ها هو رنين صوت "ثريا" الدافىء، يوقظ في عروقك من جديد شياطين الشهوة الهامدة منذ تلك الليلة، يصرعك التماعه من بعيد مثل ماس كهربائي، وأنت وحدك تدرك بما فيه الكفاية، كتلة الفشل الضخمة التي خثرتها في عروقك صواعق تلك الليلة؟ عندما كنت صبيا تدعك عينيك دائمتي الاحمرار، بفعل ضوء قنديل بيتكم الباهت، ذلك الضوء الذي بالكاد يضيء سطور صفحة الكتاب، حالما يداهم الظلام الكثيف قريتكم الغارقة في أتون الخرافة والاسطورة، كانت أصابعك الندية تقدح شرارة عود الكبريت لتشعل القنديل، فتشتعل حرارة ديك بيتكم، يفضحك الديك بصياحه المتكرر، كأنما يشتمك لانك اقلقت ساعات خدره، تتنادى الديوك الاخري القريبة والبعيدة من بيتكم بعد أن يلتمع في عينيهاوهج ضوء القنديل، يثير هياجها دمك، لكنك تستسلم طواعية – رغم رائحة جاز القنديل النفاثة – لمشهد سقوط الفراشات على زجاجة القنديل الدائرية، يقلب الهواء صفحات الكتاب، وأنت ساه تتابع مشهد السقوط والموت، في شرود تام .
تذكر ذلك الآن جيدا، هذه اللحظة على وجه التحديد؛ ولهيب الشمس في الخارج يحرق أوراق الشجر، والبشر العائمين باتجاه الحتف، أنت الآن مستسلم – هذه الظهيرة بمسقط – لهواء المكيف المنعش، الهواء وهو يخترق ضلوعك حاملا صوت "ثريا" مدغدغا شرايينك التي تخثر فيها الفشل منذ تلك الليلة البعيدة، الطويلة .. الطويلة جدا، تلك التي رافقك أربع سنوات كاملة، قبل ان يجري دم عروقك من جديد، بعدما أبصر ابتسامة شريفة الخأطفة، كانت تلك اللحظة التي اشتبكت فيها أصابعك بأصابعها النحيلة، كافية لان تسكرك ؛ لان تطيح برأسك بعيدا، وأن تعيد الدم نشيطا في عروقك اليابسة، لم تستطع ليلتها ألقبض على أنفاسك المتلاحقة، ظلت عروقك ترتعش طيلة تلك الليلة، وبقيت ساهيا ترقب دون وعي اصطدم الفراشات الجميلة بزجاجة القنديل، وفي رأسك تدور خلاخيلها الذهبية،وسلسلتها المتدلية على جبينها، وشعرت بالقوة، وتولدت لديك ثقة بنفسك، وكأن الدم لن يفارق عروقك مرة اخري.
بدا لك أن شبح "أحلام " وسحنة أمها وهي تختلي بك في ركن غرفتك المظلم، الغرفة التي كانت ليلتها مليئة بالاوراق المتناثرة، وكانت جدرانها زاهية بالصور المعلقة، لمن يعاود خيالك مرة أخرى.. تلك ليلة الطويلة .. الطويلة جدا، حين رحت تنصت لأم "أحلام "، وفؤادك يخفق بعنف، كانت هي تكرر رجاءها بألا تفضح سر "أحلام " والا تبيح بعلاقتكما لابيها؛ لانه كما قالت لك : "سوف يقتلها.. ويقتلني معها"! كانت وهي تترجاك تشعر أنت كأنما ثمة موسى ينغرز في جلدك .. ينغرز بقوة حتى العظم، وانت ترى دموعها تترقرق في مآقيها؛ تتمنى لو استطعت ان تقفز وتقبل رأسها، او لو انك تستطيع الارتماء والبكاء في حضنها.. تبكي طويلا، بيد أن جسدك كان لحظتها مثل صخرة ضخمة، ولم تستطع تحريكه مطلقا، منيت نفسك أن تنتهي حكاية "أحلام" في تلك الزاوية المظلمة من غرفتك، لكن الليلة كانت طويلة .. طويلة جدا ومعتمة، كانت ليلة طويلة ومعتمة وفاضحة، لم تغسلها دموعك التي ذرفتها بعد ان خرجت أم "أحلام "، لم يمهلك أبوك فوبخك بقسوة وهددك بأن والد "أحلام " سيبلغ الشرطة، وسوف يأتون ويفتشون غرفتك وسيحملونك متلبسا برسائلها والفضيحة ترفرف فوق رأسك ..!! كان كلامه يجلدك بعنف، يبس الدم في عروقك، عروقك التي كانت في تلك اللحظة وانت تقف امامه محني الرأس، تنز عرقا، وكان عرقك يفوح بسر "أحلام".
كان ثمة شعور مخيف يبتلعك، انت الذي ترهب الشرطة، حدثتك نفسه عن الفضيحة فيما لو وقعت رسائلها بين أيديهم، رسائلها التي حرصت على أن تكون بعيدة عن عيني الجميع : ها هو الشرطي المغفل يفتض الكتاب وتسقط الرسالة الأولى من بين اوراقه، يقرأ سطرها الاول : يقهقه عاليا على صورة القلب الملون بالاصفر، والسهم الاحمر الذي يخترقه، يعلق الشرطي المغفل بكلام غبي (…)، يفتح الرسالة الثانية ويطلق على الفور ضحكة عالية وهو يتفحص بعيني مخبر صورتها شبه العارية، وهي مستلقية على سريرها، يقرأ بصوت عال السطور التي كتبتها على ظهر الصورة . "ستكتمل فرحتي بوجودي معك يا حبيبي على سرير واحد… "يقهقه ..؛" نعم .. نعم .. سوف تكتمل حقا.. هنا في السجن "! يتمرأي امامك السجن ؛ زنزانة جدرانها من حديد، وجوه لصوص تستقبلك بنكات جريئة تفضح ما سمعته من الشرطي المواقف على الباب بنعله الخشن ..
هكذا استسلمت لوجه والدك الصارم ورحت تقص عليه الحكاية (…) وعروقك تدفع العرق الى جبينك ويديك الممدودتين مثل من ينتظر سلاسل الشرطة لتقيدهما، تلك الليلة الطويلة التي لم تحتملها، فاستسلمت منذ الارتعاشة الأولى .
هذه الليلة ستخلصك من تلك المرارة، كل ما فيها يدل على الخلاص : رجفة دشداشتك البيضاء،. ارتعاشة عروق وأنت تسحبها من بين أصابع "شريفة" النحيلة، حديثك مع نفسك وأنت ذاهب للمسجد القريب من بيتكم مثل معتوه ؛ "ولم أعرف كيف كانت صلاتي تلك الليلة . هل قرأت الفاتحة ام قرأت وجهك؟! وهل كنت أتمتم بـ" الفجر" أم كنت أتلمس أصابعك وهي تمشي على الزغب الناتىء فوق صدري…؟!" كما حدثتها بعد ذلك في رسالتك الاولى بعد أربع سنين مؤلمة، كان يدهمك فيها شبح "أحلام » وشبح كرش أبيها المتهدل مثل سقاء ضخم، بعصاه الغليظة التي خبأها تحت فخذه اليسرى، تلك الليلة وقد كنت ترتعش في قرفصتك أمامه وهو يهدر مثل أمعاء مريضة، كنتما جالسين في دهليز بيته بعدما دفعك أبوك لرؤيته، وقد اختلست في جلستك تلك نظرة – برغم الرعب الذي كان يلبسك – الى الغرفة القصية؟ فصدمك القفل الحديدي الاسود على الباب الموصد، كنت متأكدا في داخلك من أن "أحلام " بداخلها، تلك الغرفة التي كانت تلوح لك بيدها من نافذتها المطلة على الشارع وأنت متجه الى المسجد.
صدمك القفل الحديدي الاسود تلك الليلة، كما ستصدمك ليلة أخرى في نفس الوقت : بعيد الغروب بقليل، وأنت تستمع لجواب والد «شريفة "وكانت عروقك لما تزل متوقدة بالدم، كنت متقرفصا أمامه عندما قال لك : "أنا ابصم لك بأصابعي العشر.. لكن المشكلة في أخيها الكبير، هو يريدها لابن عمه مقايضة !!" "كأنما الليلة لم تنته »، هكذا حدثتك نفسك، وانت تحاول امتصاص الصدمة عند باب بيتهم !!
تحرك هذه الظهيرة عروقك من جديد، بطيئة هذه المرة .. لم يعد ثمة دم فائر فيها، صوت «ثريا» يقدح من جديد أعواد الكبريت، الارتعاشة ذاتها تسري في جسدك، تغشاك كلك، لكنك تعرف جيدا ان الفراشات ماتت منذ زمن، وعروقك لحقها الجفاف رغم حركتها البطيئة التي تدب فيها الآن .
و"أحلام " لم تتزوج بعد، لكنها حبلت و«ضربها أبوها ضربا مبرحا، في تلك الغرفة ذاتها…" كما سمعت، و"ألهبوا ظهره بالسياط، ووجهها بالصفع، وكرشها بالركل ..» كما سمعت، لكن الجنين "لم يتحرك، قاوم بصبر، لم يرتعش، لم يخبر عن أبيه .. ابداء كما سمعت! و"شريفة » الخلاسية التي سرقتك ذات ليلة، لم تتزوج بعد:مازالت تنتظر موافقة أخيها، وما زال هو ينتظر ابن عمها وابن عمها مازال ينتظر أخته لكي تنتهي من در استها" كما سمعت، و«مازالت تعلق صورتك على صدره، وتدفن عطر رسائلك تحت مخدتها" كما سمعت، هي لا تعرف اليوم بكل تأكيد أن صورتك لم تعد هي، لم تعد لك ابتسامة، ولم تعد أصابعك غضة ونحيلة ..
أوووووف يال شمس الظهيرة الحارقة في «مسقط »… ستسقط بعد قليل … سوف يغرقها البحر… يمكنك أن تراقب أفولها من على شاطيء "القرم ".