حين أقرأ قصيدة غير ناجحة أحزن أكثر مما أشمت
يزل الشاعر شوقي أبي شقرا قيما في صورته الشعرية, وفي مكانه الاثير في الجبل يرصد القصيدة والهضاب الخضراء, ويبحث عن اللون المختلف والزهرة البرية ملء الوقت وملء الكلمة وملء الطفولة. لذلك يرفض أبي شقرا مغادرة المكان- الاصل رحم القرية ونبع الريف. هناك يحتمي ويتحصن بخياله وذاكرته ليعيد تشكيل العالم وفق هواه, ووفق حبر التجلي متواريا في الدهشة والاسرار. وهو منذ »اكياس الفقراء« (1959) و»خطوات الملك« (1960) و»ماء الى حصان العائلة« (1962) و»سنجاب يقع في البرج« (1971) و»يتبع الساحر ويكسر السنابل راكضا« (1979) و»حيرتي جالسة تفاحةعلى الطاولة« (1983) و»لا تأخذ تاج فتى الهيكل« (1992) و»صلاة الاشتياق على سرير الوحدة« (1995) الى »ثياب سهرة الواحة والعشبة« (1998) يتصاعد في المسار الشعري في تجربته مخترقا في الأسلوب والنبرة والاكتشاف.
شوقي أبي شقرا يمثل في حركتنا الشعرية الحديثة فسحة الخيال الطالعة من الوحدة والحزن, والمنهمرة في قريتنا حنينا وطرافة ودهشة. أصدر أبي شقرا السنة الماضية كتابه النثري الأول ؛سائق الامس ينزل في العربة«, وهو مجموعة نصوص يحيطها في العمق والروح الشعر من كل جانب. نثر يشبه النهر المسكوب من قصيدة في انسيابه وتطهره ورماده ومراياه.
ليس أصعب من الفشل في كتابة قصيدة
* كنت قد ارتأيت ان ابدأ معه أسئلة البدايات ولكن وجدت الحوار يبدأ من كتابه الأخير وهو المنهمك في كتابة مذكراته منذ الطفولة وسنوات التكوين ومدرسة »الحكمة« وحلقة الثريا ومجلة شعر ودوره التأسيسي في الصفحات الثقافية في لبنان منذ منتصف الستينات وحتى أواخر الألفين. وعبر ذلك بتطور تجربته الشعرية عبر المجموعات والقصائد, ونحن جلوس في شرفة منزله والحديقة الصغيرة الخضراء بادرته:
* لماذا ينثر الشعر شوقي ابي شقرا?
* هو نوع من المغامرة لالتقاط ما لم يتيسر للقصيدة ان تلتقطه. تنويعات على القصيدة وأكثر. لأنه في النثر تستطيع التقاط الفتات والتفاصيل والذرات, وتلتقط أيضا الكومبارس, لأن الحياة تتألف من ملك وملكة وأمير وأميرة وفارس وحبيبة والكونتيسه والماركيز والدوقة والباشا والبيك, وهنا ألملم الأشياء. الأمير يرى وزيره وقائد الجند والمستشار. ولكن من يرى العسكر والخدم وكل هؤلاء القوم الذين يؤلفون الحياة الحلوة. هؤلاء هم الحياة وأردت ان اجسدهم والتقطهم قبل ان يضيعوا. والدليل أنني حاولت وقدرت. أريد ان التقط بعض العالم الذي فلت من يدي وأنا منهمك في القصيدة.
* كلامك يشي بخوف على القصيدة, على مصيرها. هل تقلق على مصير القصيدة, على مآلها الأخير?
* طبعا هناك خوف أن يأتي شعراء أقل في القصيدة دائما وفي أي مكان حين يحصل ذلك يصيبني الحزن. حين اقرأ قصيدة غير ناجحة احزن أكثر مما أشمت. نحن مررنا وعبرنا المراحل الصعبة وليس أصعب من الفشل في كتابة القصيدة. ربما في الرواية قد تجد مبررا لأنها نثر وشخصيات وأجواء.
* ولكن علاقتك بالكلمة كانت دائما مختلفة شعرا أو نثرا. ماذا تريد من الكلمة لترضى?
* الكلمة كانت جالسة ثم نهضت الى العمل, الى الواجبات التي عليها, واجبات النزول في أذهان التلاميذ والغرق في الذاكرة والجسد حتى الأحشاء. انها التي تقوم صباحا وتظل كما هي, فلا حاجة بها الى الماء أو الصابون أو الى ما يملأها رغوة وتضيع في الخضم, وتقفل عينها ولو وهلة. هي رفيقتي دائما تقعد إلي وأنا في الخيبة وأنا في العرزال, وفي الصالون وفي السرير المصطفقة جنباته من موج أحلامي, وأنا في الحذر والشرود وقلق الصيرورة, وهي غير الخادمة والسائق الذي يفتح الباب, وغير التي تتبرج وتكشف عن أسنانها, وعن ساقيها. فهي المحتشمة والتي ثيابها فيها وليست مستعارة في أي قارة واي محل.
وليست الولد حين يلهو, وليست الورقة التي توضع على الطاولة ويكون الربح والخسارة. وادعها دائما على الرف حين أذهب الى العمل, وإلى الأصحاب. وتحفر بين يدي كلما اشتقت ولزم لي أن تكون حاضرة, فهي تطلع في القنديل, في المصباح فورا وتقول لي: مرحبا, خذني وازرعني, واضعني قصيدة أو مقالة.
* أراك هنا في القرية, في تمامك, في قصيدتك, في القرية التي استحالت في شعرك الى أسطورة خاصة بك وحدك.
* صحيح ولكن بمعنى المكان الذي عشت وتحركت فيه وعانيت. هل اشتقت للعرزال والشجر والبنفسج? أنا نمت ذات ليلة في العرزال في مكان بعيد قرب النهر. نمنا فيه كما نحن في ثيابنا على ورق العرزال, وكل الوقت النهر يخشخش حوالينا.. كنا ننام على أعواد الأغصان وورق الدلب. هل في الامكان ان نفعل ذلك اليوم. ومازلت قرويا, وكنت أسمع خبر الذئب, وكنت في غرفة القرية, اتحمم والباب مفتوح, ومر هيكل أمامي, مروس وناتئ, لعله الذئب, لعله ما نلهج به ونخاف منه, واذا شعراتي تقف رعبا, ومر هو ولازمت الماء والصابون, ولم اخرج من هذا الاطار, من هذه المساحة الصغيرة, في الصابون والماء, إلى أن نزلت شعراتي الى موضعها وعيناي الى وكرهما ويداي الى الماء, إلى الجلبة وتلك ساعتي كانت هكذا, وكان الوقت الغروب والساعة ساعة سجود, فلا ضجة, ولا هدير سواي, بقليل من الماء والصابون, وكان مضى, ورجعت الى الفلسفة, الى جدي والثياب الى عري , والماء إلى الدنيا, الى البخار, الى البحر الذي يجلس هناك, وأنا في القرية حين رجعت إليها والآن ترجع الى وحدها, والذئب لم يستطع أن يمزقها كلها, ولي جزء واسع منها, وهو لي. والذئب فليذهب الى الجاهل والأمي الى من يكتب ولا يدري فك الحرف, وما له شرف العنزة ليكون عنزة, ولا شرف الحرف ليكون القارئ.
* من العالم الذي تفتقده جميعا- عالم القرية- هل تفتقده بشعرك أم تتذكره أم تسجله وتعيد اختراعه?
* في آن معا. سجلت القرية بمعنى التسجيل العلمي اذا اردت. وفي الوقت عينه ارتقيت بهذا العالم من عادميته الى النموذج والمثال الى النموذج الانساني الذي قد يحياه الانسان بعد فترة.
* ولكن إذا تقلص هذا المكان الجميل وذاب.. هل تبقى القصيدة?
* تبقى القصيدة لأنها ليست مسحا علميا أو طوبوغرافيا بل مخاطبة انسانية خاصة.
* ذات مرة كتبت: »يفسرونه النخلة أو مهرب الدخان/ كلما قعد على الصخرة/ وتفرج على البلاد« هل تهرب في التفسير أم تتوارى?
* يعتقدون أنني ألعب. وآخرون يشككون. أنا أكتب عن بلادي بطريقتي, على هواي وليس بطريقتك أو طريقة المقال أو الفلسفة. ركبت كما يحلو لي واستطعت ان أفعل ذلك. الشعر ليس ألفاظا أو معاني تأتي خلف بعضها بل لعبة لابد من اتقانها ويكون لديك الملكة أكثر من الموهبة لتتقنها.
* شوقي ابي شقرا هل يمكن أن تتخيل العالم بلا قصيدة, بلا شعر, بلا شاعر?
* لا يمكن أبدا. كل الفنون تطمح إلى الشعر. كل شهد, كل مسرحية تطمح الى الرمز الذي هو الشعر. اسطورة »جلجامش« تطمح إلى هذا الرمز الذي هو الشعر. أسطورة »جلجامش« كل قيمتها في الطموحات الساكنة في »جلجامش«, ولولا العوامل المتحركة في داخله لما كان »جلجامش« هذه الشخصية الشعرية الآسرة. كل الحيرة التي فيه. ولولا ذلك لم يبق ولم يصل. دائما طموح الكتابة أن يصل الى النفحة الشعرية.
* الروح هي قصيدة. هذه الكواكب والمجرات واللغز الذي فيها وهذا التنكر للحياة الذي يسكنها اعتبره شعرا ونوعا من الخواء الأول الذي هو غموض. ولا يمكن تاليا التقاط هذا الغموض بالحساب أو بالرياضيات ولا يقدر طبعا اينشتاين أو سواه أن يفعل. هل يلتقطه الشعر أكثر من العلم?
* بلى, يلتقطه الشعر. والعلم يلتقطه أيضا, ولكن كل هذا الوجود الغلط هو شعري. القمر لأنه غلط هو شعري ولو كان صحيحا لصعدوا إليه وبتقنيات معينة سحبوه إلى الأرض وأصبح أرضا.
* كيف ترى إلى الشعر مقابل التقنيات… الالكترونيات? ومن يسبق من الى الخيال, إلى الروح?
* كما الالكترونيات كل يوم تتعاظم وتقوى وتبغي, وتحرق المسافات وتتقدم الى الكون اللامتناهي وإلى الشموس المحترقة, هكذا الشعر الذي يرتطم بالنفس وترتجف هي, ولا كوكب مثلها يرتطم, ولا غبار يصعد من الاصطدام, بل يكون الجرح ويكون عميقا, ولا ينصرف من هذه المروج والفجوات بل هو فيها ولا خرمشات, في رأسه من العليق ولا في هيكله. ولا عجب أن يسبق الشعر كل المبتكرات فهو في عصرنا وفي حقبتنا الآن, يأخذنا إلى وأكثر الى حيث تأخذنا الالكترونيات, الى الاوهام الراقية, إلى المطارح التي تتيه في وجودها وفي رقعها الكامن وفي استرسالها الكافي. والشعراء لا يختفون ولا يلعبون بالازرار, بل هم في الطرافة واللياقة والأسباب الثقافية العالية, وهم الذين يصقلون المفردات ويضعون اللغة بل اللغات, ومن ألوانهم يكثر الأرجوان, وتكثر الألفاظ, وتكون النتيجة انه موجودة من عصر إلى عصر, ومن حقبة إلى حقبة. ولا تقوى أبواب الجحيم عليه, والشعر له السطوة وله المهمة والملكة والموهبة والقدرة على الأيام, فلا يبوح في لحظات في برهات, في سرعة ضوئية, لاننا نزداد به رفقة وحنانا, والالكترونيات لا تجلب لنا غير وجع العينين, وان التقت معه في سواء السبيل, سبيل الحركة والتعمق في السهر وبلوغ الناحية الثانية المظلمة من الوجه الانساني والوجه المادي.
* قلت مرة إنك صرت شاعرا لتنتقم من الحياة. هل أنت راض عن الحياة أم عن الانتقام أم عن ذلك المسرى بينهما?
* أعتقد أنني انتقمت من الحياة دون أن أجرحها ولكن عبرت عن الذي عبرت عنه بطريقة انتقامية وشريفة ونبيلة. وكما يقولون بالفروسية أي الذي يقلب الآخر عن الحصان هو المنتصر. أنا قلبت الحياة عن الحصان وانتصرت عليها بهذه الطريقة. لم يكن لدي طريقة اخرى ولا سلاح. سلاحي القلم والخيال. هذا الخيال الذي أوصلني إلى أبعد ما يكون وهو الذي ارضاني وجعلني من أكون.
– الخيال العظيم وما أملكه في داخلي منه وافر وغزير.
* فقدان والدك في الطفولة ترك أثرا عميقا في حياتك وشعرك في مرحلة ما هل أبدلت حضور الوالد وبحضور اللغة بحضور القصيدة?
* نعم, اللغة صارت كل شيء, والشعر صار كل شيء, والقصيدة أيضا. ولكن طيف الوالد وشبح الوالد كان هو المسيطر. كتاب ؛ماء إلى حصان العائلة« كان عنه, وانطلاقا منه, وبالرجوع إلى جزء من الحياة اللبنانية لم يذكره أحد وحفظتها في قالب مختلف, واشتغلت على تصعيدها. الوالد كان هو البطل وفيه كل الصفات وأسراره فيه. فقدان الوالد أعطاني مسؤولية مجانية قبل الأوان. جعلني رجلا قبل عمري. وبفقداني الوالد فقدت كل شيء.. فقدت الرحمة في حياتي أو النظرة الأبوية الحاضنة التي تفكر عنك وتساعدك وتنفق عليك وتبقى تسأل عنك.
* لدي سؤال حول حلقة الثريا الأدبية التي انشئت عام 1956 وكنت أحد فرسانها الأربعة, ومنها انطلقت الى مجلة شعر فيما بعد وخصوصا انني سمعت عن طبع دفاترها ومحاضرها ووقائعها.. تلك الحقبة الغنية في تاريخ الحياة الأدبية في لبنان. كيف تنظر اليها الآن من تلك المسافة وذلك المكان المرتفع الذي تقطنه في الجبل?
* كنا حلقة الثريا وفي حلقة الثريا وكنا الثريا المعلقة في الدار والتي تشع في الفضاء, وكنا وحيد القرن في تلك الغابة من الخمسينات غابة الأدب من نثر وشعر وغابة الحرية والخلق والابتكار. كنا أربعة لمسناها, وكل له جسده وهيكله في مطلع التكوين, وكل له غناؤه المفرد, وكل له متنه الذي عليه, كما وحيد القرن تأتي العصافير والطيور وتقع هنا على القمح والحبات المغذية, وكنا بعد في مبتدأ العمر, صغارا مندفعين لا يوقفنا شيء من العقبة بل نحن نتحاب ونتآخى والآخرون لنا رفاق وتحديات والوان من المنافسة وأغصان من الحوافز التي تشعلنا وتنقلنا من حال إلى حال. لمسناها في 1956, حين كان الأمر اشتعالا ومغامرة وكانت الرعاية والظلال لمجلة الحكمة العريقة, للقيم عليها والمدير الذكي الروائي والقاص والمترجم البارع, والالمعي الاجتماعي والسائر دائما في المرتفعات وفيما بعد في مساحة حياته النضالية والسياسية في النثر السياسي واي نثر وأي شأن وأي موضوع وكان جورج غانم القطب الآخر في نثره وفي شعره النابع من مرتفعات الرومنطيقية وأقاصي العاطفة الانسانية ومن تمايلات الغزل ورقائق اللذة والعنفوان. وكان أن هذا الشاعر والناشر ذهب الى جوار الله راحلا عن دنيا ما كانت لتسعه في طموحاته وتحدياته ومشاريعه, وفي أمواج نفسه الحالمة بالمجد والاستباق والاندفاع. وكان رحيله في زمن ما ذي أثر إذ نقد الأدب اللبناني أحد ممثليه الحقيقيين في تراثه الشائق والمتين, على غرار والده الشاعر عبدالله غانم في عمق ما أبدعه من رسالة وفتون لهذا التراث.
* ومن كان معكم في الحلقة أيضا?
* وكاهن في الحلقة الناشئة ميشال نعمة الشاعر ولا أقول الناثر, بل أقول اللغوي الذي ينبثق من ذاته ويؤدب إلى ذاته ويهتدي الى ذاته وحين لم يستطع أن يقدم سوى مجموعة قصائد وسوى مجلة رعاها وحدب عليها باسم الثريا, فانه كان لغويا وكان كلاسيكيا انما ينجذب إلى ما هو على القاعدة, وعلى الوزن والقافية, ولم يمنح قلمه الحرية وغليان العصر ونار الانشقاق والتقدم, وكان أن صحته ساءت في تلك الستينات, في مطالعها, ولم يمهله الرب كي يغرق في المغافر وفي الكناس الى آخرها فاستلبه من زوجته الشابة ومن عائلته: ومن تلك التجربة التي ينتمي اليها, وهو فتى آخر من جيل راح يبرعم ويحاول الرقص والفنون شتى في التراث اللبناني. وكان في الحلقة أنا, وكنت البنيامين كما اطلق علي فؤاد كنعان هذا الأصيل اللبناني والخلاق في منكراته وفي زواياه كلها, وفي نوافذه وفي قصوره التي بناها وفي سياق أدبنا الهائم المتطور. وكنا معا أصدقاء وأحباء اذ نتلاقى فكأن العيد حل بيننا وتحسدنا الروزنامة اذ نحن نخترع المناسبة والضحكة والفرح الكياني وكلما جمعتنا المجالس وغرقنا في الكلمات فنحن في أشد المسؤولية والجدية وفي كوننا نحرص على التجديد وعلى أننا جماعة مختارة, ولولا ذلك لما كان لنا انتاج, ولما كان لنا تأثير في غيرنا, في مجتمعنا وفي الرحابة المطلقة المفتوحة لنا.
* كيف ترى كشاعر اتجاهات السفر الحديث اليوم وآفاقه وخصوصا انك من الذين أسسوا في حلقة الثريا ومجلة »شعر« لمشاريع تغيير وتحولات?
* لا تهمني الاتجاهات بقدر ما يهمني الشعراء. عندما يكون هناك شعراء حقيقيون يصير لدينا اتجاه. يا أخي لما كنا في مجلة شعر, لا أحد كان يدرك ماذا يفعل? هل كان يعي ادونيس ما يفعله? كان هناك قصة الاسطورة, وروحي يا أسطورة وتعالي يا أسطورة. استخدمها واشتغل عليها خليل حاوي وحكى عنها جبرا ابراهيم جبرا واسعد رزوق. جماعتنا لكي يلحقوا حالهم ولا يفوتهم القطار. ركضوا خلف الأسطورة. فماذا أفعل?
ولعت النار وكل ينفد بجلده, أنا لم احترق بالنار ولا ركضت خلف الاسطورة لكي أحجز كلينا في الجنة. أنا ركضت في صحن القصيدة لصنع اسطورتي الخاصة.
* أود لو نعود قليلا إلى حكايتنا مع الأرض واللغة, الى كلمة هناك تنتظر الشاعر كالاسراب فوق الرؤوس. إلى قصيدة الطريق الآخر?
* الشعراء هم الأسراب التي تحلق وهم الذين يرسمون الحدود. ويأخذون الرحيق قبل النحلة. وإذ نرجع الى حكايتنا الى الأرض التي نحتويها بالغلة, وننقذها بالكلمات ونمطر عليها بالمعاني, ولا تساوي بين من يسرق ومن يأخذ ومن يعطي. ونختار الصف الذي فيه أمثالنا, وندرك أن الوشاح, أن الرتبة لنا, وأننا ننتظر أن يبدأ الاحتفال لنسترسل في المهمة, ونستقوي بالسابقين, بالمقدس, بالروحي ولا نحرق العتيق, وانما ننفضه, ننفض الرواسب والمعلقات, ولكن ما باله الشاعر يمضي في الطريق الآخر ويختار المصير الأدنى والقلم الرصاص الذي لا يرسم اللوحة حقا.
* نعرف الكثير عن انجازات مجلة شعر ودورها في حركة الشعر الحديث. ولكن برأيك ألم يكن هناك من ثغرة, من عثرة, من جانب سلبي?
* اعتقد انها أعطت الحرية للشاعر بفائض زائد قليلا واستثني من كلامي هذا شعراء المجلة لأنهم بغالبيتهم دخلوا في الارتقاء الطبيعي, وفي التدرج والتطور من الشعر الموزون المقفى الى التفعيلة الى الشعر الحر الحديث الى قصيدة النثر وآفاق التجريب. أما الآخرين فجاءوا ليتابعوا من تلك النقطة دون العبور مما أدى الى الالتباس المجنون وإلى تفجر سجالات من حين لآخر تعيد النقاش إلى بدايته ووسط فوضى التجارب.
* سؤال أخير: ثمة كلام يطلق عن استيعاب للشعر من قبل فنون أخرى. أو القول بانتهاء دوره لصالح الرواية أو الصورة أو ما شابه, ما رأيك?
* أنا أرى العكس. أجد أن الرواية تطمح لأن تكون شاعرة, وأن الفنون كلما اقتربت من الشعر تنجلي أحسن وتصل أفضل الى السامع والقارئ والمشاهد.
الموسيقى مثلا حين تركز في الاطار العلمي فقط تخسر. بينما الموسيقى التي تقترب من الشعر وأجواء الشعر هي الرابحة وتلذ أكثر واللذة دائما شعرية لا محالة.
حاوره : سليمان بختي كاتب من لبنان