وسمعتني، لحظة أن كان الضباب ساخنا يدوم حولي، والسماء تهوي علي كسفا، في حين الحبيبات الصغيرة تنزلق طرية، طافحة بها أخاديد جسدي أصواتهم، إذ تنكفئ درف أبواب محالهم الى الخارج، واليدات فقط ضامرة بعروق ملوية طافية فوق سطح الجلد، تقلب حزما صغيرة تنوشني صاخبة من بعيد، كأنما تدفعني لأغوص عميقا اسفل مني، وسمعتني وسط غبشة تدلى فوق عيني الشاردتين، أهبط مترجرجا درجات قليلة، تلك الدرجات التي تسند سدة إسمنتية عالية، أجلسها في صورة قديمة وضعت تبالتي، فوق أحد الرفوف، الصورة التي فيها يفيض فخذاي، مشدودين من حواف بنطال مجزوز منتصفه، فيما شرابات نصف مقشورة، تحف ساقي الناحلتين، بشعر خفيف، تمسكهما فردتا حذاء بسيور عريضة، ناشبة في حلقات نحاسية رفيعة، واذ تأخذ قدماي هبوطا الدرجات العريضة، كنت أغرر شيئا فشيئا تحتي، مررت بي فهزتني الرائحة، رائحتي إذ كنت صغيرا، الأولى السبب، اذ ما ان فاض من حواف الباب حتى كانت آخر القطرات، تساقط من أطراف اللوحة، منزوعة الاطار، فتحدث تموجات صغيرة على سطح البركة، لترتفع مرة أخرى كخرزة دقيقة فضية، وداخل الإطارات المتبقية، كانت الصورة خالية، فقط أخاديد غائرة ظليلة، مجرى عريض، عمقه صخور صغيرة مدببة، منقطة حبيبات سوداء، وانشعاب طحالب ملحية.
لا تمل يداه مشاغبة الأعالي، قاذفا بخشونة حجارة صغيرة، فتنتفض الشجيرات مطقطقة لوهلة، إثر تحليق مندفع، من اسراب كثيفة لطيور البحر بريشها الثلجي، وقبل أن يصطفق الباب علي، فيرجني وحيدا رجعه، دافعا إياي بكل ما أوتي من قوة الى قرار ليس زي نهاية، وقبل أن أشعري متخبطا في جنباته الرخوة، قتيمة تتلقفني، أرهفتها خطفا، تلك النظرات، نظراتها شاخصة، تنشف على زجاج النافذة، إذ تطل على حيز، كنت يا جسدي محموما تشغله.
صنعاء
عسس الليل يهشون ذبالة الظلام الى غفلة الشوارع، طلق ناري تشهق به رشاشات مجهولة، يرقش جدار الهدأة، يعطل نعاسا فائضا، يتنزل من عتمة القمريات، خلل حبال تساقطت من أعال، زبال يعتل أدواته ويدفع عربة أماما، يتلوى جسده، آن تطرطش حذاؤه في بلل الصمت، وصولا الى نفايات تتنفس أبدا امرأة، عجوزا، اسفل بناية تهرب ثرثراتها، من مواسير مفغورة في منتصف الطريق، بانكفاءتها عن الوقت، بتحديقها في نشاف قدمين، شعرها نار تتسلق انحاء فوقها، فيما ذلك كله، ثمة كلب وشعث آدمي، راحا في طمأنينة، يسيلان شباكا مائية، تحط لامعة فوق هامة الاسفلت، لتطال أجزاءه الباقية، في تتال بطيء، إذ كانا يفركانه من ظلال أسنت، ولا تزال تصخب، ملصوقة أطرافها بمغاليق محال، تستطيل مصمتة.
طراوة يدات
واذ انفلتت قدماه، تجتازان، قفزا، البلاطات لصق باب غرفته، كانت الطاولة لا تزال تهتز، كأنما ترجع صوت دمدمة كتومة، تعالت مرتين، فزعت نظراته تدعك الجدران، تنزل متسللة الى ثنيات الأوراق، طيات الكتب، منتفخة بها الأدراج، يداه واجفتان تتلمسان الأشياء، تتوقفان للحظة، أكبت الأصابع فوق كدس أوراق، تتحسسه، ذات الدائرتين بليلتين منفلشة، محفورتين كأخدودين صغيرين، لا أثر لبلل فوق، كي يندي السقف، عاليا نهض رأسه، كان المنظر مهيبا، أسفل منه الطاولة، البحر في اتساع هائل، جزر خفيف يحرث سطحه، وزبد يتكاثف على خطوط عريضة، نفض دماغه، كمن يهش ظلا لفكرة مارقة، الضجة الخافتة تجهد في تسلق العلو، إذ يفصله عن الشارع، رويدا كان يميل على حواف النافذة، ربما عجوز تلوم الدهر الذي لم يحفظ ماء عينيها، أو مجنون يلعلع صوته بكلام يندفق عفوا، لكنها هذه المرة، اعلام صغيرة. ملونة، لافتات ورقية وطراوة يدات تتعرق اصابعها، قابضة عيدان نحيلة، ترف فوقها مزق قماش، فيما أسراب العيون، لامعة، تتقدم، تقض نعاس الطرقات، تتلوى لتفضي الى أزقة ضيقة، انحنى على الطاولة، جذب قلما ثم آخر، حاول أن يخربش شيئا، لم يندلق الحبر ضاجا اسطرا متماسكة، تهز بياض الورقة، مسامعه تتسع لضجة الصفار، إذ يغيبون دونما تلكؤ، دون حتى أن ترمش نظراتهم، للقامات إذ تحفهم شفقة، عصر الأقلام، تركها تسيل من أصابعه، نهض واذ أنصفق الباب خلفه، وأخذت قدماه تهبطان درجات السلم الحلزوني، إلى ضيق الشارع، تناهت اليه ذات الدمدمة، كتيمة، وظلت للحظات قارة في سمعه، كأنما انفراط أيائل مروعة من وعورة جبال، حين عاد ليلا، مخذولا يجرجر أعضاءه، وان اعتادت عيناه الأشياء، راعه ابتلال الحجرة، حتى أن بركا صغيرة، لا تزال راكنة في الأرضية الخفيضة، هذه المرة لم تفزع نظراته بحثا، أذناه فقط قد حددتا للوهلة.
أحمد الزين (قاص من اليمن)