بشقته، منذ أكثر من عشرين عاما، على قمة عمارة تولستوي، حيث مازال يواصل لعنة العيش بنفس الطقوس المتعودة المتفردة. بشقته تلك كنا نلوذ في طنجته هو، أول النهار أو أول الليل، من منتصف النهار الى آخرا لليل، نصعد الدرج المئة والعشرين بخفة الخفافيش حتى الطابق الخامس كيما نتفرغ لشغفنا المشترك بالأدب : إبداعا واستمتاعا، ولشغفنا الدؤوب بأسئلة المعرفة وأسئلة الحياة.
على نغمات "بحيرة البجع" أحيانا، مع مباهج النبيذ نرتجل اللحظات المتألقة فتكاشف، فأتلف ونختلف، نسترجع العلائق والأحداث، نسخر من رتابة الأيام وبلادة الأنام، نراجع الأفكار والتجارب الأدبية والفلسفية.. نتسكع دون رقيب في دروب الأدب البعيدة والقريبة.. تناشد الأشعار.. كنا تناشد الأشعار باستمرار، سواء تلك التي أكتبها أو التي نفضلها أو نترجمها عن الاسبانية.
في هذه الشقة بالذات تناشدنا أشعار لوركا وأليكسندري، غيين وكفافي، رامبو وهولارلين، السياب وسعدي يوسف..
وفيها أيضا استعدنا، في الأساسي الممطرة الطويلة، نصوص الحيوان والبخلاء، الأغاني والحماسة، أشعار المتنبي والمعري، النفري وأبي نواس، الشعراء التروبادور، الصعاليك، ومجان العصر العباسي الأول واحدا واحدا.
وفي هذه الشقة تلا شكري على مسمعي فصول «الخبز الحافي » بعنوانها الأول : "أعوام الجوع ". قبل أن تصدر في ترجمتها الفرنسية التي كانت شاهدا على بعض مراحل انجازها من قبل الطاهر بنجلون بصحبة شكري في صالون.. مدام بورط " نهاية السبعينات.
قارة شكري الأليفة هذه (التعبير لسعدي يوسف )، لم تفقد شيئا من ألقها الخاص بالرغم مما لحق أشياءها ومحتوياتها من تغييرات متعاقبة، فالعبق السري للمكان المضمخ بأريج الألفة، وعبق التاريخ الباطني للكاتب ازداد عتاقة وكثافة.. الأسلوب والنمط الحياتي. طرائق توزيع الأثاث والمحتويات.. الكتب التي ضاقت بها الرفوف، والكتب التي ضاقت هي بالرفوف ففاضت عن إقاماتها المعتادة لتتوزع هنا وهناك في نسق فوضوي جليل.. وجوه سيلين، فرويد، فولكنر، بودلير بنظرته الشزرا، جبران، سارتر، فرجينيا وولف، مبعثرة على أريكة القيلولة المعطلة.
الصور الفوتوغرافية القادمة من فردوس مفقود، على جدران غرفة النوم، صور كتاب القرن الكبار في كل مكان.. صور شكري الناطقة بمراحل مختلفة – من حياته من طفولة الى الكهولة صورة شكري بصحبة جان جونيه، صورته مع صمويل بيكيت في مقهى باريس.. شكري وتنيسي وليا مز شكري وغارسيا ماركيز يتصافحان في بهو مطار برشلونة شكري موقعا كتبه في روما، في باريس في لندن، في فرانكفورت.. شكري بالتبان أيام زمان على شاطيء رأس الرمل في العرائش.. صورة شكري مقلوبا.. صورته عل أديم البحر القرمزي للكتابة والأحلام.. صورته على أديم البحر القرمزي للكتابة والأحلام.. صورته عاريا تماما إلا من قلم الكتابة الأول.. ضحكته الصريحة وهو يراقص مدام عريستينا صاحبة حانة ادجان دارك، في بداية الستينات. صوره مع الكتاب المقاربة : مع محمد برادة، مع زفزاف، مع محمد عزالدين التازي.. شكري واقفا عل مائدة النبيذ في سطيحة فندق الشجرة.. شكري محاطا بست معجبات في مرقص " بياتريس ".. شكري منحنيا بخشوع لمدام.. تروديس وهي توقع بأناملها الماهرة المقطع الأخير من "الدانوب الأزرق " نظرة شكري الصقرية مخترقة جدار الصورة المعلقة في وجه البيت.. أشرطة الموسيقى الكلاسيكية والحديثة الغربية والشرقية، أمهات الأشرطة المختارة بعناية العارف المتذوق.. صورته المصفرة على طاولة الكتابة، صورته وهو يتأمل رحيل البحر، وهو يسكتي، وهو ينام، وهو يتألم من وجع الأيام.. أوراقه المبعثرة عل السرير الأثري.. مسودة "السوق الداخلي" آخر الصفحات من قصة "التابوت" تتلهف الى الظهور من خلف أريكة الأثاث.. صفحات مكشوفة تماما من "أناشيد المالدورور" تشرئب بسطورها الأصلية من أحد رفوف الكتب العربية.. قصيدة "الغراب " غراب "إدغار يو" شخصيا على خزانة الشراب يقعي بلا حراك.. أنامل تشايكوفسكي تنقر عن بعد أوتار "زمن الأخطاء" برقة مستفزة.. وأخيرا.. أخيرا صوت أسمهان يرجف الأزمنة المزدحمة من غرفة اليقظة حتى مضجع الأحلام.
أمس
سألني يونس : ما الذي يجمع شكري وجان جونيه ؟ لماذا كلما وقفت على اسم الأول تذكرت الثاني، وكما مررت بالثاني تذكرت الأول ؟
تبدو الفوارق عديدة أكيدة، إن على مستوى الكتابة أو على مستوى الحياة.
بيد أن وجوه التقارب بادية جدا للعيان :
كلاهما طرق مغامرة الكتابة من باب التحدي واثبات الذات كلاهما خبر بقسوة، تجارب النبذ والاقصاء والعقاب..
في السجن بدأ جونيه مسيرة الكاتب فنجح في وقت وجيز في انتزاع اعتراف المجتمع "الراقي" بمكانته.
وفي الخامسة والعشرين بدأ شكري رحلة الكتابة وتمكن في زمن وجيز أيضا من شق طريقه الأدبي بنجاح في المغرب والمشرق أولا، ثم في الغرب الأوروبي والأمريكي فيما بعد.
كلاهما أيضا منكر نموذج المتمرد على المواضعات والقيم وعلى سائر صيغ الترويض والتكييف الاجتماعية.
لكن هل يصح اعتبار جان جونيه، بمثابة أب روحي لشكري؟ هل يصح اعتباره قدوة عليا له ؟ ربما، الى حد معين بيد أن ما لا ينبغي أن يغيب عن الأذهان هو أن شكري متمرد أبدي ومن ثم لابد أن يطال تمرده كل القدي والمثل في الأدب والحياة على السواء.
حينما ظهر "الخبز الحافي" في الفرنسية وحقق ما حقق من ذيوع وصيت، لم يكن شكري كاتبا نكرة أو مبتدئا.. كان ميت سيرته الذاتية تلك قد ذاع في الولايات المتحدة الأمريكية منذ مطلع السبعينات ومن خلال الترجمة التي أعدها بول بولز، بل انتهى الأمر وقبل نهاية العقد المذكور الى إقرار تدريسها في أكثر من جامعة أمريكية. وفي الوقت نفسه تقريبا، كان القراء الأمريكيون على موعد مع مختارات من قصصه القصيرة مترجمة الى لغة فولكنر، فضلا عن ترجمات محدودة الى الايطالية والبرتغالية والاسبانية.
أما على الصعيد العربي فقد كان اسم محمد شكري معروفا في الأوساط الأدبية المغربية والمشرقية، من خلال القصص والمقالات التي دأب على نشرها في الملاحق الثقافية الوطنية، ثم في مجلة "الآداب " البيروتية الذائعة الميت أيامئذ، بدون أن نغفل الاشارة الى القراءة المطولة التي نشرها على امتداد خمسة أعداد متعاقبة من المجلة المذكورة تحت عنوان "تجربتي الأدبية "، وهي القراءة التي دلت على اطلاعه الجيد على الأدب الغربي الحديث.. ولسوف تظهر قريبا منقحة ومزيدة في كتاب يحمل عنوانا جديدا: «غوايات الشحرور الأبيض" نشرت فصوله في جريدة الشرق الأوسط منذ أشهر مضت.
لذلك عندما هجمت الشهرة على شكري مع مطلع الثمانينات استطاع الصمود في وجه اغراءاتها ومنزلقاتها محافظا -رغم بعض المطبات والانزياحات المتقطعة – على الاستمرارية في الكتابة والنشر بإيقاع منتظم، وخطوات متزنة محسوبة، بل وتمكن من تطوير أسلوبه وتقنياته من كتاب الى آخر: من "مجنون الورد" حتى "بول بولز وعزلة طنجة " مرورا -"الخبز الحافي " و" السوق الداخلي " بـ "الخيمة " و" السعادة " وصولا الى "ومن الأخطاء".. وهكذا تحولت الشهرة التي بوأته مكانة الصدارة بين الكتاب المقاربة والعرب (يستثنى نجيب محفوظ بالطبع ) من حيث المقروئية والانتشار.تحولت الى محفر دائم لديه للشعور بالمسؤولية تجاه وضعه ككاتب.. أعرف جيدا أن نمط العيش الذي اختاره شكري يمنح الانطباع بوجود سيول بوهيمية مستحكمة لديه وحتي بالتحلل المستديم من أي ضرب من ضورب المسؤولية غير أنني أعرف جيدا بالمقابل أن ظهور شكري المفرط على مسرح الصخب اليومي وصورة الكاتب الخارجي زيادة على اللزوم، تلك التي يقدمها عن نفسه، ليست سوى شكل من أشكال التمويه والخداع.
هاربا من ذاته يعيش
باحثا عن ذاته بين جدران هذا
السجن
الرحيب المدعو محياة
المالنخوليا تقود خطاه نحو فضاءات
حاناته
السبح تارة
وتارة يجلاه الخواء ! خواء
الاحساس بالعالم
يحيا شكري الوجود اليومي بسخاء وافراط، يهب ذاته لعالم الظاهر بمفاجاته واكراهاته. لقد اختار منذ البدء هذه العلاقة المتنابذة بينه وبين الاشياء والآخرين جاعلا منها وجاعلة منه ينبوع الكتابة وهادتها.. عالم التجريدات واهترلات الذهنية لا يستثير شكري ولا يعنيه.. كتاباته موصولة مباشرة بحياته الملموسة، بخبراته الحسية الحواسية لكنه مع ذلك أو ربما بسبب ذلك، يبدو شديد التيقه تجاه موقعه المقفرد من الزخم المعيشي الذي يستغرقه، محتفظا باسافة اللازمة، مسافة الكاتب الرائي، مسافة الوزان والمعري لاوضاع وتجارب اوضاعة الانسانية.
إن الشخص البوهيمي اللامبالي الذي نلتقي به في مقهى رمبرانت أو نراه في الشارع ليس بمحمد شكري البتة وانما هو قناعه، قناعه الحقيقي الذي خدعنا وخدع نفسه، ذلك أن شكري الأصلي (إن كان ثمة أصل ) قد أجاد التخفي داخل ذاته المحصنة مثل حلزون ماكر لا يمارس ظهوره إلا عندما ينسحب من عالم الآخرين ويستقر في برجه الأليف، برج تولستوي.
يقول الدكتور محمد برادة متحدثا عن عالم شكري في الدراسة القيمة التي قدم بها مجموعة "مجنون الورد" في طبعتها الأولى في بيروت :
خواء الحالات السبع والسبعين للذات بيت اللغة الضيق المحتل بوجوه المهانين والمغتربين، بالجلادين والمبتذلين والعراة.. انحسار المفردات واللغات وتشققها داخل بئر النفس.. بسياط الرغبات السحيقة المجهضة.. جراح الطفولة. نداءات الهجرة الأولى نداء الهجرة الأخير وهو يطارد بنوسطالجياه الفتاكة جحيم الأيام الداخلي.
هاربا من ذاته
اربا من لا ذاته الى الجذور المطوح
بها في أقاصي
الذاكرة
هاربا من الزمن
هالابا من رتابة النظام ومن حماية
الفوضى
محتمميا من النقيض بالنقيض
ومحتفلا لى الدوام بطريفته المتوترة
بالخراب الجميل للعالم
في تلك اللحظات المطبوعة بعراك الباطن / الظاهر/ الرغبة / الموت، الثرثرة / الصمت، العزلة الممضة وسط الصخب الأقصى في تلك اللحظات بالذات تتخلق حالات الكتابة تمهيدا لهدنة مؤقتة مع الذات والأشياء، تشرئب خيوط سرد متوترة، وتلتقط رؤى وتناصات غائمة في سديم الخواء.
"على العكس من معظم كتابنا الآخرين، تعلم محمد شكري لغة الأشياء العارية القاسية، قبل أن يتعلم الكلمات "المعبرة" لذلك تظل حياته اليومية هي الأساس، وتغدو الكتابة بالنسبة اليه إدمانا جرينا يرفض أن يجعل منه قناعا للتجميل أو مطية للارتقاء في السلم الاجتماعي".
وبالفعل فإن شكري يكتب ذاته، يستقصي ويستعيد الحيوات والتفاصيل التي عاش، إما عبر سرد صارم ومباشر وعار قوي ومقنع في الآن نفسه على نحو ما فعل في "الخبز الحافي " واما بتجريب تقنيات السرد المتقطع والأنقاس الشعرية والتضمنات والخلاصات الحكمية بدون أي تنازل فيما يتعلق بالرؤية النقدية للذات والآخرين. مثلما نجد في "زمن الأخطاء"، واما بتجريب التحليل السيكولوجي وتشخيص المفارقات السلوكية وبراعة النقد والباروديا المبطنة والمعلنة كما في كعابه : "بول بولز وعزلة طنجة".
وحتى في قصصه القصيرة، ما نشر منها وما لم ينشر بعد، نجد ذات شكري حاضرة باعتبارها المرجع الرئيسي والمباشر للسرد والتوليفات النصية، بالرغم من تنوع النماذج والمواقف المرصودة فيها، وتعدد اللقطات وزوايا النظر السردية.
لكن شكري إذ يكتب ذاته، يكتب الآخرين، الآخرين المنبوذين والمهمشين، كما أشار محمد برادة ونقاد آخرون. بل لسنا نغالي إذا قلنا بأنه يكتب ذواتنا جميعا. بمعنى من المعاني، حينما ينجح في النفاذ الى تلك البؤر المشتركة والسميمة من المعاناة الانسانية.
وهو يكتب ذاته محتفلا بالحسي يكتب العالم من حوله أيضا. يحرر الرغبات من سجنها المصطنع، يسمي الأشياء بأسمائها الطليقة، يغلف الوقائع بغلائل شفافة من متخيلة الأميان، يشعرن السرد، ويدقق في مسألة استخدام الكلمات، شغوف بايجاد صيغ واشتقاقات مبتكرة تضفي المزيد من التخصيص على كتابه من أجل غاية واحدة ووحيدة من أجل تحويل كل هذا المدخر المدسوس في الذاكرة والعظام، من المعاناة والتعاسة ومن قبح العالم الى مادة أدبية الى فن مقنع ومقلق، فن يحقق الصدمة المخلخلة المحررة من جهة، والمتعة الجمالية من جهة ثانية.. لنقل بأن الأمر يتعلق في الواقع بنفس ذلك المسعى الذي نظر له بودلير جيدا ثم جاء لوتريا مون فجسده بأعلى المستويات في "أناشيد المالدورور"، إنه تحويل القبح الى جمال أو بالأحرى تجميل القبح، يسببان.. تحويل نثر الحياة الرديء الى شكل شعري أو مشعون، لا بتزيين الوقائع وتغليف الجراح بالمساحيق، وانما بالعكس بتسليط الأضواء كاشفة قاسية على مناطق "العطب" والبؤس والمعاناة سواء تعلق الأمر بحياته الخاصة أو بحياة الآخرين من حوله.. ذلك أن "استراتيجية التجربة الأدبية لديه، إن صح الحديث عن استراتيجيات في التجارب الأدبية، إنما تكمن في ابراز المغيبات من الأفعال والسلوكات، الرغبات والأحلام والتخيلات الثاوية في الحدائق السرية للنفس بواسطة السرد العاري، المدجج بإيقاع الذات المنكتبة على جسد النصوص.
تجميل القبح إذن ما هو إلا مكر الصنعة وبراءاتها معا، صنعة الكتابة، نسقها المجسد عند شكري من خلال ايقاع شديد التخصص والملموسية.. انه هو الذي يمثل العنصر الحاسم الناظم لحيوية فعل الكتابة وقوتها.. ايقاع الكتابة الشكرية هو ذلك التدفق الجارف والمموثق للمحكيات.. تيار الباطن هو وقد تحكم في ناصية السرد والوصف والتداعيات، واليه قبل غيره، أعزو أصالة تجربة شكري الأدبية ومقاومتها لامتحانات البقاء والتجدد التي لا ترحم.
تحية أولى
وتحية اخير الى محمد شكري
في طيرانه الأخير الى مصر
واقفا على قبر أسمهان أراه
سيهتدي اليه بحدس العاشق التأئه
سيرشه بوابل من زهر النارنج
وعند قدمي أبي الهول
تحت الشفق المهيب
سيرد إليه
سيرد الى العالم
ضحكته
الجوفاء.
المهدي أخريف (شاعر من المغرب)