منذ بدايات عقد الثمانينيات صار خوسيه إيميليو باشيكو (مكسيكو، 1939- 2014) الوجه الرئيسي في المشهد الشعري المكسيكي، وخصوصا بالنسبة لجيله، الجيل الذي عرف بالخمسيني، فأعمال الشاعر الأدبية تشتمل على عدة أجناس لكنها أكثر غزارة في مجالات الشعر والسرد والنقد الأدبي، إلا أن للشعر مكانة خاصة وأساسية لدى الشاعر لأنه حسب رأيه: «ممارسة متعالية وتمرين روحي، طريقة ما للحوار ولتحيين تقاليدنا، لكن أيضا لإبراز آثار الجراح والرغبات والمخاوف وبسالة رجل يمشي ويقطع عاريا مدينته التي تتفحص سطح ذلك الجلد الحضري الذي يستهويه غاضبا وحزينا ومعلقا كل آماله»، فالشعر بشكل ما هو اقتراب من نوستالجيا الروح، وتأمل لسماء تمتد فينا من خلال الحياة وتفاصيلها الدقيقة التي تتجدد عبر أحاسيسنا، ونظرتنا، وفعلنا، وتلاشينا، إن أعمال باشيكو الشعرية تؤسس كما قال أوكتافيو باث: « لنظرة إلى الحياة حتى تخوم الموت»، ولعل العملين الأولين اللذين افتتح بهما خوسيه إيميليو باشيكو مساره الشعري وهما «عناصر الليل» 1963 و «خمود النار» 1966 عملان مدهشان من حيث عمق إنصاتهما للزمن ولأثره في الكائنات، ترسبات دقيقة في توازن خلاق بين التقاليد الشعرية الفرنسية للتيارين الرمزي والسوريالي، وبين المعاصرين له من الشعراء، وخصوصا منهم شعراء المكسيك الكبار أمثال أوكتافيو باث، علي شوماثيرو وروبين بونيفاث نونيو، قصائد ناضجة بشكل مبكر ومصاغة في تسلسل متناسق، تحفل بتأملات استعارية معقدة لكنها متماسكة البناء، إنها نصوص تفتح جرح التاريخ لترثي الإنسان والطبيعة، قصائد متألقة يهزم فيها الزمن مرة بعد أخرى قلب الإنسان الكدر وأعماله… أمكنة للرثاء وللبكاء والنحيب، تطفو عليها أجواء ليلية وحكمة أزلية. من هذين الديوانين تبرز عناصر المادة، الزمن والهدم، مأساة الوعي والجدل السخيف والمؤلم من خلف أقنعة التاريخ كثيمات مركزية في شعر ذي أبعاد إنسانية كونية سامية… «لا تسألني كيف ينصرم الزمن» 1969، كان امتحانا ذاتيا، انعطافة بـ 180 درجة، وضعت الشاعر وشعره كنتاج جانبي لعجز بالغ: يتمثل في التاريخ، وفي الإجابة على سؤال أساسي: ما هي اليوم مكانة الشعر؟ إن الإجابة على سؤال الشعر بالصراحة اللازمة وفي الآن ذاته تجديده عبر ذلك التخطيط يبدو السبيل الذي ستتخذه منذ ذلك الحين أعماله الشعرية… «لاتسألني كيف ينصرم الزمن» ديوان شعري يبدو أنه يتشكل من قصاصات وأقوال مأثورة، بعضها حادة النبرة بشكل يستعصي على النسيان، وهو يفتتح أيضا مرحلة شاسعة وحاسمة ستمتد إلى ديوان «ستمضي ولن تعود» (1973)، «جزر يسحبها التيار»(1976)، «منذ ذلك الحين» (1980)، لكي تختتم بـ: «بستان أطفال» وهو عبارة عن قصيدة مطولة يمكن اعتبارها تركيبا لانشغالات الشاعر، حكاية هاجسها ضياع البراءة وكل الأشياء التي لها دلالة مستديمة أمام تخريبات الزمن.
أما عنوان ديوان خوسيه إيميليو باشيكو التالي «ستمضي ولن تعود» فيحيل على مكان أو بلد الحكايات الطفولية التي يمضي إليها المرء ولا يرجع منها أبدا، هذا المكان يمكنه أن يكون أيضا هذه المرحلة الثانية من شعر باشيكو، وهو مكان يبدو أنه أحرق سفن العودة لكونه يمثل فردوس الصفاء. إن أمر إلقاء النكبة والاعتراف والخطة المضادة للصوت الشعري الخاص والمتفرد على الطاولة ليس مجرد ممارسة للأسلوب الشخصي، فبإيجاز التدوينات في قصائد هذه المرحلة وبصرامة الشهادة التي ضمن لذاعتها النقدية لا تتخلى قط عن اختبارها الأخلاقي للغة الأدبية وتأخذ على عاتقها أيضا التعرية التي تمنحها القوة بشكل يبدو ظاهريا متناقضا. إن الأسلوب الحواري لبعض الشعراء الأمريكيين، والشعرية المضادة لنيكانور بارا، وقلة الرعاية لإرنيستو كاردينال أو خايمي سابينيس تعتبر جد قريبة من هذه التجربة، من هذا الصوت الشعري لباشيكو النهائي والمختلف، والذي يتميز ربما عن غيره بالشفافية التواصلية والتعمق في تأمل اليومي، والذي يجعل كل الأوردة الأدبية التي تغذيه تنصب في تيار واحد له أحيانا حمولة سردية وأحيانا استعارية وأحيانا أخرى حكمية، لغة في أقصى درجات الانتقاء والعناية ومع ذلك تحدث الانطباع بأنها لغة بسيطة. أما الثابت الآخر الذي نعثر عليه لدى هذا الشاعر، ومنذ أعماله الأولى فيتمثل في تحويله القصيدة إلى أداة للتأمل القبلي والدائم والمجهول، التشريع الملارمي لإعطاء كلمات القبيلة معنى أسمى، وفي هذا السياق يبدع جنسا أدبيا يطلق عليه: المقاربات، والتي تنطلق من الترجمة لقصائد أخرى لكنها تسعى إلى أكثر من ذلك، تسعى إلى إعادة اللقاء بها وإعادة كتابتها في زمن ومكان آخرين، تماثل خوسيه إيميليو باشيكو مع هذه النصوص سيدفعه إلى إعادة خلقها ووضعها إلى جانب نصوصه في كل ديوان من دواوينه، وذلك على طريقة معلمه خايمي غارسيا تيريس،إذ أن كليهما يقترح جسرا من المرايا التي فيها يمكن أن تكون قصائده أيضا أسئلة لشعر شعراء أخرين، وترجماته لشعراء آخرين أيضا قصائد شخصية جديدة له. قصائد تعاود الظهور وقد تم تلفظها ثانية من شاعر إلى آخر ومن لغة إلى أخرى. لقد شكلت سنوات الثمانينيات والتسعينيات فترة ترسيخ صورة خوسيه إيميليو باشيكو كوجه ثقافي بارز في المشهد الشعري المكسيكي والعالمي، لقد نشر ديوانه المعنون بـ: «المعارك في الفلاة»، عمله السردي الأساسي، وخلال هذه السنوات كتب أهم يومياته الصحفية، وخلالها أيضا سيتم تنصيبه عضوا في المجمع الوطني، وستنشر أعماله الشعرية غير الكاملة تحت عنوانه «عاجلا أم آجلا» (1980 و 2000)، وفي الآن نفسه بدأ خلال هذه الفترة مرحلة شعرية ثالثة في مساره الطويل مفتتحا لها ب: «أشغال البحر» (1982)، خلال هذه المرحلة التي تمتد حتى حدود إصداره لديوان: «الرمل الشارد» (1999) و الذي يشتمل على ثلاثة كتب هي: «أنظر إلى الأرض» (1986) «مدينة الذاكرة» (1989) و«صمت القمر» (1996) ويتحدد الموضوع الأساس لهذه الأعمال في أذى التاريخ وأضراره، والذي يعتبر المصدر المهيمن على انشغالات الشاعر، فالتاريخ بالنسبة لإيمليو باشيكو هو شغف مضجر لكنه لا يمكن التنازل عنه، يتوالى ملفوفا في نعوت الإدانة، هكذا تدنو الأخبار من الشعر ويتزامن الشعر مع الموضوع التاريخي، ففكرة الزمن باعتباره تدميرا أو تفكيكا تترك مكانها لفكرة الزمن باعتباره مسرحا لا محيد عنه للتمثيلات والاستعارات التي تتكرر وتتضاعف بشكل يبلغ نقطة غريبة على نحو مضحك. إعلان المبادئ كان قد تم من عشر سنوات من قبل على الأقل في قصيدة شهيرة عنوانها «لمن يهمه الأمر» يقول فيها:
« فليصنع بعد الآخرون
القصيدة الكبرى
الكتب التوحيدية
الأعمال
الحاسمة التي لا تكون مرآة
للتناسق
فأنا فقط تهمني
الشهادة
على اللحظة التي تمضي
والكلمات
التي يميلها في انسيابه
الزَّمنُ المُحلقُ
الشعر الذي أبحث عنه
مثل يوميات
حيث ليس ثمة مشروع و لا مقاييس.»
هذا النوع من بيت الإبرة حيث يتم حفظ البوصلة البحرية هو ما سيتحول إليه شعر خوسيه إيميليو باشيكو شيئا فشيئا، ومع ذلك فهي تنتقل من التأملي إلى الوعظي، ومن الوعظي إلى التهذيبي، في انزلاق غير خطي لكنه تراكمي ينتج وبتواتر الأثر المضاد الذي كان يتوخاه في البداية لما طرح القصيدة باعتبارها يوميات لما يطوق، يلجأ كاختيار إلى سجل من الأشياء والشخصيات والذرائع التي يتحين معها، جنس الحكاية بأدوات بلاغية تخفي الحقيقة، ولهذا السبب، لربما يعتبر خوسيه إيميليو باشيكو مؤلف حكايات أمثال في الجوهر، فالحيوانات والأشياء عنده تعمل باعتبارها أمثالا للتأمل، يجب على القارئ المتفاعل معها أن يصل فيها إلى استنتاج سلوكي أو إلى مغزى. فقضايا المحيط اليومي أو التاريخ البعيد ما هي إلا قاعدة للتأمل المطرد، والأكثر ترددا الحكم لا الشك، والاستنتاج الدرامي لا العرض الوصفي البسيط، وهذا التصور المتوقع والمثبت بالمبدإ الأخلاقي لهذه المرحلة الأخيرة في أعماله الشعرية هو ما يفصله عن شعراء آخرين معاصرين له، لهم قصائد شعرية مشابهة مثل الكوبي هيبيرطو باديا والفنزويلي أوخينيو مونطيخو والكولومبي خوان غوستافو كوبو بوردا، الذين يبرز في أعمالهم الشعرية بشكل واضح أيضا الطابع السردي والملمح الوصفي، ولغة أنيقة تبدو ظاهريا مباشرة، وغواية استيعاب التاريخ واستعارته كموضوع شعري بأي شكل من الأشكال. إن الملمح المميز لكتابة خوسيه إيميليو باشيكو يحضر بقوة في قصائد «صمت القمر» التي لا تسقط في فخ الإفراط في إصدارالأحكام، مثلما في: «الملك داود»، و«احتفاء بالفرقة المسرحية الإسبانية لإنريكي رامبال»، و»الأب و الابن»، و»شموع»، و»طائر الفينق» والمجموعة الاستعارية الطويلة للمرحلة الأخيرة، «السيرك ليلا».
إن توظيف الأقنعة أو شخصيات تتناول الكلمة لإصدار أحكام تُبَثُّ في ثباتٍ ورسوخٍ في المجتمع الإنساني، حكاية أو استعارة يسمع خلفها دوما الصوت الأخلاقي، تلك هي الوسيلة التي يوظفها، وخصوصا في الجزء الأول والأخير من الكتاب، فالأشياء و الحيوانات أو الشخصيات لا تتحدث في الواقع قط من تلقاء ذاتها، لا تملك رؤية أخرى مثلما هو جدير بها وفقا لطبيعتها المتفردة، بل تستعمل كذرائع لأجل تأملات وتفكير المؤلف. التحدث من وجهة نظر الآخر مستحيل، وعليه فإن توظيف هذه الوسيلة يستشف منه أن القصائد تتحدث بطريقة أو بأخرى عن انشغالات وهموم شخص واحد لا أقل ولا أكثر، وبالرغم من ذلك فقد يطفو لدى بعض الكتاب رجحان مهيمن للقناع وحينئذ يتحول الصوت إلى أصوات، خطابات حقيقية تأخذ فيها شخصيات أخرى الكلمة، وتتحدث انطلاقا من غَيْرِيَّتِها ( الأنا باعتبارها آخر)، واضعة على رقعة اللعب بعضا من الغنى الأدبي، بينما في الحكاية، وعلى العكس من ذلك، ثمة قراءة واحدة للواقع من جانب شخصيات مختلفة، ما دام ليس في نيتها أن تفتح أطياف الاحتمالات التأويلية، بل هي تعطى المثال العملي للسلوك، ولذلك هنالك دوما أحكام قيمة أو مغزى، فالشخصيات هي مجرد وسائل أسلوبية لكي تتلفظ تلك الرؤية ببرنامجها.
وعموما فقصائد هذه المرحلة الشعرية الأخيرة تنزع إلى أن تكون حكايات ودلائل مرة وأخرى على بعض الأفكار الثابتة حول العالم والتاريخ. إن التزام المبادئ وقد تم في زمن سالف كان قد جعل النصوص تتخلى عن البحث عن المرآة الحاسمة للتناغم مقابل الشهادة، واستعاضت عنه بمنتوج هجين لا يمتلك من الشدة غير الصرامة، ومن الشهادة غير التصوير الحكائي المتخيل، ويبدو من اللازم هنا التذكير بأن الكلمة المهجنة تعني المزج بين طبائع مختلفة، وهي تعود في الأصل إلى اصطلاح يحيل على معنى: الإفراط السيء.
إن عملية الضبط الملائمة والصارمة التي يخضع لها خوسيه إيميليو باشيكو قصائده المكتوبة منذ مرحلة الشباب تمضي كسيرورة متواصلة مع مضي الطبعات. قِطَعٌ كلاسيكية بشكل ما من الشعر المكسيكي للقرن العشرين يتم إخضاعها لعملية افتحاص ومراجعة تشذبها وتصقلها بل وفي حالات ما قد يتم إخضاعها إلى تحولات جذرية في مدى أقصى. ولكي نمثل على ذلك نأخذ مقطعا شهيرا من قصيدة: من زمن ما وحتى هذه المرحلة، والتي تعتبر جزءا من ديوان «عناصر الليل» (1963)، في صيغة أولى لهذه القصيدة أو من الصيغ الأولى لها يقول الشاعر:
« 3
في اليوم الأخير لهذا العالم، حينما لا يغدو ثمة جحيم، زمن ولا غد ستقول اسمها غير ملوث بالرماد، وبالاعتذارات وبالخوف. اسمها متعال وخالص جدا، مثل تلك اللحظة المحطمة التي حملتها إلى جانبك.» وفي طبعة 1980 «عاجلا أو آجلا»، أي الطبعة الأولى من مجموع الأعمال الشعرية تم اختزال المقطع إلى النصف، وتحولت الأرقام الرومانية إلى أرقام عربية:
« 3
في اليوم الأخير للعالم ستقول اسمها المتعالي والخالص جدا مثل تلك اللحظة التي حملتها إلى جانبك» وفي طبعة 1983 لديوان «عناصر الليل» في منشورات إيرا، لم يعد الاسم «متعال وخالص جدا» بل «بسيطا ومكتملا».
« 3
في اليوم الأخير للعالم ستقول اسمها بسيطا ومكتملا مثل تلك اللحظة التي حملتها إلى جانبك.»
وفي أحدث صيغة للأعمال الشعرية التي تهمنا هنا. وهي «عاجلا أو آجلا» (2000)، تتحول القصيدة إلى ما يشبه القول المأثور، أو الحكمة البسيطة يقول:
«3
في اليوم الأخير للعالم ستقول اسمها» مثلما يمكننا أن نلاحظ فهذه القصيدة لم تخضع لمجرد تصحيح، بل تمت إعادة كتابتها، والمسافة التي تفصل بين صيغتها الأولى، وأحدث صيغها هي أشبه بما ينتجه شاعران مختلفان أمام ثيمة واحدة. هذا التحول الجذري المتنامي يكشف عن حوار، ولربما حتى عن صراع بين الشاعر الشاب والشاعر مكتمل النضج. ثمة ترسيمتان مختلفتان بصدد ما يبدو فعالا كتعبير جمالي، وأيضا مفهومان للشعر.
التناقض بين الإسراف في العبارة أو الحشو والتركيز أو الإيجاز في العناصر، من خلال الصيغ المتلاحقة لهذه القصيدة هي بالتحديد ما يمكن للقارئ أن يلاحظه، لما يقارن بين الدواوين الشعرية الأولى والدواوين المتأخرة للشاعر خوسيه إيميليو باشيكو في مجموع أعماله الشعرية الموسومة بـ: «عاجلا أو آجلا».
وفي هذه العملية المستمرة لإعادة القراءة والتصحيح والتشذيب يبدو أن هنالك موجهات جمالية، أو بالأحرى ذات المنحى الأخلاقي. إن قصائد خوسيه إيميليو باشيكو في صيغها الأولى ليست قصائد مغلقة: ليس هنالك وفاء للأصل، ويبدو أن المؤلف يقترح علينا أو ربما على الطقوس التي لم تكتمل ولم تبلغ الأوج، بعد نمطا من القراءة والكتابة أو إعادة القراءة وإعادة الكتابة، فهذه القصائد ليس لها شكل نهائي لأنها نتاج للزمن وفي الزمن، لا يمكن تصورها باعتبارها نهاية، بل كصيرورة مستمرة، وبهذه الممارسة ربما يؤكد باشيكو قناعة أعلنها تقريبا منذ بدايات اشتغاله بالآداب وهي اعتباره الممارسة الشعرية محكومة بشرط الشهادة والاستشهادِ ولا وجود أي مشروع أو ترتيب قبلي نهائي في عملية الكتابة. وبالرغم من ذلك لا نستطيع أن نقفز على إشكالية الشهادة والاستشهاد للقصيدة فهي نسبية في هذه الحالة. إن الشعر المكسيكي يقدم قطبين في هذا الباب هما خوسيه غوروستيثا وخايمي سابينيس، الأول يمكن اعتباره مثالا للشاعر الصارم الذي يتصور العمل الشعري شكلا خالصا يمكن بلوغه، لا يمتلك آتيا لا يكون هو صيرورة إبداعه ذاتها، والثاني مثال لشاعر الشهادة والاستشهاد بامتياز، ذلك الذي يرى في الكتابة فقط سجلا للحظة الحاضرة. واحد صحح على امتداد حياته قصيدة كبرى واحدة، والآخر لم يصحح قط ولا قصيدة من قصائده المنشورة، و خوسيه إيميليو باشيكو سيجد نفسه في منتصف الطريق بينهما، فهو يشتغل وفق قناعة مفادها أن قصائده هي مجرد شهادة للحاضر لكنها شهادة محكومة بصرامة الفنان الذي يصحح مدى الحياة عمله الإبداعي.
في رأيي أن التشذيب والتدقيق اللذين أخضع لهما الشاعر أعماله وجربهما في كتاباته الشعرية لهما معنى عميق ومفيد، وإن كان بعض القراء يجدون في بعض أشعاره المفضلة لديهم في صيغتها الجديدة بعض الارتباك والتشويش والتعطيل للمعنى بينما يكون الأمر خلاف ذلك بالنسبة للقارئ الذي يقرأ هذه الأعمال للمرة الأولى، فهو يصادف فيها دهشة الاكتشاف لشاعر أقرب إلى الوضوح والشفافية والدقة وسداد الرأي. يجب إبراز ملمح آخر في مجموع الأعمال الشعرية لخوسيه إيميليو باشيلو وهو أنها تقدم لنا دائرة مكتملة على ما يبدو، ولاستكشاف هذا الملمح يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذا المؤلف يجمع بين وسائل تعبيرية مختلفة يستثمرها جميعا في عمله الشعري، فهو يجمع السردي مع الصحفي، والأسطورة مع الحكاية والمجاز باعتبارهما استراتيجية أدبية ثابتة في شعره، لكنه في هذا المستوى الأخير نجدها مركزة في خلايا دقيقة ومتشابكة تحت تصنيفات وأشكال مختلفة قابلة للتعرف من خلال التقاليد الشعرية (السونيتات والثمانيات والهايكو وقصائد النثر….إلخ) ومع ذلك، لا يمكننا أن نغفل عن الأصول السردية للأعمال الشعرية لباشيكو و على الأخص منذ كتابه: «لا تسألني كيف ينصرم الزمن» (1969)، والمجموع العام أوالجزء الأكبر من الأعمال الشعرية لباشيكو في فصوله الإثني عشر والتي تقدم لنا تحت عنوان: «عاجلا أو آجلا» (2000) ترتبط بتطور مفهوم الشعر ذاته على امتداد حياة بكاملها. فإذا كان فيرناندو بيسوا قد حدد لنا مفهوم الأنداد باعتبارهم مأساة إنسانية، فيمكننا القول أن باشيكو يقدم لنا في جماع كتبه الشعرية مأساة الأجناس. هكذا يناقش السرد الدراسة، واليوميات تتحالف مع الحكاية، و الكل يتحدث ويقنع الشعر، وهكذا فكل ما يُعالَجُ عبر تلك الصفحات الشعرية المشرقة هو في نهاية المطاف تساؤل كبير واستقصاء عن الذات الشاعرة ومشاغلها في الزمن الراهن، وأيضا عن الماضي والحاضر لهذا الجنس الأدبي، قليلة هي الأعمال الشعرية التي تمتلك مثل هذا الشسوع وهذا العمق وهذا التنغيم في اقتحام الممارسة الشعرية. فمنذ كلاسيكية مراثي «عناصر الليل» و«خمود النار»، والاشتغال الشكلي الأنيق فيها، وحتى التصوير الممسرح للاستعارات في دواوين: «أعمال البحر» و«أنظر إلى الأرض» و»مدينة الذاكرة» و«صمت القمر» و«الرمل التائه»، أو حميمية التوبيخ في قرن ماض و مرورا باللحظة الكبرى لاختبار الأدوات الشعرية وإعادة صياغتها و التي تنفتح مع «لا تسألني كيف ينصرم الزمن» وتمتد مع دواوين: «ستمضي ولن تعود». و«جزر تنساق مع التيار»، و»منذ ذلك الحين» و«بستان الأطفال»، هذا المسار المعقد يمكن أن يتم اجتيازه مثل مأساة، مأساة مشفرة تناقش فيها ولاءات وخيانات وتجانسات ومسافات وحماسات وخيبات أمل، في النهاية، مختلف اللحظات المتوهجة لحب طويل، قد يكون في هذا الحال حبا طويلا للشعر، لكنه في الختام حب صعب المنال. فالمتلقى الذي يتأمل العالم بعيون شعر باشيكو يقرأ جماعا من الاستعارات التي ترسم الشغف الأساسي للذات بالشرط الإنساني الدائري في مساره المأساوي في عمقه، وهو الذي يبدو أنه لا يمتلك خلاصا أو أي تجاوز محتمل، ولذلك فلا مناص من صياغة الشهادة وترسيخها عبر خطوط حاسمة تحتويها … كل قصيدة لباشيكو تحاول أن تضع مثل هذه الخطوط، فيها تجد صوتا دقيقا ومعتما. إن عناصر الانشغال والتأمل تختزل الأجزاء والقطع المكونة لدواوين الشاعر الأخيرة التي يمكن أن تقرأ أيضا ككنايات ورموز ذات مغزى لذهنية دقيقة تجيد الاستقصاء.
«ماذا كنت سأتصورني لو دخلت في تلك اللحظة
ووجدتني حيث أنا، مثلما أنا ذاك الذي كنته في سن العشرين؟ّ»
سؤال في ديوان «قرن ماض»، الذي يغلق به الشاعر جماع أعماله المعنونة بـ: «عاجلا أم آجلا»، اختزال أو توديع من عمل شعري خلاق من أهم الأعمال وأعمقها في الآداب المكسيكية، القصائد الأخيرة تثير القارئ لعمق تأملها الاستبطاني دونما تصنع أو تكلف، ولحدة نبرتها الهادئة المطمئنة، قطع موجزة، تختزل الحكمة في عبارة قصيرة تبدو مثل أغان يدحرجها الزمن والوعي، إن صوت خوسيه إيميليو باشيكو الذي رحل عنا باتجاه الآتي والأبدي عرف كيف يلج كل المدونات، ومنح لنفسه فرادته الصافية صفاء الماء، و قرأ لنا بعين الشاعر القلقة لحظات حاسمة من التاريخ مجمعا للزمن بتفاصيله المرة، وللقصيدة بشغفها المستحيل في ألفة وتجلٍّ لا يجمعهما إلا شاعر مبدع وعميق يعرف معنى التواضع و معنى الاستحالة:
« قد أخفقت، تلك خطيئتي، أعترف بذلك لكن بشكل ما عذرا أو غفرانا:
هذا يحدث لي لأني أحاول المستحيل».
قصائد للشاعر المكسيكي
خوسيه إيميليو باشيكو
اللبلاب
خَضْرَاءَ أوْ زَرْقاءَ، تَنْمُو فَاكِهَةُ الْجِدَارِ.
تَفْصِلُ السَّمَاءَ وَالأرْضَ. وَمَعَ الأعْوَامِ
تَصِيرُ أشَدَّ صَلابَةً وأشَدَّ اخْضِرَاراً.
عَادَةُ الحَجَرِ، جَسَدٌ شَرِهٌ
مِنْ أطْرَافٍ مُتَشَابِكَةٍ تَتَلامَسُ.
تَحْمِلُ النّسْغَ نَفْسَهُ، هِيَ النَّبْتَةُ نَفْسُهَا
وَهِيَ غَابَةٌ أيْضاً. هِيَ الأعْوَامُ
الَّتِي تَنْعَقِدُ وَتَنْفَكُّ. هِيَ الأيَّامُ
بِلَوْنِ الحَرِيقِ. هِيَ الرِّيحُ
الَّتِي تَخْتَرِقُ النُّورَ وَتَجِدُ الظِّلَّ
الذِي يَعْلُو اللبْلابَ كَامِلا لمْ يُمَسَّ.
حُضُورٌ
احتفاء بروساريو كاسطيانوس
مَاذَا سَيَبْقَى مِنِّي حِينِمَا أمُوتُ
سِوَى هَذا المِفْتَاحِ السَّالِمِ مِنَ الاِحْتِضَارِ،
وَهَذِهِ الكَلِمَاتِ المُقْتَضَبَةِ التِي سَقَى بِهَا النَّهَارُ
رَمَاداً فِي الظُّلْمَةِ الشَّرِسَة؟
مَاذَا سَيَبْقَى مِنِّي حِينَمَا يَجْرَحُنِي
ذَلِكَ الخِنْجَرُ الأخِيرُ؟ لرُبَّمَا سَتَكُونُ
الليْلةُ الجَنَائِزِيَّة الفَارِغَةُ لَيْلتِي.
ولنْ يَعُودَ الرَّبِيعُ إلى أنْوَارِهِ.
لنْ يَبْقَى شُغْلٌ ولا حُزْنٌ
الإيمَانُ ولا العِشْقُ. الزَّمَنُ المَفْتُوحُ
المُمَاثِلُ لِلْبِحارِ وَالفَلوَاتِ.
يَجِبُ أنْ يَمْحُوَ عَنِ الرَّمْلِ المُلْتَبِسِ
كُلَّ شَيْءٍ حِينَمَا يُخَلِّصُنِي أو يُكَبِّلُنِي بالسَّلاسِلِ
وإنْ كَانَ ثمَّة أحَدٌ حَيّاً فسَوْفَ أكُونُ أنا مُسْتَيْقِظاً.
نَقْشٌ
مَرَّةً اسْتفاقتِ المُوسِيقَى بَغْتَةً
فِي مُنْتَصَفِ الليْلِ. كَانَتْ تُدَوِّي
قَبْلَ أنْ يَعْرِفَ العَالمُ أنَّ المُوسِيقَى
عَويلُ سَاعَةٍ بِلا عَوْدَةٍ، وَعَوِيلُ الكَائِنَاتِ
التِي تُفْنِي اللَّحْظَةَ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ.
خمود النار (1963- 1964)
إلى باتريسيا يوصا
وماريو بارغاس يوصا
إلى ذكرى لويس ثيرنودا
لا تَحِنَّ إلى اللَّيْلةِ
التِي تَقْتَلَعُ فِيهَا الشُّعُوبُ مِنْ أوْطَانِهَا) أيوب 36 20
1
لا شَيْءَ يُغَيِّرُ الكَارِثَة: تَمْلأُ العَالمَ
كآبَةُ الدَّمِ الغَزِيرَةُ.
بِجَلبَةٍ مُكْفَهِرَّةٍ
يَهْبِطُ الهَوَاءُ
نَحْوَ النَّارِ الأشَدِّ تَحَجُّراً
ويَتَلاشَى.
وَمِثْلَ الأوْرَاقِ فِي الرِّيحِ، جِدِّ حَزِينَةٍ، وَتَتَأَمَّلُ
النَّارُ العَطَشَ الحَارِقَ لِلزَّمَنِ،
عَشِيَّتُهُ مِنْ خَرَابٍ، الصُّوَرُ الجَانِبِيَّةُ
لِمُدُنٍ تَخْفِقُ شَاحِبَةً.
شِبْهُ الجَزِيرَةِ الزَّرْقَاءُ تَقْتَحِمُ الليْلَ،
تُمَزِّقُ الضَّبَابَ، تُنَادِي مُتَشَامِخَةً
أوْ ثَابِتَةً وَالآنَ سَاكِنَةً
وَمِثْلَ المَيِّتَةِ.
2
أكْسِرُ اليَوْمَ هَذَا الألمَ الذِي يَنْتَصِبُ فِيهِ
الوَاقِعُ الجَارِحُ وَالخَالِصُ،
أنا أشُقُّ شَظِيَّتَكِ الرَّاسِخَة،
أيَّتُهَا الوَدَاعَة.
أحَاصِرُ مَا يُطَوِّقُنِي، البُقَعَ
اللَّزِجَةَ لِلْهَوَاءِ السَّامِّ وَلَطْخَةَ الطِّينِ
المَوْصُولة بلا جَسَدٍ مِثْلَ الزَّيْتِ
لِلَّيْلةِ البَهِيمِيَّةِ التِي تَنْطلِقُ مِنْ عِقالِهَا.
أُحْرِقُ مَذَلَّتَكِ المُضِيئَةَ، إبْرَتَكِ
المُتَضَامِنَةَ مَعَ الدُّوارِ ، وَالتِي تُعَادِلُ
خُطُوطاً مُبْهَمَةً لِصِلٍّ فِي التُّرَابِ.
قَدِ انْقَضَى الزَّمَنُ سَيْراً، وَالأمْرُ جِدُّ حَزِين.
3
لا شَيْءَ يَحْتَمِلُ دُونَ أنْ يَنْفَلِقَ
عَاصِفَةَ القَرْنِ، الشَّرَاهَة
الحَادَّةَ التِي تَنْشُرُ الفَسَادَ.
تَغْرَقُ السَّمَاءُ وَتَتَضَاعَفُ العَاصِفَة.
حَيْثُما تَشْتَعِلُ البُرُوقُ،
تُدْمِلُ جُرْحَ الهَوَاءِ وَتَهْوِي
فِي الأفْوَاهِ اللانِهَائِيَّةِّ لِلضَّبَابِ.
4
أنْظُرُ دُونَ أنْ أسْتَوْعِبَ، أبْحَثُ عَنْ مَعْنَى
هَذِهِ الوَقائِعِ القَاسِيَّةِ. بَغْتَةً
أسْمَعُ خَفقانَ عُمْقِ الفَضَاءِ،
الأبَدَيَّة وَهِيَ تتلاشَى.
وَأتأمَّلُ
الجَسَارَةَ السَّعِيدَة التِي يُغْرِقُ بِهَا
المَطَرُ هَذِهِ الدَّقِيقَةَ ويُهَيِّجُ
نَهْشَتَهُ المُتَعَدِّدَةَ ضِدَّ الهَوَاءِ.
5
طَوَافُ البُخَارِ اللاَّ يُسْتَنْشَقُ
يَحْتَلُّ الزُّجَاجَ حِينَ يَهْوِي،
وَلِكَيْ يُشْعِلَ المَطَرُ اللاَّزَمَنِيُّ
الحَقْلَ فِي البَذْرَةِ يُشَكِّلُ مِنَ الهَوَاءِ
المَاءَ الذِي يَنْبَعِثُ مِنْ ذَاتِهِ.
6
مَنْ إلى جَانِبِي يُنَادِي؟ مَنْ يَهْمِسُ
أوْ يَئِنُّ فِي الجِدَارِ؟
لوْ أسْتَطِيعُ أنْ أعْرِفَ ذلكَ، لوْ يَسْتَطِيعُ
أحَدٌ أنْ يُفَكِّرَ أنَّ الآخَرَ يَحْتَمِلُ وَحْدَهُ
كُلَّ آلامِ العَالمِ وكُلَّ الخَوْف.
7
الدِّكْتَاتُورُ، المُتَجَبِّرُ
الذِي يُنْشِئُ الفَلوَاتِ يَنْظُرُ
كَيْفَ تُولدُ مِنَ الجَسَدِ الأحْمَاضُ البَهِيمِيَّة
لِلْمَوْتِ وكَيْفَ يَقْضِمُهُ
الحِقْدُ الشَّهِيدُ الذِي تُحَاوِلُ
السَّنَوَاتُ أنْ تُنَمِّلَهُ فِي الهُوَّةِ،
صِرَاعٌ مُسْبَقٌ فِي حُفْرَةٍ شَرِهَةٍ
حَيْثُ يَنْبَعِثُ دُخَّانُ هَيْكَلِهِ العَظْمِيِّ.
يُسْمَعُ أحْيَاناً تَحْتَ القَصْرِ رَكْضُ
الجُرْذَانِ العِقَابِيَّةِ تَتَهَيَّأ
أنْ تَفِيضَ عَنِ الأرْضِ وأنْ تَهْزِمَ
الكِبْرِيَاءَ بِشَرَاسَةٍ.
وَالدِّيدَانَ
الحَاسِدَةَ لِلدَّبُوسِ تَسْدِي الحَرِيرَ،
يَقِينَ الكَفَنِ الشَّرِهُ.
8
العَالَمُ قَلِقٌ يَجْلِدُ سَلاسِلَهُ.
تَنْحَدِرُ العَاصِفَةُ.
وأنَا بلا اسْمٍ
أبْحَثُ عَنْ أَثَرٍ فَانٍ، أرْغَبُ فِيمَا تَبَقَّى،
شَيْءٌ يُذَكِّرُنِي إنْ كُنْتُ قَدْ نَسيتُ،
الفَعَاليَّةَ السِرِّيَّةَ التِي يَلْتَهِمُ بِهَا
الغُبَارُ دَوَاخِلَ الأشْيَاءِ.
9
مُقَنَّعَةً وَخَفِيَّةً وَمُتَرَصِّدَةً،
تُدَاهِمُ الخَرْبَشَاتُ الكَثِيفَةُ،
المَلامِحَ المُتَلاشِيةَ وَالمَحْمُومَةَ لِلْمَوْتِ
10
دَمٌ وَدُخَّانٌ يُغَذِّيانِ النِّيرَانَ
لاشَيْءَ يَثْلمُ اللَّمَعَانَ والجِبَالَ
تَلِينُ القُرُونُ، تَنْدَمِجُ،
تُبَدِّدُ إيقَاعَهَا، هِيَ مُجَدَّداً
حَجَرٌ،
خَرَسُ حَجَرٍ،
شَهَادَةُ
ألا شَيْءَ قَدْ حَدَثَ هُنَا،
وَبِأنَّ الكَائِنَاتِ
هِيَ مِنْ هَبَاءٍ أيْضاً،
وَتَتَحَوَّلُ رِيحاً.
أنْ تَكُونَ مِنْ رِيحٍ شَبَحِيَّةٍ، وَهِيَ الآنَ بِلا عُوَاءٍ،
وإنْ كَانَتْ تَبْحَثُ عَنْ خَتْمِهَا، وإنْ كَانَ لا شَيْءَ
يَسْتَطِيعُ أنْ يَتَرَاجَعَ.
فالبَهَاءُ زَمَنٌ.
هِيَ الأرْضُ التِي تَهَبُ ثِمَارَهَا المُرَّةَ،
الدّوَّامَةُ الشَّرِسَةُ التِي تَتَوَقَّفُ
حِينَمَا تَنْتَصِبُ هُنَا.
وَحْدَهَا الأزْهَارُ
بكِبْرِيَائِهَا تُولدُ ثَانِيةً مِنْ دَائِرَةٍ
وَيُمْكِنُهَا أنْ تَلْتَمِعَ، أنْ تَبْعَثَ شَذَاهَا،
وأنْ تَتَحَوَّلَ مُجَدَّداً إلى هَبَاءٍ.
11
الجَسَدُ وِعَاءٌ سَيِّءٌ. إنَاءٌ
مِنْ شَرَهٍ أبَدِيٍّ وَإِفْسَادٍ.
هَلِ الخُسْرَانُ فَقَطْ بأنْ نَنْجَحَ فِي أنْ نَكُونَ؟
أيُّ عُيُونٍ سَوْفَ تَرَى العَالَمَ لوْ كَانَ
المَدَارُ الذِي الْتَمَعَ فِيهِ الضَّوْءُ فَقَطْ بَيْتَ
النَّمْلِ، قَلْعَتَهُ الْحَصِينَةَ؟
لا شَيْءَ سَيَعُودُ لِمَا تَأْوِي
الأرْضُ الفَمَ وَيَخْرَسُ الاِبْتِهَالُ
الحَالِكُ وَصَدَاهُ الهَائِلُ.
لوْ تَحَرَّكَ غُصْنٌ، لوْ فِي العُشْبِ
انْكَسَرَ قَذىً عَبْرَ المَجَالاتِ
اللامُتَنَاهِيةِ و العَمِيقَةِ لِلْمَوْتِ.
أيُّ شَرَهٍ إلى الحَيَاةِ يُطَوِّقٌ؟
بأيِّ وَجْهٍ سَتَتِمُّ مُلاقَاةُ المَوْتِ،
وَأَيُّ قُرْبَانٍ
يُطَالِبُ بِالرَّمَادِ، وَحَتَّى الآنَ
أيًّ إِذْلالاتٍ وَمَوْتٍ أجَّلْتَ؟
12
هُنَا تَتَمَدَّدِينَ أيَّتُهَا الحَيَاةُ الفَانِيَةُ،
يَا لَوْنَ الدَّمِ، يا سَعَادَةَ
تَمَلُّكِكِ فِي هُنَيْهَةٍ لا تَعُودُ.
مَمْلَكَتُكِ مَدِينَةُ المَاءِ وَالزَّيْتِ
اللَّذَيْنِ يَطْفُوَانِ دُونَ أنْ يَتَّحِدَا. تَوَازُنُهُمَا
هُوَ تَوَتُّرُهُمَا الشَّرِسُ، وَقِتَالُهُمَا
يَتَنَكَّرُ فِي سِلْمٍ وَهُدْنَةٍ حَذِرَةٍ.
13
إنَّهُ زَيْتُ التَّشْحِيمِ مُلْتَهِمُ الجَذَوَاتِ
تُرْسٌ لا يَحْمِي: يَرْسُمُ جِرَاحاً،
يَفْتَحُ أخَادِيدَ مِنَ الْمِلْحِ، يَحْفُرُ فِي الصَّدْرِ
ذَلِكَ الاِرْتِعَاشَ القَاسِي الَّذِي بِهِ يَسْتَسْلِمُ
الجَسَدُ إذْ لا يَعُودُ مُجَدَّداً إِلَى التَّضْحِيَّةِ
مَكَانَ النَّارِ حَيْثُ تَنْبَثِقُ
شَمْسُ الدَّمِ تَحْتَ بَحْرٍ مِنَ الزَّيْتِ.
14
كَمْ مِنَ النُّسُورِ تُفْنِي حَيَاتَنَا؟
يَا لَلْعُبُودِيةِ المُظْلِمَةِ الَّتِي تَأْسَرُنَا؟
كَيْفَ تُوجِعُنَا العَلامَةُ وَالطَّقْطَقَةُ
الَّتِي يُحْدِثُهَا الحَدِيدُ الشَّرِهُ حِينَ يُخْضِعُنَا.
يَجِبُ غَسْلُ الجُرْحِ، التَّخَلُّصُ
مِنَ الحَرْفِ المَوْشُومِ فِي دَمِنَا.
15
لا إِذْلالَ وَلا بُكَاءَ: عِصْيَانٌ،
صَرْخَةٌ مُتَمَرِّدَةٌ. خُذِ المِشْعَلَ.
أوْقِدِ النَّارَ فِي النَّحْسِ.
وَلْتُزْهِرْ
نَارٌ أخْرَى وَلْتَشِقِّ الرِّيحَ.
ظَهِيرَةٌ، نُبُوءَةٌ مُتَوَهِّجَةٌ،
دُنُوٌّ مُطْلَقٌ مِنَ الْحَيَاةِ وَالْمَوْتِ.
II
1
صَدَأٌ، مِلْحُ البَارُودِ، زِنْجَارٌ، نُزُولُ
الغُبَارِ عِنْدَ انْعِكَاسِهِ عَلَى الأشْيَاءِ.
أيُّ قَضْمٍ عَنِيدٍ يَفْتَرِسُ العَالمَ،
يَشْتَعِلُ فِي الاِنْصِرَامِ، يُلوِّثُ النَّهَارَ
وَفِي الليْلِ الوَخِيمِ يَبْدَأُ مِنْ جَدِيدٍ؟
تُولَدُ الكَارِثَةُ، الْخَوْفُ الَّذِي يُنْجِبُ
الغَضَبَ وَيَنْحَتُ فِي نَارٍ زَمَانَنَا.
2
(هِبَةُ هِيرَقْلِيدِس)
لكِنَّ المَاءَ يَجْتَازُ الزُّجَاجَ
مُطَحْلباٌ.
يَجْهَلُ أنَّهُ بَعِيداً عَنِ الحُلْمِ
كُلُّ مَا هُوَ كَائِنٌ
يَتَبَدَّلُ.
خُمُودُ النَّارِ أنْ تَتَّخِذَ شَكْلا
بِقُوَّتِهَا الكَامِلَةِ فِي التَّحَوُّلِ.
نَارُ الهَوَاءِ وَعُزْلَةُ النَّارِ
عِنْدَ اشْتِعَالِ الهَوَاءِ الذِي غَدَا نَاراً.
نَارٌ هُوَ العَالَمُ الَّذِي يَنْطَفِئُ وَيَتَغَيَّرُ
لِكَيْ يَسْتَمِرَّ (كَانَ دَوْماً) إلَى الأبَدِ.
الأشْيَاءُ المُتَفَرِّقَةُ اليَوْمَ تَجْتَمِعُ
وَتِلْكَ التِي هِيَ أكْثَرُ تَقَارُباً تَتَبَاعَدُ.
أنَا وَلَسْتُ أنَا ذَاكَ الذِي انْتَظَرَكَ
فِي الحَدِيقَةِ المُقْفِرَةِ فِي صَبَاحٍ مَا
جَنْبَ النَّهْرِ اللامُتَكَرِّرِ حَيْثُ كَانَ يَلِجُ
(ولنْ يَفْعَلهَا قَطُّ، وَأبَداً مَرَّتَيْنِ)
ضَوْءُ أكْتُوبَر المُحَطَّمُ فِي الدَّغْلِ.
وَكَانَتْ رَائِحَةُ البَحْرِ: حَمامَة،
مِثْلَ قَوْسٍ مِنْ مِلْحٍ،
اشْتَعَلَ فِي الهَوَاءِ.
لمْ تَكُنْ، لنْ تَكُونَ،
لكِنَّ تَمَوُّجَ
زَبَدٍ قَصِيٍّ كَانَ يَلْتَقِي
حَوْلَ أفْعَالِي وَبَيْنَ كَلِمَاتِي
(بِقَدْرِ مَا هِيَ لِي لأنَّهَا غَرِيبَةٌ عَنِّي):
البَحْرُ مَاءٌ خَالِصٌ أمَامَ الأسْمَاكِ
ولنْ يَشْفِيَ قَطُّ الظَّمَأَ الإِنْسَانِيّ.
3
عَدَمُ رَفْعِ العُيُونِ.
رُؤيَةُ السُّورِ سَالِماً.
تَبْدِيدُ الظُّلُمَاتِ.
الدُّنُوُّ
فِي عُمْقِ هَذا اللَّيْلِ
مِنْ المَوْضِعِ حَيْثُ الفَجْرُ
وَجَلبَتُهُ
يَنْتَظِرَانِ أنْ يَلوحَ السَّحَرُ.
4
لوِ امْتَدَّ النُّورُ
سَيَتَّخِذُ شَكْلَ
مَا تَبْتَدِعُهُ النَّظْرَةُ.
5
تَتَصَدَّعُ عَوَالِمُ ثَانِيَةً، وبِأُعْجُوبَةٍ
يَعْبُرُ الظُّلُمَاتِ نَجْمٌ زَاحِفاً
لكِنَّهُ يَشْتَبِكُ بِالعُشْبِ غَرِيقاً.
كَمَا لوْ أنَّ الشُّعَاعَ صَقْرٌ يَهْزِمُ هَوَاءَ
النَّيْزَكِ المُهَيْمِنِ:
المُدَاعَبَةُ التِي يُحِسُّهَا الدَّفِينُ
حِينَمَا تُشَوِّهُ الأرْضُ الفَانِيَةُ وَجْهَهُ.
6
ارْتِيَابٌ حَامِضٌ يَفْتَرِسُ
تُخُومَ الهَوَاءِ
بَيْنَمَا يَلْتَفُّ
الرَّمَادُ فِي الوِعَاءِ وَذَاكِرَتَكَ.
وَكَانَ نُوفَمْبَرُ فِي الهَوَاءِ وَرَقَةً مُحْتَرِقَةً
مِنْ شَجَرَةٍ لمْ تَعُدْ مَوْجُودَةً
وَبَعْدُ مَا زَالتْ تُرْسَمُ
فِي الظِّلِّ الَّذِي يَتَحَلَّلُ دُخَّاناٌ.
7
شَيْءٌ مَا يَنْمُو وَيَضِيعُ فِي كُلِّ لَحْظَةٍ
شَيْءٌ مَا يُحَاوِلُ أنْ يَسْتَمِرَّ بَيْنَمَا ألاحِظُ
الشَّكْلَ اللاَّتُفَكُّ رُمُوزُهُ وَالَّذِي يَرْسُمُ
فِي الرَّمْلِ تَدْوِينَاتِ احْتِضَارِهِ.
لأنَّهُ حِينَمَا يَنْتَهِي البَحْرُ فِي الصَّحْرَاءِ
يَكُونُ دَيْمُومَةً لِلتَّمَوُّجِ.
8
هُنَا تَمَّ الإِنْزَالُ، حَيْثُ النَّهْرُ
عِنْدَ التِقَائِهِ بِالبَحْرِ يَأْخُذُهُ
باتِّجَاهِ البَرِّ العَمِيقِ، وَمُجَدَّداً نَحْوَ النَّبْعِ،
المَصَبِّ السِّرِّيّ فِي الجِبَالِ.
هُنَا تَمَّ الإِنْزَالُ … فِي غُضُونِ ألفِ عَامٍ
لا شَيْءَ قدْ تَغَيَّرَ فِي الأَرْضِ، وليْسَ ثَمَّة أثَرٌ
لِمَا كَانَ عَليْهِ هَذا المَكَانُ قبْلَ ألفِ عَامٍ.
اُنْظُرْ حَوَالَيْكَ، العَالمُ خَرَابٌ.
التَّارِيخُ دَمٌ وَضَغِينَةٌ. جُوعٌ وَمَنْفَى.
هُنَا تَمَّ الإِنْزَالُ …. إنْ لمْ يَتَغَيَّرْ فِي الأَرْضِ
شَيْءٌ مُنْذُ ألفِ عَامٍ أتَسَاءَلُ:
هَلْ سَنَمْضِي نَحْنُ أيْضاً دُونَ أنْ نَفْعَلَ شَيْئاً؟
9
أخْلاقُنَا، مَبَادِئُهَا وَيَقِينُهَا
غَرَقَتْ فِي كَأْسٍ.
وَهَذَا العَالَمُ
صَارَ حُوتاً يَلْتَهِمُهُ الهَوَاءُ الآنَ
فِي وَثْبَتِهِ مِنَ الشَّبَكَة، هَمْسٌ خَيْشُومِيٌّ
لِمَا يَمُوتُ فِي الهَامِشِ، وقَدْ صَارَ ذَائِباً،
دُونَ تَلافٍ فِي الضِّفَّةِ القَاسِيَّة.
10
فِي مُنْتَصَفِ المَسَاءِ تَفْرِضُ
الأشْيَاءُ لُغْزَهَا، تَغْدُو رَاكِدَةً،
تَنْظُرُ إليْنَا بِثَبَاتٍ، تَسْمَحُ لنَا
بأنْ نُصَارِعَ لأنَّهَا لا تَتَقَدَّمُ ولا تَسْتَوْلِي
عَلَى عَالمِنَا فِي النِّهَايَةِ
فتُحَوِّلُنَا
إلى أشْيَاء سَاكِنَةٍ.
11
كُلُّ شَيْءٍ يُشَوِّهُهُ الزَّمَنُ وَيُسْكِنُهُ النِّسْيَانَ.
العُيُونُ لا تَصْمُدُ
أمَامَ مِثْلِ هَذِهِ الشَّرَاسَةِ
النُّورُ جَذْوَةٌ قَاسِيَة،
تَفْتَرِسُ الصُّوَرَ الجَانِبِيَّةَ لِلأشْيَاءِ.
وَفِي المُنْتَصَفِ هَذَا القَدْرُ مِنَ المَوْتِ،
عَيْنَاكِ تِلْكَ.
عَيْنَاكِ الحَزِينَتَانِ جِدّاً: رَأَتَا
مَا لَمْ أرَهُ قَطُّ.
كُلُّ شَيْءٍ تَطْمِسَانِهِ.
كُلُّ شَيْءٍ نِسْيَانٌ و
َظَلامٌ وَخِتَامٌ.
12
لكِنْ، هَلِ العَالمُ هِبَةٌ مِنَ النَّارِ
أوْ مَادَّتُهُ نَفْسُهَا وَقَدْ غَدَتْ مُجْهَدَةً
ومِنْ فَرْطِ لا انْتِهَائِهَا مَنَحَتْهُ الوُجُود؟
وَفِي غُرْفَةٍ، أَحَد مَا، شَخْصٌ مَا يَصُوغُ
السُّؤَالَ الأوَّلَ وليْسَ ثمَّة جَوَابٌ:
لِمَاذا أنَا هُنَا، مِثْلَ الذَّنْبِ أكَفِّرُ،
أهِيَ جَرِيمَةٌ أنْ تَحْيَا أهُوَ العَالَمُ مُجَرَّدُ
زِنْزَانَةٍ، مَشْفَى وَمَذْبَحٌ،
سُخْرِيَةٌ عَمْيَاءُ وَعَارٌ فِي الجَنَّةِ؟
13
أوْ هُوَ العَجِيجُ العَارِي لِلْبَرْدِ
أوِ الصَّوْتُ اللامَرْئِيُّ لِلنَّمْلَةِ
المُنْهَمِكَةِ فِي المَوْتِ تَحْتَ حِمْلِهَا.
تَدِبُّ الرِّيحُ وَتَثْقُبُ الطُّرُقَ
المُجَاوِرَةَ لِلنَّبَاتَاتِ الَّتِي ثَقَبَهَا اخْتِنَاقُ
أحَدِ القَوَارِضِ فِي جُحْرِهِ الحَالِكِ.
يَغْمُرُ البُسْتَانُ مَنَاطِقَ الصَّيْفِ
الَّتِي تَلِدُ الخَرِيفَ المُنَوَّمَ
مِنَ النَّسغِ المُتَصَلِّبِ. وَليْسَ ذَلِكَ
مَا أحَاوِلُ قَوْلَهُ.
بَلْ شَيْئاً آخَرَ.
14
قدْ ضَاعَتْ كُلُّ المَفَاتِيحِ
لإِنْقَاذِ العَالَمِ. لمْ أعُدْ أسْتَطِيعُ
أنْ أعَزِّيَ، أنْ أعَزِّيَكَ، وَأعَزِيَ نَفْسِي.
أيَّتُهَا الأرْضُ، أيَّتُهَا الأرْضُ
لِمَاذَا لا تُحَرِّكِينَ عَوَاطِفَكِ؟
كُونِي رَؤُوفَةً بِكُلِّ مَنْ يَحْيَوْنَ
اعْمَلِي مِنْ أجْلِ ألاَّ يَكُونَ لأَحَدٍ
غَداً – أيُّ غَدٍ – فُرْصَةَ أنْ يُعِيدَ
مَعِي كَلِمَاتِي، كَلِمَاتِ اليَوْمِ وَخِزْيِي.
15
جَلبَةٌ عَلَى جَلبَةٍ. تَهَشُّمُ
حِقَبٍ، إِمبْرَاطُورِيَّاتٍ.
خَتْمٌ.
وَمَرَّةً أخْرَى خَتْمٌ وإعَادَةُ بَدْءٍ.
III
1
رَائِحَةُ الكِبْرِيتِ المُفَاجِئَةُ، لوْنٌ
مُبَاغِتٌ أخْضَرُ لِلْمَاءِ تَحْتَ الأرْضِ.
تَحْتَ أرْضِ المِكْسِيكِ
بَعْدُ مَا تَزَالُ تَتَعَفَّنُ مِيَاهُ الطُّوفَانِ.
تُغْرِقُنَا البُحَيْرَةُ، رِمَالُهَا
المُتَحَرِّكَةُ تُمْسِكُ وَتَخْتِمُ
المَنْفَذَ المُمْكِنَ.
بُحَيْرَةٌ مَيِّتَةٌ فِي تَابُوتِهَا الحَجَرِيِّ.
شَمْسُ التَّنَاقُضِ.
( كَانَ هُنَالِكَ مَاءَانِ
وَفِي المُنْتَصَفِ جَزِيرَةٌ.
وَأمَامَهَا جِدَارٌ
لِكَيْ لا يُسَمِّمَ المِلْحُ
بُحَيْرَتَنَا العَذْبَةَ الَّتِي تَنْشُرُ
الأُسْطُورَةُ بَعْدُ فِيهَا أجْنِحَتَهَا،
يَلْتَهِمُ الأفْعَى المَعْدِنِيَّةَ، المَوْلُودَةَ
مَا بَيْنَ أطْلالِ العُقَابِ. جَسَدُهُ
يَخْفِقُ فِي الهَوَاءِ وَيُعِيدُ الكَرَّةَ دَائِماً.)
تَحْتَ أرْضِ المِكْسِيكِ تَخْضَرُّ
وَإِلَى الأبَدِ المِيَاهُ العَفِنَةُ
الَّتِي غَسَلَتِ الدِّمَاءَ المَأْسُورَةَ.
تَنَاقُضُنَا – مَاءٌ وَزَيْتٌ –
يَسْتَمِرُّ فِي الضِّفَّةِ وَبَعْدُ مَا زَالَ يُقَسِّمُ،
مِثْلَ إلهٍ ثَانٍ،
الأَشْيَاءُ كُلُّهَا:
مَا كُنَّا نَتُوقُ لِأنْ نَكُونَ وَمَا نَحْنُ
( لوْ نَحْفُرُ
بِضْعَةَ أمْتَارٍ مِنَ الأرْضِ
سَتَتَدَفَّقُ البُحَيْرَةُ.
الجِبَالُ ظَمْأَى، وَمِلْحُ البَارُودِ
يَمْضِي فِي قَضْمِ الأعْوَامِ.
وَيَبْقَى الوَحلُ
الذِي يَرْقُدُ فِيهِ جُثْمَانُ
مَدِينَةِ مُوكْطِيثُومَا الحَجَرِيِّ.
وَسَيَأكُلُ أيْضاً قُصُورَ اللَّمَعَانِ
المَشْؤُومَةُ هَذِهِ، الوَفِيَّةُ بِصِدْقٍ كَبِيرٍ
لِلتَّدْمِيرِ الذِي يَحْفَظُهَا.
الضِّفْدَعَةُ شِعَارُنَا. تُجَسِّدُ
الخَوْفَ مِنْ أنْ تَكُونَ لا أحَدَ وَتَنْسَحِبُ
نَحْوَ اللَّيْلَةِ المُتَأبِّدةِ التِي يَتَعَفَّنُ
فِيهَا الآلِهَةُ تَحْتَ الوَحَلِ
وَصَمْتُهَا
ذَهَبٌ
مِثْلَ ذَهَبِ كْوَاوْطِيمُوكَ
الذِي خَلقَهُ كُورْطِيسُ
أشْعِلِ النُّورَ وَادْنُ، فَقَدْ صَارَ الوَقْتُ مُتَأخِّراً
اِفْتَحِ البَابَ، فَثَمَّةَ وَقْتٌ، اليَوْمَ غَدا
أَعْطِنِي يَدَكَ، لا تُرَى، ليْسَ ثَمَّةَ أحَدٌ
ليْسَ ثَمَّةَ أحَدٌ، وَحْدَهُ العَدَمُ. هُوَ الفَرَاغُ.
أوْ هُوَ الوَحَلُ يَعْلُو وَيَلُفُّنَا
لِكَيْ يُحَوِّلنَا إلى جُزْءٍ مِنْ غُبَارِهِ.
2
خِلالَ اللَّيْلةِ كُلِّهَا شَاهَدْتُ النَّارَ تَكْبُرُ.
3
المَدِينَةُ خِلالَ هَذِهِ السَّنَوَاتِ تَغَيَّرَتْ كَثِيراً
حَتَّى إنَّهَا لمْ تَعُدْ مَدِينَتِي، رَجْعُ
قِبَابِهَا أصْدَاءٌ. وخَطَوَاتُهَا
لنْ تَعُودَ أبَداً.
أصْدَاءُ خَطَوَاتٍ ذِكْرَيَاتٌ تَدْمِيرَاتٌ.
كُلُّ شَيْءٍ يَبْتَعِدُ، حُضُورُكِ أنْتِ،
أيَّتُهَا الذَّاكِرَةُ الجَوْفَاءُ وَهِيَ تُرْجِعُ الصَّدَى سُدىً،
أمْكِنَةٌ خَرِبَةٌ، قِفَارٌ، أطْلالٌ،
حَيْثُ رَأيْتُكِ أخِيراً، فِي ليْلةٍ
مِنْ أمْسٍ يَنْتَظِرُنِي فِي صَبَاحَاتِ
آتٍ آخَرَ قدْ عَبَرَ نَحْوَ التَّارِيخِ،
مِنَ اليَوْمِ المُتَوَاصِلِ الذِي أُضَيِّعُكِ فِيهِ.
4
مَسَاءُ المِكْسِيكِ فِي جِبَالِ الغَرْبِ
الكَئِيبَةِ… هُنَالِكَ الغُرُوبُ
جِدُّ مُوحِشٍ حَتَّى إنَّهُ قَدْ يُقَالُ
اللَّيْلةُ وقَدْ خُلِقَتْ هَكَذا سَتَكُونُ سَرْمَدِيَّة.
5
أعْرِفُ الجُنُونَ وليْسَ
القَداسَة:
الكَمَالَ الرَّهِيبَ فِي أنْ تكُونَ مَيِّتاً.
لكِنَّ الإيقَاعَاتِ المُلِحَّةَ الخَرْسَاءَ
الخَفَقَاتِ السِّرِّيَّةَ لِلنَّكْبَةِ
تَشْتَعِلُ فِي مَدَى الوَدَاعَةِ
التِي هِيَ ليْلُ المِكْسِيكِ.
وَالصَّفْصَافُ
وَالوُرُودُ العَطْشَى وَالنَّخِيلُ،
سَرْوَاتٌ جَنَائِزِيَّةٌ بِلا مَاءٍ،
هِيَ دُرُوبُ الْحَرْشَفِ البَرِّيِّ،
وَهِيَ قِفَارُ
الأفْعَى المُجْدِبَةِ، السَّاكِنَةِ
فِي مَنَاطِقِ الوَحَلِ، تِلْكَ الكُهُوفِ
التِي يُصَفِّقُ فِيهَا العُقَابُ المَلَكِيُّ جَنَاحَيْهِ
فِي ارْتِبَاكِ قِبَابٍ، زَاحِفَةً
عَبْرَ ليْلِ المِكْسِيكِ.
عُيُونٌ، عُيُونٌ
كَمْ عُيُونَ غَضَبٍ تَنْظُرُ إليْنَا
فِي ليْلِ المِكْسِيكِ، فِي هيَاجِ
حَيَوَانٍ، مُفْتَرِسٍ لِلنَّارِ المُتَأَجِّجَةِ:
المَحْطَبَةُ الجَنَائِزِيَّةُ التِي تَسْتَنْفِدُ
فِي اللَّيَالِي المَدِينَةَ
وَفِي اليَوْمِ المُوَالِي
ثَمَّة آثَارٌ فَقَطْ.
لا حُبَّ ولا شَيْءَ:
عُيُونُ غَضَبٍ تَنْظُرُ إليْنَا فَقَطْ.
6
إلى مَتَى، وَفِي أيِّ جَزِيرَةٍ صَغِيرَةٍ
بِلا نَذِيرٍ،
سَنَعْثُرُ عَلَى السَّلامِ لِلْمِيَاهِ،
الدَّمَوِيَّةِ جِدّاً، القَذِرَةِ جِدّاً
والقَدِيمَةِ جِدّاً.
الخَامِدَةِ بَاطِنِيّاً جِدّاً
لبُحَيْرَتِنَا الفَقِيرَةِ، عَيْنٌ
مُسْتَوْحِلَةٌ لِلبَرَاكِينِ، إلهُ الوَادِي
الذِي لمْ يَرَهُ أحَدٌ وَجْهاٌ لِوَجْهٍ وَالذِي أخْفَى
اسْمَهُ القُدَمَاءُ؟
إلامَ تَحَوَّلتِ
الحَدَائِقُ الكَثِيرَةُ، والمَرَاكِبُ
وَالغَابَاتُ وَالأزْهَارُ والمُرُوجُ؟ قَتلوهَا
لِيُشَيِّدَ قُصُورَهُمُ اللُّصُوصُ.
إلامَ تَحَوَّلتِ البُحَيْرَاتُ وَقَنَوَاتُ
المَدِينَةِ، أمْوَاجُهَا وَخَرِيرُهَا؟
مَلأوهَا بَرَازاً، حَجَبُوهَا
لِيَفْتَحُوا الطَّرِيقَ أمَامَ كُلِّ عَرَبَاتِ
السَّادَةِ الأبَدِيِّينَ لِهَذِهِ الأرْضِ،
لِهَذِهِ الفُوهَةِ القَمَرِيَّةِ حَيْثُ تَسْتَقِرُّ
المَدِينَةُ المُتَحَرِّكَةُ، العَاصِمَةُ
المُتَقلِّبَة لِلَّيْلِ.
قَالَ نَائِبُ المَلِكِ: رِجَالُ هَذِهِ الأرْضِ
كَائِنَاتٌ مَحْكُومٌ عَليْهَا إلى الأبَدِ
بالظَّلامِ الأزَلِيِّ وَبِالخُضُوعِ.
فَقَدْ وُلِدُوا لِيَصْمُتُوا وَيُذْعِنُوا
شَتِيمَةُ نَائِبِ المَلِكِ تَطْفُو فِي الوَحَلِ.
أكِيدٌ أنَّ لا زَمَنَ مَاضِياً
كَانَ أسْوَأ وَلا كَانَ أفْضَلَ.
ليْسَ ثمَّةَ زَمَنٌ، يَقِيسُ
شَيْخُوخَةَ الكَوْكَبِ فِي الهَوَاءِ
حِينَمَا يَعْبُرُ قاسِياً وَهُوَ يَنْتَحِبُ.
7
المِكْسِيكُ الدِّيمَاسِيُّ…. نَائِبُ المَلِكِ
المُتَجَبِّرُ، الإمْبرَاطُورُ، المَكَّارُ
حَوَّلَ البُحَيْرَاتِ والغَابَاتِ إلى فَلَوَاتٍ.
لقَدْ خَلقْنَا الفَلوَاتِ: جِبَالَ البَازلْتِ
الجَامِدَةَ وَظِلا وغُبَاراً
هِيَ الثَّبَاتُ.
يَرْتَجُّ الصَّخَبُ
الذِي تُحْدِثُهُ المِيَاهُ المَيِّتَةُ وَهِيَ تُدَوِّي
فِي الصَّمْتِ المُقَعَّرِ.
هِيَ بَلاغَةُ
جورٌ بَلاغِيٌّ حَتَّى البُكَاء.
8
وَحْدَهَا الأحْجَارُ تَحْلُمُ
أجَوْهَرُهَا المُتَجَهِّمُ
هُوَ الثَّبَاتُ؟
هَلِ العَالمُ
هُوَ هَذِهِ الأحْجَارُ الثَّابِتَةُ فَقَطْ؟
يَحْتَكُّ الهَوَاءُ بِالجُرْفِ لِكَيْ يَتَبَدَّدَ،
لِكَيْ يَعْثُرَ عَلَى السَّكِينَةِ. بلا عَزَاءٍ
هُوَ انْحِدَارُ الدّوارِ: تَمَارُجُ
ألفِ منْطقَةٍ جَوِّيَّةٍ وَهِيَ تَنْهَارُ.
9
اليَوْمَ، هَذِهِ الليْلة أجْتَمِعُ وَحْدِي
مَعَ كُلِّ مَا ضَاعَ وَرَغْمَ ذَلِكَ
مَعَ الآتِي أيْضاً.
وَبَيْنَمَا تَنْصَرِمُ
السَّاعَةُ إلى جَنْبِي
يَصِيرُ الوَقْتُ مُعْتِماً
فِي نَارِ ظِلٍّ يَخْتَلِطُ
النُّورُ بِاللَّيْلِ، مَاضٍ بَعْدُ لمْ يَمُتْ
وَالهُنَيْهَةُ دُونَمَا أحَدٍ وَيَقْطَعَانِ
الكَسَلَ اللَّزِجَ لِلْعَنْكَبُوتِ،
الذُّبَابَةُ وَخُطَيْمُهَا المُدَمِّرُ.
مَا بَيْنَ الطَّائِرِ وَغِنَائِهِ تَنْسَكِبُ السَّمَاءُ
تَنْسَكِبُ، مَا تَزَالُ تَنْسَكِبُ، كُلُّ شَيْءٍ يَنْسَكِبُ:
الطَّرِيقُ الذِي تُبْطِئُهُ الصَّبَاحَاتُ،
الكَوَاكِبُ الشَّارِدَةُ، المُحْتَرِقَةُ
التِي تَقْضِي مُدَّةَ عُقُوبَتِهَا وَهِيَ تَتَلاشَى
حِينَمَا تَشُقُّ الضَّبَابَ بلا كَللٍ.
10
يَجِبُ أنْ أمْتلِكَ الشَّجَاعَةَ لِلقِيَامِ بِذَلِكَ:
الكِتَابَةُ حِينَ تَطُوفُ بِالجُدْرَانِ
مَخَالِبُ غَضْبَى، حَيَوَانَاتٌ عَمْيَاءُ.
لا يُمْكِنُ الصَّمْتُ، ابْتِلاعُ الصَّمْتِ،
وغَيْرُ مُجْدٍ البَتَّةَ القِيَامُ بِذَلِكَ
قبْلَ أنْ تَفْتَحَ دِيدَانُ اللَّحْظَةِ
الفَمَ الأخْرَسَ لِلْحَرْفِ
وَتَلْتَهِمَ رُوحَهُ.
كَلِمَاتٌ
مُتَآكِلةٌ، عَرْجَاءُ، دَوِيٌّ رَتِيبٌ
لِطَاحُونَةٍ قَدِيمَةٍ مَا.
كَمْ مِنْ أشْيَاء،
نَحِيبُ كَمْ مِنَ الأشْيَاءِ اللامُجْدِيَةِ
التِي تَحْتَرِقُ فِي الغُبَار.
تَحْتَرِقُ النَّار.
النُّورُ نَارٌ. رَمَادٌ.
زنْبَقةٌ هِيَ كُلُّ
جَمْرَةٍ حَزِينَةٍ مِسْكِينَةٍ
عِنْدَمَا تَتَلاشَى.
11
الرِّيحُ تَأْتِي بِالمَطَرِ.
فِي البُسْتَانِ
تَرْتَعِشُ الأَغْرَاسُ.
12
يَشْتَعِلُ الحَقْلُ تَحْتَ شَمْسِ الظَّهِيرَةِ.
هُنَا كُلُّ الأشْيَاءِ تَتَهَيَّأ
لِلانْبِعَاثِ.
وَحِينَهَا، بَغْتَةً
يَسْتَوِي البُسْتَانُ كُلُّهُ مَا بَيْنَ الأحْجَارِ:
يُولَدُ العَالمُ مُجَدَّداً أمَامَ عَيْنَيَّ.
13
يَهْبِطُ المَسَاءُ فِي المَطَرُ مُبَاغَتاٌ
بِالدَّوَرَانِ البَحْرِيِّ لِلْهَوَاءِ
خَطُّ ظِلٍّ، مُسْتَهَلٌّ، أرْضٌ ظَلِيلَةٌ
حَيْثُ الدَّيَاجِيرُ تَسْتَعِدُّ
لِخَلْقِ مَزِيدٍ مِنَ الدَّيَاجِيرِ.
شَيْئاً فَشَيْئاً
يَهْبِطُ المَسَاءُ فِي المَطَرِ.
وَالدَّيَاجِيرُ
تَغْرَقُ فِي النُّورِ. تُدَوِّي وَتَرْتَجُّ
تلك الخَبْطَةُ المَجْهُولَةُ. مَوْجَةٌ لا مَرْئِيَّةٌ
بِهَا تُشْعِلُ نَارُ الهَوَاءِ العَالمَ.
14
(كَلِمَاتُ بُودَا)
العَالمُ كُلُّهُ مُلْتَهِبٌ.
المَرْئِيُّ
يَشْتَعِلُ وَالعَيْنُ المُلْتَهِبَةُ تَسْألُهُ.
تَشْتَعِلُ نَارُ الضَّغِينَةِ.
تَشْتَعِلُ المُرَابَاةُ.
يَشْتَعِلُ الألمُ.
الأسَى جَذْوَةٌ.
وَحَرِيقٌ هُوَ الغَمُّ
الذِي تَشْتَعِلُ فِيهِ كُلُّ الأشْيَاءِ:
جَذْوَةٌ،
تَشْتَعِلُ الجَذوَاتُ،
نَارٌ هُوَ العَالمُ .
عَالَمٌ وَنَارٌ
انْظُرِ
الوَرَقَةَ فِي الرِّيحِ،
جِدَّ حَزِينَةٍ،
وَرَقَةَ المِحْرَقَةِ.
15
القَصِيدَةُ حَرِيقٌ
وَيَسْتَدِيمُ
وَرَقَةٌ فِي الرِّيحِ
وَلرُبَّمَا
أيْضاً جِدُّ حَزِينَةٍ
ثَابِتَةٌ الآنَ
مَهْجُورَةٌ
حَتَّى تَنْبَعِثَ
النَّارُ فِي دَاخِلِهَا
كُلُّ قَصِيدَةٍ
شَاهِدَةُ قَبْرٍ لِلنَّارِ
سِجْنٌ
جَذْوَةٌ
حَتَّى تَهْوِيَ
فِي الصَّمْتِ المُلْتَهِبِ
وَرَقَةٌ فِي الرِّيحِ
جِدُّ حَزِينٍ
هُوَ الحَرِيقُ
إعداد وترجمة: خالد الريسوني*
* شاعر ومترجم من المغرب