مريم العريمي *
كنت تختالين في بلاط الرب حين منحك الزرقة، محلقة بأطراف أصابعك تبذرين وقع أقدامك على ساحل بحر ممتد منذ بدء الخليقة.. ترسمين ملامحك على وجه البسيطة.. هنا خور تأوي إليه مراكب الخليقة حين تصطفق أشرعتها بالعواصف الهوج…هنا غار تسكن إليه الريح إذا أعياها الهبوب.. هنا جبل يتمنطق شاهراً رماحه كحارس أزليٍ لأميرته النائمة في حضن البحر..هنا تطرزين أكاليل القرم على أطراف شالك..وكل مشرق شمس كنت تتراشفين حفنات الماء مع حوريات البحر ذات الأذيال المنسابة المرصعة باللآلئ والزمرد والمرجان.. تهمسين للقواقع تزنرينها حول خصرك.. تتقلدين خرائد القيعان المزدحمة بالانتظار.. ثم حين ترتفع الشمس تأوين الى ظلال الخيران والجبال العاتية المهيبة..تطلقين ضفائرك للريح فتنسج الغيوم خيالاتها اللامتناهية فوق رأسك..
مساء تغزلين النجوم وشاحاً لسهراتك أمام الاوقيانوس الأزرق المهيب الممتد على حواف الكون والمندلق موجاً متماوجاً بين أضلاعك.. تطيلين الصمت في أعراس حكايا البحر.. تلتمع مقلتاك كمنارتين تشعان يقينا بأبواب السماء..
في أعراس ليلك يكتمل نضج القمر يتدفق ضياءً وينسكب سكينة على مناكب الجبال يمد سجاد اللجين بين زركشات موجك.
ولاحقاً.. لاحقاً جداً.. بعد أميالٍ من السنوات الضوئية استوطنك الفينيقيون.. عبرك الغزاة.. وتمترس حولك القراصنة، مهروا سواحلك بالمهادنة وخيرانك بالصرامة وأنواءك بالبطش.. تلك الأنواء المقيدة بانفلاتات الأجرام…
وحين تهادت إليك قبائل الجنبة كنت تلمعين أمام راصدهم كنصل بارق يطلبهم للمنازلة…غمرتهم تيارات التحدي واستوطنهم عشق الأرض.. فذادوا عن حماكِ أي ذود ؛ حتى استكانت الجغرافيا لهديرهم العرمرم، وغرسوا على شوامخك وحصونك بنديرة الخلود.. نفخوا مزاميرهم في صورك فكنت الصخرة العاتية كنت صور.. وأعملوا أزاميل الحياة حياة البداوة والصحراء قرب سواحلك، صيروا أوتاد خيامهم سفائن تمخر العباب..صلبوا خيامهم على السواري فغدت أشرعةً خفاقةً فكنت موئل الصواري ودار الأشرعة ومعقل القوافل ؛ تنسابُ عبر دروازتك الحدريّة كنوز الأرض وخيراتها إلى بلاد تقطن عند أطراف المحيطات..
ومازلت كل مشرق شمس تتراشقين بلورات الفضة وحبيبات الجمان مع الشمس مع الموج ومع النوارس معلنةً افتتاح متاحف الطبيعة تستقبلين العابرين أطراف الجمال والميممين جهة التاريخ..
جيلة وتعويبات الأطلال
.. تماما كما هي الحكايات،
وكأن طائر اللقلق أتى بها من بلاد العجائب، حملها في صرة ووضعها على سفح جبل.. خبأها بين صخوره وأهال عليها بعضا من قش ؛ وقرب نبع ماء رقراق بين الصخور الجبلية ترعرعت جيلة،، وغدت مهد الغيم وموئل تطوافه…تناسل أبناؤها من رحم الحذر يتقافزون بين صخورها كوعول الجبل يسابقون عصافيرها في غدوها ورواحها..أوغلوا في اللواذ بها .
في جيلة يعيش الجبلي
في كهف ويتموضع بالقرب منه كهف آخر كهف تسكنه الريح وتشق جدران صمته خرخشة الأساطير.
سادنها المطر ؛ يغسل رمانها وخوخها..
يصبحها بهتّانه وتحنانه فتتدفق المياه رقراقة بين أرجائها.. من ندف الغيم تغتسل تدعك وجناتها بالندى فتشع جمالا..أشجارها الملتفة عند كل منعطف مغلفة لامعة كهدايا أعياد الميلاد…
كآلهة إغريقية يتهادى فجر جيلة حاملاً قناديله طائفا كمتصوف بين بيوتها الحجرية المتراصة الهاربة من البرد الباحثة عن الدفء،
يحشو الضباب كل مخدع من مخادعها ينزلق على دروبها الضيقة ويفور للأعلى كنافورة متوثبة فتغدو جيلة لوحةً فنيةً ساحرة..
ينسدل الضحى كوشاح مطرز على هدوئها الصاخب بعزف العصافير وتهويدات الأشجار..
يشقُ الصمتَ الساكنَ طرقاتِ الجبل غناء ٌ يأتي من بطون الأودية وكأنه آتٍ من مدن اليباب منفلت من جاذبية العدم صوت الراعية العجوز يشق ترائبَ الوجع، تهدهد أغنامها أو تهدهد وجع سنواتها.. تقشف أصابعها… انطفاء ألق مقلتيها.. تعوّب تعويبتها الجبلية..أو بالأحرى تنعي باكية كل غائب ؛ شبابها وجمالها صويحبات دربها ورائحة الأحباب..تغني.. تجرح الاتساعات…
هيي هييي هيي هيي
وطلعي الجبل طلعي
وساروا محبيني
ومتكسرن ضلعي
هييي هيييي هييي هييي
واذكر زمان اول
يوم الشجر تايه
وغيابهم طول
هيييي هيييي هيييي
وهي تملأ جرار العمر شجنا، تخضها كما تخض اللبن الرائب في السقا، فتنفجر التعويبة، تفرغ كل ما امتلأت به من حزن . تشدو للهواء.. للغيم.. تنوح تنعي نعيا كربلائيا…تعبئ الكون صوتا جارحا ناضحاً… تعبئه شجنا يمج عصارات القلوب الذاوية. فيقع الرائي في أسره في أسر ذلك المشهد الربانيّ المهيب وكأنه عرض اوبرالي قادم من بلاطات القصور الأوروبية.. جيلة المتلفعة بالضباب ومواقد الخبز البلدي أمام البيوت تهب الدفء للمكان وفتات الخبز للطير، تهش على نهاراتها كراعية تزجر شياهها بالغناء..
وتظل جيلة مقهى الغيم وتعويبات الأطلال.
يمامةٌ..
ثمةَ غيمةٍ دامعةٍ تحُكُّ زغبَ يمامة برية.. تنتفضُ اليمامةُ.. تتنقل بين سعفاتِ نخلةٍ ذابلة تتمايلُ بها السعفاتُ.. ترنو إلى واحةِ أطيافِ ظهيرة الأمس، تقف بكّاءةً كما وقف الشاعر وأبكى صاحبيه.. تقف على بقعة تناثرت عليها بقايا تذكار الأحبة، ريشة وحيدة من جناح طائر الأمس، تحملها بين منقارها.. تطمرُ وجعَها في الأرض، حيث أطلال آثار أوشكت الريح أن تذروها… ثم كجيد الريم تنصّ عنقها.. تهدل.. ترتعش التماعات ُ الريش حول عنقها.. يطول الهديل وكأنها تتلو معلقتها الجاهلية على البيد، وكأنها ترّجع بكاء من سبقها “عليّ بأنواع الهمومِ ليبتلي”.. كما يتغنى الشعراء بأحزانهم ومواجدهم غنّت تلكم الحمامة المدنفة على فرع غصنها المغبّر..
ترى أي شجنٍ مموسق تترنم به وقت الضحى، فتأسر الكون بين لهاتها المعنّاة وهديلها المقفى.. أي حزن يقودك عند سماعها الى محراب الفقد ؛ فتتلمس أوجاع الكائن الفائضة على الزمان والمكان.. وأي غربة تخوضها كلجّةٍ متراكمة الألم…غضة الحنين تأخذك إلى فيافي الغربة والاغتراب حيث بذرة الاغتراب ورحلته الاولى والتي تجرعها كما تجرع سُمّه.. مذاق العلقم الذي اعتصر فؤاد امرئ القيس مغدوراً وحيداً في غربته الاخيرة.. ذلك الألم الذي حداه لأن تنُدَّ منه زفراتٌ ملتهبة بحمى الغدر و ريح الغربة
أيا جارتا إنا غريبان هاهنا وكل غربب للغربب نسيبُ
فيبحث في الغربب عن ذي قربى.. وهيهات هيهاتَ.
.. وما زال الكائن العربي تشرده مذاقات العلقم كريح صرصر عاتية بين أصقاع المنافي ليعيد التاريخ نفسه في أجساد وأجيال تلتفُ حولها ثعابين الغدر والغيلة.. تهدل المدنفةُ تنوحُ نوحَ المفارق.. أكفكف ما تساقط من بقايا عروبة وتواشج أمشاج.. ترف المدنفة بجناحيها الى البعيد وتغيب.. تفرغ الغيمةُ دمعاتها في عيني.. ويغيب الكون أمامي حين تهبطُ الظلمة .
هامش
1 – واحدة من الولايات المهمة بمحافطة الشرقية بسلطنة عُمان .