الايقاع وضروره المعنى
الايقاع إحساس خفي لما يتجلى لنا في الحياة, و ايقاع الشعر هوا حساسنا بايقاع التجربة, ايقاع الوقت, ايقاع اللغة وتنويعاتها، ايقاع المكان والكائن في تحولاته, ايقاع الطقس بفصوله, الايقاع صدى وحركة وصمت لكل شيء وفي كل شيء.
مفهوم الايقاع في قاموس اللغة يعني ( أن يوقع الألحان ويبينها أي أنه يأتي من ايقاع اللحن والغناء)( 1) والمعروف أن الشعر قد سبق الموسيقى عند العرب وربما تجلى قبل ذلك عند الانسان البدائي في ايقاع الايماءة والاشارة قبل النطق وقبل معرفته الكلام أي التدليل من خلال الرموز والاشارات وحركة الجسد والحواس, إنه الايقاع الأول للانسان الذي لم ترغمه ( التكنولوجيا)على ( الاتيكيت) العصري.
الطريف أن من تخريجات وقع في اللغة أن الوقعة (تعني النومة في آخر الليل والوقعة ان يقض في كل يوم حاجة الى مثل ذلك من الغد،وهو من ذلك. وتبرز الوقعة أي الغائط مرة في اليوم)(2) كأن النقد العربي تمسك بالوقعة والوقوع والوقيعة دون أن يستدل أكبر من المعنى القاموسي الضيق. بحيث يمكننا اكتشاف الايقاع في كل ما يقع علينا أو يقع منا أو نقع فيه ولعلنا نكتشف هذا الايقاع في كل ما نستشرفه في الحياة من حولنا.
لعل الايقاع يفضحنا حين نشترط أن يكون ما يصل الى أسماعنا فقط دون أن نستشعر حرمات أيدينا وأصابعنا وعيوننا في التلون والتماهي والدهشة والترصد لكل ما يدور في محيطنا الصغير.
ان ارتباط الايقاع بالوزن الخليلي هو ارتباط بأسباب هي ذريعة قد انتهت وأوتاد لا يمكن لها أن تشدنا وفواصل لم تعد موجودة في الحياة, حيث إن بيت الشعر قد صار شقة أو بيتا فسيحا من الصالات والغرف والفضاء، فالسبب في الأصل هو الحبل والوتد خشبة تغرس في الأرض لتثبت بها حبال البيت, والفاصلة هي جزء من قماش البيت وكلها لبيت الشعر وارتباط هذه المفاهيم ببيت الشعر هو ارتباط أملته ايقاعات قديمة لواقع استوجب هذه التسميات, وحتى الحديث عن التغيرات التي طرأت على التفاعيل مثل الزحاف والعلة لعسر الشاعر أحيانا على أن يكون موقفه دقيقا في الأوزان وحالات الشكل والرقص والكشف والبتر والملم هي حالات ارتبطت بزمن وبوقت لم نعد نعيشه فما الذي يعنيه البتر والرقص والملم عندنا اليوم.
إن قوانين الأوزان والبخور في الشعر العربي شبيهة بقوانين المنطق الصوري وتحديد ماهية الفكر في حين أن الواقع يخرج عن التفاصيل والأسباب والبخور لأننا سنظلم مفهوم الايقاع حين نحدده في الوزن كأننا نحدد الفلسفة بضرورة المنطق وهو تقييد الفكر وفق قانون الهوية والثالث المرفوع, وكأننا نحدد وحدة الايقاع بالسبب والوتد وقد يكون هذا الفهم عبر عنه الفارابي في كتاب الموسيقى الكبير الذي ربط بين الشعر والموسيقى (3) مع التأكيد على أن الشعر "أقدم في الوجود من صناعة الألحان, لذلك فعلاقة الموسيقى بالشعر ليست مجرد علاقة بالكلام وانما هي علاقة مخصوصه" ( 4) وربما الشاعر الغربي الأول الذي لم يعرف الأوزان قد استخدم موسيقى الصحراء حيث كان يرسل صوته عبر الكلمات حتى يكون صدى صوته واضحا في أسماع الآخرين ودون أن يدري ذلك الشاعر بأن ما قاله سيكون بعد ذلك قاعدة وزنية تتحول الى عقيدة شعرية لا يمكن المساس بها، بل من العار المساس بذلك, يمكنك أن تناقش العربي في الفكر الديني وتختلف مع الفقهاء وتشريعاتهم ويمكن للعوب أن يتغاضوا عن أوطان نهبت وشرف هتك وكرامة تبددت مع المطلق, ولكنهم وأغلبهم لا يفرطون في وزن الشعر (المقدس) رابطين الايقاع بالميتافيزيقا وتجريده دون النظر الى تحولات هذا الايقاع مع متغيرات الحياة نفسها.
نحن نحترم شاعرنا الأول لأنه عاش ايقاع عصره بدون تنظير ولكننا نحترس أمام بعض نقادنا المتعصبين وبعض شعرائنا أيضا الذين يفترضون الوزن ضرورة لاكتمال القصيدة.
وربما تكمن اشكالية الايقاع في كونه لم يتخلص بعد من الميتافيزيقا التي تلاحقه كما لاحقت الأخلاق الحميدة ومفاهيم العيب والحرام.
تطور الاية عبر الشعر
" واجب على صانع الشعر أن يصنعه صنعة متقنة لطيفة مقبولة فيحسه جسما ويحققه روحا، أن يتقنه لفظا ويبدعه معنى ويجتنب أن يخرجه على ضد هذه الصفة.
ابن طباطبا _ عيار الشعر
الشعر هو الأصل والمعرفة الأولى والايقاع من منجزات الشعر وليس العكس ولعل ذلك يتجلى في شعرنا العربي عبر تطوره منذ العصر الذي عرفناه بالجاهلي حيث البداوة وامتداد الصحراء واختلاط الأفق بالسراب.
ايقاع السفر وشد الرحال في لامية الشنفرى الذي حل مع اصحابه الثلاثة القلب الحديدي والسيف والقوس.
إيقاع الرفض والوحشية في قصيدة "تأبط شرا" الذي قرع الطبول وصرخ في نادي أهله انتم فجيعتي.
ايقاع ناقة طرفة بن العبد التي تتقدم كأخشاب التابوت :
"افخذاها شبيهان ببوابة برج
وأثار الحزام على خاصرتها
كالبحيرات الجافة المليئة بالحصى
ان لمستها في هذا المكان
تظن أنك تلمس مبردا
وهي شبيهة بقنطرة بناها اغريقي
وغطاها بالقرميد" (5)
الابيات السابقة ترجمة لابيات طرفة عن الانجليزية وبالتأكيد فقدت أيقاعها الجاهلي ولكن ايقاع المعنى ظل موجودا مما يؤكد بأن القافية وحدها لا تشكل الايقاع ويمكن مقارنة الترجمة بالأبيات الحقيقية.ايقاع الشعر القديم ارتبط بتحولات الشاعر وتأسس كما يقود أدونيس (لقاء الكلام العربي الأول مع الحياة ولقاء الانسان العربي الأول مع ذاته ومع الآخر فهو لم يكن مجرد ممارسة للكلام وانما أيضا ممارسة للحياة والوجود وفي هذا الشعر يتمثل الوعي العربي الأول) (6).
ولعل الوعي الأول ارتبط بايقاع الحياة من حوله ولعل الشعراء الصعاليك هم الشعراء الأكثر بروزا في تنويع الايقاع لارتباط ذلك بقلق حياتهم ومغامراتهم وغاراتهم "فاعتمادهم على المقطوعات القصيرة يمكن اعتباره الارهاص الفني المبكر لما تطورت اليه القصيدة فيما بعد عند الموشح الاندلسي والمخمسات والدوبيت وسائر الأشكال البنائية القصيرة "(7).
الشعراء العرب الأوائل كانوا ينشدون الشعر بشفوية وعفوية أيضا، نكتشف ذلك في المعلقات التي تفترض مستمعا يتلقى الكلام ولا يقرأه, يحفظه ويكرره في أرجاء الصحراء فالعرب كما يؤكد ابن خلدون "انشدوا الشعر وغنوه بالملكة والفطرة ولم تكن لديهم قواعد تنظم ذلك وانما يعتمدون الذوق والحس "(8).
التنظير لهذه الشفوية جاء فيما بعد أي بعد تف على الثقافة الاسلامية مع الثقافات الأخرى "وكان يهدف الى أن للشعر العربي خصوصية بيانية وموسيقية "(9) وربما التنظير الايقاعي أيضا جاء ليؤكد هذه الخصوصية فالبحر المديد الذي عرفه الفراهيدي مثلا هان يستخدم عند الصعاليك في الصلابة والوحشية, ولعل تأبط شرا أهم الشعراء الذين استخدموه (ولا يستبعد أن تكون تفعيلاته قد اقتبست في الأصل من قرع الطبول التي كانت تدق في الحرب) (10) الشاعر العربي الأول استجاب لايقاع الشعر وفق ما تمليه الحياة وليس ما يمليه الوزن الخليلي.
النص القرآني والشعر
أسهم الفقه الاسلامي في الابتعاد عن قراءة القرآن بمعزل عن التشريع والثواب والعقاب, أي قراءة القرآن كنص ابداعي له لغته ومعرفته وايقاعه الجديد الذي مثل قطيعة مع ايقاع الشعر الجاهلي, وصارت قراءة الشعر تتوقف في العصر الاسلامي الأول وكأن الايقاع يخرج من الشعر القديم الى العصر الأموي أو العباسي مباشرة دون الاشارة الى النص القرآني الذي شكل لغة جديدة لها أثرها الواضح في تطور الشعر العربي لا يمكننا العبور من خلاله دون أن نتوقف باعتباره ارهاصة ضروريا لحالات تشكل اللغة والايقاع وخصوصا عند المتصوفة العرب و(لم يكن القرآن رؤية أو قراءة جديدة للانسان والعالم وحسب وانما كان أيضا كتابة جديدة) (11).
من هذه الكتابة الجديدة ينطلق النص القرآني الى فضاء شاسع يستوعب كل تحولات الأشكال الشفوية الشعرية السابقة له مستفيدا من التوراة والانجيل وسجع الكهان وشعر الجاهلية متحولا بلفته الى ايقاع جديد طغى في فترة الاسلام الأولى على الشعر، حيث أننا لا نجد شعراء مهمين في ذلك الوقت سوى الشعراء المخضرمين أمثال حسان بن ثابت ولم يظهر الشعراء إلا في العصر الأموي وبعد ذلك في العصر العباسي, فالنص القرآني سيطرت لغته وايقاعه والذي لم يأت كنص شعري كما ينفي عن نفسه ذلك بقوله في سورة الحاقة } وما هو بقول شاعر { وفي سورة يس }وما علمناه الشعر وما ينبغي له { وانما جاء القرآن ككتابة جديدة وهو سبك خاص للألفاظ كما يقول ابن قتيبة الذي يعرف موسيقى القرآن بأنها (ايقاع داخلي في الآيات يقوم على تآلف الحروف نغميا وعلى اطراد الفواصل أو كغيرها في أنساق معينة) (12).
فالقرآن نص شكل تغيرا في الايقاع فهو نص كتابة ومعرفة ووعي ارتبط بالتشريع والبناء لذلك عزل فيما بعد في قدسية محاطة بعدم اللمس والاجتهاد والاستفادة, ورغم محاولات الفقهاء في تأكيد زاوية واحدة لقراءة القرآن, وكذلك بعض النقاد الفقهاء إلا أن بعض الشعراء أدركوا بأن الايقاع لا يمكن أن يستكين, بل عليه أن يخرج من حالته الشفوية الانشادية الى حالة الكتابة والممارسة أي ممارسة ايقاع عموهم بكل تحولاته.
و(يحبر أبو تمام رمزا للخروج على عمود الشعر)(13) فهو عبر عن فهم ايقاع عصره فيما يقال بلغة خارجة عن تكرار من سبقوه وأدرك بأن المعنى في التأمل والمعرفة الشاسعة التي تحيط به, أبو نواس اضافة أخرى في التحرر والتمرد على الأغراض الشعرية وشكل القصيدة القديم, فهو نسيج وحده عاش ايقاع حياته بصخبه ومجونه وخمره وغلمانه. يقظته في تعبيره عن عالمه من خلال نصه الذي مثل سيرة ذاتية لعصر بأكمله, كذلك كان الشيخ الضرير الفاسق بشار بن برد الذي رفض الاذعان والانصياع الى لغة الثبات وائساومة فدفع الثمن روحه المناوئة, ويمكن أن نعدد مجموعة من الشعراء الذين استفادوا من جرأة ايقاع النص القرآني، وخصوصا المتصوفة الذين ارتبط الايقاع عندهم بالرؤيا كحالة كشف واختراق لما هو عادي ومحسوس الى ما وراء الواقع والذي يسميه ابن عربي علم النظرة وهو "يخطر في النفس كلمح البصر» ومن هنا بدأ يرتبط الايقاع بالمعرفة الصوفية التي تنطلق من الذوق للاتصال بالحقيقة.
الايقاع الصوفي في علاقته بالمعرفة لم يجد وعاء يتسع له أكثر تعبيرا من الكتابة المفتوحة الشبيهة بالنص القرآني، وكان الشكل الاقصي والأكمل للتعبير الصوفي هو الشطح والشطح كما يعرفه السراج : "عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته » الشطح نوع من الحضور الكامل في اللغة مثلما يتجلى النفري في مواقفه ومخاطباته "أوقفني في الثوب وقال لي : إنك في كل شي ء كرائحة الثوب في الثوب "(14) وكأن الثوب شكل والشكل معنى ومع ذلك "قال لي ليس الكاف تشبيها هي حقيقة لا تعرفها إلا بتشبيه ».
فالكون والعالم والحياة والعز والادراك والموت كلها مواقف تفضي الى ايقاع جديد يمثل بداية حقيقية لما عرفناه فيما بعد بقصيدة النثر. فكتابات النفري اضافة الى ابن عربي في "قال الشاهد» و" الذي لا يعول عليه " والسهر وردي المقتول, الحلاج, البسطامي وغيرهم, كتابات لم تحظ بالقراءة النقدية من زاوية اللغة والايقاع, وانما القراءات التي انصبت عليها كانت تناقش الفهم الفلسفي في معناه اللاهوتي ومدى قرب أو بعد هذه النصوص من القرأن كشريعة ولذلك اتهم هؤلاء بفساد العقيدة فصلبوا وذبحوا ودفعوا ثمن جرأتهم غاليا، لأن هؤلاء اصطدموا بهيكل الفراغ في فهم اللغة السائد وثبات الفكر، وكانت التهمة جاهزة (بانحلال العقيدة والتعطيل) كما اتهم أبو نواس وبشار (بالمجون والزندقة).
الصوفيون العرب لم ينظروا في كتاباتهم للشكل الذي يكتبون به إنما حالة الوله والعشق واتساع المعرفة قادتهم الى النص الشعري الذي يمكنه أن يستوعب اتصالهم ومواجدهم.
ولكن أين تكمن اشكالية غياب التطور الطبيعي للقصيدة العربية واستبعاد مثل هذه النصوص, أعتقد بأن النقد العربي كان سببا حقيقيا في هذا الغياب, لماذا حدث ذلك ؟
ايقاع النقد البطىء
النقد سبب في الغياب وهو غائب وإن كان حضوره يتجلى في أصوات قليلة تصلنا فإن غيابه كان سببا في تطور النص الابداعي بمعزل أحيانا عن النقد.
فمعظم النقد العربي القديم كان نقدا وصفيا أو وعظيا وارشاديا باستثناء حالات مثل ابن طباطبا والجرجاني.
ولو نظرنا – تحديدا – الى محاولات النقاد العرب المعاصرين فإننا نجد معظم نقادنا بل أغلبهم ينظرون الى الايقاع وكأنه موسيقى القصيدة فقط, أي الوزن والقافية ومجهوداتهم المشكورة منذ الخليل بن أحمد الفراهيدي الى آخر ناقد معاصر هي محاولات في إطار وزن الشعر وتحولاته الوزنية وارتبط الوزن بالايقاع وهذه إشكالية لم يتخلص النقد المعاصر منها.
أستثني هنا بعض نقادنا المعاصرين الذين أسسوا لفهم جديد للنقد العربي، مثل خالدة سعيد وكتابات أدونيس المهمة عن الشعر والشعرية, والياس خوري، وكمال خير بك, ويمنى العيد،و جابر عصفور وغيرهم.
وأعتقد أن جيلا جديدا نهض من النقاد العرب مصاحبا للقصيدة الجديدة لا يصف ولا يفسر، بل يكتب بتجاسد نصا ابداعيا بجوار النص الشعري من بي ن هؤلاء الناقد محمد لطفي اليوسفي الذي يسعى بلغة عاصفة الى كشف عطب النقد المهادن للغة السائدة (16).
والذي يرى بأن الخطاب النقدي المعا هو "انشغل بقضية الوزن وعده من الاشكال المركزية الكبرى وبالمقابل أهمل قضية المعنى(17).
معظم الدراسات النقدية المعاصرة لم تناقش مفهوم الايقاع من خلال الشعرية بل ناقشته من خلال الوزن والتغيرات التي تطرأ على البخور سواء من خلال الأرقام الثنائية لوصف موازين الشعر العربي (محمد طارق الكاتب) أو الشعر كظاهرة عروضية (نازك الملائكة)، أو دراسة النبر والكم (محمد النويهي) أو مناقشة تركيب الوحدات الايقاعية (شكري عياد) ثم مجهودات د. كمال أبو ديب ومحاولته الجادة في علم الوزن وليس الايقاع كما اعتقد د. كمال أبو ديب (18).
لأن هناك خلطا سائدا في تعريف الايقاع بالوزن وليس أن الوزن جزء من الايقاع, وهذا الفهم عطل وأبطأ تطور القصيدة العربية ومن هنا جاء الشعر بلغة تستلهم ايقاع العصر دون أن يكون هناك نقد يستلهم هذا الايقاع, بل إن معظم النقد يؤكد على القديم ويستدرجه لكي يبرر حالة خروج الشعر عن القافية أولا ثم عن الوزن فيما بعد.
عندما نقرأ بدايات التحول الشعري – كما يقول الياس خوري – "نفاجأ بحقيقة تبدو غير منطقية, تقدم نظري يصل مع جماعة أبوللو الى حد القبول بالشعر المنثور وتخلف تطبيقي يبقي القصيدة داخل اطار عمود الشعر"(19).
ولعل أدونيس فى صدمة الحداثة يؤكد على الحداثة النطرية بل أكدها بعض الشعر اذ أنفسهم في قصائد موزونة ومقفاة تطمح الى الخروج عن عمود الشعر.
إنه مجرد طموح نظري، والنقد لم يكن حاسما بل ك ن مهادنا الى حد كبير، وحتى محاولات بعض نقاد الحداثة العربية التأكيد على حالة خروج الشعر بلغة جديدة مغايرة كانت تنصب على فهم الشعر ددفليس المهم بالنسبة للتجديد هو ملاحظة شواهد العصر"(20) كما يعبر عزالدين اسماعيل.
النقد الأكاديمي بمجمله لم يستطع أن يدرس التجربة الجديدة لأن معظمه دخل الى النص بمفاهيم مسبقة وهذا الدخول "يحول القراءة الى فعل استباحة ونهب. استباحة النص بإجباره قهرا واغتصابا على الامتثال لمطلبات ذلك المنهج ومسلماته ونهب شعريته بحجبها وتغييبها"(21).
ولعل ناقدا فذا مثل عبدا لقاهر الجر جاني قد أدرك مفهوم الايقاع قبل الكثير من نقادنا المعاصرين وربط الايقاع بمفهوم الشعرية الذي سماه (النظم) ورأى بأن "الالفاظ خدم المعاني" مؤكدا على فهم عميق للمعني وهو سبق البنيوية التي ناقشت فيما بعد علاقة الدال بالمدلول, إن تركيزه على المعنى يجعل من الأشكال خدما للمعاني وكأنه يقول بأن الايقاع معنى وليس لفظا مجردا وهو يقول صراحة :
"الوزن ليس من الفصاحة والبلاغة في شي ء إذ لو كان له مدخل فيها لكان يجب في كل قصيدتين اتفقتا في الوزن أن تتفقا في الفصاحة والبلاغة فليس بالوزن ما كان الكلام كلاما ولا به كان كلام خيرا من كلام "(22).
وهذا الفهم الذي يقدمه الجر جاني يؤكد بأن فهمنا للايقاع لا يمكن أن يرتبط بالوزن والقافية وان كانت حالة من حالات تجلياته, ولكن ليس ضرورة استمرار الشعر بهذا الشكل, بل إن المعنى هو الجوهر والحقيقة التي يتشكل الثوب من خلالها،فالمكان والزمان كفيلان بتغير أشكالنا وأشكال أثوابنا التي نرتدي لأن فهمنا يتغير وبذلك من اللائق أن نجد الثوب الذي يناسبنا ليس مهلهلا أو باهتا أو باليا، بل ثوبا يناسب حركتنا بحرية وليس باقتضاب.
قصيدة النثر وايقاع العصر
هل من الضروري أن نحدد تاريخا لبداية النص الشعري الذي رفض كل الأشكال التقليدية للتعبير سواء من خلال الشكل (الوزن والقافية) أو من خلال الأغراض (الرثاء، الغزل, المدح) أو البلاغة التي ارتبطت بالفصيح والبيان, هذا الشكل الذي سماه النقاد (قصيدة النثر)، ربما اصطلاحا، لتمييزها عن (قصيدة الوزن) أو ترجمة عن سوزان برنار، أو خوفا من فقهاء الشعر الموزون, أو تنصلا من كونها قصيدة غير موزونة,ومهما كانت التسمية تظل قصيدة النثر (عمل شاعر ملعون) كما عبر أنسي الحاج وهي الشكل الشعري الوحيد حتى الآن الذي استطاع أن يستوعب ايقاع العصر بارتباطها اليومي والمعاش 0ون ادعاء وان كانت سهلة في شكلها فهي تجربة مريرة وصعبة في ممارستها ومحاولة كتابتها وتشكيل عالمها.
هناك أدعياء كثيرون دخلوا الى هذه (السهولة) إما بقصد الهدم أو بقصد الادعاء ورفع شعارات التمرد والصعلكة والتجاوز ولكن أثبتت تجربة هذه القصيدة أن هناك شعراء حقيقيين اشتغلوا بصمت وخرجوا عن طوق الرنين والغناء المكرور بعيدا عن التعامل مع المتلقي كأذن كبيرة عليه أن يسمع فقط دون أن يرى أو يسأل أو يتكلم.
الايقاع لا يمكن أن يرتبط بالأذن بقدر ارتباطه بكل الحواس التي نستعملها أو بعض مشاعرنا المعطوبة أحيانا.
ربما عاش تجربة هذا النص من اكتوى بتاريخ الانهيارات الكثيرة التي عشناها ومازلنا نعيشها عاشها الشعراء الصوفيون الذين عبروا عن مواجدهم ومعرفتهم بدون تسمية لشكل شعري، وكانت عنايتهم بالوعاء بقدر عنايتهم بالشراب.
والتجربة التي عرفناها أو سميناها بتجربة جيل الرواد أو حركة التجديد التي مثلها مجموعة من الشعراء في مقدمتهم السياب, الملائكة, بريكان, وغيرهم.
وبغض النظر عمن هو أول من كتب القصيدة الحرة من القافية, إلا أن محاولة هؤلاء قد تركزت في فهمها للايقاع بتنوع القوافي أو عدم التقيد بعدد ثابت من التفعيلات في كل بيت, فهي مغامرة لكنها تجربة بحذر كبير، بل بعد الانطلاقة كان هناك تراجع قادته نازك الملائكة التي شنت حملة على لم المفسدين) من شعراء مرحلتها وبذلك وضعت قيودا جديدة (23).
وربما هذه المحاولات كما يعبر اليوسفي "كانت تحاول أن تفلت من ثقل الماضي بلغة تحمل في صلبها كل مفارقات ذلك الماضي"(24).
هذا قد يبرر عودة بعض الرواد والشعراء المعاصرين الى القصيدة العمودية, حيث يتكرر الايقاع القديم بمفردات جديدة وكأنها حالة احتماء من ايقاع سريع أو هروب من المواكبة أو خوف من نسيان طريقة مشي الغراب الاسطورية.
ربما تجربة الرواد كانت بداية على مستوى اعلان الشكل الشعري، وان كانت بداية الايقاع الجديد بدأت مع النص القرآني العظيم وتجربة المتصوفة, وان كانت غير معلنة, إلا أن "المقاربات النظرية والنقد التحليلي لهذه الظاهرة لم يتخذا طبيعة جدبا ومنهجية إلا فى إطار تجمع شعر"(25).
حيث أعلن يوسف الخال : "القافية التقليدية ماتت على صخب الحياة وضجيجها، الوزن الخليلي الرتيب مات بفعل تشابك حياتنا وتشعبها وتغير سيرها"(26).
هذا(المانفستو) مثل زلزلة شبيهة بمانفستو اندريه برتون, وربما هناك تشابه بين حركة مجلة شعر والسوريالية على الأقل في الشكل الاعلاني والوضوح بغض النظر عن الدوافع, لكن بيان الخال كان نظريا في عمومه بالرغم من حرارة القطيعة والتحول الجذري الصارم إلا أنه كان بداية لتجربة وخصوصا بعد النقاش حول أطروحة سوزان برنار "قصيدة النثر من بودلير حتى أيامنا".
إن هذه الأطروحة التي لم تترجم إلا أنها أثرت في الفهم الجديد للقصيدة العربية سواء عند النقاد أو الشعراء، وربما تجربة محمد الماغوط دللت بدون ادعاء على فهم ايقاع العصر بدون ثوابت كذلك تجارب انسي الحاج وشوقي أبي الشقرا وجبرا ابراهيم جبرا وغيرهم(27). كانت بدايه معلنه لشكل جديد يستوعب الايقاع وفق التجربة بدون حسابات للنقد الذي ظل مشدوها وغير متفهم أو مستوعب وربما نرى هذا الاستغراب مستمرا حتى هذا اليوم.
قصيدة النثر في تطورها بعد مجلة شعر استفادت أكثر ليس من التنظير الموارب والحذر بل من ملامسة تجربة الحياة بكل تحولاتها ودمارها، بهدوئها وصخبها الصارخ, بصمتها المسموع وبكلامها الصامت.
حاول بعض النقاد تبرير خروج قصيدة النثر عن الوزن بأنها تكتسب ايقاعا داخليا وهو "قائم في حركة مكونات النص يتكثف الايقاع في حركه النمو ونسيج العلاقات » (28).
أو يسميه بعضهم "الدفقة الشعورية الواحدة فتكون القصيدة النثرية مجوعة دفقات شورية يسكبها الخيال الفني»(29).
قصيدة النثر اليوم تمثل مناخا شعريا بأصوات متعددة موزعة في هوامش الوطن العربي أو في المنافي مؤكدة بأن زمن الشعراء العظام قد انتهى والعظمة والأبهة في هذا النسيج الممتد والتعبير عن الحياة بكل قهرها وعشقها الصارم كما أن الايقاع ليس قانونا أو وتدا أو سيفا بقدر ما هو استجابة للكلام الذي نمارسه قبل أن نكتبه على الورق.
هذه التجربة مثلت في عمقها وفي عديد من أصواتها الجادة قطيعة معرفية على مستوى اللغة والايقاع, بينما ظلت بنية المجتمع العربي منقادة الى ميتافيزيقا محافظة على العقل الثابت ولغة النظام والحسابات وايقاع الأذن للوزن والقافية, وكأن هذه التجربة الشعرية الجديدة دخيلة بالفعل, لأنها رفضت الانصياع والمهادنة والتكرار. رفضت أن يرتبط الايقاع بتوقيت أو مكان, مستوعبة كل التجارب الشعرية العربية التي عاشت ايقاع عصرها بالوزن والقافية وعبرت بصدق وعفوية عنه, تجربة تحترم الماضي ولا تنساق اليه, رافضة الثبات (المقدس)، منتمية بيسر الى ايقاع الغموض حسب ضرورة التحول والحياة.
عبر كل هذه الصفحات هل قلت شيئا مفيدا حول الايقاع ؟ ربما قلت نفسي من خلال ايقاع الحياة التي نعيش.
إشارات وهوامش
1 – لسان العرب باب (وقع).
2- المرجع السابق.
3- حيث يقول الفارابي (الشعر والموسيقى يرجعان الى جنس واحد هو التأليف والوزن والمناسبة بين الحركة والسكون لكن بينهما فرقا هو أن الشعر يختص بترتيب الكلمات في معانيها على نظم موزون مع مراعاة قواعد النحو في اللغة وان اللغة تختص بمزاحفة أجزاء الكلام الموزون وارساله أصواتا على نسب مؤتلفة بالكمية والكيفية في طرائق تتحكم باسلوب التلحمين) مأخوذ عن ادونيس _ الشعرية العربية, دار الآداب, الطبعة الثانية 1989 ص 18.
4 – المصدر السابق ص 18.
5 – هذه الترجمة لممدوح عدوان (مذكرات كازنتزاكي) الطريق الى غريكو والنص لأبيات طرفة بن العبد هي:
أمون كألواح الأوان نصأتها على لا حب كأنه ظهر برجد
لها فخذان أكمل النخض فيهما كأنهما با0ب منيف مهاد
لها مرفقان افتلا كأنما أمرا بسلمى دالج متشدد
كغنطرة الرومي أقسم ربها لتكتفن حتى تشاد بقرف
6- ادونيس _ الشعرية الحربية ص 29.
7- حلمي سالم – الوتر والعازفون, كتابات نقدية (قصور الثقافة) 1992ص23.
8- ابن خلدون _ المقدمة ص 454.
9- ادونيس الشعرية العربية ص 14.
كما يؤكد ادونيس في هذا الجانب أن تميز الشعر العربي عن شعر الأمم الأخرى الى التوكيد على صيانة هذه الخصوصية وممارستها في الصناعة الشعرية تميزا للشعرية العربية ولهوية الشاعر العربي فقد كان الحرص على التميز والخصوصية في أساس النشاط العقلي العربي.
0 1- عبدالله الطيب, المرشد الى فهم اشعار العرب وصناعتها (المجلد الأول) دار الفكر للطباعة ط 2 1970 بيروت ص 75، 76. كذلك يمكن لرائية المهلهل التي يقول مطلعها:
يالبكر انشدوا لي كليبا يالبكر أين أين الفرار
والبخور الشهوانية كما يؤكد المؤلف كالبسيط المنهوك والمتقارب القصير لأن نغماتها لا تكاد تصلح إلا للكلام الذي قصد منه قبل كل شي ء.
11- أدونيس, الشعرية العربية ص 35.
12- عن المصدر السابق ص 38.
13- أدونيس, زمن الشعر, دار العودة بيروت ط 3، 1983.
14- محمد عبدالجبار النفري. المواقف والمخاطبات, آرثر اربوي, تقديم د. عبدالقادر محمود الهيئة المصرية العامة للكتاب 1985ص 140.
15- المصدر السابق, نفس الصفحة.
16- أود الاشارة هنا الى كتابه «المتاهات والتلاشي » في النقد والشعر، دار سراس تونس 1992 الذي اعتبره نقطة تحول في تاريخ النقد العربي من التقليد الى الابتكار.
17- المصدر السابق ص 7و8.
18- إشارة الى كتاب د. كمال أبو ديب في البنية الايقاعية للشعر العربي
نحو بديل جذري لعروض الخليل, دار العلم للملايين بيروت, الطبعة الثانية 1981.
19- الياس خوري دراسات في نقد الشعر _ دار ابن رشد، بيروت الطبعة الثانية 1981ص199.
20- إشارة الى كتاب عزالدين اسماعيل الشعر العربي المعاصر، قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية – دار العودة ودار الثقافة بيروت.
21- محمد لطفي اليوسفي, الكتاب المذكور.
22- عبدا لقاهر الجرجاني, دلائل الاعجاز ص364. النص المذكور مأخوذ عن كتاب أدونيس ( الشعرية العربية) ص 46.
23- تتضح هذه القيود في تنظير نازك الملائكة في كتابها المعروف (قضايا الشعر المعاصر).
24- محمد لطفي التونسي (الكتاب المذكور) ص 50.
25- كمال خيريك, حركة الحداثة في الشعر العربي المعاصر، دار المشرق للطباعة والنشر, بيروت » ص 92.
26- مجلة شعر العدد 3ص 114 كما يضيف يوسف الخال في نفس الصفحة (كما أبدع الشاعر الجاهلي شكله الشعري للتعبير عن حياته, علينا نحن كذلك ان نبدع ثكلنا الشعري للتعبير عن حياتنا التي تختلف عن حياته).
27- في عام 1959 نشرت مجلة شعر مجموعة (حزن في ضوء القمر)لمحمد الماغوط وتلتها مجموعات اخري، تموز في المدينة لجبرا ابراهيم جبرا، (لن) والراس المقطوع لأنسي الحاج, (القصيدة ك) لتوفيق الصائغ,
رحلة العودة لميشيل كامل, و(ماء لحصان العائلة) لشوقي ابي شقرا وقد حازت المجموعة الأخيرة على جائزة شعر لعام 1962 (كل المجموعات قصائد نثر) وردت المعلومات في كتاب كمال خيريك المذكور.
28- تؤكد ذلك د. يمنى العيد، في (معرفة النص)، دارالآفاق الجديدة, بيروت ط 3، 1985 ص 101.كما تؤكد د. يمنى العيد بارتباط المفهوم الداخلي الذي تتحدث عنه بكلية النص.
29 – د. عبدالحميد جيدة, الاتجاهات الجديدة في الشعر العربي المعاصر، مؤسسة نوفل بيروت, الطبعة الأولى, 1980 كما يقول د. عبدالحميد (إن القصيدة النثرية تحمل دائما طموحات الفنان في التجديد والتغيير وتساعده على كشف المجهول والعبور الى المستقبل) ص 317.
فرج العربي (شاعر من ليبيا)