محسن الكندي*
ليس هناك أفضل – فيما أحسبُ – من القراءات الأكاديمية في تقييم الأعمال الثقافية المنجزة، فهي الطريقُ الموصِّلُ إلى القيمة ، والباحثُ عن أوجه الكمالِ والحقيقةِ فيها برؤية منهجية صرفة ، ومُصطلحٍ علميٍّ دقيق … ينطبقُ هذا الطرحُ على مجلة (نزوى) وهي تحتفلُ اليوم بإتمام عددها المائة لتسجِّل حضوراً ثقافياً نوعياً متواصلاً في زمن الانقطاعات، ولتجسِّر الفجوةَ بين مسارات الثقافة العربية وأشكال الارتهان المعاصر، فنزوى مثَّلت على الدوام الخيطَ الرابطَ بينهما ، كيف لا وقد حملت على عاتقها مهمة المثقف العربي في تطلعاته وآماله بعد أن فقد كل أحلامه في تحقيق مسيرة ثقافية تلبي طموحه في الديمقراطية والحرية والنضال والكتابة بلا قيود .. فكانت رسالتها دائماً العمل الجدِّي وبث الوعي والانفتاح على الثقافة الحقيقية الجديدة دون أدنى تأطير أو تغليف .
لقد أحاطت نزوى المثقف العربي واحتوته في زمن التشرذمات والتقاطعات ، فكانت الوعاء الحافظ لإنتاجه الفكري والإبداعي، ولطالما رأينا نزوى تحمل على عاتقها مسيرة الكتّاب منذ سطرهم الأول إلى أن غدوا في مسيرة الثقافة أسماءً لامعة تضيء من بعيد وتحصد كل الجوائز العربية بل والعالمية أيضاً .
كانت نزوى منذ محطتها الأولى لسانَ صدقٍ وحقيقة، ولم تتلبس – رغم المعوقات – بما التبست به بعض المجلات العربية من أيديولوجيات ورؤى ضيقة ، وكان همَّها خدمة المثقف والمثقفين باستنارة ووضوح، وقد وعى ذلك سائر محرريها ودفعوا بأعدادها الواحد تلو الآخر إلى ميدان النص الجيد والإبداع الخلَّاق المضفي بحقائق العلم ومكونات الإبداع المميز ، وكان دافعهم الأول لمّ شعثِ المثقفين بعد حالة من التبعثرات والاغواءات والأهواء، فأعلنت على لسان رئيس تحريرها(الأستاذ سيف الرحبي ) الذي قاد زمام سفينتها باقتدار حيث قال في العدد الأول ما نصه : « منذ فترة ، والجدل بمستويات عدة يدورُ حول المتطلبات الثقافية والإبداعية التي أفرزها سياق التطور المجتمع العُماني بإرثه الكتابي والمعرفي العريق … هذا الجدل يبحثُ عن بلورة تلمُّ شتاته وتستجلي ملامحه .. إذ لا يستقيم الجدل والسِّجال حول أي وضعية معرفية وتاريخية إلا عبر سياقات مختلفة باحثة عن منابرها وأمكنتها الطبيعية التي يمكن أن تنتج فيها .. في هذا المنحى تأتي مجلة نزوى كمتطلب ثقافي ضروري في مسار الثقافة العُمانية ومحاولة بلورة خصوصيتها وأصواتها وروافدها المتعددة» .
وفي الجانب الآخر اهتمت نزوى بخدمة التراث العُماني الأصيل المنفتح المضيء، ولم تستبعده حتى مسار خطابها المائوي المبارك ، وكان تأكيد محررها منذ الوهلة الأولى عليه وعلى خدمته وإظهار النقي منه حين قال في ذات المقدمة الافتتاحية ما نصّه « نزوى تطمحُ عبر محاولة نشرها «للقديم» المضيء في تراثنا العُماني والعربي، و «الحديث» الباحث عن صورته وملامحه وسط تراكمات الوعي والملابسات والتعبيرات المختلفة التي يمور بها عالمنا المعاصر».
وخلاصة القول ظلت مجلة (نزوى) شعاعاً مضيئاً وضاءً حضارياً يعكسُ صورة عُمان في الخارج وهي كما أريد لها «منبر كتابة واجتماع ثقافي وطني عربي عالمي إنساني» منبرٌ حشد كل الطاقات الخلاقة واستقطب أغلب الأسماء اللامعة في الثقافة الإنسانية ، وكانت هي الدليل والاستبصار نحو الطريق السليم والفكر الحكيم والكلمة المبدعة والرؤية الثقاقبة المستنيرة. وهذا ما حفظ بقاءها وجعلها متواصلة الصدور في ظل عالم يعجُ بأشكال المتاعب والاحباطات.
لقد جسَّدت تلك الخصائص كلها لدى كل من عرف نزوى وقرأها وتابعها طيلة ربع قرن من الزمان ، وكانت مشروعاً متاحاً لكل القراءات الأكاديمية التي رصدت مكوناتها وحللت خطابها ووقفت مع تجلياتها وفق أسس منهجية تخضع لمقتضيات علم الصحافة والنقد الصحفي.
وليس أدلّ على ما نقول من الأطروحة العلمية التي قدَّمها الباحثُ الأستاذ خليفة بن حمود التوبي لنيل درجة الماجستير من قسم الصحافة بكلية الآداب بجامعة السلطان قابوس عام 2008 ، فالأطروحة تتناول مجلة نزوى كنموج تطبيقي للصحافة الثقافية في عُمان من خلال قراءة نقدية بحث فيها الكاتب عن المراحل التي رافقت نشأة مجلة نزوى وقام بتحليل خصائص مضمونها ، ووقف على الفنون والأنماط المستخدمة فيها وتطرق إلى نسب حضور كتابها واستخدم في ذلك منهجاً علمياً مسحياً وصفياً مؤصلاً عبر أداتي تحليل المضمون والمقابلة غير المقننة ، كما طرح عليها عديد الأسئلة من بينها : ما مدى التوازن في مضمونها بين ما هو صحفي ، وما هو أدبي ؟ وما مستوى الاهتمام بالأنماط الصحفية المستخدمة في المجلة ( المقال ، الخبر ، التحقيق ، الدراسات ، الحوارات )» .
إن هذه القراءة الدقيقة التي اعتمدها الباحث لتؤكد على مدى الحكم الذي سردناه حولها كونها مجلة مؤثرة وذات خطاب عميق قادرعلى الصمود أمام مناهج النقد الصحفي الأكاديمي مما بوأها لمكان الصدارة وأتاح لها التأثير والقبول لدى القارئ الذي تابعها عبر مائة عدد من صدورها ، وهو حكم تؤيده النتائج التي توصل إليها هذا الباحث في هذه الأطروحة والناصة على ما يلي :
1 – سيادة خطاب النقد ضمن منظومة المعاييرالوظيفية للمجلة ، بواقع 58 % ، تلته الوظيفة التفسيرية، فالوظيفة الجمالية، فالاعلامية ،فالامتاع والتسلية ـ وقد عزى الباحث ذلك إلى وضوح رسالة المجلة كونها مجلة فاحصة مدققة ناقدة مبلورة خاصة فيما يتعلق بنشر واختيار النصوص الابداعية . وكما قال الباحث « فقد رنت نزوى إلى إظهار خطاب الابداعات مربوطاً بالحسّ النقدي ، ولم تقتصر على نشر المنجز المحلي بل عرضته على الأقلام العربية ، فجاء الأدب العُماني مشفوعاً برؤى نقدية قدَّمها رموز معروفون في النقد الأدبي العربي».
2 – سيادة الدراسات على ما سواها من أنماط النشر؛ إذ استحوذت على نسبة قدرها 64.3 % تلتها المقالات، فالمقابلات ، فعروض الكتب ، فالخبر الصحفي والتقرير والتحقيق والاستطلاع، فالرسوم، فالصور الفوتوغرافية ، وعلل الباحث سيادة الدراسات واستحواذها على ثلثي المساحة بين أنماط النشر الأخرى إلى الأسلوب الذي تنتهجه المجلة في عرض موضوعاتها الفنية والثقافية وهو أسلوب – كما يقول الباحث عنه- رصين يعتمد على مبدأ التحليل والعرض ويقوم به كُتاب محترفون».
3 – ارتفاع الإطار العربي ضمن منظومة الإطار الجغرافي للمادة المنشورة في مجلة نزوى؛ إذ يتوصل الكاتب إلى أن هذا الاطار وصلت نسبته 53.8 % جاء بعده الإطار الدولي فالإطار المحلي فالخليجي، ويرى الباحث أن هذه الارتفاع إيجابي، ربما يدل على انتشار المجلة من المحيط الى الخليج وهو شعار رفعه رئيس تحرير المجلة في افتتاحيتها الأولى حينما قال: «واذا كانت مجلة نزوى في نزوعها إلى أن تكون مجلة عربية بشمولية هذه الكلمة واتساعها ، فذلك لا يأتي إلا عبر تقديم هذه الخصوصية العمانية لتكون مساهمتنا في ثقافتنا العربية الشاملة».
وكذلك يقول في موضع آخر من الافتتاحية ذاتها: «سنحاول تقديم ملفات ومحاور في كل عدد بدءا من عُمان والجزيرة العربية حتى المغرب الكبير»، وهذا يكلل الرؤية التي توصل إليها الباحث ودعمها رئيس التحرير وكأن المجلة تسير على خطة وهدى وطريق معبد مستنير لا يحيد عن فكر التحرير وغايات المجلة.
4 – ارتفاع نسبة الكُتاب العرب عمَّا سواهم فالباحثُ يرصد نسبة حضور لهم تناهز 53.9 % ويرى ذلك متناسقاً مع انتشار المجلة عربياً ، ولعل ذلك ما أتاح لنا حقيقة قراءة فكر كتاب ونقاد العالم العربي ومفكريه منذ أن تفتحت عيوننا عليها فقرأنا لأسماء كبيرة شأن جابر عصفور وصلاح فضل ومحمد لطفي اليوسفي وكمال أبو ديب وقاسم حداد وأدوارد الخراط وغيرهم الكثير والكثير ، وهذا بدوره يعزز القارئ ويزرع في نفسه الثقة في نزوى كونها مجلة عمق ووعي وانفتاح لا تقدم إلا الجديد والمستجد في الثقافة والفكر والإبداع .
إن هذه النتائج حملت مجلة نزوى إلى مراتب النظرة الاكاديمية وأوجدت لها نسباً واحصائيات جعلت منها مادة متنوعة المشارب ومرجعاً أصيلا للإبداعات والكتابات الفكرية التاريخية منها والأدبية والاجتماعية ، ولعل «كتاب (نزوى)» المرافق لصدورها في كل عدد دليل على ما أقول وأعني، فهذه الكتب المتوالية أصبحت تشكل اليوم موسوعة فكرية مهمة لكونها تقدم الطريف والمفيد والجديد والنقي في ثقافتنا العربية.
أمّا أطروحة الباحث التي تناولت نزوى ودراستها ، فهي مفيدة أيضاً لمن أراد الاستبصار في تقييم هذه المجلة العميقة رغم كونها محصورة في عيناتٍ محددةٍ و فترةٍ زمنيةٍ لا تتجاوز عام 2008م، وربما تكون قد تجاوزت تطويرها بما يتفق وتطلعات العصر ومناهج النقد الصحفي بل وعالم الصحافة الثقافية المنفتح على أشرعة ومناخات عدة … فبُوركت الجهود وألف تحية لنزوى – هذا الصرح الفكري الخلّاق في عالمنا المعاصر- في عدده المائة.
المراجع :
* – مجلة نزوى ، العدد الأول ، نوفمبر 1994 م ( افتتاحية رئيس التحرير : هذه المجلة وهذا المشروع ) .
* – الصحافة الثقافية في سلطنة عُمان « مجلة نزوى نموذجاً « إعداد خليفة بن حمود التوبي ، جامعة السلطان قابوس ، قسم الاعلام – كلية الآداب والعلوم الاجتماعية – سلطنة عمان – 2008 م .