الشرفة ليس شمعة أو نارا أو قنديلا لتطفأ،مكان يتسع للألفة والحنين،متشبع بهواء يخرج من غابة القلب نقيا بدون دخان مدفأة.في إطفاء الشرفة دخول في العتمة،سفر في الظلمة والتيه،الشرفة بوصلة الروح حين تغيب السنونوات في رحلة مستعجلة لأقصى فلوات المعنى ،وهي الذاهبة بنية العودة بعد هجرة قصيرة.
لماذا إسناد الشرفة للعتمة؟ ومن الشرفة نطل على العالم والكائنات والذات، ذواتنا الموزعة في ذوات أخرى، ذات الكتابة، ذات الجنون بقلق الإبداع، ذات الإنصات لمخلوقات صغيرة تشتكي ألمها بصمت لتستنفر ذائقتنا لنخون نسيانها باللغة أو القصيدة.
فالشرفة ليس معطى مكانيا مفتوحا فقط ، بل هي شرفة اللغة حين تطل منها الذات الشاعرة على حرائقها وحدائقها السرية لبناء دالها النصي عبر بوابة التماهي مع الكائنات.
وكأنها تكتب نشيدها الشعري مستمدة عمق كينونتها الإبداعية من الكتابة والوجود والحياة منتشية باللغة/ المأوى، مبتهجة بالقصيدة/المسكن، وكأن هذا العبور تعلن عن نفسه إستراتيجية تعي اختياراتها الجمالية .
بِمحبة القصيدة إنصاتا لأسرارها الخبيئة في أقصى زاوية من المخيلة وتجاويف الذات الشاعرة،تلتمس القراءة عمق المعاشرة الهادئة لقصائد تنمو سريعا كزهر الصبار وهي تتهيأ لصنع فَرَحِهَا الخاص بنشوة الإبحار في اللغة سفرا، والكتابة ملاذاً.
ولابد أن تكون الشاعرة عائشة البصري من سلالة شعرية متجذرة بعمق في تُربة الشعر الكوني تضم الخنساء وولادة وماري هاسكل وفروخ فرخزاد وشمبوسكا ودوناتيلا بيزوتي.
سنبحث في ليل مسالك المتخيل عن قصيدة لا تأوي لبيتها باكرا،ت عشق التشرد والتجول والسفر، والتسكع في المقاهي، والمنتزهات والحدائق العمومية، متمردة على كل الوصايا والقوانين القبلية التي تحد من جموح حريتها.
مُمْعِنة في احتضان كائناتها بعناية كبيرة، كأنها تخاف من فقدها أو تلاشيها أو نسيانها، وضمن هذا الإحساس التراجيدي، تُقيم مخلوقاتها في القصيدة خوفا من حر الصيف وقر الشتاء. إقامة تُحارب منفى الهشاشة ولو وقتيا،لا تشيخ في عنادها مع محاورة الكائنات.تقول الشاعرة عائشة البصري في قصيدة(صقيع):
مد يدك،
اقطفني،
فأنا
زهرة البراري
لا أحتمل
تعاقب الفصول
……………
……………
يدك الباردة
كالصقيع،
من بعيد
ترجفني.
إن فعل القطف يحيل رمزيا على الخوف من الشيخوخة والسقوط والتلاشي والغياب والفناء،والخوف من دورة الفصول وتعاقبها،وانتظار الزمن الممل يجعل عملية المد(مد اليد) السبيل الحقيقي للإحساس بالدفء والاطمئنان.في هذه القصيدة بالذات توظف الشاعرة القصيدة البياض،وكأنها تشرك القارئ والمتلقي في عملية إنتاج النص.إنها ديمقراطية الإبداع، والفراغات متن آخر يقرأ بالعين وبحاسة القلب وحدس البصيرة.
محرقة قاتلة تدلك عليها الشاعرة عائشة البصري وأنت مُقبل على قراءة قصيدتها، وهج باللغة، وتوهج بالمتخيل، سفر شفيف تؤثثه الكلمات، لا مكان فيه للفوضى، دقة في اختيار الكلمات والمفردات، كما يختار عاشق لحبيبته مزهرية ورد طري بعد طول غيابٍ.
هذا الفسيفساء الباذخ في النص هو ما يجعلك تَحن لقصيدتها،أو تئن من المخاطرة في نسج علاقة صداقة معها.صداقة يفتحها المرئي والهامشي والعاطفي والمنسي واليومي والجواني بألفة تضيق بها العبارة إذا اتسعت الرؤيا. تقول الشاعرة في قصيدة(خشوع) :
حاذر
ضع حذاءك
على عتبة القلب
حاذر،
تحت رماد
الجسد
رفات أحبة
اختاروا الموت
في الذاكرة
فاخترت لمرثياتهم
بياضات
صمتي.
هنا يحضر النص الغائب أو هجرة النص في المتن الشعري عند الشاعرة عائشة البصري الذي يحيل على الأبيات الشعرية الشهيرة للفيلسوف الشاعر أبي العلاء المعري
خففِ الوطء ماأظنُّ أديم الأر
ض إلا من هذه الأجسادِ
وقبيحٌ بنا ، وإن قدم العهـ
د ، هوان الآباء والأجدادِ
سر إن استطعت في الهواء رويداً
لا اختيالاً على رفات العبادِ
تميل الشاعرة عائشة البصري في عالمها الشعري إلى الحفر في الجسد كما في الكون باحثة عن قصيدة طازجة مفعمة بماء اللغة والحياة ،شاعرة تكشف هشاشة الكائنات بيد ترسم العالم.
في اتجاه خلق قصيدة ،بإشراقاتها،بفورانها، بهجومها المبكر على الذات الشاعرة.
ينهض المنجز النصي لعائشة البصري على الاستمرار في مقاومة فداحة العزلة من خلال فعل الكتابة الشعرية.
تقول في قصيدة (قمر)
أكلما اكتمل
هذا القمر يصر
على النوم
في شرفتي…
ولا يخجل.
بهذا المعنى، تنخرط الكتابة الشعرية في تأسيس متخيلها عبر الانتساب للزمن الوجودي الآسر.الليل كزمن صمت،هدوء،إنصات الذات لفورانها
كأنها تُعيد ترتيب طفولة اللغة التي قصت جدائلها في منتصف الغواية، أو قبل قليل بِحُلم تشيده رقصة الغجر على بعد ميل من شهقة الهواء.
الهوامش
1- عائشة البصري، شرفة مطفأة، دار الثقافة، الدار البيضاء ،ط1، 2004 ،ص41-1
2- ن.م.س،ص 42.
3- ن.م.س،ص 27.
أحمــد الدمنــاتي
شاعر وناقد من المغرب