أعلم جيدا أن الشمس ستأتي غدا ، وان النهار سيقلع من مرساته عائدا الينا ، واعلم ايضا ان جبال هذه القرية ستدثرنا موتا، ومع رحلة العودة للغائبين سنسارع الى فتح افواهنا كأنها الجحيم الاخير.
ماتت شعلة القنديل ، واغمضت اجفاني احلم بدشداشة العيد ارتديها :آت نهار قادم ، هذه الجدران الطينية تختنق برطوبة شتاء الامطار الذي فاجأنا هذا العام ، ومنذ الاسبوع الماضي مازلت اترقب طيف جدي ينبت مع الظلمة والرطوبة ، قيل لي ان جدي مات بالرطوبة والروماتيزم الذي زرعه الشتاء في كل المفاصل ، ايقنت ان روح جدي لا تزال تحوم حول اسطح البيوت المصابة ايضا بالروماتيزم لكثرة ما سقط عليها من امطار.
واذ أغمض عيني تذكرت جيدا صوت خطوة جدي وهو قادم من المسجد ، وحشرجة سعاله ، وطرقات عصاه على ظهر الارض ، احسست بالخوف حين توهمت ان جدي سيدخل الغرفة المظلمة بعد قليل ، احسه يناديني..
– يا سالم .. "ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا".
واجيبه : عندما اكبر سأصلي ، وسأكون من المؤمنين .. ينظر الي بصوت تقطعا سعلاته المتكررة : الله يهديك .
في خارج متاهتي تلمع السماء بالبرق ، واندس داخل نفسي اتقي البرد الذي اشعره يخترق عظامي فيميتها الواحد تلو الآخر.. جلجة الرعد تتواصل ، وارى في عيني ابي وهجا لشي ء لا يود ان يفصح عنه ، يتكدس اخرتي في زاوية بعيدة عن باب الغرفة هربا من البرد والماء المتسرب ، ابي ينفخ بفمه (المريدان ) فيتوهج الجمر، ويزيد الوهج الغامض في عيني ابي، فضاء الغرفة تطوه مسحة من الكآبة والثقل المتعفن ، والسماء تصب اقدارها على الجدران البالية .
الرعب اسلمني لموت مؤقت ظننت معه انني فارقت الحياة ، وان رجلا في هيبة غريبة اقترب مني ، وجه غريب لم اتبينه جيدا من خلال الحلم ولحية طويلة مرعبة كأمطار الشتاء.. سألني.
-اين جدك :!
– مات.
– ليس صحيحا.
لم اتكلم ، عقدت الدهشة لساني، وابصرته يشير بيده الى ناحية ما، اقتادني، رغم الخوف ، الى حيث المقبرة تعج بساكنيها، الرعد يقصف الاجساد التي انطفأت فيها شعلة الحياة ، النائمون ينتظرون يوم القيامة ، الارض مبلولة ، والماء يتسرب الى اجساد الموتى فيبللها، يزيدها مهابة تصل الى قلوب الاحياء فاجعة ، الفيت نفسي وحيدا عند باب المقبرة ، وقفت لا اعي ما حدث ويحدث ، وجهي بلله المطر، وقلبي جلله الخوف ، البرق ، الرعد، دوامتي، والمقابر تصيح في هذا الواقف يحسب الخطوة بالريح ، تنبع من رأسه براكين من عذاب ، صوت يأتيني من بعيد:
– سالم.
كأنه رجع الصدى، صوت جدي، اعرفه كنفسي ، لا انطق ، لساني سمكة تجمدت ، قلبي توقف عن حركته الكسل ، يعود الصوت ثانية : سالم .. التفت في كل الاتجاهات ، ادور، اضرب بيدي في كل فضاء المسه بحثا عن منفذ للمتاهة ، شيء من بعيد يقطع المسافة بيني وبينه ، الخوف والبرد يعصفان بجسدي، اغدو كالقشة في قلب الاعصار، جدي بعينيه الفائرتين ، وسعاله ، وهذه العصى والخطوة البطيئة .
– سالم .. اقترب.
– هل تظن انني مت .
– هل انت متأكد انك حي.
– الحياة خدعة كبرى، كلكم تظنون الحياة .
الكلام يعجزني ، يقترب جدي، يضع يده على رأسي كما تعود ان يفعل وهو حي، لكنه حي الآن كما يقول ، احس انفاسه المتعبة ، وأرى نفس الوهج الذي رأيته في عيني ابي، ولا افهم سره، يأخذني، ولا اصدق انني ميت مثله ، او هو حي مثلي ، وبين القبور كنت المح كابوسا ينسل كلما اضاء البرق أجداثها، كأن عظاما تتوجع ، كأن عقارب ضخمة تخرج من قبر لآخر، ورأيت حين رأيت قبورا كبيرة لم أشاهدها من قبل ، لمح جدي في عيني نظرة تساؤل ، قال : كانت قبورا صغيرة .. تضخمت .. في داخلها كائنات مفزعة .
وفي جانب من المقبرة فتحت بضعة قبور افواهها بسبب الماء، حيات ضخمة تتلوى بين القبر والآخر، والرعد يتواصل ، والانين ينبعث من القبور المفتوحة ، قال جدي: الانين دليل حياة ، واستمر سائرا بين الاجداث كأنه يبحث عن شيء ما ،وأمام خط مستقيم من القبور توقف ، وقف على احدها، فاجأه السعال، وكأن الميت سمعه ، خرج من القبر كائن لم اعرفه للوهلة الأولى ، حتى اذا اخذ البرق مساره في السماء الينا عرفت انه ابي.. اعتدت الرعب ، قال ابي: يا سالم اين ذهبت بك الحياة :.. انتظرناك ، وقبرك الاخير فاتح ذراعيه ينتظر، اخرتك اخذوا امكنتهم وناموا.
كأن زلزالا فجرني الى قطع صغيرة تناثرت مع كل قطرة مطر، تتسع عينا ابي وفيهما ذلك الوهج الغريب ، كل ما اعرفه الليلة ان الخوف مات ، وصوتي علاه الصدأ، ولساني تراجع داخل حلقي، ابي يواصل اوامر0ان اذهب الى قبري، وان اغلقه جيدا دون المطر، ودون ….
ادهش صمتي الواقفين أمامي، لم ينتظروا أن اقول شيئا، حملاني عنوة الى الحفرة الرطبة ، بينما السماء تلقي ثقلها المتواصل دون هوادة ، اردت الصراخ ، ان يسمعني الموتى، ان اقول انني حي، وانني…
بعد حين صرخت ، وتوالت الصرخات ، كأنه الف عام مر، فتحت عيني داخل غرفة مظلمة ، رطبة ، في بيتنا القديم ، والمطر لا يزال.
وبقي صراخي اياما طويلة اعوض با وقتا تمنع على صوتي فيه بالخروج .
قال والدي سنحمله الى "المعلم" ، وبين صحوي وغيابي حملني احدهم في بطانية قديمة ولا يتبعني الا صوت امي الباكي، وحين راني "المعلم " قال كلاما لا افهمه .. مغمض العينين كنت استمع الى ما يقوله لابي، الصوت سمعته من قبل ، بعد جهد فتحت عيني، صعقت ، هو نفسه الرجل الذي قادني الى حيث يكون جدي، اعطيت صوتي أقصى قدرته على الصراخ ، حطمتني الجدران من حولي ، شعرت بيد ابي تلتقي وجهي عشرات المرات ، لم اشعر بالم .. قال "المعلم ": به عفريت لا يخرج الا بالسوط ، في غيبوبتي احسست بقسوة السوط تحطم جسدي، كل ما في مات (شعوري، نطقي، كل شي ء قد تحطم ، كأنني من بعيد اسمع ابي يبكي رافعا رأسي ، ورجل أخر يقول "مات".
رجعت محمولا الى الغرفة القديمة ، امي تبكي، وانا اشعر بدموعها تغسل عني الموت ، ألبسوني دشداشة العيد البيضاء، وخرجت على الاعناق نمت في قبري الذي رأيته في نومي، وحين خرجت ابحث عن جدي، الفيته غادر مكانه ، فقط كان هناك سعاله ، وبقايا الوهج في عينين بللهما المطر.
***
محمد بن سيف الرحبي (قاص من سلطنة عمان)