نامي كما الأخطاء/عارية/فلا وطن على الشّباك/يرصدنا
ولا قمر يغار
هكذا تَسْتَرِقُ الصورة النظر إلينا في ربطنا بدهاليزها البسيطة في مجموعة (بيتٌ فوق سقف العالم) للشاعر أحمد الهاشمي، ولكنّ هذه البساطة ليست في كنهها البارز بل طريقة رصْد الدّهْشة وتكوينها والتي تكون في كثير من الأحيان عابرة ولكنها آسرة لدرجة لا تحتمل أقل من الأسْر الحقيقي، فالصورة تستجمع قواها لتحيطك بعناصر قريبة من الرؤية الخيالية ولست أبالغ إذا قلت بأنها تشهرها برؤية بصرية، فالحقول الدلالية تتكاثف في جوانب الصورة الواحدة لتشكل تكاملا قريبا من القارئ.
ذلك العصفور على الحبل/كيف نسي جناحيه
فالحقلان الدلاليان يشكلان ببساطتهما تعاضدا تمثيليا مشاهدا كثيرا ما يربطنا بمشاهد وملموس لا يقدم عبر اللغة العادية صورة شعرية حسّاسة، بينما يبرزان هنا يتما ينضح بكثير من المراودات التّاويليّة في اكتشاف العلاقة بين العناصر الظاهرة والرؤى الشعرية.
( العصفور، الحبل ) من حقلين متناقضي المادة البنائية متقاربي العلاقة المشهديّة غالبا، ولا يمكن صرف النظر عن التوافق الحضوري بينهما، لكن الكسر الحاد في التساؤل العابر بقالبه اللفظي القريب جدا، غير أنه يمتلك وزن الدهشة التي تضم كثافتها وعمقها في وميضها المشع، وكأنك تخال أن الشاعر تعمد نسيانك خلف الكلمات المرتبطة بلا قصد. وفي ظل ذلك تراود الصورة البعد المكاني بالإشارة إلى البعيد المُهْمَل، حيث تعكس أداة الإشارة ( ذلك ) مصادفة غير محسوبة ومشهدا غير مستأنس به منذ بداية غير مُعْلَنة، وعندما نرصد العنصرين بالشكل الذي عودتْنا عيوننا رؤيته كل الأوقات تقريبا لتحدد لنا الصورة بعدها ما لا يشعرنا بطول المَشقَّة في انْبِجَاسِها المتأزّم، ( كيف نسي جناحيه ) ما يقوم مقام التركيب اللفظي طويل النَّفَس، فالتركيب يفرض سطوته علينا بعد مغادرة الصورة المشاهدة السابقة لتكون الأزْمة في المجهول البعيد، والعنصر المفرط في التجاهل، إذْ الآتي مفتوح ليكمل الألم المقنن عبر فضاء مفتوح لا ينتهي بمغادرة المقطع وحده.
ومثله:
من نافذتي أول الصباح/أرى الزهرة تفكّر/بالآخرة
ومقطع آخر :
الموت لا يأتي في الوقت المناسب/لأقول أشيائي ببساطة
وعكس ذلك في تأزّم الفضاء المفتوح، تمثل صورة بعناصر أخرى أكثر بساطة، تطرح شبه عبثيّة لفظية معجميّة بمقاربة طفولية موغلة في انهاك المضمون الوارف، والقيمي الشّفاف. الصورة تعرض مزيجا من تطرّف يغرز العناصر في النقيض المُرْبك، ( المرأة، الفستقة المملّحة )، المسافة بين معنيين ملموسين تتوارى في ظل تشبيه بليغ حادّ، يتلاعب بإنصاف المشبّه من حيث تؤتى ضدّية الجمال والتصلّب، ثم يخفّف الجمال الضّحل من قسوة الصّورة بتوجيه النّفَس اللفظي إلى المُشبّه به.
المرأة فسْتَقة/قشْرتها المُملَّحة/تكفي للعيش
فالمحور اللغوي يستأنس بالضديّة المنقسمة على المشَبّه والمُشَبه به، وتبدو الصورة في بساطتها أقرب إلى الفهم السطحي حين يتكشّف مألوفها الدّلاليّ، ولكنها تستدرك المألوف بتركيب ( تكفي للعيش ) لتضع قيمتها الأساسيّة في إطار البعد الذي يستعين بعمق التّأويل الذّاتيّ لدى المخَاطب. والمرأة التي تجلّت في صور وجهات مختلفة في التجربة كلها تؤكد على القيمة الممتدّة، فهي الحبيبة، والقارّة الرحيمة، والثورة، ونشيد النّصر، والمملكة، والموسيقى، والنّار المقدّسة، والأغنية الحلوة، كما في نصّ (في ربيع الحب والرّماد)، وهي الأمّ التي يشتاق إليها الشاعر، ويشعر بالتيه بعيدا عن كونها جنته الأولى
« أي نهر جرفني بعيدا عن عينيك/أي إيمان أضلَّني أيتها الجنة»
حيث يفقد توازنه على مالا يثق به :
« شاختْ الطّريق تحت أقدامي/ولم أزل طريدتك المحرّمة»
التجربة الشعرية تتدفق بامتزاج حادّ جدا لدرجة مشاكسة، فهو يجبرك على لملمة الصور المتناثرة هنا وهناك، وكعادة شعرائنا المعاصرين في ومضاتهم السريعة يصيبك هاجس الاضطراب بين ذاك التلاطم الحاد، وكأنهم يعيدون رحلة الشعراء القدماء من لدن امرئ القيس وطرفة ابن العبد، حيث تفرض ومضات الشاعر عليك منعطفات مختلفة، والمدهش في الأمر أننا نمارس العجلة في أمرنا بحضور الصُّوَر الشعرية المتدفقة، وكأننا نخاف أنْ يفوتنا القادم منها، ويظهر ذلك جليّا في مثل نصّ (خطوات الربيع)، وفيه تشكلّ الصُّوَر الشعريّة رحلة متواصلة تعلو فيه الومضات وتهبط بالقارئ بين مستوياتها المختلفة.
الاغتراب والتشظي والحنين المُقْلِق والوطن الحاضر الغائب والحاجة إلى السلام، هي أهم ما يتخطّـَّفنا من موضوعات وجودية في تجربة أحمد الهاشميّ، إلى جانب ثنائية الموت والحياة، والدهشة المفاجئة، ونمط الأضْداد الغريبة، ومشاكسة المصير، والصّوت العالي، والحلم والهشاشة المفاجئة، وكل ذلك يفسح المجال لبسط الكثير من الحقول الدلاليّة، مستعينا في مسيرته بوصلات إيقاعية في كثير من الأحيان، والذي يأخذ منه نصّ (زمن الريح) النصيب الأكبر، إذ تنتعش القصيدة ببنيتي الصورة والإيقاع ليشكلا موسيقى داخلية وخارجية تؤنس النص في حضور الأنثى المحوريّة.
«هذا زمان الرّيح/ليس أوان شُبَّاكين/من قُبَل وحلوى/……………/هذا زمان الرّيح/ليس أوان عصْفورين/من شَغَفٍ ونَار»
الاغتراب كان أكثر ما يلوّن التجربة، ويحضر بأشكاله ظاهرا وخفيّا، منفردا وممتزجا بموضوع آخر، بل إنا نراه أحيانا في امتزاجه بغيره يكون المتجليّ الظاهر، وهذا دافع القراءة الضرورة للوجود لدفع العالم المتجزّئ إلى الدوران مرارا وتكرارا في خطاب الإنسان الأكثر قراءة لموضوعات الوجود، وهي كما عند هيجل ( الروح المطلق )، والذات المأخوذة بالوجود وأسراره هي المتشظية أمام أسئلة متشعّبة وعميقة، ولا تقنع إلا بالإجابات التي يهضمها الألم كثيرا، في المقطع التالي صراع بين الاعتراف بالذات رغم قسوة النكران المفروض من جهة ظلاميّة في الذات التي تواجه الانكسار، وبين التعالي المثالي في الكيان الشاخص، ويتدافع كل ذلك بأداتي التشبيه ( الكاف، وكأنّ )، لينسدل النكران مصحوبا بالدهشة في مزيج من الشعور بالذات الظاهرة والاعتراف بالحضور الملموس.
لست طينة نادرة الحدوث/ولمْ أثرْ غبارا أوّل مرّة/تحت أقدامي/طريا ما أزال/كيرقة الصّباح/كأنْ لم أعبر/كأن لم أصدف أيا كان/بين المزلاج والآخر
كما يبلور الشعور بذلك في الإحساس بوطأة النكران الوجوديّ نفسه، وهو كما رأينه في مقطع سابق يتشبّث في لحظة الشعور به بحضور الأم الرحيم، الجهات تقحم نفسها في مرأى الروح لتكون الجهة العائمة فوق التيه المُضْني، وعلى متن الأنْسَنة الشِّعرية تعْبر الغاية الجمالية إلى تصوير التيه النَّاجم من النكران، ولم يكن الزّمن منصفا في الحالين معا.
« السّماء المرْتابة كأصابعي/السّماء التي وسّدتني ركبتيها/أرْضَعتني الحزن والكراهية/ثم نسيتني في الجدْب/وشربت دموعها»
الوطن الحنين والغربة والعذابات والبعيد والحبيب والسؤال الذي يشكّل اغترابا ممزوجا بالشوق والطفولة المتوثبة بالنسيان، الصورة المتكوّرة داخل القالب الحدودي البعيد. و( تحت جلدي بلاد) تتوزّع الصورة فيها بين الوفاء والألم، الكثير من العدّ اللانهائي يمتدّ بخطوات الرحيل والعودة مرة بعد مرّة، فالمؤرّق بلاد تحبس أنفاسها في مكنون الوجودي لتصحبه حيث كان، ليكون المصير ( رغم هذا وذاك/ بلاد سعيدة أحيانا/ تدعوني إليها)، وفوق ذلك كله فلا وطن من التيه المتَجذّر في الأبديّة المحدودة.
«مؤلم أنْ تظلّ مرحا طوال الوقت/ومع أنني لست سعيدا بما يكفي/أثابر في القفز دون معنى/الكائن الضاحك على انفراد/يغريني بقتل الأيام»
الصورة الحاضرة تنقسم على الشخصيات الثلاث الموجودة في المشهد الشعريّ بضمائرها ( المخاطب أنت، والمتكلم أنا، وهو الغائب في الذّاتيّ المتكلم )، والامتزاج المدهش هنا في حضور الزمان بما مضى وبما هو حاصل وبما زال مستمرا، وكأن الغياب يسْتنْزف الحضور والعكس وارد. الشعرية المدهشة ليست في هذا الطرح الزّمني، فهذا منطق الصّيرورة المثليّة، ولكن التكاثف الضمائريّ بمحاذاة التجزؤ يوحي بالتيه المسبق للحالة الراهنة، لنجده في الغياب بضمير الغائب المتكلم بما يعكس في الذّات بوقع التيه البعيد القريب
ذلك العصفور على الحبل/كيف نسي جناحه
ليعود الاعتراف :
لا فوهة تغريني بالسقوط/لا عربة تحمل شتاتي/ولا سحابة تحرّضني/على الركب
والحقيقة أنه نوع من الوصول إلى السلام :
في المرّة المقبلة/ عندما أذهب ../ ممتنّا للريح التي/لن تهبّ ثانية/ سأعلّق في طرف الخيط/ روحي الشبيهة بالطعم الفاخر/ وأفكّر بالنّهر الذي دونما اكتراث/ تجشّأ حمولته على الضّفاف/ وذهب في نزهة.
(الآخر/أنا) و( البعيد/القريب)، ما ترتكز عليها ثيمة الاعتراف للوصول للسلام، وهو أخفّ وطأة من الإقصاء والاعتراف في مشهد يجمع حقول دلاليّة مختلفة يستحضر بها الشاعر عوالم تشاكس المعنى الشعْري كثيرا كما سبق، ففي المقطع التّالي تأكيدا على ما تمّ ذكره، نجد (النبيذ، العصفور، الحائط، القارّات)، وهذا على سبيل المثال.
ها أنني/أنكسر بمحبّتي ونبيذي/كعصفور علّق جناحيه/على الحائط/ولم يعدْ يحلم/ بالقارات المؤجلة.
الحنين المُقلِق يدفع التّجربة إلى اغْتراب آخر، المسافة بينهما تكاد تكون معدومة، شيء ما يستبدّ بها لتتّخذ من المعجم الدلاليّ ابتكارات موجزة تتّسع بتأويلات النّص الشعريّ، وحسب القراءة أن تضع الرّؤية الأولى لتتابع الصّوَر في إنْهاك المدى القرائي القائم على المواظبة الحريصة على التّسكع في كل الجهات الجماليّة بالمقطع الواحد.
القلق يستدرك القافلة النّصيّة ليكمل مع ثيمات أخرى مسارات الاغتراب الظاهرة والخفيّة، فلا تكتفي التجربة بالرؤية الذاتيّة لتمحيصها وحدها، بل يشمل التحقيق مزاولة الاعتراف الضّمني، ليتجلى القلق جميلا في الرصد الإحصائيّ.
إني أتذكّر الحب/أتذكر الوجوه النابحة في دمي/ أصدقاء الفوضى الناعمة.. وشغف الأيّام/ لقد انتهوا جميعا..جنادب حقل وأحاديث عابرة/ مرّوا وتركوا أصداءهم على الحبل/ مرّوا مع الغبار وقصصات الصّحف/ سرابا وهشيما وطفولة لا تغتفر..
ومما يستأنس به الاغتراب في حضرة الحقول الدّلاليّة المختلفة؛ شَحْن التجربة بضدّيّة غريبة تتخذ لها مساحة واسعة، وكأن المسافة بين الطرفين الماثلين تنعدم لحد الاختيار والجمع، وتتخذ الصورة لها بين الطرفين مكان الدهشة، والجمع الأكثر قسوة من الافتراق، تزامن باهت في تجربة بسيطة تفقد القراءة الأولى صَخَبها لتشغل الثانية بحلول المتباعد القريب، الكثير من الحاضر لحظة الكسْر المَألوف، يشغل في بساطته العمق الذاتي، الروابطُ والصَّوت والإيقاع لا تحتاج إلى جهد مؤلم أكثر من الهندسة الضّديّة أو المتباعدة في الغالب، (البعيد القريب) يستجمع طاقته في دهشة الحضور أكثر من القلق نفسه، ليبتعد عن زخَم الصّورة الماثلة، فما تُقْنعنا به بساطة الجمع أكثر من أثر حضورها لإحياء الصورة.
ضحْكتنا المطرّزة/بالتّبغ والنّبيذ/قبلة بين غريبين/نأمة تجرح سمْت الكون/كانْثِلام كاس أو قارة.
الكأس يقابل القارة ليحدث الانْثلام لتكون الصورة الماثلة حقيقة أمامنا نشاهدها وتقنعنا بحضورها أكثر من جماليتها، كما تفعل الطاحونة في مقطع آخر، والشعراء الحطّابون، والشعراء الفوضى، الطيور الضامرة، الجوارح السّمان، المخبرون والضحايا و…. في نصّ آخر.
نصّ زمن الريح يزجّ بكثير من الضديّة في مشاكسة الهندسة اللفظية والمعنوية، ويخدم الإيقاع ضراوة الماثلين كثيرا، إذ تستند التجربة على الحاضرة (الأنثى) لتدفعها إلى طرح المصير بما يستدعيه الحقل الدلاليّ قصدا أو بغير قصد، كما تقنعنا القراءة الظاهرة. وهي الأنثى الوجود الحاضرة في الحقيقة والحلم، يسْتشفّ الشاعر التجربة عبر روحها المؤنسة للوصول إلى المصير الأوحد بذروة العاطفة، الحب، كما أنّ التجربة تشحن نفسها بما لا يقبل الخيار الآخر في ذروة النزيف العاطفيّ.
المدى يتّسع لأكثر المباغتات الدّلاليّة، المشاكسة ما يعزف عليها الشاعر في تضميد حالات الحضور والغياب، حالات الزّمان والمكان، يبقى الآخر كما يراد له أو يريد أن يبقى.
إنْ كنّا سنبقى حبيبين يوما آخر/ إنْ بقي العالم كما هو العالم/دعيني أهمس تحت أذنيك/ سيرة حياتي/ مدّي يدك أيّتها القارّة الرحيمة/……./سويّا نتأرجح/ مع الدّخان والضَّحك والأقْدار السّاخرة/نتأرجح كجناحين في الفراغ/ بانتظار فجْر كاذب/ وموت لا يكتمل.
وتبقى الملاذ وبداية الحنان ونهايته، في مشهد يعيد نفسه علينا بأبسط ما يمكن التعبير عنه، وتصوير الماثل في وسط اجتماعي يعيش بعيدا عن فهم مغترب حاضر، الصورة تجمع بين البعيد والقريب لتشكّل الراهن بابتكار المشاكسة الدلاليّة.
انقضى نهار العيد يا أمّي/خمدت المواقد واطمأنت الأجنحة/أي نهر جرفني بعيدا عن عينيك/ أيّ إيمانٍ أضلّني أيّتها الجنة.
ولتستمر المشاكسة الدّلاليّة تكون (الريح والماء والعصفور والنار والثلج والظلّ والغبار والقمر والأرض)، لتقابل (شباكين والرسام والصور العتيقة وجدار والرخام)، وهما حقلان يقتربان كثيرا في نصوص التجربة كلها كثيرا، وفي نصّ ( زمن الرّيح )، يهيمنان على الضديّة لتحقيق الصورة الشعرية بحضور حقول أخرى، تؤكد وجود المتقابلات البعيدة.
هذا زمان الريح/ليس أوان شبّاكين/ من قبل وحلوى/ الآن دسيّ مدية الرّسام/في جرحي/ وردّي الماء للمعنى/ونوحي كالقصيدة/ وسّديني جثّة العصفور/ واغتسلي بناري …
قرأت التجربة باقتراب أكثر من مشاكستها الدلاليّة في ابتكار الصورة التي تتفاوت في حضورها بين القلق والاطمئنان، والصّخَب والهدوء، وهي إن كانت تستحقّ أكثر من ذلك اقترابا، لكن الحقل الدّلاليّ كان عمودها الفقريّ، إذْ مكّنها من المباغتة المشاكسة باستمرار، والأضداد في كثير من جوانب التجربة كان لها الحسْم في ابتكارات حادّة.
محمود حمد*