في ليالي قصرهما الممتد حتى شواطئ تحاكي نور النجوم، كانت شهرزاد تروي الحكايات لشهريار، وفي القصة السادسة قررت أن تحكي عن «الحمال والبنات الثلاث»، حكاية تلفت قراءة رموزها إلى ما هو أبعد من الرواية المسرودة، إنها بعض من قصة بغداد الاجتماعية والاقتصادية في عهد هارون الرشيد «حُكي أيها الملك السعيد أن أحد الحمالين في مدينة بغداد كان عازباً يائساً عاش في الوحدة والحرمان، فبينما هو واقف أحد الأيام في سوق المدينة متكئاً على قفصه، وقفت بجانبه امرأة ريانة القوام رخصة العود، ذات دلال وفتون، ملتفة بازار موصلي من حرير، والتفتت إليه وقالت بصوت عذب: إحمل قفصك واتبعني» هكذا بدأت شهرزاد الحكاية، ولم تصمت عن الكلام المباح حتى عرف الملك كل الأحداث. دار الحمّال وراء الحسناء الفاتنة في أسواق بغداد، حمل لها ما اشترته، وتبعها إلى منزلها، وقفت أمام الباب، ولما فُتِح نظر الحمال «إلى من فتحت الباب فإذا به يُبهر بالجبين المشرق والهدب النعس والقوام الممشوق والطلعة النضرة»، ستدخلنا شهرزاد مع الحمال والشقيقتين إلى داخل الدار، نتعرف إلى التفاصيل المعمارية، إلى ما سنسميه بلغتنا العصرية الديكور المزيّن بالألوان، ألوان الورود والعصافير والأقمشة المزخرفة. الشقيقة الثالثة هي أيضاً توصف بالجمال، وكذلك كل ما في محيط الشقيقات الثلاث. القصة تمتد في أكثر من أربعين صفحة، غنية ككل قصص شهرزاد بالأحداث وبالعبارات والأوصاف الدقيقة لكل مكوّن من مكونات الحكاية. الحمّال يدخل منزل ثلاث فتيات جميلات، منزل يعج بالثراء، ويشهد الحمال على ما في داخل البيت وداخل القصة نفسها من حكايات، إذ هو يطلب من الفتيات بأن يسمحن له بالبقاء ليكون خادمهن الأمين. سيتحول المنزل إلى ساحة مشهد يجتمع فيه سبع رجال والفتيات، مشهد في داخله عدة مشاهد وتختلط فيه الموسيقى والغناء بالأسرار وما تخفيه من عذاب. لكن البوح بالأسرار عملية صعبة، عملية تختزن حكايات تفصح عنها شهرزاد تباعاً في ليالي الملك المتلهف دائماً للمزيد. أول الأسرار خدم عبيد لدى الفتيات، يأتون بعد أن يطرق باب الشقيقات ثلاثة رجال (تجار)، ثم يأتي الخليفة هارون الرشيد ووزيره وخادمه، والملفت دائماً أن باطن الأرض يخرج بحكايات داخل القصة، لو كان ذلك يتم حين تطرق إحدى الفتيات برجلها، فينصاع لأمرها «خادم» لها، وتبدو الفتيات مسيطرات طيلة القصة على كل التفاصيل التي تدور فيها. مع إطلالة العبيد تبدأ عملية حل الحكاية- العقدة، لنتوصل في الأخير إلى أن المكان نفسه يختزن أمكنة أخرى يختفي فيها رجال هم عشاق الفتيات. ليست القصة في مقالنا هذا هي المغزى، لا نبحث عن سرد تسلسلها ولا اختصارها، وهذا أمر صعب لغناها المفرط بالأحداث والتفاصيل المهمة، بل نريد أن نستعين بما تضمنته من أوصاف وعبارات لندل على وجه من وجوه بغداد في ذلك العصر. إذا استعرنا تصنيفات علم السيمائية من رموز و جداول استبدالية، يتبين لنا أن ثمة 12 جدولاً استبدالياً، عن الهوية والفرح والجمال والأسرار والإغواء والفن (الشعر بشكل خاص) والمكان والعذاب والثراء والتراتب الإجتماعي والحالة الاجتماعية. إلا أن الجدول الاستبدالي عن الإغواء والجمال هو الأغنى من حيث عدد العبارات، ترد في القصة 21 عبارة تنتمي إليه كـ «يهمهم السحر من عينيها» و«ترقد الفتنة» و«تتثنى كالغصن الريّان» و«عينان تقذفان السحر» و«شقت ثيابها» وغيرها. أما الجدول الاستبدالي الثاني فهو «الثراء» بـ 13 عبارة كـ «قاعة غنية بالأرياش» و«سرير مرصع بالجوهر» و«ماء من ذهب»، والملفت في هذا الإطار العناية الكبيرة بالتفاصيل وبالمكان، هذا الثراء متعلق بالبيت، بتفاصيله وديكوره وهي تفاصيل تنتمي بالتأكيد لزمانها، وهي عناية قلما نشهدها في كتابتنا المعاصرة رغم التقدم الملموس الذي جعل من هندسة الديكور علماً قائماً بذاته. إلا أن بغداد هارون الرشيد، عاصمة الدولة العربية الممتدة حتى أبواب الشرق الأدنى وأوروبا، كانت عالم الجمال المولع بالثراء، بأرستقراطية أنيقة. في قراءة رموز القصة، يمكننا أن نخط خطاً استدلالياً، بضم عددا من الجداول الاستبدالية، ونسميه «بغداد»، وهو مؤلف من الجداول الاستبدالية: الإنبساط، والجمال، والإغواء، والفن والآداب، والثراء، والتراتب الاجتماعي. فالرموز التي شكلت هذه الجداول تعكس نمط الحياة في عاصمة العباسيين زمن الحكاية: مدينة ثرية بالفنون والآداب والعلوم مكانة كبيرة في سيرورة الحياة. كانت للفنون مكانة متقدمة في حياة القصور في عصر العباسيين، أما ما يتعلق بالإغواء بسحر النساء، فإن هذا العامل كان من العوامل المسيطرة في حياة الناس والحكام، المرأة جميلة ليس فقط بوجهها وقامتها الممشوقة، بل ان الذكاء شرط الجمال وكذلك القدرة على إغواء الرجال. ما دامت الغواية شرط الجمال والتفوق، لماذا الحضور الكبير للجدول الاستبدالي الأسرار في هذه القصة (وهو مؤلف من 7 رموز- عبارات)؟ لنتذكر أن بغداد كانت عاصمة العرب من ناحية، وكانت أيضاً عاصمة العالم بفضل مكانة العرب في تلك الفترة على الخارطة الحضارية العالمية. كانت المدينة تعيش بين مفاتن الانفتاح على حضارات الآخرين والغرف منهم من جهة، وبين العادات والموروثات الاجتماعية المحافظة من جهة ثانية، ومنها التابوهات بالطبع، في هذه المدينة بالذات تعايش بشكل سحري مفهومان متناقضان: السر والبوح. بل لنقل أنهما اختلطا ليشكلا وحدة طبعت الحياة البغدادية. كما أن القصة تذكرنا بأن المدينة كانت مفتوحة لأبناء قوميات مختلفة فالرجال الثلاثة المجهولون (أو بالأحرى الدراويش) هم من العجم. من جهة ثانية، تلفت القصة إلى أن الخليفة (هارون الرشيد) ووزيره (جعفر) وخادمه (سياف)، وحدهم دون سواهم من شخصيات القصة لهم أسماء محددة، كأن في ذلك احترام مقصود للتراتبية الاجتماعية (حاكم ووزير وخادم)، وتلفت القصة إلى أداء تميزت به السلطة، فالخليفة يتسقى بنفسه أخبار الرعية، يتخفى وينزل إلى الشارع والحارات.
خطوط ودوائر
الخط التزامني في القصة يتعرض لقطع عند الانتقال من مساحة عرض إلى مساحة أخرى (من الغرف إلى الحديقة، من السوق إلى المنزل)، أو عند وصول شخصيات جديدة. أنه خط يمتد من الخارج (السوق) إلى الداخل (الحديقة)، ثم نحو داخل أكثر حميمية (الغرف)، فباطن الأرض. أما العودة نحو الخارج فلا تتم إلا لإثراء الحكاية بشخصيات جديدة تحمل أسراراً جديدة، ثم يستأنف الخط سيره نحو الداخل مجدداً. الأسرار ليست ملك الشخصيات وحدها، المكان نفسه يحوي أسراراً في باطنه (داخله)، تكشف لنا إحدى دوائر الحكاية عن «عبيد» في باطن أرض المنزل. الخط المستمر من الخارج نحو الداخل، يتآلف مع «خطوط» أخرى في الحكاية تثبت انتماءها إلى عوالم ألف ليلة وليلة، وعوالم الحكاية العربية المروية على ألسنة الحكواتيين في العصور المختلفة حتى يومنا، ونقصد بها دوائر الحكايات، ثمة حكايات داخل حكايات (دوائر داخل دوائر)، وثمة حكايات متجاورة، حكاية تبدأ حيث تنتهي أخرى. أليست قصة «الحمال والبنات الثلاث» نفسها حكاية ضمن الحكاية الأكبر أي قصة شهرزاد وشهريار؟ الدوائر في «الحمال والبنات الثلاث» هي دوائر الأسرار، ولكل شخصية أسرار، ما عدا الحمّال، المتفرج على العرض، وحضوره يكسر الوهم في الحكاية فلو تحولت القصة عرضاً مسرحياً، لكان المتفرجون في الصالة والحمّال على الخشبة ممثل في آن ومتفرج على دائرة أصغر من الحكايات، حكايات البنات وزوارهن و«العبيد». الانتقال من الوهم إلى عملية كسر الإيهام، لا ينتهي إذ أن داخل كل دائرة – حكاية دائرة – حكاية أخرى، ولما تنتهي حكاية «كبرى» ما فإنها تعطي الحياة لحكاية «كبرى» أخرى تعمل وفق نفس المنظومة والخط الزماني. المكان نفسه يحمل منظومتي تقابل الواقع والإيهام، فداخل المكان الواقعي تخلق الحكاية عالماً داخلياً، مثلاً في البيت حديقة، وفي الحديقة طيور من مختلف الألوان ونافورة و… الحكاية الأوسع تجري ليلاً، لكن حكايات الشخصيات جرت نهاراً، أي أن المساحة الزمنية كلها تحتلها تفاصيل الحكاية.
نساء ورجال
قبل أن تُكشف دائرة الأسرار الكبرى، تسير الحكاية بـ 3 نساء و7 رجال، بينهم الحمال الذي يلعب دور المتفرج، إذاً الشخصيات الفاعلة هي 3 نساء (الشقيقات) و6 رجال (الخليفة ووزيره وخادمه والأعاجم الثلاثة)، ثم تتسع الحكاية لتضم العبيد الثلاثة، فنصير أمام 3 نساء و10 رجال. النساء متكاتفات، وهن الشقيقات، صاحبات المكان والمسيطرات على مجرى الأحداث، أما الرجال فمنقسمون في مستويات ثلاثة : – مستوى الحاكم وحاشيته – مستوى الدراويش – مستوى «العبيد» المنتمون للمستويين الاول والثاني في وضعية مقابلة (كي لا نقل) مواجهة الفتيات، أما المنتمون للمستوى الثالث فهم خدم الفتيات. مركز الثقل في هذه المساحة المروية هن الفتيات، يتم تصنيف الرجال في إطار موقعهم من الشقيقات الثلاث. إذاً السلطة داخل المنزل ملك للفتيات، وفي الخارج فإن مكانة الفتاة متقدمة هي امرأة حرة في السوق تحتاج لخدمة رجل، يحمل لها مشترياتها. سلطة الفتيات على الحمال، تسبقها سلطة أخرى، وهذا ما تكشفه دوائر الحكاية، ونقصد بها سلطتهن على «العبيد» (وفق التعبير المستخدم في نص الحكاية) في المنزل، هكذا تسير علاقة الفتيات بالرجال في خط تصاعدي، من سلطتهن على العبيد، إلى «سلطة» على الحمال ثم علاقة متوازنة مع الحاكم نفسه. من جهة أخرى فإن الفتيات هن «الفاعل» في القصة الأكبر «الحمال والبنات الثلاث» ولكنهن أيضاً موضوع الرغبة، إذا ما استعنّا بنموذج القوى الفاعلة في المسرح. يبدو «العبيد» كقوة مساندة للفتيات وتغيب القوى المعارضة لهن في الحكاية، ما يعني تمتعهن بسلطة كبيرة.
الخير والشر
من خلال التقدم في قراءة القصة، نكتشف أن الأسرار تخفي في ذاتها أسراراً أخرى، إنها مسألة الحرب بين الخير والشر. الرجال يشاركون في هذه الحرب، ومن أبرز الأدوات: السحر. هنا أيضاً تكشف لنا الحكاية انتماءها إلى عصرها، السحر جزء من المعركة، يُستخدم حيث يعجز البشر عن مواجهة قوة غير إنسانية. أخيراً، نلفت إلى أنه في هذه الحكاية فإن الحاضر هو علاج للماضي، القصة نفسها هي «الآن وهنا»، ولكن الحكايات التي تختزنها هي الماضي، في كل قصة استعادة لماضٍ يتم استحضاره إلى الحاضر، لنصير أمام شرط مسرحي سبق تعرف العرب إلى المسرح بمئات السنين.