عوض اللويهي*
ننطلق في هذه الورقة من سؤال مركزي وهو عن الكيفية التي عالج بها مبارك العامري موضوعة الغرق في مجموعته الشعرية «بسالة الغرقى» الصادرة عن دار الجيل ببيروت عام 2010م. فبالرغم من أن عنوان المجموعة قد يظنه القاريء المتعجل أنه يركن إلى الصورة المعتادة للغرق إلا أننا نجد المجموعة منشغلة باقتراح جملة من المعالجات التي جاءت متجاوزة للصورة النمطية للغرق، فالغرق في سياق اللغة العادية له معنى قار وراسخ، فمبارك العامري يريد منا عبر مجموعته أن ننظر إلى صور ومفاهيم ومقترحات جمالية يعيد من خلالها فهمنا وتصورنا عن الغرق.
يقدم نص «كل يوم» ص7، في بداية المجموعة صورة من صور الغرق الوظيفي، ففي هذا النص نجد أن الغرق ينقسم إلى ثلاث لحظات تكرس الاستلام التام لهذا النوع من الغرق، لكأن الروتين قد أمات الروح الحية والمتوقدة في الإنسان. اللحظة الأولى»صباح كل يوم/ يخرجون من جحورهم كالفئران/» تجسد انقطاع نوع آخر من الغرق لا تتطرق إليه القصيدة ولكنها تومئ إليه بذكاء، كما أن هذه اللحظة مؤشر على بداية غرق يومي جديد ، ثم وفي اللحظة التالية نجد هناك نوعًا ثانٍ من الغرق وإن كان غرقًا مؤقتًا، ولكنه كاشف عن حالة انعدام ردات الفعل الانفعالية تجاه المحيط، بالرغم من أن هذه اللحظة الانتقالية تنطوي على إشارة إلى الأجساد التي اختطفها الموت وبمعنى من المعاني غرقت في لجة الغياب، إلا أن الخارجين من جحورهم يصرون على استمراء كل لحظة من لحظات الغرق بالمرور على ذات الشارع الذي تسبب في غرق/غياب تلك الأجساد التي عاجلها الموت «يتدافعون داخل أحشاء حافلات/ تطوي بهم أميالاً من الإسفلت/ الملطخ ببقع داكنة/ خلفتها أجساد/ عاجلها الموت» ص7. اللحظة الثالثة من لحظات الغرق الوظيفي حين «ينسلون واحدًا واحدًا/ أو يزحفون أرتالًا/ إلى حجرات بؤسهم اليومي…..ص8»، فهذه اللحظة هي تنقسم بين التفتيش عن «زاوية الأبراج، بجرائد الصباح» وبين قضاء ما «تبقى من نهارهم تحت سياط المدير»، ونجد أن هذه اللحظة هي التي تمثل أعمق درجة منم درجات الغرق الوظيفي.
في نص موسيقى يختبر القارئ نوعًا آخر من الغرق أقل قسوة من الغرق الذي رأيناه في نص «كل يوم» ص 7-8، غرق أقرب إلى النعومة منه إلى القسوة، تلك القسوة التي تتجلى في صور أكثر فداحة على صعيد الواقع أو اللغة. فموسيقى موزارت التي تقتحم على الشاعر عزلته لتحمل إلى حالة من الغرق من نوع آخر، غرق يعكس توقعنا للجهة التي تذهب إليها الأجساد الغريقة، فالغرق هنا معكوس الاتجاه ومتحول إلى تصاعد، هنا الموسيقى تمتلك القدرة على عكس الاتجاهات والحالات» مطر ناعم يملأ الروح/ تتفجر الينابيع القديمة/ ألوانًا من ضياء/ أصّاعد في سماء أحبتي/أدخل غيمة نائية/ أسبح في سديمها/ أعانق نجمة….ص 9». وفي سياق مشابه نجد أن الشاعر في نص «ألوان ليندا» ص 98يعود إلى موضوعة الغرق عبر الموسيقى انطلقا من حاسة السمع وحتى حاسة الإبصار حيث التنقيب في براري الوحشة «في لحظة أثيرية زرقاء/ كانت أذنا ليندا الشفقيتان/ تستخلصان (فاجنر)/ من ضربات الموج/ بينما عيناها الخضروان كالنجيل/ تمسحان الأفق/ منقبتان/ في براري الوحشة البعيدة».
في نص «شغف أبيض» ص 31 نجد ذات الرغبة في الغرق الناعم الذي لا يرهق الروح بل يمنحها طاقة شعورية متدفقة، فالغرق في هذا النص يبدأ من لحظة الشغف بالبياص وحتى تخوم القبلة، تحتشد في هذا النص صور البياض متتالية واحدة إثر أخرى، لكن هذا التتالي يتخذ نمطا خاصا وفق خط نازل من الأعلى إلى الأسفل من السماوي إلى الأرضي، من المحسوس إلى الملموس، من البراني إلى الجواني، هذه المزاوجة والمراوحة بين الأنماط منحت الشاعر القدرة على تخليق مناخات شعرية تحاول مراوغة فهمنا للغرق في صورته السلبية وذلك بإبدال «الغرق» ب»الشغف». النص ينطلق من «شغوف بالبياض:» ثم تتوالى الصور «بانبجاس المطر من رحم الغيم،/ باليمام خارج السرب،/ بندف البرد ومكعبات السكر.» ثم يدخل النص إلى مستوى آخر من الشغف/ الغرق «شغوف بالتقاء البياض بالبياض،/ بصهيل الجسد ورنين الضحكة،/ بقوس اللهفة/ مشدودا في الفراغ،/ باحتقان اللحظة/ ثم انفلاتها كالسهم.» ثم يستأنف الشاعر الحركة الأخيرة في النص بتكرار الصفة المشبهة «شغوف» ولكن مع نمط آخر من العلاقات «شغوف بصفحة القلب البيضاء/ ونصاعة القول…/ وبارتعاشة الياسمين/ عند تخوم القبلة». ص 31. ويمكن هنا أن نشير إلى أن الشغف بالبياض قد يمسي نتيجة لفعل إغراقنا المتعمد للأحلام المطمورة كما نجد ذلك في خاتمة نص «ليل على نهار» ص 25-26. «لم أكن أدرك البتة،/ مثلما لم يدرك سواي،/ أن الكائن حين يختزل/ في رحلة الطين المريرة/ صور الأحلام المطمورة في بئر الذات/ يمسي أكثر شغفا بالبياض»ص 26.
الشوق واحد من الإبدالات التي استخدمها الشاعر أيضًا في طور معالجته للغرق، ولكنه غرق يعقبه اخضرار من نوع آخر كما نقرأ ذلك في نص «شوق يجلد الذاكرة» ص 133-134، حيث أن الشوق يزحف «كفيلق يجر خلفه/ أرتال رؤوس/ ضاجة بالذكريات/ تخدش بكارة النسيان/ بهمس جارح»، ويختم الشاعر معالجته للشوق الذي « .. ينسكب هادرا / كما سيل عرم/ وسط مضخة صغيرة/ اسمها القلب/ فيرعش الجسد/ ابتهاجا باخضرار/ جديد» فهذا السيل العرم لا يذهب إلى الإغراق المدمر بل إغراق لأجل انبعاث اخضرار جديد.
يلعب المكان نقطة مهمة في تقدير علاقة القرب والبعد عن الغرق كما نجد ذلك بارزا في في نص «مباهج الجبل الأخضر» ص18-19. «كنا ثلة أصدقاء/ نتقاسم الفرح والرغيف/ وننادم الليل بضحكات صافية/ وأرواح حضرا/ أغدقت علينا الطبيعة مسراتها/ ودثرتنا السماء بمائها الشفيف/ فحلقت بنا الأحلام إلى فضاءاتها البكر/ وانبرت الطفولة مستكينة في الأعماق/ تلهو وتشدو/ بشجن عابق بريء/ تراءت لنا القرى لوحات/مرفوعة على أكف من صخر/ الحقول فراديس مصانة بعرق الأجيال/ كنا نتوسد الغيم…» هذا الانثيال الحميم للحظات والتصاعد الروحي نجده مسكونا بهاجس الوعي بأن الغرق يكمن هناك في الأسفل، في المفارقة المكانية التي أن تتكشف عن عودة إلى الغرق القا «كنا نتوسل للوقت أن يزحف بطيئًا/ نهادن اللحظات كي لا تفلت من عقالها/ تعدو إلى حيث يأوي الجحيم/ يعوي البؤس كذئب في حظيرة».
ونجد أن البقاء في الأعالي لا يجعلنا في مأمن عن الغرق، بل إن الحذر هو ما يجعلنا حريصين ومحافظين على حياتنا مخافة السقوط من الأعلى إلى الأسفل حيث الغرق والفناء، فالراعي في نص «عينان ترنوان إلى القمة» ص 65-66 نجده «يسلك الدرب الذي تؤمه الذئاب/ في سفرها الليلي/ يتقافز فوق النتوءات/ يصعد الجبل وعيناه معلقتان/ على القمة../ كاد أن يهوي/ لكن الريح وازنته/ كان واثقًا أنه سيصل إلى حيث القطيع منقبا/ عن عشب طري» ص 65 فالصور السالفة هي صور يومية مألوفة ومعتادة ولكن الاستثناء قد يأتي على شكل كارثة «في يوم كارثي/ جرف السيل قطيعه/ فارتعدت أوصاله/ وخارت قواه/ لكن عينيه ظلتا ترنوان/ إلى القمة» فبرغم الخسارة التي وقعت على القطيع الذي جرفه السيل فأغرقه، إلا أن عيني الراعي بقيتا ترنوان إلى القمة حيث الجهة المقابلة للغرق والجهة الأكثر أمانا من الأسفل حيث السيل يجرف كل شيء أمامه وهو في طريق نحو الأسفل.
الغرق الأيديولوجي أو الإغراق الأيديولجي الذي تمارسه جماعات معينة أو تيارات أو نظريات فكرية تجاه المجتمع أو تجاه مجموعات بشرية، بغض النظر عن منبع الأيديولوجيا، هو ما اشتغلت عليه المجموعة شعريًا كما نجد ذلك في نصوص مثل: «ميثولوجيا»ص 55-56، «سدنة الرداءة» ص 67-68، «»New Realism ص 82-84. ففي نص ميثولوجيا نجد الشاعر يخاطب الميثولوجيا «أيتها المتلصصة/ من ثقوب الزمن/ ادخلي بيتك القديم/ واغلقي المزلاج جيدا/ حتى لا يتمطى سدنة الخرافة/ ظهرك المحدودب/ ويبثون في العروق/ دما متجلطا/ من رفات الموتى/ ثم ينكصون إلى حيث/ يقبع الظلام/ ملوحين للمدنية/ بسياط/ منقوعة في الصديد.» ص 56-57. ونجد أن سدنة الخرافة وفعلهم الإغراقي لا يقل فداحة عن «سدنة الرداءة» حيث يصفهم النص ب «هؤلاء الشرهون…/ الذين لا يتأففون عن النباح/ كجراء المزابل/ المراؤون/ الداخلون بوجه والخارجون بوجوه/ لعنة المجتمعات/ وصورة المهانات التي تنمو/ كالفطر/ هؤلاء المعتمون،/ المسكونون بالخرافات،/ سدنة الرداءة/ وحاملو ألوية الضمور والخسة» ص 67. وفي نص «New Realism» نجد أن الشاعر يختم نصه ب» ولكن الكارثة،/ الكارثة بحق،/ حين تستحيل النظرية/ حقلا دلاليا ممغنطا/ وتصبح الفكرة/ أداة دمار طيعة/ في يد مسخ مروع/ يسوس البشرية/ بعصا غليظة/ ومزاج سادي.» ص 84.