سامي عادل البدري
كاتب عراقي
أحسِبُ النفس هَزَّها القلقُ
كنفيس الكُنوز تُنتبَشُ
أكرهُ البدرَ دهرَه نسَقُ
وأُحِبُّ النجومَ ترتعشُ
محمد مهدي الجواهري
يقصد بكلمة (التقريض) المدح والذم على حد سواء، وكان اختيار تلك الكلمة في العنوان مقصود، فهذه المقالة تتناول ذلك الموقف المرتبك الذي نتخذه أمام الجنون. فلا يخفى أن بعض الفلاسفة والشعراء والرومانسيين يبجلون لفظة (الجنون)، فلجبران خليل جبران كتاب بهذا الاسم يكون المجنون في كتابه هذا بمثابة فيلسوف يعلم الناس، وللشاعر ممدوح عدوان كتاب بعنوان (دفاعًا عن الجنون) يعتبر فيه الجنون حريةً وصدقًا وحيويةً على الضد من العبودية والزيف والتبلد.
أما لغويًا، فكلمة (جنون) هي مشتقة من مصدر يعني اختفاء الشيء خلف ستار، فنسمي الطفل في بطن أمه جنينًا لأن هناك حجابًا يخفيه عن الأنظار، والجن مخلوقات مختفية لا نراها، والجنة هي فردوس بعيد المنال يحظى به من يستحقه، وهكذا نفهم بأن المعنى اللغوي لكلمة (جنون) هو غياب العقل.
قد يصح القول إن تلك النظرة المبجلة للجنون هي شأن من ينظر للموضوع من بعيد من غير أن يكون «متورطًا» فعليًا في شأن الجنون. فمن يعانون من المرض النفسي ومن يعالجونهم يشعرون بالوصمة دائمًا. فبينما نرى المريض بمرض بدني يعدد أمراضه وأدويته، وهو ينتظر منا الاعتراف بمعاناته وإعفاءه من بعض الواجبات والسماح له بالراحة والتدلل، بل يصل به الحد أحيانًا إلى الافتخار بأمراضه كأنها أنواط شجاعة، نرى المريض بالأمراض النفسية من جهة أخرى يحاول جاهدًا نكرانها أو إخفاءها، لأننا نعتبرها ضعفًا وفشلًا، بل مسبة وعارًا.
وبعيدًا عن تلك التوجهات الخاطئة في تقديس الجنون أو تجريمه، فإن موقفنا المعاصر منه غير محسوم، ويمتد ذلك الارتباك ليشمل موقفنا من الطبيب النفسي، فبينما يسارع الأصدقاء والأقارب إلى مباركة وتهنئة الطبيب الشاب لأنه اختار التخصص في أي من التخصصات الطبية المختلفة، يواجه من يختار الطب النفسي على الأغلب اللوم والمعارضة، أو الصمت والتجاهل، بل حتى السخرية والانزعاج!!
تداعت هذه الأفكار حين كنت أقرأ الكتاب الذي صدر مطلع السنة الماضية ٢٠٢٢م وهو: (ضربة فأس على الرأس، جنون وإبداع) وهو من كتابة طبيب فرنسي معاصر اسمه (رافاييل جايار Raphaël Gaillard) يعمل في باريس.
الكتاب مليء بالتفاصيل، فالكاتب يدعونا منذ الصفحات الأولى لمصاحبته في يومه، منذ استيقاظه صباحًا ويشاركنا همومه الشخصية والعائلية، ويتكلم بلا إحراج عن الأمور التي تقلقه، فنرى بأننا أمام إنسان عادي، يحزن ويخاف ويقلق، وتلك هي الصورة الحقيقية للطبيب النفسي، فهو ليس بملاك ولا ساحر ولا بطل خارق، وإنما إنسان عادي لديه نقاط ضعف كما بقية البشر.
بعد أن يدخلنا لعالمه يبدأ الكاتب بطرح السؤال الذي سيخصص بقية الكتاب للإجابة عليه: لماذا لم تنقرض الأمراض النفسية خصوصًا الذهانية منها كالفصام؟
فما دامت نظرية التطور تقول بأن البقاء للأصلح، وأن هناك انتخابًا طبيعيًا للأحياء التي تستطيع أن تقاوم الظروف الصعبة وأن تتكاثر، فكيف نفسر استمرار مرض مثل الفصام؟ علمًا أن هذا المرض بالذات يتسبب في أن يعيش أغلب المصابين به بلا زواج، منعزلين ومهمشين، يقضي أغلبهم حياته في المصحات النفسية المغلقة، ولا يعتنى بصحتهم الجسدية بشكل جدي غالبًا. فنجد المصاب بالفصام حين يصاب بسرطان ما أو بنوبة قلبية، يتوفى بسرعة وذلك بسبب عدم أخذ صحته الجسدية على محمل الجد، وعدم إعطائه الأولوية.
أفليس من الغريب أن تنقرض الديناصورات بضخامتها، والدببة والحيتان والدلافين وغيرها من الكائنات الحية القوية والشرسة تعد مهددة بالانقراض، ويبقى هذا المرض الذي يصيب نسبة لا يستهان بها من البشر يجعلهم ضعفاء ويقلل من إنتاجيتهم، يبقى يصيب نفس النسبة من المجتمع على مر العصور؟ هذا علمًا أن الكثير من الأمراض تنقرض، إما بسبب توفر اللقاحات والعلاجات، أو بسبب عدم قدرتها على إعادة إنتاج نفسها.
يطرح الكاتب هذا التساؤل ثم يحاول أن يجيب عليه بالاستشهاد بكثير من الدراسات الحديثة. لنأخذ ثلاثًا منها، فهذه الدراسات الثلاث التي سنتناولها يمكن أن تعدّ من أغرب الدراسات في تاريخ البشرية حقًا.
الأولى دراسة أجريت عام ٢٠١٤م، عمل عليها ثلاثمائة باحث، من ثمانين مؤسسة حول العالم، كان هدفهم إيجاد الجينات المسببة للأمراض النفسية، وقد سميت مجموعة الباحثين تلك بـ(ائتلاف الجينوميات الطبية النفسية Psychiatric Genomics Consortium). ووجدوا أنه لا يوجد جين واحد للفصام، بل هناك مائة وثمانية (١٠٨) جينات!! ويسهم كل جين في زيادة احتمالية حدوث الفصام قليلًا.
والثانية، دراسة أكثر غرابة من الأولى أجريت في النرويج بقيادة (أولي أندرياسن Ole Andreassen) ونشرت عام ٢٠١٦م، وجرى فيها مقارنة الخريطة الجينية بين الإنسان النياندرتالي والإنسان العاقل الذي يتميز بتطور لغته، فوجدت أن الجينات التي تزيد من احتمالية حدوث الفصام توجد بنسبة أكبر وبشكل ملحوظ في خريطة الإنسان العاقل الجينية! كأن القدرات اللغوية المعقدة تورث على نفس الجينات التي تسبب الفصام!!
أما الثالثة فهي بقيادة الطبيب النفسي السويدي الشهير (سيمون كياجا Simon Kyaga) الذي وجد في دراسة شملت عوائل ثلاثمائة ألف (٣٠٠٠٠٠) شخص مصاب بالأمراض النفسية الشديدة، أن الأقارب من الدرجة الأولى للمرضى المصابين بالأمراض العقلية الشديدة، وخصوصًا الفصام وثنائي القطبية، تكثر بينهم المهن التي تتطلب إبداعًا، مثل الفنانين والأدباء والأساتذة الجامعيين والمصممين، وذلك بشكل ملحوظ.
من الدراسات الثلاث تلك استنتج كاتب الكتاب الذي بين أيدينا (ضربة فأس على الرأس، جنون وإبداع)، الطبيب النفسي (رافاييل جايار)، أن سبب عدم انقراض الأمراض النفسية الشديدة، وخصوصًا الفصام والذهان المزمن بكل أشكاله، هو لأنها تنتج عن نفس تلك الجينات التي تميزنا -نحن البشر العاقلين- عن الإنسان النياندرتالي وبقية الكائنات، وهي نفس تلك الجينات التي لو ورثناها بنسبة قليلة، كما في حالة أقارب المرضى من الدرجة الأولى، ستكون سببًا في إبداعنا. أي أن القليل من تلك الجينات شيء نافع!!
يستمر الكتاب بعد ذلك في إضافة التفسيرات والتوضيحات لهذه النظرية التي يقدمها. وربما أهم ما يقوله بعد ذلك يتمثل في أن من أهم ميزات الإنسان العاقل هي اللغة المعقدة التي طورها وصاغها في جمل معقدة، ثم صار يكتبها. وتلك اللغة تمثل الأشياء: الباب، المنضدة، الشارع، الشجرة… لكنها تصف الأشياء غير المادية كذلك: كالوقت، والحياة، والموت… فصار لنا في داخل رأسنا تمثيل للعالم الخارجي وللمفاهيم غير المادية. ولقد استطاعت اللغة أن تعطي الأجنحة لأفكارنا، فنتفلسف ونعيد إنتاج العالم ومفاهيمه برسوم وكتابات، لكن تلك الأجنحة نفسها قد تسبب أن يطير معها عقلنا من دون سيطرة.
قليلة هي الكتب التي تترك أثرًا نفسيًا ملحوظًا، من دمعة أو ابتسامة. حين أغلقت الكتاب كنت أحس بالرضا والفخر. أما ما شأني أنا لكي أفخر بكتاب كتبه غيري، فلأني وجدت فيه انتصارًا للتخصص الذي اخترت العمل فيه، بل كان افتخارًا حتى لمجرد كوني واحدًا من البشر، تجمعني بهم لحظات التخيل والتفكر والضعف والقوة، نتأمل عالمنا ونعيد رسمه وبناءه، تلك قصتنا.
الهوامش
المصادر (عنوان الكتاب والدراسات الثلاث):
1. Gaillard, Raphaël (2022) Un coup de hache dans la tête: Folie et créativité. Edition Grasset
2. Schizophrenia Working Group of the Psychiatric Genomics, C., Biological insights from 108 schizophrenia-associated genetic loci. Nature, 2014. 511(7510) : p. 421-7.
3. Srinivasan, S., et al., Genetic Markers of Human Evolution Are Enriched in Schizophrenia. Biol Psychiatry, 2016. 80(4) : p. 284-292.
4. Kyaga, S., et al., Creativity and mental disorder : family study of 300,000 people with severe mental disorder. Br J Psychiatry, 2011. 199(5) : p. 373-9;