ان الحديث عن الوضعية المنطقية الجديدة تحديدا بكافة وجهات نظرها التحليلية العلمية لفلسفة اللغة, لا يمكن إثارتها بسهولة, وذلك يعود لسببين أساسيين: أولا جدية الموضوع الذي طرحته جماعة,, فيينا,, بصدد التفلسف في لغة العلم وفي حدوده. ثانيا: خطورة الطرح الفلسفي للغة العلمية والذي يتمثل في وجود لغة خاصة بالعلم تختلف عن بقية الاتجاهات الاخرى الاستعمالية للغة. وسوف نفصل القول في هذا الموضوع بعد هذا التقديم الموجز.
في الحقيقة ان الدافع الذي قادني للمغامرة في الكتابة حول هذا الموضوع الصعب ذي الطابع الشخصي في المجال العلمي, يرجع بي الى أيام تلقي العلم حين كنت طالبا للفلسفة على مقاعد الدراسة في جامعة ليون الثالثة, حيث لازالت عبارة استاذ مادة المنطق ترن في أذني.. لا لغة يقينية غير لغة العلم, وذلك في معرض تحليله للفلسفة التحليلية للغة عند جماعة ؛فيينا« ومنذ ذلك الوقت انشغلت بمثل هذه الافكار سيما على الصعيد الفلسفي, وحصلت عندي بلبلة كان سببها هذا السؤال الذي طرحته في حينها على نفسي. اذا كان العلم هو الذي يصنع لنا اللغة اليقينية بالمعنى العلمي? فأي يقين اذن ستبنيه المعارف الاخرى غير العلمية? وتطور معي هذا السؤال وكان لابد- اذا من البحث في ماهيته وكانت فلسفة جماعة (فيينا) اللغوية العلمية هي المجال الذي يمكن فيه تحريك هذا السؤال وهي الفلسفة التي بنيت على حجج منطقية علمية صارمة ومع ذلك فنحن بقدر ما نؤمن بالقيمة العلمية لفلسفة اللغة التحليلية عند هذه الجماعة في حدود المعرفة العلمية الصحيحة والخبرية, بقدر ما نحن نختلف حول صيغة المعنى الذي تدل عليه العبارة اللغوية العلمية, والمعنى الخاوي الذي تقدمه العبارة الزائفة كما في الشعر او الميتافزيقا.
ان ابحارنا في هذا المجال العميق نرجو ألا يكلفنا كثيرا من الاخطاء او عدم الفهم الصحيح في مثل هذه القضايا الهامة, ذلك اننا سنحاول مناقشة اساتذة وعلماء كبار في ميدان الفلسفة التحليلية للغة العلم, ولكن لعل رفض هؤلاء للغة الميتافزيقا مثلا بوصفها لغة زائفة وتشكل, اشباه قضايا, هو الذي يكون لنا حافزا اضافيا لمناقشة هذا الموضوع.
ما هي قصة الوضعية المنطقية والوضعية المنطقية الجديدة? وماذا أرادت ان تقول باسم العلم? وهل ان قولها بان الخبرة الحسية تمثل المجال الوحيد الذي يمكن ان نفحص فيه القضية ذات المعنى والقضية الخاوية من المعنى يلغي فعلا كل العبارات المعرفية الاخرى في بناء الحقيقة?
ثم ما هو مصير كل العبارات او القضايا التي لا تستجيب لشروط الخبرة الحسية? فهل يكفي فقط ان نحشرها في مجال الخواء واللامعنى? انها لاسئلة شرعية ربما يمكن أن تقودنا الى قبول, او رفض هذا التصور العلمي للغة عند جماعة ؛فيينا« كأساس للحصول على اليقين الضروري لحقيقة الاشياء.
إن تاريخ ظهور الوضعية المنطقية يرتد الى (هيوم) من حيث ارتكازها في نهاية التحليل على الخبرة الحسية المباشرة, وذلك عندما يكون الحديث قائما حول ظاهرة من ظواهر العالم الخارجي: اما حين يرتد هذا التاريخ الى (ليبنيتز) فاننا سنجده يفرق بين حقائق العقل من ناحية وحقائق الواقع من ناحية اخرى.
انطلاقا من هذا التمييز الذي قام به (ليبنيتز) بين الحقائق التي يقر بها العقل والحقائق التي يقر بها الواقع, سنبين حقيقة هذه التفرقة كما سيصوغها زكي نجيب محمود اذا نقلنا هذه التفرقة الى عالم القضايا, اصبحت تجري بين القضية التحليلية والقضية التركيبية. ان القضية الاولى يقينية لان محمولها يكرر ما في موضوعها من عناصر, اما القضية الثانية فهي احتمالية لان محمولها يضيف الى موضوعها خبرا جديدا.
إن (ليبنيتز) كان قد مثل في الحقيقة احد الرواد الفلسفيين الذين مهدوا الطريق امام الوضعية المنطقية بكافة اتجاهاتها الفلسفية اللغوية, وهنا نجد (كانط) الذي شكلت فلسفته النقدية مجالا آخر استلهمت منه الوضعية المنطقية والوضعية المنطقية الجديدة بعض مرتكزاتها الفلسفية اللغوية, ويتمثل هذا الاستلهام من طرف الوضعيين في قوله التالي. وهي ان تكون الخبرة هي المجال الوحيد الذي يمكن للانسان أن ينهل منه احكامه العلمية, بل قد ذهب في بنائه للميتافيزيقا التي يمكن أن تصير علما الى القول: إنه لابد عليها أن تهتدي بالرياضيات والفيزياء حتى تبني أحكامها الصحيحة. لكن الاختلاف الذي ظل قائما بين (كانط) والوضعيين المنطقيين, يمكن في ان (كانط) كان يرى في (الشيء في ذاته) – – LA CHOSE EN SOT حقيقة تتجاوز الادراك الانساني, ومع انه يقر بوجودها واقعا, لكن لا يمكن اكتشافها تجريبيا. في حين أن الوضعيين المنطقيين يرون أن هذا التعبير حول (الشيء في ذاته) في ضوء التحليل المنطقي انه ليس بذي معنى, وهنا يكمن مبدأ الاختلاف بينهما.
لكن أهم رافد للوضعية المنطقية والوضعية المنطقية الجديدة اللاحقة, يتمثل في التطورات المذهلة التي حصلت تحديدا في مجال الرياضيات والفيزياء, حيث تمثلت الخطوة الاولى في ترييض الفيزياء, اذ أصبح حل معظم القضايا الفيزيائية يجري بواسطة الرياضيات أما الخطوة الثانية فهي تكمن في انهيار مبدأ (الحتمية) في الفيزياء الحديثة وظهور نظرية الاحتمال التي قامت على أساس مبدأ الريبة (الشك) الذي أسس له الفيزيائي (هايزنبرج) (وشروندنجر) (وبول ديراك), وأفضى بهم الى اعادة صياغة الميكانيكا في نظرية جديدة تدعى ميكانيكية الكم – ME CANIQUE QUANTIQE (ووفقا لهذه النظرية, لم تعد الجسيمات تمتلك مواقع وسرعات محددة ومنفصلة عن بعضها البعض بحيث لا يمكن مشاهدتها, وانما تمتلك تلك الجسيمات حالة كمية متأتية من دمج الموقع مع السرعة) . (1)
إن مجمل التطورات والاكتشافات العلمية المتلاحقة في جميع ميادين العلم قد عزز من مواقعه وهيمنته على جميع المعارف الاخرى: وقد أدى كل هذا الى تعميق مزيد الاختلافات بين انصار العلم وانصار العلوم الاخرى المختلفة, وقد انعكست هذه الاختلافات على العلاقة القائمة بين الفلسفة والعلم والتي شهدت أشكالا أخرى للصراع الذي تم فيه الحسم الابستمي بين الفلسفة والعلم بالانفصال بينهما.
ان جميع هذه المتغيرات التي حصلت على صعيد تطور العلم, قد أدت الى تدعيم تيار الوضعية المنطقية التي اتخذت منطق العلم سبيلا في بناء اطروحاتها وذلك في مقابل تيار المثالية الذي ظل محافظا على تعالية نزعته الماورائية التي تلخص أصل الوجود في الفكر.
والآن عندما نتناول بصورة عامة تيار الوضعية نجد الفيلسوف الفرنسي وعالم الاجتماع (كونت) حيث ذهب الى تنظيم المعارف العقلية وجعل منها علوما عقلية, كما قد حاول من جهة أخرى توحيد شتى المعارف الانسانية في نسق معرفي موحد, كما قسم التطور التاريخي البشري على أسس وضعية الى ثلاث مراحل, المرحلة اللاهوتية- المرحلة الميتافزيقية- المرحلة الوضعية, وهي تشكل المرحلة العلمية على حد تعبير (كونت) نفسه. وقد أدت هذه الفلسفة الى تطور الوضعية (الكونتية) الى الوضعية المنطقية التي ظهرت على يد (فريجه) (وبرتراند رسل). لقد حاول كل من (فريجه) و(رسل) ان يتعقب قضايا الرياضيات الخالصة وقضايا المنطق الخالص, ولقد حقق كل منهما شأنا بالغ التأثير في تطور مسار الوضعية المنطقية على يد جماعة مدرسة ؛فيينا« مثل (فتجنشتين) و(كرناب) و(آير) و(موريس شليك)… الخ.
– من هم جماعة مدرسة ؛فيينا« الوضعية المنطقية الجديدة? وما هي حدود فلسفة اللغة التحليلية لديهم? وما هو الاختلاف الجوهري عندهم بين لغة العلم ولغة اللاعلم?
إن محور البحث الفلسفي عند جماعة (فيينا) هو اللغة دلالة و تركيبا, وفي هذا الاطار من البحث نجد ان اولى المهام التي تصدت لها هذه الجماعة الفلسفية تتمثل في توضيح الدلالة اللغوية وذلك بتجلية جانبها ؛السيمي« – SEMIOLOGIAQUE وتقول هذه الجماعة إن ما لا يرتد الى الخبرة الحسية يكون بغير معنى, بينما يتوقف المعنى على كل خبرة تمدنا بها الحواس وتكون متصلة بالواقع الخارجي على نحو محسوس, وعلى هذا الاساس يقسم الوضعيون المنطقيون الجدد القضية الى قضية تحليلية او قضية تركيبية, (ومن هذا المنطلق كان تقسيم الوضعية المنطقية الشهير للعبارات او الجمل او سائر ما يتمثل في الصور النحوية الى قسمين: 1- العبارات ذات المعنى- SENS وهي إما العبارات التحليلية أي قضايا العلوم الصورية (المنطق الرياضيات) وإما القضايا التركيبية القائمة على الخبرة (قضايا العلوم التجريبية).
2- العبارات الخالية من المعنى- DEPOURVUS DE SENSS وهي العبارات الميتافزيقية, وهنا يطابق الوضعيون بين المعنى وبين العلم, وحيث لا علم لا معنى)(2).
اذن إن القضية التحليلية أو القضية التركيبية هي قضية دالة على معنى أما بالمعنى الصوري كأن نقول أ=أ التي لا تقول غير اثبات الهوية (فتجنشتين) وأما بالمعنى التركيبي حين نقول: أ هي ب فالقضية هنا اخبارية وتتخذ صورة منطقية.
وتعبر جماعة ؛فيينا« عن هذا المضمون اذ ترى بخصوص العبارات الزائفة التي لا تنتمي للقضايا التحليلية او التركيبية, انما تنشأ عن احدى صورتين أولهما أن يدس المتكلم في عبارته كلمة بغير معنى أي كلمة لا تشير الى أي شيء من خبرات الانسان الحسية ككلمة ؛جوهر« التي يستعملها الفلاسفة الميتافيزيقيون حين يقولون على سبيل المثال أن لكل شيء جوهرا وراء معطياته الحسية, فهذه البرتقالة لها جوهر اضافة الى ما لها من لون وطعم وشكل: والصورة الثانية التي قد تجيء عليها العبارة الزائفة, وهي ان يستخدم المتكلم ألفاظا كلها من ذوات المعنى الخبري المفهوم لكن يرصفها على نحو لا يرضاه منطق اللغة في استعمالها المألوف, كأن نقول مثلا العقل عنصرا (3) ان من يتأمل في كتاب – – TRACTATUS (التراكتاتيس), لفتجنشتين, سيجد تمييزا دقيقا بين ثلاثة أنواع من القضايا: 1- القضايا التي لها معنى, 2- القضايا الخالية من المعنى. 3- والقضايا المجردة: ان النوع: الاول يخص العلم, والنوع الثاني يخص المنطق, الذي لا يقول شيئا حول, الواقع, ولكنه يتمتع بالدقة الصورية- – SYLLOGIQUE كما في الرياضيات, أما النوع الثالث فهو يخص الفلسفة. ويبدو انطلاقا من هذا التمييز بين الأنواع الثلاثة من القضايا, قد تبلور تيارا جديدا للوضعية المنطقية يمكن ان نطلق عليه التيار المناهض للميتافيزيقا عند جماعة مدرسة فيينا, وبهذا المعنى فان (التركتاتيس) يفصح تدقيقا, ان القضية ليس لها سوى امكانيتين, وهي ألا تعني لي شيئا بخصوص الواقع الخبري, واما ان تقوم بتعيين الشيء كما تدركه الحواس في هذا الواقع. وبمعنى آخر, اذا كانت القضية تعني شيئا ما, فان هذا الشيء لا يعني غير الواقع, بينما كل قضية لا تتحدث عن الواقع, فهي لا تكون سوى قضية مجردة.
ان هذا التحديد يمثل مبدأ التحقق والمواجهة مع الواقع الذي يساعد على رسم خط يفصل بين القضايا التي لها معنى والقضايا الخالية من المعنى, وبهذا فان ؛مبدأ التحقق« عند جماعة مدرسة ؛فيينا«, يصبح خاصية للمعنى. وفي نفس هذا الاتجاه العلمي التحليلي للغة, يذهب (كرناب) مبينا بدقة علمية صارمة مفهوم الفلسفة العلمية كنظرية للمعرفة, ولكنها خالية من كل انطولوجية ومن كل بسيكولوجية, وان هذه النظرية الجديدة للمعرفة تقوم على تحليل منطقية للغة العلم يقوم على أسس نحوية (SYNTAXE) (4) وفي حدود هذا المعنى يقيم (كرناب) تفرقة علمية بين القضايا التي لها معنى وهي القضايا التي يمكن التحقق منها خبريا, والقضايا الميتافيزيقية الخالية من المعنى ويطلق عليها (أشباه- القضايا) – Pseudo propositions لانها لا تخضع للنظام النحوي المنطقي, وان هذا الفصل الذي يقيمه (كرناب) بين القضايا العلمية والقضايا الميتافيزيقية (أشباه- القضايا), سيدفع به الى احداث قطيعة جذرية بين الميتافيزيقا وفلسفة العلم وهذا ما سيدفع بحلقة ؛فيينا« اللغوية الى زرع ترسانة من الالغام أمام كل من يحاول الربط بين العلم والميتافيزيقا لأن سعيه سيكون عبثا لا طائل منه, ذلك انه يستحيل الربط بين معرفة تقوم على التجريب ومعرفة أخرى تقوم على التجريد والتخمين. وبهذا يستبعد (كرناب) الميتافيزيقا من كل اتصال بقضايا العلم وخاصة منها الخبرية. (5)
ولكن الآن ما هو المعيار الذي سيمكن انصار الوضعية المنطقية الجديدة من التحقق من صدق القضايا أو كذبها? وهل يشكل المبدأ اليقيني الشامل للحكم على كل القضايا? ان اساتذة جماعة »فيينا« يحددون بأنفسهم, هذا المعيار وهو »مبدأ التحقق«, يقول د. عزمي اسلام في مقالة له بعنوان (مشكلة المعنى في الفلسفة المعاصرة) ان مبدأ التحقق, يمكن التعبير عنه بما يلي: ان معنى التحقق لغويا هو التثبت او التأكد, وهو المعنى نفسه الذي نجده لدى الفلاسفة ورجال المنطق, وهم يستخدمونه للتثبت من ان العبارات التي نقولها صادقة أم هي كاذبة وذلك بالرجوع الى الواقع الخارجي لمقارنتها. إن الفيلسوف مثل المنطقي حين يريد التأكد من قضية معينة فانه يحيل صدقها او كذبها من خلال مطابقتها او عدم مطابقتها للواقع. لهذا لا نجد فرقا بين استخدام الفلسفات المثالية والفلسفات الوضعية »لمبدأ التحقق« لأن كليهما يختبران معاني العبارات والالفاظ كما يصوغها الواقع الموضوعي. وبالتالي فان الوضعية المنطقية التي تحاول دائما ارجاع المعاني تحت سيطرة الخبرة الخارجية, المباشرة, فهي تجنح في النهاية وفي حالات متعالية كثيرة للتعبير عن أغراض ما ورائية تتجاوز خبرة الحس.
حين يطرح جماعة مدرسة »فيينا« معيار »مبدأ التحقق« للتثبت من صدق او كذب القضايا, فانهم يربطون هذا المبدأ بمعنى (التطابق) او (الاتفاق), اذ يذهب (ج,أ, آير) في كتابه (اللغة والصدق والمنطق) الى القول: (ان اية عبارة لا تكون ذات دلالة حقيقية بالنسبة لأي شخص, الا اذا كان هذا الشخص يعرف كيف يتحقق من القضية التي توحي هذه العبارة بالتعبير عنها, أي اذا عرف ما هي المشاهدات التي تقوده في ظروف معينة الى قبول القضية على انها صادقة او رفضها على انها كاذبة) (6).
وفي مقالة أخرى لـ(ج,أ,آير) بعنوان (التحقق والخبرة), ان مبدأ التحقق يعني تحديد صدق او كذب القضية بمعرفة مدى اتفاقها او اختلافها مع الواقع.(7)
لكن علينا أن نعرف هنا ماذا تعني كلمة »اتفاق« وكلمة »واقع« عند انصار الوضعية المنطقية الجديدة? وهذا مثال يمكن ان يبين لنا مفهوم التطابق بين هاتين الكلمتين.
إننا عندما نقول, القلم الاحمر موجود فوق الطاولة, فاننا نكون هنا قد عينا وجود القلم فوق الطاولة وجودا فعليا, مما يعني هذا اننا احدثنا تطابقا بين وجود القلم الفعلي والعبارة الدالة على هذا الوجود. أي أن هذه القضية ليست سوى نتيجة للواقعة الخبرية متطابقة مع العبارة الدالة عليها. وبهذا المعنى, يمكننا ان نعبر عن التطابق بين القضية التي تقال وبين الواقع الخارجي كالتالي, فاذا كانت القضية تصور الحالة التي نجد عليها الواقع الخارجي تصويرا دقيقا وترسمه رسما واضحا, كانت القضية مطابقة للواقع, وهذا يعني انها صادقة واذا كانت غير ذلك فهي كاذبة. ونجد نفس هذا التحليل عند (فتجنشتين) في نظريته التصويرية للغة الذي يقول في رسالته الفلسفية المنطقية, ان القضية رسم للوجود الخارجي لانني اعرف الحالة التي جاءت تمثلها, وذلك اذا فهمت القضية: ثم يذهب من جهة ثانية الى تشبيه التطابق بالاسقاط في الهندسة, اذ ان القضية هي اسقاط للوجود الخارجي بمعنى أن تجيء القضية ظلا له, او ان يسقط ظله في القضية فتكون القضية رسما له. وعلى هذا الاساس تتماثل القضية العلمية مع الوجود الخارجي.(8) لكن هذه المطابقة بين القضية والواقع الخارجي, لا تشمل الاشياء المفردة وانما الاشياء كموضوعات في ترابطها مع بعضها البعض وبما ان العالم منظور اليه عند الوضعيين المنطقيين من جهة الوقائع, فهو لا يتشكل اذن الا من الوقائع الذرية, اذ يقول (فتجنشتين) في رسالته الفلسفية المنطقية ان ما هو موجود هو وجود الوقائع الذرية, وان العالم هو مجموع الوقائع وليس الأشياء, وهذا يعني ان ادراك العالم يجري بوصفه وجودا فيزيائيا مما يعني هذا قيام تطابق بين العلم والمعنى. وهذا التصور قد ذهب اليه كل من »أوتو نويراث« و»كرناب« حين بينا, أن هناك لغة واحدة للعلم الموحد المتمثل بعلم الفيزياء, وهذه اللغة الفيزيائية تتمتع بخاصية تجعلها كلية – language universel يمكن أن يقال فيها كل شيء له معنى. لقد كان (كرناب) يقول (إذا كنا سنتخذ لغة الفيزياء كلغة للعلم بسبب خاصيتها كلغة كلية, فان جميع العلوم ستتحول الى الفيزياء, وستستبعد الميتافيزيقا على انها لغو, وتصبح العلوم المختلفة أجزاء من العلم الموحد). (9)
لئن كان (كرناب) قد بين أن كل قضية هي عبارة عن وقائع ذرية يمكن اختبارها تجريبيا, فان »فريدريش فيزمان« (وضعي منطقي) قد ذهب الى رأي مختلف في مقال له بعنوان (مبدأ القابلية للتحقق) اذ يقول: انه يوجد بعض الناس من يميل الى الاعتقاد بوجود عالم مؤلف من وقائع في مقابل عالم اللغة الذي يتألف من ألفاظ وعبارات تصف هذه الوقائع, وأنا لا أرحب كثيرا بهذا الاعتقاد. ان (فايزمان) على عكس (كرناب) كوضعي منطقي, لا يفصل بين عالم الوقائع وعالم اللغة, ذلك عنده حينما نستخدم اللغة, فانما نقوم بذلك لنحدد جانبا او جزءا من العالم: وفي هذا السياق, نجد اختلافات كثيرة قائمة بين أنصار الوضعية المنطقية بخصوص اشكالية اللغة والواقع, ولكنها تلتقي عموما ضمن حدود التحديد العلمي للغة. ولكن كل مبادئ التحقق والقابلية للتأييد والاختبار قامت ضدها اعتراضات عديدة, سيما وان هذه المبادئ تميز عموما بين نوعين من القضايا. القضايا الدالة على المعنى: وقضايا غير دالة على المعنى كالميتافيزيقا (خاوية من المعنى), ولقد دأب (كارل بوبر) احد الفلاسفة المناوئين للوضعية المنطقية الجديدة الى دحض كل آرائها دون هوادة, مما دفع بالجماعة الى تعديل بعض آرائهم بخصوص »مبدأ التحقق« حيث تم استبداله من طرفهم بمبدأ القابلية للتأييد.. والقابلية للاختبار, لتجاوز أشكال القصور التي ألمت.. بمبدأ التحقق, في حدود القضايا العلمية تحديدا.(10)
إن النقد الذي وجه الى »مبدأ التحقق« من طرف (كارل بوبر), فهو ذاته ليس قضية تحليلية, وليس هو قضية تركيبية, فكان ان عرض الوضعيون قبوله على اساس تجريبي, مما جعل (آير) يميز مثلا بين ؛التحقق بالمعنى القوي« والتحقق بـ»المعنى الضعيف« وهو يعبر عن الفرق بينهما بما يلي.
إن القضية يمكن التحقق منها (بالمعنى القوي) اذا كان ممكنا ان تؤسس بصفة حاسمة وقاطعة على الخبرة, وهي قابلة للتحقق بـ(المعنى الضعيف), اذا كان للخبرة ان تجعلها ممكنة. على هذا الاساس نلمس ان (مبدأ التحقق) لم يعد يشكل المعيار الوحيد للحكم على صدق القضايا او كذبها, وقد أدى هذا الى توسيع مجال فلسفة لغة العلم وفتح ابوابه على الاحتمالية, وهنا يأتي (كرناب) ليقوم بطرح فكرة التأييد والاحتمالية او درجة التأييد ودرجة الاحتمالية تحت تأثير النقد (البوبري), ولقد كان (كارل همبل) اكثر الوضعيين المنطقيين الجدد استجابة لهذا النقد في التخلي عن (مبدأ التحقق) فأخذ طريقا مغايرا لهم اذ اعلن رفضه (للتحقق) على أساس رفض الاستقراء, وأعلن انه لا يمكن اعتبار النظرية علمية, ما لم تكن قابلة للاختبار التجريبي, والتأييد ببينات تجريبية.. وحينما تكون النظرية علمية فلا يمكن بالطبع ان يفضي الاختبار الى تأييد حاسم, بل فقط الى بينة مؤيدة بدرجة اكبر او اصغر ومن هنا تكمن أهمية معيار القابلية للتأييد والاختبار) (11)
ان استناد (كارل همبل) على قانون (مبدأ الريبة) الذي وضعه (هايزنبرج) في المستوى الميكروفيزيائي على اساس الصعوبة القائمة في تحديد موقع الجسيم وسرعته في نفس الوقت والذي مرده ان الجسم اصبح يشكل مادة وتموجا معا, مما اسقط مفهوم الحتمية والقول بالاحتمالية, هو الذي دفعه الى رفض (مبدأ التحقق) واستبداله بمعيار القابلية ؛للتأييد« و»الاختبار«. لكن كل هذه المراجعات والتعديلات التي طرأت على معيار (مبدأ التحقق) والقول بمبادئ وضعية اخرى اتخذت (الاحتمالية) كمبدأ للتعديل عند جماعة (فيينا), لم تغير في الحقيقة لديهم اشكالية التمييز بين لغة العلم ولغة اللاعلم مع بعض الاختلاف في وجهات النظر, وسوف يفرض منطق العلم كل القضايا والعبارات التي لا تستجيب للبنى (السانتاكسية) و(السيمنتية) التي تقوم عليها اللغة التحليلية للعلم, مثل القضايا الميتافيزيقية التي تعتبرها الوضعية المنطقية الجديدة خالية من المعنى, وهي تشكل (أشباه قضايا).
) الميتافيزيقا خلو من المعنى:
لقد ميزت جماعة (فيينا) على أساس (مبدأ التحقق) تحديدا بين القضايا الحقيقية التي تقوم على الخبرة والتحقق التجريبي وهي صادقة بالضرورة, والقضايا الاخرى كالميتافيزيقا التي لا يمكن اختبارها بواسطة (التحقق), وبالتالي فهي تكون خالية من المعنى ويمكن تكذيبها ولهذا فهي تدخل تحت (أشباه القضايا). وهذا (فتجنشتين) احد اساتذة الحلقة البارزين يقول: ان التعابير الميتافيزيقية مجرد لغو او كلام بدون معنى, لهذا لا يمكن اختبار عباراتها بواسطة (مبدأ التحقق). مما يعني هذا ان القضايا او التعابير الميتافيزيقية تبحث فيما يوجد خارج الوقائع المادية, فنحن حين نقول على سبيل المثال (الوجود موجود بما هو موجود) فهي تشكل عبارة خاوية من المعنى لاننا هنا حددنا الحقيقة الفعلية للوجود بعبارات تبحث في الماهية او العلة التي تقع خارج هذا الوجود, وهذا يعني استحالة فحص هذه العبارات على أساس التجربة ومعاييرها المادية, بينما حين نقول: ان التفاحة تسقط من الشجرة بسبب قانون الجاذبية), فنحن في الحقيقة نكون قد اختبرنا تجريبيا القانون العلمي الذي يؤدي الى السقوط- la churte ولهذا فان عبارات هذه القضية ذات معنى وتمثل الصدق الضروري الذي أكدته التجربة العينية. فهذا (كارناب) يقول: (ان العبارات الميتافيزيقية خالية من المعنى لانها لا تحمل اية دلالة واقعية, وبالتالي فهي تبقى خاضعة للاستعمالات اللغوية اللاعلمية ولا يمكن التحقق منها خبريا مما يجعل منها شبه قضية). (12)
ان عبارات مثل (السبب الاول) و(المطلق) و(الوجود بذاته)… الخ! لا يمكن ان تؤدي الى شروط الحقيقة بوصفها لا تخضع منطقيا الى أي تحليل نحوي او خبري عند (كارناب), وعلى هذا الاساس تبقى خلوا من المعنى, ولكن الى أي مدى يمكن الاطمئنان النهائي الى مثل هذا القول ان العبارات الميتافيزيقية وتحديدا كل العبارات الميتافيزيقية مجرد لغو وخالية من المعنى? وهل ان كل القضايا والتعابير غير العلمية تكون خالية من المعنى فقط عندما لا تخضع (لمبدأ التحقق)? وهل ان صدق القضايا يبقى متوقفا على ما تقدمه لنا الخبرة الحسية والتجربة فحسب? لاشك ان الجواب حول بعض هذه الاسئلة يبقى أمرا موجبا عند جماعة (فيينا) وحاسما بالايجاب قطعيا, لان خارج نطاق العلم والتجربة العلمية لا يمكن البحث عن صدق القضايا ومعانيها المنطقية:
ان في هذا المقام ولئن كنا نثق بأهمية الوظيفة التحليلية المنطقية للغة العلم في تحديدها للقضايا والتعابير الصادقة التي تبنى نحويا وتفسر معاني العلم وتكون موائمة تماما لما تفصح عنه التجربة في المخابر العلمية, وهو أمر لا يمكن دحضه بأية ذريعة ما ورائية, فاننا في المقابل لا يمكن أن نقر بهذا التصور على انه المجال الوحيد الذي يجب ان ترد اليه كل الاستعمالات الاخرى للغة والتي اما ان تكون خاضعة للتجربة وللتحليل النحوي المنطقي الشكلي للعبارة اللغوية فتكون بالتالي دالة على معاني صادقة بالضرورة? وإما ان تكون غير خاضعة للاختبار (والتحقق) فتكون خالية من المعنى وكاذبة بالضرورة?
ان مثل هذا التحليل عند جماعة »فيينا« للتمييز بين القضايا الدالة على المعنى (قضايا العلم) والقضايا الاخرى (قضايا الميتافيزيقا) الخاوية من المعنى, وان كان هذا التمييز يخدم العلم من خلال تحديد الشروط والقوانين والتراكيب اللغوية النحوية التي تبنى بها لغة العلم, فانه في المستوى الآخر يشكل انتقاصا ونظرة ضيقة جدا بحدود السياقات الاخرى المفتوحة في مجال استخدام اللغات خارج النطاق العلمي, بل ان هذا التحديد للوضعية المنطقية الجديدة يضر بعلاقة لغة العلم بالمستويات الاستعمالية الاخرى للغة (لغة الفن لغة الميتافيزيقا, لغة الدين, لغة الفلسفة… الخ..) التي يصعب القول ان عباراتها خلو من المعنى, هذا وان كانت فيما بينها تقوم تباينات مختلفة في حدود استخدام المعنى والتعبير عنه لغويا وفكريا.
إن عدنا في الواقع الى تحليل العبارة السابقة (التفاحة تسقط من الشجرة بسبب قانون الجاذبية), فهي عبارة نتفق فيها مع الوضعيين المنطقيين الجدد انها عبارة تخضع للقوانين الاختبارية للتجربة, وبالتالي فهي دالة على معنى خبري متصل بالواقع الخارجي المتمثل بقانون السقوط وقائمة على الصدق الضروري الذي تحتمه التجربة. كذلك يمكن ان نحكم على العبارة (الوجود موجود بما هو موجود) بانها تشكل مفهوما عقليا دالا على ادراك الوجود, والعبارة هنا مباطنة عقليا بل مطابقة للوجود ذاته ليس كواقعة خارجية وانما كواقعة ذهنية منطقية يمكن الاستدلال عليها بواسطة العقل, ولهذا لا يمكن ان تكون هذه العبارة الفلسفية خالية من المعنى, لانها ان كانت كذلك فهي ستكون اذن خالية من المبادئ العقلية الاولى وآلة المنطق التي تقف وراء صناعة هذه العبارة عقليا ومنطقيا وهذا طبعا مختلف.
وبناء على هذا القول فان الميتافيزيقا مثلا ليست منفصلة عن الواقع (لاننا لم ندرك يوما وجود ميتافيزيقا تجري عباراتها في السماء) بل هي مرتبطة به ومباطنة له, وهي وان كانت تبحث فيما وراء الطبيعة, الا ان هذا البحث فيها مرتبط بالطبيعة, اذ البحث في الوجود الكلي او في الوجود من حيث هو كذلك مرتبط بادراكنا للموجودات المفردة. وهذا ما يتضح في ابحاث بعض الفلاسفة الوجوديين المعاصرين الذين ربطوا بين وجود الذات ووجود الآخرين. كما ان البحث في الجوهر مرتبط كذلك بالواقع على اساس انه يوجد في مقابل وجود الاشياء بالعرض او ما يختفي وراءها وذلك على حد تعبير الأستاذ (بديع الكسم). بهذا المعنى يمكن ان نقول: ان الميتافيزيقا ليست علم (ما يوجد) (الفيزياء), وانما هي علم ما يمكن ان يوجد وراءها, يقول كانط معرفا الميتافيزيقيا في (مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن أن تصير علما). (ان الميتافيزيقا بتعريف تصورها نفسه لا يمكن ان تكون تجريبية, ولا يمكن أبدا استعارة مبادئها, ذلك انه لا ينبغي ان تكون هذه المعرفة معرفة فيزيائية, أي معرفة تتجاوز حدود التجربة. ولذلك فليس العلم الطبيعي او السلوكي يصلحان أساسا لها, اذن فالمعرفة الميتافيزيقية معرفة قبلية ينتجها العقل الخالص) (13)
ان هذه المعرفة القبلية الخالصة للميتافيزيقا, هي معرفة سوف يقرن كانط وجودها بالرياضيات والعلوم التجريبية, وبالتالي ستقطع هذه الميتافيزيقا المقبلة مع كل ميتافيزيقا تقليدية تقوم على العقل النظري فحسب. وعلى هذا الأساس سوف يخلص كانط الميتافيزيقا من كل الاوهام والاقاويل الشكلية التي ارتبطت بها منذ (ارسطو) حتى (ديكارت) و(ليبنيتز).
ان حرص (كانط) الفلسفي هو ان يثبت أقدام المعاني الميتافيزيقية العقلية على أرضية العلم ليس بالمعنى التجريبي وانما بالمعنى النظري الخالص, فهل يمكن الادعاء بعد الآن أن القضايا او العبارات الميتافيزيقية خلو من المعنى? بمجرد انها لا تستجيب لشروط التجربة وقوانينها العلمية? طبعا يصعب الحسم اجرائيا بالمعنى العلمي التجريبي الضيق في الحكم على الميتافيزيقا بخلو المعنى وان استخدام (مبدأ التحقق) في الحكم على القضايا العلمية التي تخضع لشروط الحقيقة العلمية التجريبية تحديدا, لا يمكن تطبيقه بالضرورة على التعابير والقضايا الميتافيزيقية والفلسفية التي لا تخضع لشروط التجربة العلمية, وانما لاساليب لغوية عقلية ومنهجية اتصالية تربط بين الذات والعالم, لكن (كارناب) يرى ان الميتافيزيقا مجرد لغو, ويتفق معه بهذا الصدد كل من (فتجنشتين) و(آير) و(موريس شليك) لأنها كما بينا في بداية عرض هذا التحليل, لا تستجيب (لمبدأ التحقق) ولشروط التجربة العلمية, وان كان (كارناب) يزعم في معنى آخر له اذ يقول: ان الميتافيزيقا تنطوي على نظريات لا تشتمل على قضايا علمية, لكنها تعبر عن شيء ما, ومع ذلك يظل هذا الشيء, ما بعيدا عن مجال التحقق والاختبار والتجربة.
ان استبعاد الميتافيزيقا باسم العلم بوصفها لغوا لا يشكل قاعدة عقلانية تخدم الصلة المعرفية التي يجب ان تقوم بينهما لخدمة تطور المعرفة البشرية حتى وان كان هذا الاستبعاد مبنيا على اسس منطقية وعلمية (واذا كانت حجة جماعة (فيينا) في ذلك قائمة على اساس ان بعض الافكار الميتافيزيقية قد أعاقت التقدم العلمي, وأبرزها فكرة (أفلاطون) بتحقير المادة وكل ما يتصل بعالم الحواس, فان هناك افكارا ميتافيزيقية أخرى قد ساعدت على تقدم العلم بل كانت ضرورية له) (14) وان الامثلة لعديدة إذ يمكن العودة بها الى بدايات الفلسفة الطبيعية الأولى في اليونان القديم عندما كان التأمل الفلسفي يشكل عاملا أساسيا في بناء التصورات العلمية. بل ان بعض الأفكار والمفاهيم الميتافيزيقية داخلة في نسيج العلم بطريقة يستحيل معها الحكم بأنها خاوية من المعنى: ان الفصل الذي قام به الوضعيون المنطقيون الجدد من جماعة (فيينا) بين قضايا العلم الدالة على المعنى وقضايا الميتافيزيقا الخلو من المعنى, قد أحدث (شبه قطيعة) معرفية ضيقة الحدود بين العلم والفلسفة, وان النقد (البوبري) الذي وجه لدحض آراء هذه الجماعة (وان كان يتسم بنوع من المغالاة والافتقار للدقة الموضوعية) فانه قد أبرز التناقضات التي أدت الى زعزعة (مبدأ التحقق) واستبداله بمعايير منطقية أخرى, لم يحالفها الحظ كثيرا في القضاء على الميتافيزيقا باسم العلم. ويبدو ان الوضعيين المنطقيين الجدد كانوا قد تأثروا بذلك التعارض الظاهر بين دقة الرياضيات وبين عدم دقة وغموض الفلسفة, وقد جرهم هذا التعارض الى هذه القسمة التي لو كانت دقيقة لربما عادت على العلم بالوبال الشديد.
صحيح ان الوضعيين المنطقيين الجدد قد قدموا خدمات معرفية كبيرة في تطوير المناحي البنائية والتحليلية والتركيبية للغة العلم بما يستجيب لشروط وقوانين العمل العلمي التجريبي على وجه التحديد, وبالتالي فقد ساهموا في وضع مفاهيم ومعايير لغوية علمية جديدة, مكنتهم في الحقيقة من ادخال عنصر (الاقتصاد) أو(الاختزال) في بناء لغة العلم واستبعاد كل الوسائل اللغوية اللفظية الانشائية التي كانت تتداخل في نسيج لغة العلم التقليدي, وهذه تشكل مأثرة معرفية هامة تقدم الى الإضافات التي قدمها علماء وفلاسفة الوضعية المنطقية الجديدة في تطوير لغة العلم على أسس منطقية وضعية وتجريبية علمية.
لكن التمييز الذين أقاموه بين لغة العلم الدالة على المعنى ولغة الميتافيزيقا الخلو من المعنى, هو الذي زاد من تعميق الهوة بين الفلسفة والعلم, سيما اذا انطلقنا من طبيعة الانفصال المتزايد الذي يجري بينهما لأسباب نظرية وتجريبية معرفية والذي فرضته وضعية العلم والتقنية الدقيقة المعاصرة, واذا كان السبق اليوم في مجال الاكتشافات العلمية على صعيد التكنولوجيا الدقيقة والبيوتكنولوجيا, وعلم الهندسة الوراثية وتكنولوجيا الاتصال وفي الفيزياء والكوسمولوجيا, يجري باسم العلم, فان هذا لا يعني بالضرورة تخلف الفلسفة عن فهم وتحليل هذا التطور المذهل الحاصل في العلم, خاصة اذا أدركنا طبيعة الازمات الخاصة التي أخذ يفرزها كل علم انطلاقا من منطق الاختصاص والاختصاص الدقيق في بعض المجالات العلمية الضيقة. وان مثل هذه الوضعية (الحرجة) نسبيا والراجعة الى التراكم المعرفي العلمي من ناحية وتعدد الانساق العلمية في ميدان التخصص, قد بات كل ذلك يفرض البحث عن مخارج جديدة لاعادة طرح وفهم العديد من القضايا المعرفية والعلمية ليس من منطلقات علمية بحتة, وانما من خلال توسيع دائرة البحث العلمي من خلال إعادة ربط الصلة بين الفلسفة والعلم مما يعني أن العلماء أنفسهم اصبحوا يعتقدون ان بالعلم فقط لا يمكن أن نحلل ونقول كل شيء دون الانفتاح على مناحي التفكير الجدية ان كان على الصعيد السياسي (توجيه واستثمار العلم) وان كان على الصعيد الفلسفي لتحديد الاهداف والغايات التي يسعى الى بلوغها كل علم. ومن هنا يمكن مناقشة جماعة (فيينا) في هذا الفصل الاجرائي الضيق بين لغة العلم ولغة اللاعلم, وهذا يجب ان يدفعنا الى الدفاع عن اللغة التي ينتجها العلم كدالة معرفية ومنطقية تفرضها بالضرورة المنطلقات والمبادئ والمفاهيم كمقتضيات عقلية صارمة ودقيقة كما تطرحها النظرية والتجربة في المستوى العلمي, ومن ناحية أخرى التصدي لكل زعم يقوم باسم العلم او اية معرفة أخرى لاستبعاد الميتافيزيقا او الفلسفات النظرية بوصف عباراتها غير دالة على معان. وهذا التصدي ذاته يجب ان نقوم به ضد جماعة (فيينا) الذين بتصفيتهم للميتافيزيقا باسم العلم, انما قاموا في واقع الامر بمحاولة استئصال للميتافيزيقا باسم العلم, انما قاموا في واقع الامر بمحاولة استئصال جذورها الضاربة في العلم وتحديدا في بدايات التأسيس, وبالتالي فان هذه المحاولة لم تهدم الميتافيزيقا فحسب, بل انها زرعت خطا رجراجا من الاسلاك الشائكة بين الفلسفة والعلم.
الهوامش والمراجع
1 – راجع كتاب: موجز تاريخ الزمن تأليف ستيفن هوكنج, ترجمة باسل محمد الحديثي, منشورات دار المأمون للترجمة والنشر- بغداد 1990.
2 – راجع كتاب فلسفة كارل بوبر (منهج العلم- منطق العلم) تأليف: يمنى طريف الخولي ص532, منشورات الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1989.
3 – راجع كتاب: نحو فلسفة علمية, تأليف: زكي نجيب محمود, ص69- 70, منشورات الانجلو المصرية القاهرة.
4 –
e autse psopostion estimeapaele. De signifien quoi que Ce moit.des meo- positivister ont toufoms essaye de fause counader ad demarcation eutre le nas et le mon- new avec la demarcation entre le acientifique. Et le. Mon- acienti fique. Autreneut dit, pour enx. Mont de new qune de proposition ons de la Duena, taut
5 –
ar an socabunlaine, c est a-dire. Des mots. Ayant un nens et une pyntaxe; c`est a-dine des negles permettant de fasner. Des propositions:Davars de Bepassemedr, de la metaphysique. Pas lanalyre log que du langoge, (casmap) explique. Pausquai des propositions, de la metaphysique me peuvent. Que etre alsande, le sont eu Pait des. Prendo- propositions, En effet, tout langage, se definit p
* colloque
DEFI ALA PHILSOPHIE
N`eo- pasitivisne et anti-
Philorophie – par mue MELIKA OUELBANI.
FACULTE des naemles numains
Et rociales de TUNIS,
6 – راجع مجلة الفكر المعاصر المصرية- العدد الثالث والعشرون ص20- 21 السنة 1967- القاهرة شهر يناير- عزمي اسلام.
7 –
D`apves de prina`pe, eunpiri que.
De verih`cation, d`apre l`exigence, meo-positivote de la verification empiri que pro pasition.
Synthetique a un seus,si elle exprime cune,
Experince directe immediate on si elle peut etse,
Traduite en proposition d`experience, LA
Verification pent dons etre noit directe noit indirecte,
Et c`st toujours elle neuke, qui peut. Garantir, le,
Sens des propositions.
* verification et La`fication.
Cours au philosophie du.
Langages- 3 – eycle-11-92.
Dounee pan. MELIKA OWELBANI
FACULTE de TUNIS.
8 – ان الوضعيين يطابقون بين المعنى والعلم, انطلاقا من ان كل قضية تدل على معنى لابد ان تكون قابلة لمبدأ التحقق والاختبار, وبهذا المعنى تنقسم القضايا العلمية عندهم الى نوعين: القضايا التحليلية والقضايا التركيبية:
1 – القضايا التحليلية: قضايا العلوم الصورية, حيث تنحصر قيمة القضية داخل ذاتها فهي تحصيل حاصل – TAUTOLOGIE شقها الاول يعني عين ما يعنيه شقها الثاني, لذلك فهي تكرارية, ليس لها أي محتوى معرفي أو قوة اخبارية, نحققها بواسطة الاستنباط, ونعرف صدقها من كذبها فقط بتحليلها تحليلا منطقيا لغويا. والقضايا الصورية فهي يقينية, أي مطلقة الصدق, لان صدقها يعتمد على الضرورة المنطقية التي تستلزم استحالة النقيضين, لذلك فالقضية الصورية ان كانت صادقة كانت ضرورية كأن نقول أ=أ, وان كانت كاذبة كانت متناقضة ذاتيا مثل أ= ب.
2 – القضايا التركيبية: وهي قضايا العلوم التجريبية (فهي اذن اخبارية ذات محتوى خبري نصل اليها بواسطة الاستقراء والتحليل المنطقي لا مثال هذه القضايا يردها الى سلسلة من القضايا الذرية وليس الى أشياء أي أن القضية تشير الى واقعة معينة في نقطة معينة من نقط المكان ولحظة معينة من لحظات الزمان: والمرجع هنا في قيمة الصدق أو الكذب هو خبرة الحواس:
راجع كتاب: فلسفة كارل بوبر ص236- نفس المرجع السابق.
9 – راجع كتاب: فلسفة كارل بوبر, ص247- نفس المرجع السابق.
10 – لقد ارتبط معيار القابلية للتأييد بالقابلية للاختبار, اذ اوضح عضو الدائرة (فيكتور كرافت) ان نقد (بوبر) (لمبدأ التحقق)- – prencipe de vertfecation أجبر الدائرة على تعديله والاتجاه به نحو القابلية للاختبار, والتي هي أحد أوجه معيار التكذيب: وصورة المعيار لديهم هي ان تكون الجملة قابلة للاختبار اذا كنا نعرف الاجراءات المعينة, مثلا (تنفيذ تجارب معينة) التي من شأنها أن تؤيد الجملة او تؤيد نفيها لدرجة ما: بينما تكون الجملة قابلة للتأييد اذن أمكن منطقيا لأي نوع من الادلة التجريبية أن يؤيدها, حتى لو كنا لا نعلم المسار المعين لاجراءات الحصول على هذه الادلة. واضح اذن أن القابلية للاختبار مجرد صورة فعلية من قابلية التأييد المضعفة. والفارق بينهما يطابق الفارق بين التحقق بالمعنى القوي والتحقق بالمعنى الضعيف (كرناب): مما يعني ان القابلية للتأييد هي الأوسع فيما صادقاتها وهي الأصل, بينما القابلية للاختبار مجرد تابع لها).
– راجع فلسفة كارل بوبر نفس المرجع السابق ص234.
11 – راجع نفس المرجع السابق ص247.
12 –
des enonces que possederls un reus se partaqed.
En les calegoues, pruvants: D`averd les enonce`s.
Analutiques, des enonces contradictoires, les enounces.
Sy mthetiques.
Siamaintemaul,l`on tente de fomer, un e`nonce` qui
N`appartiemne pas aux categoues. Precedents, sutomatquenent
Il mamquera de. Sens, Puiro que la metaphrusi que neveut.
Pas de propositi ons analytiques, pas de sciense experimarale,
Elle se tnouve confinee dows lemploi des mots sams.
Ritere, nastant Dans nignification, ou daus les
Alignemeuty de mots possedent peut-etse du sens, mais tels
Qu`ils me formeut mi un enonce` analytique oue
Contradictione, mi cum enonce experimental. Quoi qui elle farse, elle me peut aloutir que`a des.
Psendo- propositions.
* LASCIENCE ET LA.
METAPHI SIQUE.
DEVANT L`ANALYSE LOGIQUE DU. LANGAGE par.
PUDOLF CARNAP.
TRADUCTION.
DU GENERAL, ERNEST
VOUILLEMIN
PQGE 37.
PARIS.
HERMANN et C. EDITEURS. 1934.
13 – راجع مقدمة لكل ميتافيزيقا مقبلة يمكن ان تصير علما
تأليف: كانط
ترجمة: د. نزلي اسماعيل ص53
الهيئة المصرية للترجمة والنشر
14 – راجع الفكر المعاصر نفس المرجع السابق ص28
المراجع العامة بالعربية
1 – راجع العلم في منظوره الجديد. تأليف: روبرت م: اجروس.
جورج ن: ستانسيو
ترجمة: د. كمال خلايلي
منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) 1989.
2 – اسطورة المادة (صورة المادة في الفيزياء الحديثة)
تأليف: بول ديفيز
وجون جريبين
ترجمة م: علي يوسف علي
الهيئة المصرية العامة للكتاب 1998
3 – المفهوم الحديث للزمان والمكان
تأليف: ب:س: ديفيز
ترجمة د. السيد عطا
الهيئة المصرية العامة للكتاب 1996
4 – بنية الثورات العلمية
تأليف : توماس كون
ترجمة: شوقي جلال
منشورات المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) 1992
5 – موجز تاريخ علم اللغة (في الغرب)
تأليف: ع:هـ: روبنز
ترجمة: د: أحمد عوض
المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت) 1997.
6 – ديكارت والعقلانية
تأليف: جنجياف روديس لويس
ترجمة: عبده الحلو
منشورات عويدات بيروت 1998.
7 – كونت (الفلسفة والعلوم)
تأليف: بيار مشري
ترجمة: د: سامي أدهم
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع بيروت 1994
8 – العقلانية التطبيقية
تأليف: جاستون باشلار
ترجمة: بسام الهاشم
المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع 1984
9 – العلم في الفلسفة
تأليف: د: حمادي بن جاء بالله
منشورات سيراس للنشر- تونس 1995
المراجع العامة بالفرنسية
1 –
HEIDEGGER
ALAINBOUTOT
Presse ureniversitaire, de frauce.
EDITIONS DELTA (que rais-je?)
PARIS-1989.
2 –
KANT
Critique de la raison. Pure
TRADUCTION de Jules BARNI
GFFLAMARION, 1987 PARIS.
3 –
DE PROBLEME DE L`ETRE CHES Aristote
Pierse Aubeuque.
QUADRIAGE/ PUF DELTA- 1996 PARIS.
4 –
DESCARTES.
Meditations metaphysiques
GF-FLAMARION.1979 PARIS.
5 –
R.martin
Loqique, contemporaine, et- formalioation
Hachette, 1982- PARISE.
6 –
L, Wittquenstieu.
TRACTATUS. Logico. Philosophicus.
Gallimard. 1993, PARIS.
7 –
A.TARSCHI.
Legique Semautique, mathemateque
A, COLLIN, 1974. PARIS.on
Hachette, 1982- P
محمد الصالح العياري كاتب من تونس