طارق النعمان
إذا كان يمكن القول إن تيمة الفقد تشكل تيمة محورية في معظم نصوص الشعر العربي المعاصر؛ فلا شك في كونها تكتسب خصوصية لافتة ومتميزة في نصوص أحمد عبد المعطي حجازي. فيمكن القول إنها تشكل تيمة توليدية في معظم دواوينه وقصائده، بداية من ديوانه الأول ووصولاً إلى آخر ديوان له. ويتجلى هذا الحضور صريحًا في العديد من عتبات نصوصه، سواء في عناوين كل دواوينه، ما عدا أوراس، أو في عناوين العديد من قصائده أو حتى في نسيج قصائد أخرى عديدة لا تتضمن عناوينها دلالات الفقد.وتتجلى أيضًا تيمة الفقد في تشكيل حبكة وبناء الكثير من تلك القصائد، وهو ما يعني أن المجال الدلالي للفقد يمتد عبر نصوصه امتدادًا أفقيًا ورأسيًا؛ مما يجعل هذه التيمة تلعب دور ’’العنصر المهيمن‘‘، على حد مصطلح الشكلانيين الروس، أو ’’البنية العميقة‘‘، بمصطلح تشومسكي، أو’’البنية المُولِّدة‘‘، وفق مصطلح لوسيان جولدمان، أو لنقل، بعبارة أخرى، إنها تمثل المبدأ المُنظِّم الحاكم والجامع لمجمل نصوص حجازي الذي لا تفتأ تنطلق منه حتى تعود دومًا إليه؛ وكأنّ ثمّة قوى جبريّة خفيّة ولا إرادية تدفع تلك النصوص إليه.ويمتدّ الفقد في نصوص حجازي ليشمل فقد أمكنةٍ وبلدانٍ ومدنٍ وعوالمَ بأكملها، وفقد أحلام وآمال وأمنيات، وفقد أشخاص: أصدقاء، وأقارب، وزعماء، ونساء، وكُتَّاب، وشعراء، وفنانين، وفقد قيم ومُثل ومعانٍ، وفقد أزمنة خاصة وعامة، بل والخوف من فقد الذات ذاتها وتشظيها وتناثرها؛ فضلاً عما يفقده الجسد ذاته من ذاته، إضافة إلى أقسى أنواع الفقد قاطبة وهو فقد الأوهام، بكل ما ينطوي عليه فقدها من صدمة ورؤى مختلفة للذات وللآخر في ظل ما تنسجه الأوهام المطمئنة دومًا من أمان ويقين زائفين؛ مما يجعل تيمة الفقد تمثل نُسْغًا تحتيًا ساريًا ومُمتدًا في مجمل نصوص حجازي، تمتح منها وتُغذِّيها بشكل متواصل ومستمر، وكأنها هي تيمة الشعر، والشعرية، الأولى التي استقى، ولا يزال يستقي، منها الشعر كينونته وحضوره وحيويته. وكأنها تحمل دومًا في ثناياها دراميّتها ومأساويتها الخاصة، مثلما تحمل أيضًا غنائيتها النوعية الحافلة والمُتْرَعة بالمشاعر والأحاسيس النابضة والفياضة؛ إذ تتفتح دومًا على جُرح أو جراح غير قابلة للالتئام أو الاندمال والذبول وكأن الفقد في عالم حجازي حضور دائم، حضور لا يقبل الفقد قط ولا يقبل الغياب، وكأنه دم الشعر السائل الذي لا يكفّ قط عن النزيف والتدفق والسريان. ولعلّه يمكن القول أيضًا إن هذا الحضور الطاغي لتلك التيمة هو ما يمنح العديد من قصائد حجازي أبعادها الأتوبيوجرافية، أو السَّيْر ذاتية، ما دام أن السَّيْر ذاتية، كما يُنبئنا بول ديمان، هي صيغة عبر نوعية أكثر منها نوعًا منغلقًا على ذاته. ولا شكّ أن تكرار حضور هذه التيمة على هذا النحو اللاإرادي أو شبه القسري، لدى حجازي، يدلف بنا إلى ما يُطلِق عليه فرويد جبر التكرار، والذي يقترن تحديدًا بخبرة الفقد، وما يتولد عنها من صدمات وفجائع حادة وعنيفة، وهو ما يستحق بالتأكيد قراءات مطولة؛ تفصيلية وعميقة، تكشف عن كل ما يقترن بحضور وهيمنة هذه التيمة في نصوصه من ظواهر أسلوبية ودلالية مختلفة ومتعددة، كالسردية والمشهدية، والتكرار، والنفي وما يتردد من أصوات وأصداء قادمة من الماضي ومن عوالم تلك الكائنات والشخوص والمعاني والقيم الذاوية، وما يعتري نصوصه من نبرات متنوعة كالمفاجأة والدهشة والصدمة والذهول، والرفض والإنكار والاستنكار، والفشل والإخفاق والإحباط والخيبة، والألم والتفجع واللوعة والحُرقة، والندب والندم والأسى والأسف والمرارة والحسرة، والوحشة والغُربة، والبحث والاستفهام والتساؤل والمساءلة، والاغتراب والنوستالجيا،… إلخ بوصفها جميعًا من مفعولات وتجليات خبرة الفقد الغائرة في وجدان قصائد حجازي. وبداية؛ فإن تيمة الفقد تبدو على مُتّصلٍ مع تيمة أخرى محورية في نص حجازي، وهي تيمة السقوط. إذ كثيرًا ما يبدو الفقد في العديد من تلك النصوص وليد السقوط، على هذا النحو الذي توجزه وتكثفه صورة حصان أمين بك الطائر من فوق أسوار القلعة في قصيدة «مذبحة القلعة»، بكل ما تنطوي عليه لحظتا السقوط والفقد، والفقد والسقوط من درامية؛ إذ وإن اتّحد الفارس والفرس، في لحظة سقوط واحدة، إلا أن لحظة فقد الفرس، تبدو وكأنها تعني سقوطًا آخر للفارس من فوق فرسه أو مُضاعَفة للسقوط، أو على نحو ما يهوي ويتساقط فرسان الكلمة من الخيل على ذهب الطرقات، فيفقدون طبع الحكمة، أو على حد ما هو ماثل في مرثية لاعب سيرك من تلازم بين السقوط والفقد. كما يبدو السقوط في حالات أخرى وليد الفقد؛ على نحو ما يتجلى في تلك الصورة الختامية من قصيدة مذبحة القلعة التي يهبط فيها حصان من القلعة وحيدًا بعد أن فقد فارسه، حيث يفضي في الصورة الأولى السقوط إلى الفقد، بينما يفضي الفقد في الصورة الثانية إلى الوحدة والسقوط، إذ يهبط الحصان وحيدًا من القلعة، وهو يمضغ أحزانه. أو على نحو ما هو في قصيدة الرحلة ابتدأت، إذ مع فقد الزعيم «تتراجع الأشجارُ هاربةً، وتَشْخُص حولنا الأشياءُ ثم تميلُ ساقطةً، وتُمْعِنُ في الأفول»، أو كما يتكشف فقد الزعيم بعد ذلك عن أن غرناطة قد سقطت، وعن أن الزعيم ذاته سقط ولكن دون جرح «كما يسقط النجم دون احتراق!»، وأن «أهل المدينة غرقى يموتون تحت المجاعة»في قصيدة مرثية للعمر الجميل، حيث الغرق والمجاعة مجليان من مجالي السقوط الذي يحمله الشاعر في خطاه ودمه «حاملُ في دمي نكبتي، حامل خطأي وسقوطي هل ترى أتذكر صوتي القديم،فيبعثني الله من تحت هذا الرماد، أم أغيب كما غبتَ أنتَ، وتسقط غرناطة في المحيط!»، أو على نحو ما يفضي سقوط السيف من كف لوسياس في قصيدة «جيرنيكا أو الساعة الخامسة» إلى سقوطه على سجادة البهو قتيلاً وفقده. وهكذا تبدو كل تيمة من التيمتين قابلة أن تكون أحيانًا سببًا وأن تكون أحيانًا أخرى نتيجة أو أن تعيد كل منهما إنتاج الأخرى: السقوط يفضي إلى الفقد والفقد يفضي إلى المزيد من السقوط، وفقًا للكيفية التي يتم بها بناء القصيدة، ووفقًا للكيفية التي تنتظم بناءها وتشكيلها. كما يمكن القول أيضًا إن ثمة تيمة ثالثة تمثل الفضاء الذي تتجلى فيه كلتا التيمتين السابقتين، وهي تيمة المدينة، حيث المدينة هي الفضاء المُنتِج لكل من السقوط والفقد، أو، على حد تعبير لوسيان جولدمان، البنية المولدة التي تنبع وتتولد منها كلتا التيمتين، بما يجعلها التيمة الجامعة بين التيمتين. فالمدينة بنية مولدة للفقد والسقوط، والفقد بنية مولدة لشعرية النصوص.
إن هذا الثالوث متلازم في العديد من نصوص حجازي، إذ نجد المدينة فضاء للفقد الذي غالبًا ما يفضي إلى السقوط، مثلما نجد أنها أيضًا فضاء للسقوط الذي يمكن أن يفضي بدوره إلى الفقد، في دورة هي أشبه ما تكون بعملية إعادة إنتاج متبادل بين هذين الحدثين وبين المدينة التي مثلما تُساهم، بشكل متواصل في عملية إعادة إنتاج هذين الحدثين، يُساهم أيضًا تكرار وقوع هذين الحدثين في فضائها في إعادة إنتاجها على تلك الصورة الاغترابية السالبة التي غالبًا ما تتجلى بها في نصوص حجازي؛ بما هي ذلك الفضاء المتاهي، الهارب والمُراوِغ والمُولِّد والحاضن للألم والفجيعة والاغتراب والوحشة والضياع المادي والنفسي والروحي؛ وبما هي على الرغم من متاهيتها فضاء من الحديد والزجاج والحوائط، فضاء لا يفضي فيه الحائط إلا إلى سواه من الحوائط، على الرغم من اكتشافه المفاجئ والمُدهِش لحبه لها؛ مما يجعل هذا الثالوث يبدو وكأنه يمثل متلازمة تيمية وشعرية في مجمل نصوص حجازي الذي يبحث عن القرية في المدينة (القاهرة) ويبحث عن مدينة بعينها (القاهرة) في مدينة أخرى سواها (باريس)، على نحو ما هو في قصيدة أغنية للقاهرة، «زمن يلتقي منازله الأولى، فلا يُدرِكُ منها إلا طلولاً طلولا، أتراني بادلتُ حلمًا بحلم ووصلتُ اغتراب يومٍ بأمسِ؟» ليظل الفقد هو رفيقه في كلتا المدينتين.
ومع ذلك، فإن الفقد، لدى حجازي، لا يفضي قطّ إلى العدميّة أو اليأس، وإنما يفضي إلى محاولة مواجهة ومقاومة الفقد عبر أفعال التذكّر التي لا تكفّ ولا تتوانى عن الظهور والمعاودة، والاستضافة الدائمة لصور وأشباح المفقودين، ومن هنا سر كل هذا الكم من الرّثاء والمرثيات في نصوصه، التي تنحو بالرثاء منحى مغايرًا للمنحى المناسباتي التقليدي لشخوص بعض الموتى، ليصبح لديه تطويبًا لقيم ومعانٍ يُراد اغتيالها، ويُراد لها السقوط والغياب والفناء والفقد، وبهذا المعنى يمكن القول إن نصوص حجازي تنسخ الفقد وتقاوم الفقد من خلال اللعب على تيمة الفقد ذاتها.