سيف الرحبي
صحوت من نوم مليءٍ بالهلوساتِ والأحلام في تضاريس ليله المتعّرج. لا أسمع إلا أصوات الغربان الآسيويّة المجلوبة من الشّرق الأقصى تتقافز على الشجرة ونوافذ المنزل، حيث تكرك على بيضها في الفتحات طلباً للبرودة التي تجودُ بها مكيّفات الهواء.
تلاشت أصواتُ العصافير والعنادلِ الصغيرة الصدّاحة بألوانها الزاهية. قمتُ متعثّرًا كأنّما من نوم طويل، لأعوام متعاقبة. فتحتُ النافذة فتدفّق ضوء النهار القويّ غامرًا غرفة المكتبة حتى الصالات الداخلية، ومخزن الحقائب والحاجيّات.
عرفت أنني تجاوزت وقت صحيان الفجر الأوّل بأصواته الحيّية الضاجّة بتغريدٍ وفرح. الساعة الثامنة، قمتُ أغسل وجهي إذ لا ملحق نوم ساعتين للإشباع والتوازن حتى ينقضي النهار المنزلي ويدلف آخر.
في غمْرة هذه الليالي (البيتوتيّة) تتركّز الأحلام الليليّة أكثر: رأيتُني صحبة وجوه من أزمنة وأماكن مختلفة يتوافدون بكرم في حياة الأحلام الصاخبة المُشتعلة، في مدن العالم المختلفة. وجوه ومدن ما إن تظهر وتنجلي ملامحها حتى تميع وتذوب كالشمع في تضاريس الهذيانات والأحلام، في فضاء الشوارع المفعمة بالمارّة والصخب، المطرّزة بالمطاعم والمقاهي والمحلات، وجوهٌ ومدنٌ سكنت الذّاكرة منذ مطالع هذه الحياة التي كلّما تراكم عليها الزمن والأحداث والنكبات، ازدادت بريقاً وجاذبيّة، وازداد أصحابُها تشبثًا بما تبقّى من إغراءاتها وجمالها؛ كأنّما هذا البريق والجمال العابر الفاني حتماً، في لحظات بعينها، يتنازعُ الوهمَ والمكانة مع أطروحات وهم الرسوخ والخلود.
الأخبار تتدفّق كالسيل العَرِم، عن انتشار وباء (كورونا)، ويلفّ العالمَ بحمُولاته الجهنميّة السوداء بأبعاده الواقعية والخرائب.
صوت «الصفرد» وهديلُ يمامٍ يتناهى من التلال القريبة والأودية. أمضي إلى شُرب القهوة والشاي، لعلّي أصحو من ذلك السبات الدهريّ وكوابيس ليلهِ التي لا تنتهي.
إنّ سنوات العمر كلمّا تصرّمت وانقضت، ازداد صاحبُها – خاصّة إذا كانت الصحّة لا تشكو من الكثير- تمسّكًا ورغبة بها ولأوقاتها الجميلة السريعة الزوال.
لذلك يُلاحظ المرءُ أن رغبة الانتحار ونزوعه، تُهيمن في مُقتبل العمر أكثر من متقدّمه. تلك الرغبة التي تحتدم وتلحّ، يغذيها شعورٌ طوباويٌّ بعدم كفاية الواقع وقسوته التي لا تحتمل مثل تفاهته وانحطاطه، فتجمع الحياة وينفجرُ الحنين إلى المناطق الوعرة للقصيّ والمُستحيل، مصحوبًا بهواجس العجز عن تحقيق ذي قيمة وعلوّ، وفق شطح الحالم، وسط هذه المناخات المدلهمّة المسيطرة على تفاصيل الحياة ونوافذها المُغلقة من قبل قوى الانحطاط والخراب.
مع تصرّم سنوات العمر و«نضجه» ربما يقل هذا الشعور ويتقلّص لصالح التكيّف ما أمكن، في استثمار الجانب الجمالي الإنساني الذي تتيحه، ولو من غير سخاء، مساربُ هذه الحياة وتقلباتُ المسار.
لذلك يمكن الملاحظة بسهولة، أن أولئك المنتحرين في تاريخ الأدب خاصة، من الفئة العمريّة المبكرة، حيث العَدم في اندفاعه الفتيّ الطازج، يسدّ الآفاقَ الخصبَة والنوافذ والأبواب.
البارحة، عبر الهاتف قال لي صديق قديم، ضمن سياق الكلام: لا أعتقد أنّك تأثرت من العزل الصحيّ؛ فحياتك السابقة في مسقط، لا تختلف كثيرًا. أجبتُه أن الاستثناء الأهمّ بالنسبة لي هو السفر، متجهًا إلى المطار أو قادمًا منه، وقتما أشاء، والذهاب اليومي إلى حديقة الفندق المتاخمة للفضاء البحريّ بسواحله الطويلة الشّاسِعة، وهذا المناخُ الكابوسيّ الذي يلفّ العالم من أقصاه إلى أقصاه.
اختتمنا المكالمة كبقيّة المكالمات من الداخل العُماني (شدة وتزول)، أو الخارج حيث ينتشر الأصدقاء والمعارف، في معظم أنحاء هذا الكون المترامي بتناقضاته وحروبه المختلفة، الذي وحّده الوباء المستجدّ، أيّما توحيدٍ لم تستطعه حروبٌ عالميّة سابِقة. هذه الولائم والموائد المُحتشدة بالهواجِس، والهَلعِ وترقّب المجهول القاسِي، التي لا تبخلُ وسائل الميديا بسطوتها المطلقة على هذه البشرية الحائرة المتخبطة بين أسنان آلتها الطاحنة، حتى لتكاد لا تميّز بين الواقع والخرافة، بين الرعب الحقيقيّ النّاتج عن الحدث الثقيل الوطأة، وبين أعاصير فيلم خيال علمي ستنتهي (هوليوود) من عرضه بعد انتهاء الفترة المحدّدة.
هل هذا الحدث الوبائيّ غير المسبوق يشكّل بداية زمنية وقيميّة جديدة؟! بطبيعة الحال ستختلف المقاربات من شخص إلى آخر، ومن تجربة إلى أخرى. كتب مفكّر سوريٌّ أنّ هذا الحدث بما يعنيه من خوفٍ وحيرَةٍ وقلق، يقضّ المضاجع وينتزعُ الطمأنينة، ليس بالنسبة له إلا استمرارًا لعذاباتِ سجونِ بلاده التي قَضَى فيها ستة عشر عامًا، وحروب الإبادة الجماعية والتّصفية والتّدمير، فهو وأبناء تجربته الأليمة في كل مكان وزمان (العربيّ الرّاهن في هذه الحالة) ينظرون كما يشعرون بحلقات الألم والمنفى والعزلة القسريّة، متواصلة ومتداخلة بشكل وجودي وعضويّ، فليست محنة الوباء، إلا حلقة في هذا المسار الممضّ الطويل.
وكان المتصوفة قد وصفوا الكون بالإنسان الكبير، ضمن تداخُل مركز الوجود ودوائره، راهنًا يتداعى له بقيّة الجسد بالسّهر والحُمّى، وفقَ حديثٍ شريف، تحت قصف الفيروسِ المستجدّ، وهو نفسه (الكون- الجسد أو الإنسان) لم يتداعى حين حلّت الكارثة على جزءٍ منه في بلد أو قارةٍ ما، بحكم الحروب، والقمع الوحشيِّ والمجازر، إلا كعناوين أخبار روتينية تمرّ مثلها مثل أخبار عروض الأزياء ومنافسات كرة القدم ومستحضرات التجميل. وهو ما يُفصح عن علّة بنيويّة عميقة في هذا الجسد، المُتخم أيضاً بالأنانيّة الوحشيّة وغض الطرف عن الآلام الرهيبة التي تنزل نوازلها بالآخرين في «الأسرة البشرية» النازعة إلى الهيْمنة والاستحواذ والتفوّق بأشكالهِ السيّئة دائمًا.
والنظريّة الفيزيائية القديمة في ترابط أجزاء الكون وخلاياه طبيعة وبشراً، القائلة بأن الفراشة حين تهزّ جناحيها في الصين، تخلق الأعاصير والعواصف في أنحاء العالم الأخرى، ربما تمثيلاً على القصيّ والشديد البُعد في الخيال البشريّ على طريقة الحديث النبوي الشريف «اطلبوا العلم ولو في الصين» من جهة ورود اسم الصين، وليست غيرها من جهات الكوكب الأرضي الذي صدَّرت إليه (الصين) كل هذا الزّخم الوبائيّ الجاثم. في هذا السياق أيضا «إن أي تغيير في نظام المدخلات يؤدي حتما إلى تأثير كبير». ومثلوا أيضا برفرفة الفراشة في البرازيل التي تؤدي إلى زلزالٍ في تكساس. وحسب الفيلسوف الألماني «فيخته» لا يمكنك إزالة حبة رملٍ من مكانها دون تغيير شيء في جميع أجزاء الكل.
أيام متشابهة رتيبة تتناسل في هذه الأضرحة والكهوف «الحديثة» التي تُسمّى بيوتًا ومنازلَ وفيللًا وعمائر. لكنّ التّشابه والرّتابة كانا موجودين قبل الوباء وسيظلان بعده؛ خاصّة في بُلدان الأقاصي والأطراف حيث محدوديّة الحياة والأنشطة البشرية الجارفة. لكن حتى في هذه المتفوّقة بشكلٍ لا يستدعي المقارنة، بأنشطتها وحيويّاتها الخلّاقة المتموّجة السريعة الجريان والحركة، لا بد للفرد والجماعة، من صنع نمطٍ روتينيّ تمضي على هدْيهِ لإنجاز أعمالها ومتابعتها اليومية في المدن والأرياف المختلفة؛ وإلا ستعمّ الفوضى واللانظام الذي انبنت عليه أركان الحضارات والعمران البشريّ بكامله. وهناك المخاوف إيّاها، لكن بشكل طبيعي هادئ، مخاوف الموت والمرض والمجهول الذي رغم تسْطِيره في لوائح وقوانين وأرقام يعرفها الجميع، يظلّ في جزء من أعماق الكائن ملّبدًا بالريْبة والغموض.
لكن بداهةً يظلّ الفرقُ الجوهريُّ بين هواجس ومخاوف جريان الحياة العاديّة وسيرورتها الاعتيادية، وبين شروط هذه الحياة الاستثنائية التي تنزل فيها الأحداث القدريّة من حروب وأوبئة، كالصواعق السامّة في أرجاء المعمورة تجوس فيها أشباح الخراب، على رغم هذه الذرى من التكنولوجيا والتطور العلمي وقوة العمران والحضارة من صنع أيدي البشر وعقولهم التي تصنع قيم العمران والتّرياق والنعمة متواكبةً مع الجراثيم والسّموم والخراب، تقف حائرة مرتبكة، عاجزة ولو لفترة تطول أو تقصر أمام هذا الزّحف الأسود.
أن يرى الواحد منّا على سطوع الشاشات المُختلفة مدن الحضارة العظمى، خاصّة على ضفتي الأطلسي من نيويورك حتى برلين ولندن وباريس وروما… إلخ خاوية على عروشها، تجوسها أشباح الخطر والموت بسب هذا الوباء الذي ليس له من دواء حتى اللحظة، والتضخيم والتهويل الإعلامي أكثر من الوقائع على الأرض. هذه اللحظة من انفجار المخاوف واحتمالات الخطر الكاسح الذي لا يُبقي ولا يذرُ دفعة واحدة كأنّما هو ملخص لانفجار المخاوف البشريّة في عصورها المختلفة، منذ حياة الكهوف حتى هذه البرهة التي كأنّما تدشّن لمشهد قياميّ قادم.
أن نقرأ لكتّاب وفنانين وفلاسفة، يقطنون تلك المدن الكبيرة، بتلك النّبرة اليَائسة الحزينة، التي لم نعرفْهَا لدى أسلافهم حتى في عزّ ذروة تلك الحروب، التي كانت تجندل عشرات ملايين الجثث، في كل الأنحاء والبلدان حيثُ الأنهار تمضي بغزارة الدماء المتدّفقة من الضحايا والمقتولين والجرحى، إنّ ذلك لأمر جللٌ وبرهةٌ تنوء بأثقال احتمالاتِها الجبالُ والمدن والوهَاد.
تدفّقْ بصوتك يا عصفور الصباح
الصادح بالأمل والذكريات
البشريّة ثكلى في المنازل والكهوف
وأنت بسُلالتك البعيدة
تلثم الفضاء المغبرّ بطلائع الصيف الحارق
يا من اختارتك المشيئة والقدر
لتكون الكونيّ رسولَ
الحُبّ والشفاء، على نقيض أوبئة الطّبيعة والبشر الكاسرة
لتكون مع أعراق طيور الصحراء،
وتلك الغربان المكلومة بظلم الأحقاب كنذير شؤم وخراب
وهي الرائية في ليل البشر الأعمى.
بارككِ الخالق يا أشجار الحلم
الميموزا والسّدر والغاف والإثل
المُنتشية، على رغم جبروت القائلة،
بالهُبوب القادم من المحيط
يا طُيورًا تستوطن ضفاف الأودية والنوافذ والأسلاك،
لتكوني ذخرًا في أزمنة الوباء والجفاف.
أيّتها الأرواح المكتفية بذاتها، لا
تُريدين شكرًا ولا امتنانًا من أحد،
لأنّ المشيئة صنعتك على شكل الرحمة المجردة والغفران.
الأحداث العنيفةُ البالغة الشراسة والعدوانيّة مثل حروب البشر والطبيعة، البراكين والزلازل والأعاصير والأوبئة، مثل هذا الوافد الإمبراطوري المستبد بغموض رُعبه، أكثر من وضوحه الذي تحيط به الحقائق العلميّة التي قطع في إنجازها ومكاسبها البشر وتخيّلهم عبر تاريخهم السحيق. والمسافة الأسطوريّة من العلم والمعرفة الرياضية والرقميّة، التي قطعتها وأنجزتها الحضارة المعاصرة، تقف شبه عاجزةٍ مرتبكةٍ أمام هذا الإمبراطور التّدميري الجاثم. الرعبُ الحقيقيّ الذي يمزّق النفوس والمشاعرَ ويقلق الحياة قاذفًا بها إلى هاوياته التي بلا سقف ولا قرار، وإنما يخوض حربَه عبر سراديب الغموض، الألم الممضّ والموت، حتى تتضح ملامح القاتل ويتم القبض عليه وإعدامه، أو كمونه، ليظهر في مرحلة زمنيّة أخرى بأشكال أخرى. الفيروسات في رحلة الحرب هذه أكثر مكرًا وفتكًا من البشر على رغم الإنجازات العلميّة العظيمة وبحثها ومختبراتها، آناء الليل والنهار البشريّين. باستمرار تلقائي تطوّر آليات كينوناتها ودفاعاتها، ضد هجوم البشر، ومصدّاتهم الترياقيّة وذكائهم الاصطناعي. إنه الفصل الجديد في مسار حروب التاريخ الأكثر غموضًا وتعقيدًا وإبادة، حروب الفيروسات والجراثيم التي من صنع الطبيعة الخالقة ومن صنع البشر وذكائهم التّدميري، الذي تجاوز متطلّبات الحياة والقيم والحدود.
هذا النوعُ من الأحداث البالغة العنفِ والغموض في التاريخ والحياة بانعطافاتها الحادّة، ماذا يستطيع التّعبير الأدبي والفنيّ إزاءَها، أيّ طرقٍ وأساليبَ وأشكالٍ تستطيعُ مقاربة الحدث وحتى مُلامسة هوامّه وحضوراته الجارفة؟
إنها الحيْرة، أشباح الموت التي تؤثث مُدن الحضارة الكبرى، بديلًا عن شعوبها المنكفئة خلف النوافذ والأبواب المُوصدة.
إنه سؤال الوجود والعَدم، الحياة والفناء في رحلة العبور البشري على سطح هذه الأرض التي بدأ يستبدّ بها الهرمُ ونداءُ الأسلاف المتواري خلف الأجداث والمجازر والسنين.
حضور العلوم الرياضيّة التجريبية، الرقمية الصّارمة، مع غياب الملاذات الروحيّة والقيمِ العادلة الصادقة على بساطتها العميقة تشكّلُ السلوانَ والعزاء.
لم تستطع التكنولوجيا الرقميّة وغير الرقميّة بسطوتها على البشر الذين أحالتهم إلى قطعان مُذعنة، أن تحلّ محلّ الإله والروح الأعلى.
ها هو الزحف الأسود (الجائحة) جرف الجميع، العلماء والمتحضرين، قبل المتخلفين والجهلة، بمعايير الحداثة السائدة، إلى عرين الحيْرة والخوف، كما في العصور البدائية للكائن، والهروب والارتباك.
«البشر هم المخلوقات الوحيدة التي تدّعي أن لها إلهًا، وتتصرف كأنما ليس هناك إله».. ربما المخلوقات الأخرى تحسّ في أعماق كينونتها (من غير دليلٍ علميِّ ولا غير علمي) بالخالق أو الإله. وتضبط حركتها وسلوكها في الأطوار المختلفة على هذا الإحساس العميق الغور، وغير القابلِ للشّرح المنطقي كما لدى البشر العليّين في سلّم الخلق والمخلوقات.
ولجوء هؤلاء البشر العقلاء، إلى ربهم وخالقهم، في أوقات الشدائد والكوارث بكل أنواعها، ألا يفسّر سلوكاً انتهازياً، يسببه العجز؟ وحين يعودون إلى سوّية الحياة والقوة الواهِمَة التي يستشعرها أو يستبشر بها بعضهم يتصرّفون ويسلكون وكأنما ليس هناك من حدّ قيميّ، وإله؟!
في غمار الحضور الأسطوريّ لهذا الوحش أو ظلاله في أعماق «طيبة» العالم وعلى مداخل الأبواب والنوافذ، كأنّما هو الخلاصة المنتظرة المركّزة الشديدة التكثيف وبذخ الحضور، رغم تواريه خلف الأدغال والأكمات، بدأ الحديث في مكان ما، وعلى مستويات الفنّ والإعلام والسياسة، بافتراض، ماذا لو كان «الخوف»، الخوف وحده، هو البطل الأسطوريّ لهذه الحلبة الكونيّة المضرّجة بالهلع والدماء؟ ستسيل الأجوبة الافتراضيّة والواقعيّة عبر شبكات التواصل والعزلة، سيلانًا يليق بالحدث النوعي غير المسبوق. لكن ما الذي سيتغيّر في سياق النتائج؟ سواء بالنسبة للمخططين اللامرئيّين مثل الوباء نفسه، أو المرئيّين، أو أنّ القدر الضّاري هو المخطّط الاستراتيجي الأوّل، وذلك النّفر من البشر الأقوياء يستثمرون إنجاز القدر الوحشيّ لوجهة مصالحهم وأطماعهم بنهمٍ لا تنضب له رغبة أو معين. أن يكون «الخوف» وحده السند المُطاع أو ذلك المزيج المركّب من حدثٍ واقعيٍّ صُعُده الفزعُ والذعرُ من المجهول، إلى أسطورة رُعب وموت لا تقهر. مهما كانت الافتراضات والوقائع التي من الصعب الفصلُ بينهما في ظل هذا التشويش والضباب الجاثم والارتباك، ستشق النتائج، جرّاء هذا الحدث، طريقها في تشكيلِ عالم الغد، من غير تفاؤل يتّسم بالسّذاجةِ، حول العبرة والدرس الإنساني والتّسامح والتّضامن الذي أمْلته المحنةُ الكبيرة التي ألمّتَ بالبشريّة جمعاء.
على الأرجح سيتربع أباطرةُ المال والنهب المنظّم لموارد أرض البشر في كل القارّات والبلاد، وسيفتح مصّاصو الدّماء طرقًا جديدة لمصالحهم واستثماراتهم على حساب مُعظم شعوب هذا الكوكب الذي تفترسه الحروبُ من كل نوعٍ ونسل، ويفترسه الظُلم والنكبات.
الثلاثاء 7 أبريل الموافق 17 شعبان المُفضي بداهة إلى شهر رمضان المبارك. الخامسة صباحًا، بزوغ صوت العصفور الأول على الشجرة المباركة التي زرعتها يدُ الفنّانة المُبدعة. كان المؤذن في المسجد القريب، أو الأصوات القادمة من بعيد في المدينة شبه المهجورة، قد أنجز مهمّته. لا أعرف إن كان المؤذنون يذهبون إلى الجوامع والمساجد منفردين، أم أنّ الأذان مُسجلٌ ومُبرمج وفق الصلوات الخمس، كأحد أركان الإسلام المقدّسة؟
أحاول الإصغاءَ إلى صوت العُصفور الذي سيتبعه آخر، وهديل يمامٍ وصخب غربان محليّة، وتلك المجلوبة من الأقاصي الآسيوية، بضجرٍ ورغبةٍ تُقاوم الانطفاء والغروب. وكنتُ البارحة مساء مع ناصر وعزان، نتمشّى وقت الغروب، في فناء المنزل وعلى الجنبات خارجه حين بدا القمر بدرًا مكتملَ الهيئة والجمال. وثمّة في هذا الفضاء المُقفر، عائلةُ إنجليزية، مكوّنة من الزوج والزوجة وطفلهما الأشقر، بصحبة خادمة آسيوية يتنزهون في الجوار. كل يوم يأتون من بيتٍ مجاورٍ ليقضوا وقتًا، في جلب الصخور المختلفة الأشكال والألوان، ليبنوا بها في الأرض الفضاء بيوتًا وحدائق بأشكال هندسيّة مُتقنة. هذه العادة صارت جزءًا من برنامج نزهتهم اليوميّة التي تفضي بهم أحياناً إلى وادي (غلا) القريب. وكان دائما بصحبة العائلة كلبها الذي تبدو عليه القوّة والشّراسة في نظراته، التي تتطاير شرراً إلى الأجسام البشريّة القليلة التي يلتقطها بنظره الحادّ. كانوا قد أرْخوا عن خطْمه القناع، ليس قناعَ الكورونا وإنما قناع الضبط والتأديب، وألجموه صخرة بين فكّيه، موثوقًا بحزامٍ بلاستيكي إلى يدِ صاحبه أو يد العاملة الآسيوية.
حين صحوت في الخامسة صباحًا، رأيت القمرَ البدر المُنهك من فرْط الأسفار والترحّل، على وشك الغروب النهائي، دقائق واختفى.
أتذكر، هنري ميللر، في إحدى رواياته، حين كان يمضي ليلًا على غير وجهة في الشارع الكبير، مفلسًا يائسًا، بالغ السخط والقرف، يلعن الكون والكينونة والبشر والحيوان، حين لاح له من بين أكوام المزابل المبعثرة، ضوء القمر الساطع بنشوة وابتهاج، ولسان حاله يقول: من أنت يا هذا، تلعن العالم، لأنك مفلس في هذه اللحظة، لقد صار لي ملايين السنين وأنا أضيء هذه المخلوقات والأكوان من غير أن أسمع كلمة شكر واحدة ولا امتنان من أحد!
ذكّرني كلب العائلة الإنجليزية بنظراته المرتابة المتوحّشة لأي حركة أو ظلّ شبحٍ يعبُرُ أزقّة الحيّ الذي نسكن، بكلاب الزّمن الماضي التي كانت تملأ فضاء الليل بالعُواء والنُباح، وتملأ النّهار بالقفز والحركة. لم تعُد موجودة حتّى كعيّنة لذلك الوجودِ الباذخ، الذي كان جزءًا من ألعاب طفولتنا الآفلة وصخبها سواء في البندر (مطرح) أو في القرية (سرور) أسوة ببنادر وقرى عُمان قاطبة.
تتصرّم الأيام والأسابيع، وأنا أواصل تجوالًا يوميًّا حول البيت الواقع على تلّة جبليّة، تُطلّ على الشارع السريع، وعلى وادي (غلا) الجافّ إلا نادرًا من المياه، لكن المأهول بتلك الأشجار التي تُغالب حتفها في العراء الحارق، الجحيميّ صيفًا، في العزلة والريح. تُغالب العُزلة والموت والمحْل، وتنتصر للحياة والاستمرار فصلًا زمنيًّا بعد آخر. لقد أوتيت هذه الأشجار والحيوات، قدرة خارقة على المقاومة والصمود في وجه عواملِ الذّبول والفناء، أكثر بما لا يُقاس من أشجار الغابات المطيرة والطبيعة التي تشملها نعمةُ الطقس الخصيب والنماء. أشجار العُزلة الحجريّة والأخاديد والقنوات التي جفّت أنهارُها منذ قرون بعد أن دارت الطبيعة دورتها الجيولوجيّة الكبرى، فأصبحت الحياة والنماء مهمّة شاقة وكفاحًا ضاريًا، في سبيل البقاء والاستمرار.
لا في السفوحِ ولا في أخاديدِ الأودية، تلمح قطيعَ الكلاب الشريدة، كما في الذاكرة، أو جزء منها يتكون من كلبين أو ثلاثة، لقد انقرضت على ما يبدو وأدركها السّحق والأفول، كما أفَلَت الحمير الجميلة، المتنوّعة الألوان والأشكال التي كان نهيقها يسرح في الجهات العُمانية قممًا وسفوحًا، بنبراته المموسقة المترحّلة في خضمّات الفضاء المُترامي الذي يطويها في أعماقه السّحيقة.
في اليوم التّالي بنفس التوقيت، القمر البدر أعلى من منطقة الأفول، يمكن رؤيتُه متمايلًا على إيقاع تمايُل أغصان الشجرة، وضّاحًا، أضواءه التي بدأت في التّعب على غدور الشجرة وأغصانها المُتمايلة بفعل ريح خفيفة من جهة البحر العُماني.
كنتُ أتذكّر ابن أبي ربيعة في قصيدته المُدهشة:
«أمن آل نُعمٍ أنت غادٍ فمبكرُ
غَداةَ غدٍ أم رائحٌ فمهجرُ»
حتى قوله:
«وغاب قميرٌ كنتُ أهوى غيابه
ولوح رعيان ونوم سهَّرُ».
لأنّ القمر ربّما سيفضح تسلّله خِلسة إلى الحبيبة
المُحصّنة، الواقعيّة، أو المُتخيّلة، وفي هذه اللحظة وقبل أن يتيه في خمائل العشق وملذّات الغرام، هجمَ على مقطع غنائيّ لمحمود درويش من قصيدته الملحميّة (أحمر الزعتر):
«قمر على بعلبك، ودم على بيروت
يا حلو من صبّك فرسًا من الياقوت»…إلخ.
هذا المقطع يأتي كصوتٍ يُردّده الكورس في سياق تلك القصيدة التراجيديّة الشاسِعَة التي تقارب ذلك الحدث الوحشيّ ضمن سلاسل الأحداث التي لا تقلّ وحشيّة في الحروب «اللبنانية، الفلسطينية، الإسرائيلية» على أرض البلاد الشاميّة التي استمرّت وتستمرّ بُعنف وبربريّة أكبر، تتناسل فصولًا ونكبات.
بعد الإجهاز على العِراقِ الذي أبدى حيويّة في مقاومةٍ تَليق بتاريخه في الفترة الأخيرة، ضدّ كُلّ الأوبئة والفيروسات التي تُحاول افتراسَ ما تبقّى من النّبض والعَصَب والكَرامة، ها هي بلاد الشام أنهار لاجئين وقتلى ومُعتقلين، في كل البلدان والأرجاء والفضاءات التي أضحت مع تضاعف اللجوء، تنظر بعدوانية إلى هؤلاء اللاجئين الجدد. وربّما مع اشتداد وانعدام الحماية التي افتقدوها في أوطانهم الطاردة، لا يُستقبلون في مدن وبلدان الآخرين إلا كأوبئة وفيروسات تؤرق حياة تلك الشعوب الحضاريّة المستقرّة. إن فيروس كورونا، ليس إلا تفصيلًا من تفاصيل المرض والموت والدمار، لهؤلاء النازحين من آلة القتل والخراب، تفصيلًا ضمن تفاصيل لا تُحصى من جوائح الكوارث والأمراض. كأنّما الأقدار المأساوية دومًا، تُلقي بمراسيها في هذه البلدان المُفعَمة بالنكبات، فيروس كورونا، لينضمّ إلى الفيروسات المستوطنة والمتناسلة منذ أزمان، التي تفوق، حتى اللحظة الفيروس المستجدّ، فتكاً وموتًا جماعيًّا وخرابًا من كل نوع.
«لا نسمع إلا زقزقة العصافير وصدى وقع خطواتنا على إسفلت الشارع والساحة المهجورة…» كان المُذيع المُراسل يَقِف على صحن ساحة الكونكورد الباريسيّة الشهيرة، أمام حديقة التويلري، عن يمينه فندق كريّون والسفارة الأمريكية، وقصر الإليزيه.. واستطرادًا إلى الأعلى شارع الشانزليزيه حتى قوس النصر. هذه الأماكن والمعالم الثقافيّة، السياسيّة، والسياحيّة، كانت هي الأكثر احتشادًا بالبشر والمركبات من كافة أنحاء العالم، بالحركة والحياة الكرنفاليّة التي لا تهدأ ليلاً، ولا نهاراً على تعاقب الفصول والأيام، «أضحت يبابًا وأضحى أهلها ارتحلوا». لم يرتحلوا إلى البعيد، بل لاذوا من أشباح وحوش الوباء اللامرئية، بالمنازل والجدران والأسيجة، ولا أخال أن (كلوشارية) المترو في أنحاء باريس إلا أنهم اقتُلعوا من باطن الأرض التي تسرح فيها القطارات إلى ملاجئ خاصة. والصور الناطقة مشهدًا ينضح بالهجران والهلع والغياب القسْري القاهر، الذي لم تشهده المدينة حتى في أقسى احتلالاتها وحروبها، تلخص (الصورة) انطفاء حيوية باريس في كل الأنحاء والأحياء والمعالم، كما تلخص صورة المدن الأوروبية، وعلى ضفتي الأطلسي وصولًا إلى نيويورك وسائر المدن الأمريكية. أركان الحضارة البشرية المعاصرة، نبع الحداثة، والإمبريالية. العلم والفنون وسائر الإنجازات العظمى «أخنى عليها الذي أخنى على لُبدِ». هذا الاختبار، ربما هو الأعظم في تاريخ هذه الحضارة الذي لا يأتي خطره المحقّق من دول وأعداء، من بني البشر يتمّ التعامل معهم وفق المعايير المعروفة لمُقتضيات القوّة الساحقة وإنجازات المَعرفة العلميّة المعدّة والمُنجزَة سلفاً، وإنّما على الأرجح من الطبيعة الصّامتة التي ربّما تراكم غضبُها وعنفُها جرّاء الانتهاك والاعتداء السافر على حُرُماتها ومُقدساتها الملفّعَة بالغموض الميتافيزيقي على رغم التقدّم العقليّ والعلميّ، الذي ذهب بعيدًا في فكّ أسرار هذه الطبيعة وترويضها أيّما ترويض واستئناس حتى الإذلال، ها هي تنفجر وتُبيد بتجليّات وأشكال مختلفة. ها هي ما تزال قادرة على التهديد وبثّ الرعب والشتات في كل القارات والأنحاء، وعلى رأسها البلدان والدول الممسكة بمسار التاريخ والتقدّم الأقصى والحداثة. هذه البلدان أكثر من غيرها بحاجة إلى أن ترى بطريقة مختلفة، بحاجة إلى بعض التواضع والتقليل من تعالي الغطرسة والغرور، وإلى شيءٍ من العدالة في النظر إلى «الآخر» الذي تنظر إليه كفيروسات تهدّد وجودها عبر تحليق خطره الوهميّ واحتقاره، تارة عبر فيروس «الإرهاب» الذي جرى تصْنيعُ وهمه إلى مقتضى الإبادة وتشريد الملايين من ديارهم وأوطانهم؛ ومن ثم التعامل معها كميكروبات، لا بدّ أن تنكفئ إلى ملاجئ ومعتزلات، أو عبر مقتضيات المصلحة الأنانية حدَّ التوحّش، في دعم تصنيع دولة هي خلاصة النفايات الرأسمالية في تاريخها الوحشي مثل «الصين» التي لا يعني البشر والإنسان في مفهومها وسلوكها إلا أداةً رخيصةً و«فائض قيمة». ومن على نَمَطها من دولٍ أقلَّ شأنًا وقدرة بالطبع، حظيت من قبل (الغرب وأمريكا) بالدعم العلنيّ أو الضمنيّ، أو بغضّ النظر عن الارتكابات الفظيعة.
ها هو المشهد الكروني الكالِح يتبدّى في أكثر صوره قتامةً وانحطاطًا وألمًا. هل ستفتح هذه المحنة، طريقًا جديدًا للرؤية والسلوك؟!
أتذكر (أناشيد مالدرور) لـ «لوتريامون», ذلك الكتاب الطالِع من لَهَب الأعماق والمناطق القصيّة في النفس البشرية التي تتقاذفها أمواجُ الغضب التدميري والتشظّي المحتدم بالرغبات المؤودة، وذلك الحنين الغامض إلى الشبيه والمُطلق. كتابٌ فريدٌ أبَدعه خيالُ شابٍّ لم يتجاوزِ الثّلاثين من العُمُر الذي اختُطف باكراً، وقد جعله السورياليُّون أحدَ أناجيلهم ومراجعهم في حريّة المخيّلة وجُموحِها اللامحدود، وفي تحطيم الأنماط التعبيريّة المُتداولة والمُتوارثة، باتجاه فضاء حرٍّ وجديدٍ كلَّ الجِدّة؛ فهو يلتقي مع (رامبو) في أكثر من منطقة حياة وكتابة (ينبغي أن نكون مطلقي الحداثة) من غير قيود.
قُدرَ لي أنْ أقرأ هذا الكتاب حين صدور طبعته العربيّة، في بيروت قرأته وأعدت القراءة عدة مرّات بين الشام وبيروت مطلع الثمانينيّات وبين العاصمتين في (السرفيس) جيئةً وذهابًا، فاستحوذ عليّ كإعصار اقتلعني من كل الجذور والصلات الغرائبيّة والثقافيّة السائدة لبرهة من الزمن.
«هكذا إذا بامالدرور، غلبت «الأمل» من الآن فصاعداً سيتغذى اليأس من أصفى جوهر فيك»
«ظنّ الإنسان نفسَه جميلاً في كل العصور. أنا أفترض أن الإنسان لا يُؤمن بجماله الإبداعيّ إلا بدافع الكبرياء؛ لكنّه ليس جميلًا حقًّا وهو يشكّ في هذا الأمر؛ إذ لماذا ينظر إلى شبيهه بكل هذا الاحتقار».
«إنّ عائلة الآدميين الكونيّة الكبرى هي فكرة طوباويّة خليقة بأردأ منطق».
وذلك المشهد الرهيب وسط لجج المحيط الهائجة، حين يحدّق في عينيْ أنثى القرش، ويقول: ها أنا أخيراً أعانق شبيهي الذي بحثت عنه طويلاً.
كتاب هو المحيط المضطرب نفسه لتعدد مصادره ومصبّاته، بهوامّه وغُموضه، بصمته وصُراخ غضبه الجارف.
في هذا العام الذي شرّفنا فيه رمضان، وقد سبقه حرّ الصيف و»الكورونا» بمناخه الذي وحّد البشريّة توحيدًا قسريًّا غير مسبوق في جميع الأزمنة التي تصرمت على ظهر هذا الكوكب المحدودب من فرط كثافة المآسي والشرور والاختلالات بكل أصنافها ومشاربها. في هذا العام يتقلص الاجتماع البشري الذي كان في الماضي العلامة الرئيسية للطقوس الرمضانيّة، سهرًا ولعبًا لأصحاب الألعاب، وصلواتٍ وتديّنًا لأصحاب الانقطاع إلى الأعلى حقيقة أو تمثيلاً يشبه غسيل الأموال القذرة، وأكلًا لكل أصناف ما لذَّ وطاب يفوق الحاجة والمُتطلّب بحجم خرافيّ كأنما هناك مبارزة بين الجماعات والعشائر والأفراد في قطع أعناق الذبائح المسكينة التي تستكمل حلقاتها الهستيريّة أيام عيد الفطر المبارك، وتكديس الحلويّات والأطباق، وما لا يعدّ ولا يحصى. على الأرجح من غير تفكير ولا رفّة جفن- لدى أولئك القادرين على تبديد هذه الأطباق والصواني كل يوم – تجاه إخوانهم في الدين والهويّة والإنسانية، أولئك العالقين في الملاجئ والسجون والمخيّمات في أقسى الشروط وأعتاها. أتذكّر ذات مرة حدَثَ نقاشٌ من هذا القبيل الأخلاقي والإنساني، وكثر الكلام الذي يُدعى بالتحليل، حتى انبرى أحدهُم وكأنّه اكتشف شيئاً مذهلاً «إذا سلمت ناقتي ما عليّ من رفاقتي»، وأردف أن هذا المثل العُماني هو الحلّ لمثل هذا الوضع، حيث أجبته: أن هذا ليس مثلا عُمانياً؛ إنه إزاء الوضع الذي نحن بصدده، نموذج للوضاعة الأخلاقية، وتجفيف لإنسانية الإنسان بتحويله إلى هذه الأنانية الوحشيّة، قناة بلْع وإخراج وظلم للآخر. أنت تُهين الموروث الشعبي الُعُماني المليء بأمثلة النجدة والإخاء والمودة بين البشر.
في هذا العام الاستثنائي، تقلّص الاجتماعُ والسهر والولائم عدا عبر شاشات الأجهزة التي أحكمت سيطرتها المُطلقة ونفوذها أكثر من ذي قبل، وعدا المسلسلات التي يهيئها أصحابها على مدار العام، ومعظمها تهريج ثقيل الدم والحركة و«دراما» مفتعلة بليدة، ربما تليق بأزمنة الانحطاط البشريّ ورخائه المصطنع؛ لكن ليس في هذا الوقت الذي تشنّ فيه فيروسات الطبيعة والبشر كل هذه الحروب الطاحنة.
صباح الثالث من رمضان، أطلّ من غرفة الأولاد ناحية المباني والبيوت التي شيّدها خيالُ أطفال العائلة الإنجليزية التي يتقدمها دومًا كلبُها الغاضب. صمتٌ مطبقٌ، رؤوسٌ وهميّةٌ تُطلّ من شرفات المنازل المبعثرة في هذه التلال الجرداء. لا شيء، لا نباح كلاب ولا صخب عصافير (أين ذهبت؟!) ينفجرُ الفراغُ عن عامل آسيوي يلبس كمّامة، على الأرجح أنه هندي، فهي الأغلبية المُقيمة في عُمان وخليج العرب الذي يُوصف بخليج النفط. يُخرج العامل تليفونه ويصوّر المنازل والدّيار التي تسفوها رياح السكون والغياب.. «المنازل والديار» كتاب مرجعي لأسامة ابن منقذ، جمع عيون الشعر العربي الذي يتمحور حول البكاء والحنين والوقوف على الأطلال والدمن، تلك الديار التي غادرها الأحبة والأهل والصحب من غير أمل في عودة وإياب.
وكان هذا الفارس الشاعر حين عاد من حروب مع الأعداء، وجد زلزالاً قد ضرب البلاد ودمّر المنازل والديار والبلاد. وكان أسامة ابن منقذ، ينتمي إلى (شيزر) من نواحي حلب الشهباء، التي مزقها الزلزال مع مدينة حمص وطرابلس وغيرها من بلاد الشام الواقعة على خط الزلازل الجيولوجية والبشرية التي تمزق روحها حتى البُرهة الرَاهنة.
كأنما هذا الراعي هو الشاهد الوحيد، النأمة الأخيرة في هذا الفضاء المكتظّ بالتهاويم والأشباح والعشب المحروق، كأنه النغمة الهاربة قبل انكسار الناي.
وكانوا في تلك الفضاءات البعيدة الأبعدَ من نجم سهيل، يستيقظون مع الفجر وأذان بشره وديكته وصخب حيواته الضاجّة في الحقول، يقودون القطيع إلى المراعي في السهول والجبال حتى تميل الشمس إلى جهة الغروب، ثم يعودون إلى المنازل والديار لتبدأ حياة الهدوء والسكينة دورتها ويبدأ الليل بغزارة أحلامه بانتظار تفجّر الندى والصباح.
أقرأ حديثاً شريفاً ذا دلالة تلامس الراهن أكثر من الماضي «اخشوشنوا، فإن النعم لا تدوم». أتساءل في ظلِّ تصاعُد الانهيارات على كافة الصُعد، وفي مقدّمتها شبح الانهيار الاقتصادي المخيف، هل أخذ سكان الخليج والجزيرة العربية بقبسٍ من فحوى هذه الحكمة التي لا تَشيخ مع الزمان، هم الطالعون من رَحِم الخشونة، ذاكرة الصحراء والقسوة والكفاف، ووجدوا أنفسهم وحياتهم بعد صدفة النفط الجيولوجية السعيدة، رغم مثالبها الكثيرة، في حياة الرغَد والنعيم الاستهلاكي والمدنية الطافحة بالأدوات والعمران؟ هل ادّخروا قرشاً أبيض، بمختلف المعاني المادية والروحيّة، لليالي السود الحالكة، التي لا يأمن غدرها الكائنُ مهما شطّت شروط رخائه، قاذفة إياه في خضّم أوهام سرابيّة قاتلة، حين ترتسم في أفقه الوادِعِ المحَن، وتشتدُّ الأزمات؟
أم سنردد- وهذا الكلم ينطبق في هذا المنحى بشكل جوهري على الفضاء العربيّ بمختلف بلدانه- تردد ما قالته العرب (… بالصيف ضيّعتِ اللبن)؟
وها هو الصيف، مصحوبًا برمضان المبارك حتى وسط زحف الأوبئة، غير المسبوقة، قادمًا بعتاده الثقيل ومخاوفه الكثيرة.