغيوم هو سيمون الساحر نفسه لاستحالة التدقيق في ملامح وجهه.
راح بطرس يحدق بالغيمة البيضاء طارفا عينيه لعله يبدد الوهم الذي خلب أنظار الحاضرين جميعا. فاذا لحان شخص هذا الخيال الداكن الذي يقترب من الغيم والسماء هو حقا سيمون، فهذا يعني أن كل معجزاته (هو) وحقائق الايمان المسيحي ليست سوى واحدة من حقائق هذا العالم، لكنها ليست الوحيدة: اواز ذاك يكون العالم لغزا، ويكون الايمان وهما، فتفقد حياته كل مرتكز، ويغدو الانسان مجرد لغز، من بين ألغاز أخرى، وتغدو وحدة العالم، والخلق بمثابة المجهول.
بلغ ذلك الشخص الذي ينبغي- اذا صدق النظر- أن يكون جسم سيمون الفاني، طبقة الغيم: لطخة سوداء ضيقة توارت هنيهة، ثم لاح مجددا بمحاذاة غيمة وطيئة، ثم توارى في الضباب المصلي، ران الصمت المطبق هنيهات أخرى، ثم علت من بين الحاضرين صيحة إعجاب، وخر الناس راكعين وقد انحنت هاماتهم واهتزت رؤوسهم وجدا. حتى ان بعض أتباع بطرس انحنى أمام هذه المعجزة الوثنية الجديدة التي شهدتها أبصارهم.
عندئذ أغمض بطرس عينيه وتلا بالعبرية (لغة القديسين بامتياز، ولكيلا تفهم الحشود ما يقال)، الصلاة التالية:
"أبانا الواحد الذي في السماوات، أعن حواسي المختلبة بسراب وامنح عيني جلي البصر وعقلي الصفاء الكافي للنجاة من أشراك الوهم، كيما أقيم، قانعا، على الايمان بك وعلى حبي لابنك، المخلص. آمين".
فقال له الله:
"اتبع ارشادي، أيها المؤمن. بشر الناس بأن الايمان أقوى من وهم الحواس، وقل ذلك جهرا كي يسمع الجميع. وقل لهم بصوت جهير كي يسمع الجميع: الإله واحد ويدعى الله، والابن واحد ويدعى يسوع، والايمان واحد وهو الايمان المسيحي. وهذا الذي أمام ابصاركم ارتقى الى السماء حتى بلغ الغيم، سيمون الملقب بالساحر، هو مارق من الايمان ومدنس للتعاليم الالهية، لقد حلق بقوة ارادته وبقوة أفكاره، وها هو الآن يحلق، محتجبا عن الانظار، نحو النجوم محمولا بقوة شكه وفضوله البشري الذي تحده، مع ذلك، حدود. وقل لهم بصوت يسمعه الجميع، أنني، أنا من أعطاه قوة التجربة هذه، وانني، أنا مصدر قدرته وطاقاته، لاني أتحت له ان يمتحن بمعجزاته أنفس المسيحيين، لكي أبرهن للجميع ان ما من معجزة وما من مقدرة الا بي. قل لهم هذا ولا تخش شيئا،. فتح بطرس عينيه واعتلى كومة من الروث الجاف حامت جماحها أسراب من الذباب، وراح يصرخ بأعلى صوته:
"أيها الناس الطيبون، اسمعوا وعوا!"
لم يصغ اليه احد. كان الحشد خاشعا وسط هبوب الغبار، لحما ترقد الحملان أيام القيظ الشديد في فيء أدغل.
صاح بطرس مجددا بأعلى صوته:
"يا أهل السامرة، اسمعوا وعوا ما سأقول لكم"
استدارت نحوه بعض الرؤوس من بين العميان أولا.
"لقد رأيتم ما رأيتم وخدعتم بوهم الحواس: ان هذا الألعبان، هذا الدرويش الذي اكتسب مهاراته في مصر…
– لقد وفى بوعده، قالت صوفيا.
– ريثما أعد العشرة، تابع بطرس قائلا دون أن يلتفت اليها، سيسقط جسده مهشما على الارض التي طالما أزدراها؛ سيسقط مثل حجر عند أقدامكم، سوية التراب الذي لن ينهض عنه أبدا… ذلك أنها ارادة الله الواحد… واحد…
– لكنه، برغم ذلك، طار، قالت صوفيا. وجاءك بالبرهان على انه ساحر.
– إثنان…
– حتى لو هوى، لقد ربح الرهان" قالت صوفيا.
كان بطرس قد أبقى عينيا مغمضتين فيما يعد، كأنه بذلك يريد أن يتحايل على الوقت.
عندها سمع صراخ المحتشدين ففتح عينيه، واذا باللطخة الضئيلة السوداء تعاود الظهور من حيث توارت قبل قليل، هاوية من لدن غيمة متعاظمة الحجم شيئا فشيئا. كان جسم سيمون يهوي باتجاه الأرض، كحجر، مدوما على ذاته متقلبا، طولا وعرضا. كان الساحر متخبطا بخفق ساقيه وذراعيه، مرئيا بوضوح مطرد. راح الناس يتراكضون في كل اتجاه خشية ان يسحقها ثقل هذا الجسد الهابط توا من الغيوم.
بعد ذلك حدث كل شيء بسرعة، فكما يسقط جراب من الرمل الرطب من عربة حمال، أو كما يهوى حمل أرخته براثن نسر أثناء تحليقه، سقط جسد سيمون الساحر مهشما على الأرض.
كانت صوفيا، المومس، رفيقته الوفية، أول من اقترب منه. أرادت أن تفعلي عينيه بالوشاح الذي لفت عنقه به، لكنها لم تقو على ذلك حين اضطرت الى التراجع مفضية لهول المنظر الذي باغتها، الجمجمة مهشمة، والاطراف محطمة، والوجه مملع، مدمى، والاحشاء مبتورة منتشرة مثل أحشاء ثور مبقور، كان سيمون راقدا، على الأرض، وعلى الأرض ترقد كومة من العظام المحطمة والمسحوقة، الممزوجة بلحم مشلع، أما البرنس والخفاف والوشاح فقد جبلت باللحم على نحو مرعب.
من اقترب من المحتشدين لمعاينة ما جرى سمع صوفيا وهي تعلن بنبرة من يستجلب اللعنة: "انما هذا برهان على صحة تعاليمه (هو). فحياة الانسان سقوط وجحيم، والعالم في عهده الطغاة. اللعنة على شيخ الطغاة قاطبة، الله".
ثم سلكت درب الصحراء وهي تنتحب.
-2-
قيل في رواية أخرى ان الساحر لم يعن بتحديه السماء السابعة بل الارض، أعظم الاوهام قاطبة.
اذا كان سيمون مستلقيا عند فيء زيتونة وارف، متوسدا ساعديه. خلف رأسه، شاخصا بصره الى السماء، الى "فظائع السموات". ويجنبه جلست المومس "مفرجة ساقيها كبقرة حلوب" بحسب ما أورده حواري مسيحي (ولا نعلم يقينا اذا كان ما أورده هو وصف عيان أم انه ينسب ذلك الى أحد شهود الحادثة، أم انه ببساطة يختلق محض اختلاق). غير أن الزيتونة وظل الزيتونة الوارف يبقيان، بين الروايات المتعددة، العنصرين المؤكدين الوحيدين في هذه الحكاية الغريبة التي تدور حول معجزات سيمون،
شاءت المصادفة اذن أن يفد بطرس وأتباعه على نحو مباغت. ولعل رقدة صوفيا غير اللائقة هي التي أثارت حنق الوافدين حين بادر أحد اتباع بطرس وقد أشاح بوجهه عنها اجتنابا للمعصية، الى سؤال سيمون: أي الاحتمالين هو المستحب، أن تبذر الحقل على الأرض وتحصد في السماء، أم أن تذرو القمح أدراج الرياح – وهو سؤال لاهوتي لا يحتمل لبسا في الاجابة.
أسند سيمون جذعه المسترخي الى احد مرفقيه، دون أن ينهض، وأجابه بازدراء:
"كل أرض، هي أرض أينما بذل البزار. واختلاط الرجال والنساء هو القربان الحق".
– كل رجل وكل امرأة؟ سأل بطرس الذي استدار، لدهشته، على نحو مباغت.
– المرأة هي وعاء الغبطة، قال سيمون. وأنت، ككل رجل مخبل، تصم أذنيك لكيلا يصمها الكفر وتفض أو تلوذ بالفرار حين لا تجد ما تقوله".
تبع ذلك سجال لاهوتي مطول حول قضايا الله والعقاب والتوبة ومعنى الحياة والتخلي والروح والجسد، وكل هذا مصحوب ببراهين الأصول والشواهد بالعبرية والقبطية واللاتينية.
– الروح هي الألف والياء، خلص بطرس الى القول. والخير هو ما يجيزه الله.
– الاعمال ليست خيرة أو سيئة في حد ذاتها، قال سيمون. فالبشر هم الذين يضعون سنن الاخلاق وليس الله.
– إن الاحسان هو عتبة الابدية، قال بطرس. والمعجزات هي البرهان للذين لم تبرأ قلوبهم بعد من الشك.
– أيسع إلهكم أن يجعل عوضا للضير الذي يلحق بالعذارى؟ سأل سيمون ملتفتا الى رفيقته.
– له القدرة الروحية.. قال بطرس وقد أحرجه السؤال.
كانت ابتسامة غامضة لا تفارق ثغر صوفيا.
"عنيت: إله القدرة المادية؟؟ أردف سيمون قائلا.
– أجل. قال بطرس بعد تردد. انه من شفى المجذومين. ومن…
– ومن أحال الماء خمرا، الخ الخ… قاطعه سيمون قائلا.
– أجل قال بطرس، المعجزات حرفته… و…
– كنت أحسبه نجارا، قال سيمون.
– والاحسان أيضا،، قال بطرس.
في آخر الامر قال سيمون وقد أغضبه عناد بطرس وتعلله المتمادي بمعجزاته (هو):
"بامكاني اجتراع المعجزات مثل ناصريكم.
– أقوال ولا أفعال، قال بطرس بصوت مضطرب.
– لقد تعلم كل صفوف الاحابيل في موالا مصر، قال أحد اتباع بطرس، فاحذر ألاعبيه.
– وناصريكم أيضا – هذا الذي لا يحضرني اسمه الآن – قد يكون تعلم السحر في مصر،
– لقد تكررت معجزاته، قال بطرس.
– ادفنوني تحت ست أذرع من التراب، قال سيمون بعد هنيهات من التفكير، وسأبعث حيا بعد ثلاثة أيام على غرار…
– يسوع، قال بطرس، انت تعلم جيدا ما اسمه.
– أجل، تماما "مثله".
هرع أحد اتباعه الى قرية مجاورة وعاد برفقة رهط من الحفارين الذين كانوا يحفرون بئرا في الوادي، وكانوا يحملون على اكتافهم المعاول والمعازق والفؤوس. وخلفهم هرع سكان القرية جميعا، كل من يقوى، منهم، على الانتقال، لأن خبر مجيء الساحر المصري الذي سيجترع المعجزات قد سرى في الارجاء بسرعة البرق.
– على عمق ست أذرع"، قال سيمون مرددا.
– باشر الحفارون عملهم، وسرعان ما انكشفت الطبقة الرملية العليا عن طبقة أكثر صلابة من الحصى، تلتها طبقة من التراب الجاف الاصفر، كانت المعاول تفتت الطين الذي مازال يحفظ أثر الجذور. وكانت ديدان الأرض التي تنهال عليها النصال المسننة تقطيعا، تتلوى منكمشة تحت أشعة الشمس الحارقة.
كانت صوفيا واقفة بصمت الى جانب الحفرة التي يتعاظم عمقها، فيما راح سيمون – كسيد الناحية الذي يشرف على حفر بئر في أرضا او صب ركائز دارته الجديدة – يغدق بتعليماته على الحفارين ويقيس بخطواته الواسعة طول الحفرة وعرضها، مطمئنا الى عمقها المطلوب بوساطة حبله الكتان، ساحقا الرمل والتراب بين أصابعه.
وحين أعد التابوت – أربعة ألواح خشنة من خشب الارز العطر جمعت على عجل بواسطة مسامير من خشب – خلعت صوفيا وشاحها ولفته حول عنق سيمون.
"قاع الحفرة بارد مثل قاع بئر" قالت.
عندها ابتعد سيمون عنها وبانحناءة مباغتة رفع التابوت بين يديه ورجه بقوة كأنه يود الاطمئنان الى متانته، ثم قفز اليه بخفة واستلقى في داخله.
اقترب العمال واثر اشارة منه راحوا يدقون المسامير الغليظة بواسطة الفؤوس. همس بطرس في اذن احد اتباعه. فاقترب هذا الاخير وبعد التثبت من متانة المسامير هز برأسه موافقا.
رفع بطرس يده التي سرت رعدة فيها، فمرر العمال الحبال من تحت التابوت وأنزلوه بتأن في الحفرة. لبثت صوفيا وحدها على مقربة، ساكنة بلا حراك. راح التراب ينهال على غطاء التابوت بوقع يشبه قرع الطبل المتباعد. ولم تمض سوى هنيهات حتى علت كومة من التراب في مكان الحفرة بقرب الزيتونة المسنة، كأنها كثيب رمل.
اعتلى بطرس تلة التراب وباسطا يديه نحو السماء راح يتلو الصلوات بصوت خفيض. مغمض العينين، منحني الرأس، بدا كأنه رجل يصفي الى أصوات قصية. وخلال اليوم نفسه محت رياح آثار الاقدام العارية والخفاف على الرمل المتماوج.
بعد ذلك بثلاثة ايام، وكان يوم جمعة، نبشت الحفرة ورفع التابوت منها. كانت أعداد المتجمهرين تفوق اعداد الذين تجمهروا يوم الدفن، لان أخبار الساحر، المشعوذ، صانع المعجزات قد شاعت حتى بلغت أصقاعا بعيدة. وكان كل من صوفيا وبطرس واتباعه أقرب الى الحفرة من سواهم لأن التحكيم منوط بهم.
اجتاحتهم في البداية رائحة وخم فظيعة، رائحة تليق بجهنم. ثم لاحت لأعينهم تحت التراب، ألواح التابوت الداكنة كأن الصدأ يكسوها. نزع الحفارون المسامير ورفعوا الغطاء، بدا وجه سيمون الساحر كتلة بلا شكل حته الطاعون، وفي محجريه ديدان ناغلة. وحدها أسنانه الصفراء بقيت على حالها، وقد كز بعضها على البعض كما في تكشيرة أو كأن الميت يضحك.
غطت صوفيا عينيها وصرخت. ثم استدارت بغتة نحو بطرس وقالت بنبرة أرعدته:
"هذا أيضا برهان على صحة تعاليمه (هو) فحياة الانسان سقوط وجحيم، والعالم في عهدة الطغاة، اللعنة على شيخ الطغاة قاطبة، الله".
أفسح المحتشدون لها في الطريق وشقت الجمهرة الصامتة باتجاه الصحراء وهي تنتحب.
عاد جسدها الفاني الى ماخور ما، أما روحها فهاجرت نحو وهم جديد.
* هو سمعان الساحر (سيمون الساحر) الذي حاول شراء الروح القدس بمال، ومنه أتت لفظة سيمونية، في العصور الوسطى، أي المتاجرة بالمقدسات.
أما ذكره في "العهد الجديد".. (أعمال الرسل)فقد جاء حرفيا على نحو ما يلي:
"وكان قد جاء تلك المدينة (السامرية) رجل اسمه سمعان يمتهن السحر، ويدهش أهل السامرة، ويدعي انه رجل عظيم".
وكانوا جميعهم كبارا وصغارا، يتمسكون به، ويقولون: "هذا هو قدرة الله، التي تدعى عظيمة".
وكانوا يتمسكون به، لأنه كان من زمن طويل يدهشهم بأعماله السحرية..(…)
وصدق سمعان نفسه، واعتمد وصار ملازما لفيلبس، وكان يرى ما يجري من آيات وعجائب عظيمة فيدهش.
وسمع الرسل في أورشليم أن السامرة قبلت كلمة الله، فأرسلوا اليها بطرس ويوحنا.
وهبط هذان السامرة، وصليا لكي ينال أهلها روحا قدسا. فالروح لما يكن نزل على أحد منهم، وانما كانوا اعتمدوا فقط باسم الرب يسوع.
وأخذ بطرس ويوحنا يضعان الايدي عليهم، وكانوا يقبلون روحا قدسا.
ورأى سمعان أن الروح يمنح بوضع أيدي الرسولين فعرض عليهما مالا،
وقال: "أولياني أنا أيضا هذا السلطان فيقبل روحا قدسا من قد أضع عليه يدي".
قال له بطرس: "تبا لفضتك ولك ! فقد اعتقدت ان محبة الله تشري بمال !
فلاحظ ذلك في هذا الامر ولا نصيب، لأن قلبك، أمام الله، غير قويم.
فاقدم على ذنبك هذا، وأسأل الرب عساه يغفر لك ما راود قلبك، فاني أراك في مرارة العلقم، وقيد الاثم".
قال سمعان: "اسألا أنتما الرب لي، فلا يصيبني شيء مما قلتما!"(…)
(**) دانيلو كيش (DANILO KIS)
ولد دانيلو كيش عام 1935 في سوبوتيتشكا، عند الحدود المجرية قبل ان ينتقل الى بلجراد. أمضى طفولته في المجر ومونتينيجرو وعاش منذ العام 1980 وحتى وفاته 1990م في باريس.
ترجم الى الصربية – الكرواتية عددا من كبار الكتاب والشعراء الفرنسيين والروس والمجريين.
حاز عام 1980 على جائزة "النسر الذهبي الكبير" لمدينة "نيس" عن مجموع أعماله؟ كما حاز على جائزة "ايفواندريتش" عن "موسوعة الموتى".
ترجمت أعماله الى نحو خمس عشرة لغة. ونذكر منها: "حديقة، رماد" (1971و1983) "قبر لبوريس دافيدوفيتش" (1980) "ساعة الرمل" (1982)، "أحزان مبكرة" (مجموعة قصص 1984) و "موسوعة الموتى" (مجموعة قصص: 1985) ولأول مرة الى العربية.
نص: دانيلوكيش *
ترجمة: بسام حجار