إلى الأرض.. قبل أن تعبث بها أنانية الإنسان
-1-
يحكى أن قاصة تدعى "الريانة" كانت تقطن في قرية بعيدة عن العاصمة اختفت ذات ليلة غاب فيها القمر. يقال إن أحدهم شاهد جثتها ملقاة بين أشجار الأثل وقد نال العفن منها، وفاحت رائحة نتنة من جسدها.
ويقول آخر أنه شاهد رأسها المتبقي من أشلاء بعثرتها الكلاب التي التهمت أعضاء تلك الجثة المتعفنة ولما لم تستطع أن تبتلع رأسها لما فيه من أفكار جنونية تركته ليتعرف عليه راع كتبت عنه ذات يوم وعن أغنامه الموبوءة فشمت منها وركل رأسها المفصول إلى بئر ليس لها قرار.
بينما يظن آخرون أنها هربت مع عشيق لها إلى مكان لا يعلم به أحد، ففاح بذلك عطر فضيحتها المقزز وأصدرت عائلتها بيانا تدين فيه وتستنكر فعلتها، ويقال أن العائلة تبرأت وتنكرت لتلك الفتاة السـ..
يشاع أن روح القاصة المفقودة تدور حول القرية كل مساء تصدح بضحكاتها الهستيرية في فضاء القرية فيستيقظ أهاليها وقد تجمدت أطرافهم وتوقفت قلوبهم خوفا وطارت عقولهم إلى حيث لا يدرون.
-2-
حدثني جدي ذات يوم عن قاصة شابة اختفت فجأة ذات ليل هجره القمر، كان ذلك قبل خمسمائة ألف سنة، وقال إن أهالي القرية قد أصابهم الجنون جراء ضحكات هوجاء تصدرها روح "الريانة"، وقال أيضا أن القرية التي سميت لاحقا باسم قاصتها المختفية أو المقتولة كما أشيع حينذاك قد صارت مهجورة مقفرة، لا يسكنها سوى نباح الكلاب الضالة وعواء الذئاب الجائعة ونعيق الغربان المفزع، نعم لقد قال جدي أن القرية أصبحت مكانا مناسبا لتعذيب من لا ترضى عنه السلطات.
-3-
روت لي جدتي- رحمها الله – ذات يوم عن قرية صغيرة تقع في بلد في شبه الجزيرة غدرت بقاصة من فتياتها تدعى الريانة، فاختفت القاصة لتترك لعنتها تحل على تلك القرية التي صارت وكرا للخفافيش، وقصة مرعبة لمن لا يطيعون آباءهم ومن لا يخضعون لأوليائهم.
حدث ذلك كما أرخت له – جدتي- قبل ما يقارب ستمائة وسبعين ألف سنة، استولت روح الريانة على القرى المجاورة وبدأت تطمع في النيل من جميع القرى والمدن.
– 4-
قبل سبعمائة وسبعة وأر بعين عاما أعلن علماء العالم عن عجزهم في إنقاذ أطلال بلد التهمته ضحكات شيطانية لكاتبة غدرت بها قويتها ذات عهد بعيد، فصارت بلدا مبعثرة الأشلاء، متشظية الأسماء خالية سوى من أصوات مرعبة وضحكات مجنونة تصدح في فضاء يجتاح العالم من قرن إلى آخر.
-5-
قرأت كتابا يتحدث عن قارة التهمتها ضحكات مجنونة "لريانة" عرفت كيف تعلم الفأر أن يصوب سهمه في الصدر، وعلمت الناس أن للكلمات ألف حساب، وأن الضحكات لعنة والبكاء ندم والندم قلب رحيم، والقلب مدينة تغسلها أمطار فياضة فتزهر ورود جميلة وان كانت بلا رائحة..
-6-
البارحة عرض برنامج خاص عن ذلك الجزء من العالم الذي احتلته ضحكات شريرة لقلم كتب الضحكات علانية، ورسم الإنسان بشفافية.
عرض البرنامج وثائق سرية فضحت مدنا وهياكل محشوة حقدا وكراهية، وأماطت اللثام عن وجوه تدعي الجمال والحنان، وأسدلت الستار على مسرح يتيم لكنه خبيث ولئيم.
-7-
كان يا مكان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان، قاصة شابة يدعونها الريانة، كتبت حروفا بعثرها الأوغاد، كتبت جملا فشطبتها أنامل لألف وتسعمائة يد، رسمت خرائط لأحلام لا حدود لها ولكن ثمة من وضع. الحدود وأغرق الأحلام في خيال لا طعم له.
كتبت الريانة أكثر من عشرين جملة بملايين الحروف، حروف الريانة كانت تفرق في الأحلام وللأحلام كانت تعيش.
حدث أن استيقظ قلمها وكتب بحروف قاسية تعبت من الأحلام والآمال، فكان أن غاب القمر ليعود وقد اختفت ريانة الحروف والجمل وملايين الكلمات والعبارات..
عاد ليجد كلمات قذرة ملتصقة بأفواه ساقطة، وأفكار مرتزقة معششة في عقول نضب زيتها فتوقفت عن العمل وظلت مخزنة في جوف رؤوس متعفنة.
عاد القمر ليبكي كل مساء على نغمات ضحكات مجنونة تلتهم العالم كما يلتهم طفل جائع قطع البسكويت.
كان يا مكان قصة تبحث عن نهاية عن دمار جديد وسلام جديد وقلوب تخلق من جديد وكائنات يعاد عجنها وخبزها من جديد لتعود ريانة الكلمات، وتنتهي الضحكات ويظل العالم كما كان قبل ملايين السنين.
-8-
قرأنا اليوم في المدرسة تاريخ كوكب الريانة الذي التهمته ضحكات مجنونة يسمع صداها في فضاءات وفضاءات، وسألنا الأستاذ عن الاسم الأول لذاك الكوكب، أخفقنا في معرفة الإجابة وطالت بنا الحيرة، فلا ندري عن ذاك الكوكب سوى اسمه والضحكات التي تتردد كلما دارت بنا الساعات والأيام.. وتركنا الأستاذ بحيرتنا ووعدنا بإجابة شافية في يوم غد.
-9-
اسمعوا يا أولاد: وجدت قصاصة في صندوق أثري بخزينة منزلنا: يحكى أن ثمة ضحكات ريانية التهمت الكرة الأرضية عندما ابتلع الأوغاد كلمات سطرتها ذات يوم، تتحدث فيها عن معنى حكم الإنسان وما معنى الحرية ولماذا حقوق الإنسان؟ والمرأة والرجل والقرآن ووو وكلمات لم ترق لإنسان ذلك الزمان.
أسمعتموني يا أولاد؟ أعرفتم إجابة سؤال الأستاذ؟ إذن هي الأرض حين كانت قبل ملايين السنين كوكبا عمره الإنسان وبنى مجدا وهدم مجدا وبنى حضارات وحضارات لم يبق منها سوى ضحكات لفتاة صنعت للأرض مجدا آخر وكتبت له تاريخا آخر..
قصائد مبنية ببيوت من قهقهات مقهورة، ورواية لها فصول موجوعة، بطلها واحد وكاتبها واحد وقارئها أيضا لم يزد عن الواحد..
الأرض إذن ما يبحث عنه الأستاذ بسؤال لم يعرفه إلا أجداد الأجداد..
-10-
أخبرنا الأستاذ بإجابتنا وطلبنا منه أن يحكي لنا أسطورة الريانة فبدأ يروي لنا معنى أن تخلق الكلمات روح وأن تعبث الحروف ببقايا قلب موجوع:
كان يا مكان في قديم الزمان قاصة تدعى "الريانة" كانت تقطن في قرية بعيدة عن العاصمة اختفت ذات ليلة غاب فيها القمر.. يقال إن أحدهم شاهد جثتها ملقاة بين أشجار الأثل وقد نال العفن منها…
ويقال يا أبنائي أن الريانة قد عادت تبحث في جوف الأرض عن عالمها، ولم تدر أبدا بأن ذاك العالم قد صار في جوف ضحكات مازالت تتردد في فضاءات مجهولة..
ريا أحمد (قاصة من اليمن)