أثرت الساحة العمانية مؤخرا بمجموعة من الاصدارات الابداعية تنوعت بين الشعر والرواية والقصة – ففي الشعر أصدر الشاعر سيف الرحبي مجموعته «معجم الجحيم» وفي الرواية أصدر مبارك العامري رواية "شارع الفراهيدي" أما المجموعات القصصية فصدرت كالتالي: "دملج الوهم" علي المعمري – "رائحة الفقراء" سالم الحميدي- «حبسر النورس» يونس الأخزمي. كذلك صدر في مجال النقد.. دراسة في نقد النقد.. لصالح الخنجري.
وتأتي رواية مبارك العامري.. شارع الفراهيدي إضافة جديدة الى اصداره السابق «مدارات العزلة».. صدرت الرواية والتي حملت بين غلافها (115) صفحة وزينت بلوحة للفنانة العمانية بشرى الهادي.. والاخراج لعلي حسون.
".. الى فراس.. عينان تضحكان من بعيد.. " بهذه الكلمات أهدى الكاتب روايته الى ابنه فراس.
(1)
يستهل مبارك العامري روايته بمدخل إعلاني أو إعلامي. لـ"جورج نراكل"، تبرز في ذهني المدينة الصغيرة هناك في عمق الوادي، بتسارعها الرئيسي العريض وبذلك الممر الطويل من أشجار الزيزفون الجميلة.. الخ " ومنذ الوهلة الأولى يدلنا الكاتب بان الرواية تدور في فضاءات المدينة. بكل ما تعنيه المدينة الحديثة من معنى شارع واسع مزين بالأشجار على جانبيه يعج بالحركة تجار، حرفيون، مقاهي، معارض، مكتبات عامة…الخ. وبهذه الرواية يستجيب مبارك العامري لمشروع بدأ مع عمله السابق، "مدارات العزلة" وتتضح معالمه في هذه الرواية التي استطاع ان يطوع الكاتب لها أدواتها الفنية ومشاهداتها يحشد لها الكثير من الأسماء والأماكن الرمزية
وبالتالي فهي مرآة تعكس ما يتمتع به الكاتب من ثقافة واسعة في مجالات شتى.. وبقدر ما تتعدد الرؤى في الرواية إلا أنها تنسحب الى التعبير عن هموم ومتاعب فئة اجتماعية معينة (فئة المثقفين). إنها تلامس هموم شخصيات مثقفة.. شخصيات واعية. تدور أحداث الرواية حول البطل المحوري "غيلان" الذي يمر بمراحل وتحولات حتى يصل الى تحقيق أفنيته التي طالما تمنى أن يحققها والتي تراوده منذ الصغر.. أن يصبح طبيبا نفسيا، وتلبس بهذه الامنية وتثبت بها وتحول تدريجيا الى مرحلة التحقيق للامنية ولو على المستوى الذاتي، فبدأ بالقراءة لفرويد وكادلر.. وبونج وغيرهم ثم تحول الى مرحلة التطبيق والتشخيص لبعض الحالات والأمراض النفسية.. «أضع تشخيصا وهميا لعينة اختارها عشوائيا من بين المدرة..» ص 11إلا أنه يصطدم برفض المجتمع له ولو بتشكله الضيق ويرفض التعامل معه "كانت ردود فعلهم تذهلني جميعهم يرفضون نتيجة التشخيص ويصرون على أنهم أسوياء وأنا المريض» ص 12، ثم يتحول رفض المجتمع له الى استسلام "غيلان" وخضوعه لضغوط العائلة وبدأ حلمه يتلاشى وتحول التخصص من الطب الى الهندسة ومثل انقطاعا مع (الحلم – الأفيه" عندما تفوق في الدراسة فكافأته العائلة بمكتبة لمزاولة الأعمال الهندسية.
وبمرور الزمن استطاع الكاتب أن يبعث هذه الأمنية مرة أخرى.. وذلك عندما أتت الفرصة وكانت ساعة الحسم والتحول.. والتي عاشها البطل في صراع داخلي مع ذاته الى أن حان وقت الانفجار.. تلك الفترة التي دخل فيها غيلان عالم اللاوعي ولبس بشخصية أخرى، تبين بأنها هي الشخصية التي يبحث عنها ويتوق اليها.. انقطع عالم الضغوط وتحرر من أشياء كثيرة وعندما أفاق وجد نفسه أمام لوحة تشكيلية رسمها حب حممه ورواسبه الداخلية في تلك اللوحة التي سترسم له مستقبلا آخر.
سيهرب منها في البداية. هذا الهروب الرمزي ليس إلا هروبا وانسلاخا من المجتمع الى مجتمع أكثر تحررا وانعتاقا، ستقوده قدمه الى مقهى «الفرنيكا» هذه اللوحة التي رسمها الفنان الايطالي "بوكامسا" بما تمثلها من دلالة الحرية والانعتاق من المجتمع، وهناك سيلتقي بشخصية "الدكتور سقراط" شخصية رمزية أخرى تمثل البعد الفلسفي، يسعد لسماعه خبر رسم اللوحة.
يسوق الكاتب شخصياته التي أراد لها أن تكون شخصيات مثقفة قلقة. ضبابية يسوقها الى انقطاع عن الواقع الذي تعيش وتتحرك داخله، ويختار لها حتفا مناسبا فهذا المجتمع يشتكي منه الحاج محمود ويستهجن الدكتور سقراط ثم موته العجائبي.. وهروب "جلنار" الى الدراسات العليا.. ثم نهاية "سناء شاكر" بالاستشهاد في عملية فدائية.
ولعل المشاحنة الكبيرة التي اصطدمت بسقراط ما هي إلا بعد رمزي لهذه الأمة المحملة بالماسي والاتراح والنكبات التي لم يستطع سقراط احتمالها فكانت النتيجة المواجهة المؤلمة.
كل هذه النكسات التي تواجه غيلان – كأن الكاتب سيصهرها مع مآسي الشخصيات الأخرى ويختصرها في شخصية " غيلان " الذي يفضل الانسحاب الى عالمه الخاص الى مكتبه الصغير «المحترف» في "شارع الفراهيدي" وينزوي هناك ليعود الى حنينه القديم "أقف كل يوم ناظرا من ثقب صغير في الباب، متأملا البشر السائرين على رصيف شارع الفراهيدي…" ص 115.
(2)
ان القاريء لـ«شارع الفراهيدي» يدرك بان الكاتب عادل ابعاده عن المكان الذي تدور فيه الأحداث ولكنه في الوقت نفسه يضحك أمام اشارات واضاءات تقربك من الفضاء الآخر "شارع الفراهيدي" سوق الظلام، سالم راشد المصوري، مساكن يقطنها عمال فقراء أتوا من الهند وباكستان وبنجلاديش..".
حشد كبير للأسماء وأماكن رمزية فمن العنوان "شارع الفراهيدي" وكما هو معلوم بأن الفراهيدي – الخليل بن أحمد – عالم نحوي عماني مؤسس علم العروض. كذلك فإن المتتبع للرواية يدرك بأنها تتحرك احداثها وشخوصها ضمن فضاء أوسع قد لا يتخيل اتساعه فكل الأسماء الشخصية "معن، هند، جلنار، سقراط، غيلان، حسيب، مقهى الفرنيكا، لوحة المرأة المأزومة.. الخ " فكل اسم يمثل وطنا وكل مكان يمثل عالما آخر.
ويمكن أن يقال بأنها رواية مسكونة بالهروب والانعتاق وانها رواية لا يفصح كاتبها عن مغزى المجتمع الذي يشتهيه ويتوق إليه..تحمل في طياتها الكثير من الأ سئلة، وعلامات الاستفهام.. التي قد تستغرق الاجابة عنها وقتا طويلا على حد ما قاله الدكتور سقراط لغيلان. "سوف يمضي وقت طويل حتى يظهر الجيل الذي تبشر به يا غيلان..".
بدر الشيدي (كاتب من سلطنة عمان)