«لغة السياسة هي درع النظام القائم. والمعارضة الجذرية تتحقق عن طريق تنمية لغتها الخاصة، على نحو عفوي وغير واع، ضد واحد من أكثر «الأسلحة السرية» فعالية في السيطرة؛ فليست لغة القانون والنظام القائمين، التي هي لغة المحاكم والشرطة، تجليا بسيطا للقمع، بل هي القمع ذاته».
«إن مجتمع الوفرة عاهر في خطابه، في ابتساماته، في سياسييه وخطبائه». ماركيوز1969
«إذا كان ثمة صوت واحد فإنه لا يستحق أن يسمع. إذا كان ثمة مذاق واحد فإنه لن يجلب إلا السخط. إذا كان ثمة مادة واحدة يصنع منها كل شيء فسوف تندثر الصلابة». كو يـــو
قدم الفيلسوف الألماني هربرت ماركيوز (1898-1979) مشروعا مهما لنقد لغة السياسة(1)، استند فيه إلى أطر فلسفية مثلت رافدا أساسيا من روافد نقد لغة السياسة ؛أهمها الفلسفة الماركسية، والنظرية النقدية التي تأسست في معهد فرانكفورت للعلوم الاجتماعية، والتي تعرف باسم» مدرسة فرانكفورت». لقد كانت «النظرية النقدية» مشروعا فلسفيا لنقد الهيمنة والتحكم(2). وكانت لغة السياسة، بوصفها مظهرا من مظاهر الهيمنة والتحكم وأداة له في الوقت ذاته، موضوعا لممارستهم النقدية.
كان ماركيوز أحد أبرز أعضاء هذه المدرسة، وربما كان من أكثرهم اهتماما باللغة بعامة، ولغة السياسة خاصة. اننا ندرك أن أفكار ماركيوز تمثله وحده، لكنها في الوقت ذاته تعطي صورة، قد تكون دقيقة، لمقاربة مدرسة فرانكفورت بوجه خاص، والمقاربة الماركسية بوجه عام، للغة السياسة. وكلا المقاربتين كان –ولا يزال- ذا تأثير كبير في معظم توجهات نقد لغة السياسة. وتعد كتابات ماركيوز في هذا السياق من أهم ما كتبه الرعيل الأول من مؤسسي النظرية النقدية، فيما يتعلق بنقد لغة السياسة.
سوف نركز في تناولنا لنقد لغة السياسة عند ماركيوز على مؤلَّفين اثنين من مؤلفاته؛ هما: الإنسان ذو البعد الواحد»، و«مقال في التحرر»(3). يتضمن المؤلفان أهم أفكار ماركيوز عن لغة السياسة. وفي حين يركز الأول على خصائص اللغة المسيطرة والآثار التي تُحدثها، يركز الثاني على إمكانيات مقاومة اللغة السائدة وبدائلها الممكنة.
في نقد اللغة أحادية البعد
في عام 1964 أصدر ماركيوز مؤلفه ذائع الصـيت «الإنسان ذو البعد الواحد». حاول ماركيـوز فـي هذا الكتاب أن يجيب عن تساؤلين؛ الأول: لماذا لم تندلع الثورة في الدول الصناعية المتقدمة، التي اعتُـبِرت المهاد النموذجي للثورة في أدبيات ماركسية متعددة؟ والثاني: لماذا أصبحت الثورة «الطبيعية» مستبعدة بل مستحيلة في هذه الدول إبان تأليفه كتابه؟ والسؤالان يخصان ماضي «الثورة» في هذه المجتمعات وحاضرها ومستقبلها.
في سياق إجابته عن هذين السؤالين قدم ماركيوز تصوره لطبيعة المجتمعات الصناعية المتقدمة (الرأسمالية والاشتراكية)، وطبيعة الإنسان الذي يعيش فيها. وكان مركز هذه التصورات فكرة «البعد الواحد»، والتي اعتبر أنها سمة لمجتمع وإنسان عصره، وأنها العلة وراء إجهاض الثورات الممكنة. ففي ظل مجتمع أحادي البعد وإنسان أحادي البعد ليس ثمة سبيل لتطور نقد حقيقي للمجتمع، ومن ثم لا سبيل لتغييره. قسّم ماركيوز كتابه إلى مفتتح وقسمين وخاتمة. ناقش في مفتتحه ما أطلق عليه ظاهرة «تخدر النقد». وعالج في القسم الأول خصائص المجتمع أحادي البعد، وفي القسم الثاني تجليات الفكر الأحادي البعد. وأفرد الخاتمة الموجزة لعرض تصور للمستقبل وإمكانيات التغيير.
كانت لغة السياسة قاسما مشتركا في موضوعات الكتاب قاطبة، وذات حضور مزدوج؛ فهي دوما سبب ونتيجة. سبب لتخدر المجتمع ونتيجة له. فالمجتمع أحادي البعد والفكر أحادي البعد يُنتجان لغة أحادية البعد ويَنتجان عنها في الوقت ذاته. ولم يكن غريبا، من ثم، أن يفرد ماركيوز أكبر فصول الكتاب لنقدها وتحليلها. افتتح ماركيوز هذا الفصل باقتباس مأخوذ عن رولان بارت، هو «إن كل كتابة سياسية في الوضع الراهن للتاريخ لا يمكن إلا أن تؤكد وتعزز عالما بوليسيا» (ماركيوز1964، 121). ويمكن القول إن نقد ماركيوز للغة السياسة كان حاشية تفصيلية على عبارة بارت. لقد عُني ماركيوز ببيان الميول المميزة للفكر أحادي البعد كما تتجلى في لغته، وبعض الخصائص التركيبية للغة المجتمع أحادي البعد، ووظائفها وكيفية عملها، والمقاربات الفلسفية المعنية بتحليلها، وطرق مقاومتها. واستمد، غالبا، أمثلته من المجتمع الأكثر «رأسمالية» وهو الولايات المتحدة الأمريكية، والمجتمع الأكثر «اشتراكية» وهو الاتحاد السوفييتي(4). وجدير بالذكر أن ماركيوز، لم يفاضل بين المجتمعين الأمريكي والسوفييتي؛ فكلاهما، من وجهة نظره، مجتمع أحادي البعد، وكلاهما يتبنى لغة أحادية البعد. وهو ما يبرر تجاور الأمثلة التي تنتمي إلى المجتمعين في سياق التحليل، واشتراكهما في النتائج.
يؤكد ماركيوز أهمية اللغة في المجتمع المعاصر؛ «فالكلمة هي التي تأمر وتنظم، وهي التي تحث الناس على العمل والشراء والقبول» (نفسه123). لقد استطاع رجال السياسة وصناع الرأي العام، الذين يدركون هذه الأهمية، بمساعدة مؤسسات البحث، أن يتكلموا ويفرضوا لغة خاصة. لغة طقسية تعسفية تقوم بتضليل متلقيها، وتشبه في عملها السحر والتنويم المغناطيسي.
وقد ذكر ماركيوز في ثنايا كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» بعض ما يمكن أن نطلق عليه الخصائص التركيبية والتداولية والطباعية للغة أحادية البعد. تتمثل هذه الخصائص في:
أولا: انها لغة مبنية على التوفيق بين المتعارضات. وتحقق ذلك عن طريق إدراج المتعارضات في بنية متينة مألوفة. ويمثل ماركيوز لهذه الخاصية بأسماء من قبيل»القنبلة النظيفة»، «الإشعاعات الذرية غير المؤذية»، وبتعبيرات من قبيل «طاقة تدميرية مريحة». ويصف مثل هذه التراكيب بأنها ذات طابع سوريالي محض، تحتفي بالتناقض الذي كان ألد أعداء المنطق، وأصبح، في سياق هذه اللغة، هو المنطق ذاته. هذا التناقض يقرب لغة المجتمع أحادي البعد من لغة المجتمع القمعي الاستبدادي الذي يقدمه أورويل بشعاراته المبنية على التعارض؛ «السلام هو الحرب»، «المعرفة هي الجهل». . إلخ. تلك اللغة التي يُعاد إنتاجها في المجتمعات المعاصرة، عندما تُسمّى الحكومة المستبدة حكومة» ديمقراطية»، وعندما تُسمَّى الانتخابات المزورة انتخابات»حرة» (نفسه ص126).
ثانيا: انها لغة مبنية على التكرار، إلى الحد الذي يصف فيه ماركيوز الكلام في عالم الإنشاء المغلق -عالم الاتصال الجماهيري- بأنه ليس إلا «تنقيل للمترادفات والألفاظ المتكررة» (نفسه125). هذا التكرار اللامتناهي يحوِّل الجملة إلى صيغة من صيغ التنويم المغناطيسي، تقوم باستبعاد كل ما يخالفها أو يعارضها أو يطرح نفسه بديلا لها. وأخيرا يؤدي التكرار إلى إضفاء ألفة كاذبة على الجملة نتيجة تكرارها. وعلى الرغم من إقرار ماركيوز بأن التكرار سمة لغة الإعلان فإنه يبرهن على أن لغة السياسيين تميل إلى الاتحاد بلغة الإعلان.
ثالثا: انها لغة أمرية مقفلة «لا تبرهن على شيء ولا تفسر شيئا، وإنما هي تبلغ القرار أو الحكم أو الأمر. وتقرر الخطأ والصواب بصورة لا تقبل نقاشا» (نفسه139). هذه اللغة الأمرية التي تعلن أكثر مما تبرهن، تسلب بدورها إمكانيات الكشف عن التناقض؛ فليس ثمة ما يمكن الاختلاف عليه! كما أنها تفرض علاقة سلطوية محددة يدشنها فعل الأمر الذي يحدد العلاقة بين المتكلم والمخاطَب بوصفها علاقة بين آمر ومأمور.
رابعا: انها لغة خطابية، قائمة على التوجه المباشر من المتكلم إلى المخاطب. لغة «أنا منكم ولكم وبكم. . إلخ». تلك اللغة التي تضفي طابعا من الألفة الزائفة التي ترجع إلى افتراض علاقة شخصية بين المتكلم والمخاطب، وإعادة تأسيس علاقة التبعية على عكس ما قد يوجد في الواقع؛ حيث يحل «أنا لكم» محل «أنتم لي». . إلخ. ويرى ماركيوز أنه لا يهم كثيرا ما إذا كان الأفراد المستهدفون يصدقون هذه اللغة أم لا؛ «لأن فاعليتها تكمن في أنها تشجع وتسهل توحد الأفراد ذاتيا مع الوظائف التي يؤدونها هم والآخرون في المجتمع القائم» (نفسه129).
خامسا: انها لغة تفرض توحدا استبداديا بين هوية الشخص الإنساني ووظيفته. ويتحقق هذا التوحد بواسطة هيمنة الاسم على الجملة من ناحية، وبواسطة أشكال متعددة من اختصار بناء الجملة من ناحية أخرى. ويهدف هذا التوحد إلى خلق بناء ومفردات أساسية يصبح من الصعب معها التعبير عن الاختلاف والتمايز والانفصال. وهو ما يتحقق بدوره بواسطة فرض صور ثابتة، تحول دون تطور المفاهيم والتعبير عنها. ويمثل ماركيوز لهذه اللغة ببعض العبارات المأخوذة من مجلة (التايمز الأسبوعية)؛ مثل: (فرجينيا بيرد)، أو ( مصر ناصر)(5). ويرى أن طريقة استعمال المجلة للمضاف إليه» تجعل الأفراد يبدون وكأنهم مجرد زوائد، مجرد صفات لمحلهم أو مهنتهم أو رب عملهم أو مشروعهم» (نفسه129).
سادسا: انها لغة تشيع فيها علامات الوصل الطباعية. وتقوم هذه العلامات بتحقيق وظائف مهمة؛ فهي، أولا، تدمج العناصر المكونة للجملة في إطار جديد لا يوجد فيه تمييز بين هذه العناصر. ويوضح ماركيوز هذه الوظيفة بالمثال الآتي: «لقد كرس رجل جورجيا القوي، الحاكم- ذو- الحاجبين- الواطئين وقته في الأسبوع الماضي لواحد من تلك الاجتماعات السياسية». ويرى أن استخدام علامات الوصل الطباعية في هذا المثال تستهدف تذويب الحاكم ومنصبه وسماته الجسدية ووظائفه السياسية في بنية ثابتة متحجرة غير قابلة للانقسام، تفرض نفسها، ببراءتها وطابعها المباشر، على القارئ. ويلاحظ ماركيوز أن هذه الظاهرة تشيع في الجمل التي تربط بين السياسة والتقنية والقوات المسلحة؛ مثل «أبو القنبلة-هـ»، و«فون براون- مخترع الصواريخ- العريض-المنكبين». ويرى أن مثل هذه الجمل ذات نتيجة سحرية ومنومة مغناطيسيا؛ فهي تعرض صورا تستدعي وحدة لا تقاوم، وتقيم انسجاما بين متناقضات لا يمكن التوفيق بينها في الواقع. حيث يُنجب «الأب» المحبوب والمهاب (الأب المنجب)، القنبلة الهيدروجينية لإبادة الحياة. وهكذا تنجز هذه التقنية وظيفتها الثانية؛ أعني التوفيق بين المتناقضات.
سابعا: انها لغة تحتفي بالاختصارات. وعلى الرغم من إدراك ماركيوز أن هذه الاختصارات قد تكون مبررة في كثير من الأحيان نتيجة طول المصطلح؛ فإنه يرى في بعض هذه الاختصارات «حيلة من حيل العقل». ويرجع ذلك إلى أن الحروف الاختصارية تخفي البعد الدلالي الكامن في المفردات المكونة للمصطلح. ومن ثم تلغي إمكانية تحقق تلقي نقدي له. فحين يذكر «NATO» بالحروف فحسب، يغيب الاسم الأصلي وهو» منظمة معاهدة شمال الأطلسي»، والذي يؤدي ذكره إلى طرح أسئلة من قبيل: إذا كانت هذه المعاهدة تخص الدول الواقعة شمال الأطلسي، فلماذا التحقت تركيا واليونان(وبعد ذلك دول شرق أوروبا) بها؟ يقوم الاختصار بحجب الصفات المكونة للمصطلح، التي تكمن في الدلالات المعجمية للمفردات المكوِّنة له، وخصائصها الصوتية، والعلاقات النحوية والصرفية. ويقوم مستخدم اللغة في هذه الحالة باستحضار الاسم دون أية دلالات أو إيحاءات مصاحبة. «وهكذا يصبح المعنى ثابتا، مزورا، ثقيل الوطء، ويفقد كل قيمة عرفانية بمجرد تحوله إلى رمز صوتي مكرر» نفسه132. وقد أدرك واضعو الأسماء القوة التي تمتلكها الاختصارات، والوظائف التي يمكن أن تحققها، وهو ما يظهر في شيوعها الكبير في قطاعات مثل الأسلحة (النووية خاصة) والمعاهدات والقرارات السياسية(6).
ثامنا: انها لغة حافلة بالكليشيهات. ولا يرجع ذلك إلى كثرة استخدام الكليشيهات، بل إلى تحول كلمات اللغة ذاتها إلى كليشيهات؛ نتيجة التوحيد بين الأشياء ووظيفتها، وتقييد نمو المفاهيم.
تاسعا: أنها لغة لا تسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية، بل ربما تسميها بنقيضها. ويمثل ماركيوز لذلك بحالات كانت شائعة في عصره، ولا تزال. من قبيل أن الحزب السياسي الذي يعمل على تطوير الرأسمالية والدفاع عنها يُسمي نفسه «الحزب الاشتراكي»، وأن تُسمَّى الحكومات المستبدة «حكومات ديمقراطية»، والانتخابات المزورة «انتخابات نزيهة»…إلخ، (نفسه 126). هذه الظاهرة كان قد رصدها أورويل وجعلها سمة المجتمعات الاستبدادية الحديثة، حتى أصبحت هذه اللغة تعرف به. وأصبح مصطلح»اللغة الأورويلية» إشارة إليها. لكن ماركيوز يرفض أن ينسب هذه الظاهرة إلى أورويل؛ فهي، من وجهة نظره، تشيع في الخطاب اللغوي السياسي الدارج قبل أورويل بحقبة طويلة. ولا تكمن الجدة إذن، وفق ماركيوز، في إطلاق التسميات المناقضة لحقيقة المسمَّى، بل في طبيعة استجابة المتلقين لهذه التسميات. فهو يرى أن الرأي العام والخاص بات يقبل بصورة عامة هذه الأكاذيب. وهو ما يراه علامة على انتصار المجتمع على التناقضات التي ينطوي عليها.
تكشف الخصائص السابقة، التي تُميز اللغة أحادية البعد، عما يسميه ماركيوز «ميول الفكر الأحادي». ويذكر ماركيوز أن هذا الفكر يميل إلى:
1- المفهوم المقلص إلى صور ثابتة
2- الصيغ المنومة مغناطيسيا، التي تبرر نفسها بنفسها، وتمنع تطور المفهوم
3- الإنشاء المحصّن ضد التناقض
4- الشيء ( أو الشخص) المتحد في الهوية مع وظيفته (نفسه134).
هذه الميول الأربعة تؤدي إلى إجهاض البعد النقدي للغة. فهي تنتج لغة تحول دون تطور المفاهيم، وتؤدي إلى الاستسلام للوقائع المباشرة. ومن ثم تصبح عاجزة عن الكشف عن العوامل الكامنة وراء هذه الوقائع أو مضمونها التاريخي. إن الفكر أحادي البعد، وفقا لماركيوز، يميل إلى إنتاج لغة وظيفية، لغة مختصرة، موحدة، مهمتها التنسيق والربط. لغة متناغمة متناسقة تناهض النقد ولا تقبل المراجعة.
في سياق تقريبه للتأثيرات التي تحدثها اللغة أحادية البعد في الإنسان أحادي البعد يعقد ماركيوز علاقات مشابهة بين تأثير هذه اللغة وتأثير ظواهر أخرى؛ اجتماعية وفيزيائية، مثل التنويم المغناطيسي والسحر والطقوس. وتشترك هذه الظواهر الثلاث في أن الفاعل(المنوِّم، الساحر، واضع الطقوس) يمارس سيطرة كاملة على المفعول به (المنوَّم، المسحور، المشارك في الطقوس). كما أن الأدوات التي يستخدمها الفاعل تكون مشبعة –غالبا- بخصائص الفعل. فأدوات الساحر» سحرية»، وأدوات المنوِّم «منوِّمة»، وأدوات الطقس «طقسية». وأخيرا فإن المنوَّم والمسحور والمتأثر بالطقوس لا يدرك أنه واقع تحت تأثير قوة أكبر منه، بل يكون على يقين من أنه يتحرك بمطلق إرادته، ويقاوم مقاومة شرسة محاولات تحريره من سطوة هذه القوة العليا. أي أن الواقع تحت سيطرة هذه القوى يبرر لنفسه سلوكياته وأفعاله، ويخلق لها إطارا ذاتيا، كما لو أنها تتحرك بمعزل عن أية قوة أخرى(7).
إن ربط التأثير الذي تحدثه اللغة أحادية البعد بالتأثير الذي تحدثه هذه الظواهر الثلاث يتضمن بشكل أساس إعادة ترسيم العلاقة بين المتكلم (منتج اللغة) والمخاطب (مستهلكها)، خاصة على المستوى العام. كما أنه يستهدف وضع مفهوم للغة لا تكون فيه اللغة مجرد أداة لوصف العالم بل لتثبيته أو تغييره أو تزييفه. ولا تكون مجرد أداة للتواصل بين الأفراد الذين يستخدمونها، بل أداة تُمكن بعض»ممتلكيها» من السيطرة على الآخرين. بالإضافة إلى أنه يستبعد التصور الشائع للغة بوصفها وسيطا شفافا، لتصبح وسيطا مبهما وغامضا، غموض وإبهام الطقوس والسحر. وأخيرا، فإنه ينزع عن اللغة صفة «الطبيعية»، ويوجه الانتباه إلى عمليات الضبط والتخطيط المسبق والمحكم الذي تخضع له.
إضافة إلى ربط الأثر النهائي للغة على الإنسان بالأثر الذي يحدثه السحر والطقوس والتنويم المغناطيسي، ربط ماركيوز بين خصائص محددة للغة وإحدى هذه الظواهر. فقد ذهب إلى أن استعمال المسند التحليلي واستخدام العلامات الطباعية الفاصلة (-)، والجمل المبنية على التعارض بين المكونات تحول الكلام إلى جمل وصيغ منوِّمة مغناطيسيا. وربط كذلك بين بعض الممارسات اللغوية والتنويم المغناطيسي؛ مثل الإعلانات وعبارات السياسيين؛ بحيث يُصبح التعرض لهذه الممارسات اللغوية شبيها، في آثاره، بالتعرض لعملية تنويم مغناطيسي.
يؤدي ربط التأثيرات التي تحدثها اللغة بالتأثيرات التي تحدثها الطقوس والسحر والتنويم المغناطيسي إلى إضعاف التفاؤل بشأن إمكانية مقاومتها، من ناحية، ويفرض إجراءات معينة لتفعيل هذه المقاومة من ناحية أخرى. فالخاضع للغة أحادية البعد يحتاج أن يعي أنه مضلل، وأن من يقوم بتضليله حريص على التخفي من جهة، وإنكار عملية التضليل ذاتها، من جهة أخرى. وليس كل أفراد المجتمع قادرين على تحقيق هذا الوعي؛ أي قادرين على اكتشاف أنهم خاضعون لسلطة خفية تتحكم في أفعالهم. بل، ربما، يقاومون مقاومة شديدة من يحاول الكشف عن واقع خضوعهم، قد تصل إلى حد العدائية. ولأن المجتمعات الصناعية قد أصبحت غير قادرة، وربما غير راغبة، في اكتساب هذا الوعي فإن الثورة المحتملة تصبح مستبعدة، وربما مستحيلة. والأفراد المؤهلون، إلى حد ما -وفقا لماركيوز- لتحقيق هذا الوعي هم من لم يندمجوا بعد في المجتمعات أحادية البعد؛ أي الجماعات التي لم تخضع لعملية التضليل كلية، أو بشكل كامل، مثل جماعات الهيبز، والسورياليين، والمناضلين السود. وهي الجماعات نفسها التي يرى فيها ماركيوز الأمل الوحيد في التغيير.
لم يتوقف ماركيوز عند سبر العلاقات الجدلية بين المجتمعات الصناعية؛ إنسانها وفكرها ولغتها، أو –باستخدام مصطلحاته- بين المجتمعات أحادية البعد والإنسان أحادي البعد ولغته وفكره أحاديي البعد، بل حاول سبر العلاقة بين التحليل اللغوي الذي تقدمه بعض فلسفات اللغة وهذه العناصر الأربعة. يخصص ماركيوز(1964) الفصل السابع من كتابه لنقد التحليل اللغوي الذي روجت له الفلسفة التحليلية. ويركز نقده على مبادئ هذه المدرسة في التحليل اللغوي، متخذا من أفكار فيلسوف اللغة الألماني لودفيغ فيتيغنشتين(1889-1951)، خاصة تلك الواردة في مؤلفه الأخير»مباحث فلسفية»، ممثلا لهذه المبادئ. ينتقد ماركيوز دعوة فلاسفة اللغة التحليليين إلى استخدام لغة رجل الشارع، أو اللغة الدارجة بوصفها لغة التحليل اللغوي. إذ يؤدي ذلك إلى تقليص اللغة وتحويل لغة الفلسفة إلى لغة سلوكية بدلا من أن تكون لغة كاشفة. كما ينتقد اقتصار الفلسفة اللغوية التحليلية على مجرد وصف اللغة، متهكما على تصريح فتغنشتين المشهور: إن الفلسفة «تترك كل شيء كما هو». ويراه دليلا وبرهانا على النزعة السادية –المازوكية الأكاديمية، وعلى هوان المثقفين ونكرانهم لذواتهم من ناحية، والانصياع للعالم الذي ينطق بهذه اللغة من ناحية ثانية. ويكشف عن أن هذه الفلسفة تحتفي بالكلمة وترفض ما تكشفه هذه الكلمة عن المجتمع الذي ينطق بها؛ مؤدية بذلك إلى تعمية الاجتماعي الذي يكمن في اللغوي. كما ينتقد الصورة الزائفة التي تقدمها الفلسفة التحليلية عن اللغة، والتي يلخصها تأكيد فتغنشتين أن «كل عبارة في لغتنا منظمة على أحسن ما يكون في حد ذاتها». بينما يرى ماركيوز أن الحقيقة هي أن «كل عبارة مختلة النظام أيضا، اختلال العالم الذي تعبر عنه اللغة» (نفسه 200). وأخيرا ينتقد تجاهل هذا النمط من التحليل اللغوي لما هو مغاير وتناحري، وما لا يمكن عقله بمصطلحات الاستعمال الدارج. وهو بذلك يتجاهل مجالا ثريا للمعرفة؛ لمجرد وقوعه وراء المنطق الصوري والحس العام (نفسه 204).
ينطلق نقد ماركيوز للفلسفة التحليلية من تصور يرى أن وظيفة الفلسفة ليست الحفاظ على الواقع الكائن وتركه كما هو، بل تفجيره وتدميره تدميرا. وهو ما يتطلب تجاوز وصف الوقائع المعطاة إلى التفاعل معها وكشف القناع عما تخفيه. فلسفة لا تتصالح مع المجتمع القمعي السلطوي بل تقاومه. ومن ثم يمكن أن نتفهم النبرة التهكمية اللاذعة التي تسري في تفنيدات ماركيوز لمبادئ الفلسفة التحليلية، التي تقع على طرف النقيض من تصوراته عن الفلسفة، التي يمارسها بالفعل. كما تتيح لنا كذلك تفهم نبرة الإعجاب التي تسري في استعراض ماركيوز لنماذج مغايرة من التحليل اللغوي، استطاع المحللون فيها، بواسطة استخدام لغة متمايزة عن اللغة التي يحللونها، أن يستكشفوا «عالم الإنشاء القائم الكلي الاستبدادي الذي يتم فيه دمج مختلف أبعاد اللغة وتمثلها». ويُمثل لهذه التحليلات بتحليلات كارل كراوس الذي «أثبت أن الدراسة الداخلية للغة والكتابة والترقيم والأخطاء المطبعية يمكن أن تكشف عن نظام أخلاقي وسياسي كامل. . وأن التراكيب والقواعد والمفردات ليست إلا أفعالا أخلاقية وسياسية» (نفسه214-215). إن هذا التوجه نحو السياسي والاجتماعي عند ماركيوز ليس سمة التحليل اللغوي المبتغى فحسب، بل سمة الفلسفة الحقة؛ أي الفلسفة العلاجية. ولكي تقوم الفلسفة بمهمتها العلاجية في «عالم كلي استبدادي» يجب أن تكون هذه المهمة سياسية. وتمثل دعوة ماركيوز إلى فلسفة لغة علاجية، وإلى تحليل لغوي يربط اللغوي بالسياسي والاجتماعي لبنتين من مشروع متناثر في كتاباته يستهدف مقاومة اللغة أحادية البعد.
يمكن النظر إلى كتاب «الإنسان ذو البعد الواحد» على أنه طرح متشائم لوضعية الإنسان في العالم المعاصر. وذلك استنادا إلى معطيات فعلية، من قبيل شيوع نبرة اليأس من إمكانية قيام الثورة في المجتمعات الصناعية، والتركيز على مظاهر سيطرة المؤسسات التي تخدم مصالح القلة على عقول الشعوب ونفوسها. وأخيرا، قصر احتمالات التغيير على تحرك جماعات المهمشين من المنبوذين اجتماعيا والعاطلين عن العمل والأقليات العرقية. . إلخ. وهي جماعات لا تشي قدراتها الفعلية بإمكانية التغيير. لكن ماركيوز، فيما يتعلق باللغة، ربما كان أكثر تفاؤلا. وقد يرجع ذلك إلى أنه وزَّع المهام التي يمكن من خلالها تحرير اللغة من أسر البعد الواحد. لقد دعا، كما سبق أن أوضحت، إلى فلسفة لغة علاجية، وإلى تحليل لغوي كاشف. كما دعا في سياقات أخرى إلى مقاومة هذه اللغة عن طريق الاحتفاء باللغة العارية، وربما الوقحة، التي تعيد تسمية الأشياء بأسمائها (نفسه122-123). وهي مهام يمكن أن يقوم بها الفيلسوف واللغوي والصحفي ورجل الشارع. . إلخ. لكن هذه المقاومة ستكون جزئية، والحل الذي تقدمه سيكون جزئيا بدوره. أما الحل الشامل فسوف يتحقق فحسب عن طريق إكساب الأفراد وعيا حقيقيا بالعالم، ف «لن يصبح تقرير المصير الذاتي فعليا وواقعيا إلا إذا لم تعد هناك جماهير، بل مجرد أفراد متحررين من كل دعاية، ومن كل تكييف مذهبي، ومن كل تحكم وتلاعب، وقادرين على معرفة الوقائع وفهمها وعلى تقرير الحلول الممكنة» نفسه262. وهكذا يرتبط ظهور هؤلاء الأفراد بنشأة ضمير نقدي، يمكنهم من إدراك «حقيقة» هذا العالم وتغييره. هذا الضمير النقدي يتحقق بواسطة المعرفة، ويتكلم لغة المعرفة التي «تفجر عالم الإنشاء المغلق وبنيته المتحجرة» (نفسه137).
«نحو التحرر»: الرفض الكبير
وتهديم الكون اللغوي القائم
بعد أربع سنوات من صدور «الإنسان ذو البعد الواحد»، ذي الطابع التشاؤمي والمكرس لنفي إمكانية الثورة، كان طلاب فرنسا، وأوروبا عامة، يفرضون واقعا جديدا؛ أصبحت فيه الثورة ليست ممكنة فحسب، بل متحققة أيضا. لقد أثرت ثورة الطلاب في مايو 1968 في ماركيوز كثيرا؛ ليس لأنها احتفت به ووضعت اسمه فوق لافتاتها(8)، بل لأنها، وهي تتبنى بعض أفكاره، كانت تنزع عنه، مؤقتا، تشاؤميته. قبيل ثورة الطلاب كان ماركيوز على وشك أن ينتهي من تأليف كتاب صغير الحجم، بعنوان «مقال في التحرر». ويوشك الكتاب أن يكون مانيفستو لثورة محتملة أو لـ«الرفض الكبير». وجاءت الثورة. وقرر ماركيوز، الذي لم يكن قد نشر كتابه، أن ينشره كما هو، مكتفيا ببعض الهوامش التي تخص «الواقع الجديد». وكان الكتاب وهامشه معنيان، في مواضع كثيرة، بما يمكن أن نطلق عليه «تثوير اللغة».
لقد أدرك ماركيوز أن بناء مجتمع حر جديد يرتبط ببناء لغة سياسية جديدة ووجدان جديد. وكانت صيحته «على هؤلاء (يقصد من يسعون لتحقيق مجتمع حر) أن يتكلموا لغة جديدة» تعبيرا عن إدراكه لخطورة الدور الذي يمكن أن تقوم به لغة السياسة في المجتمعات القائمة. فلغة السياسة هي «درع النظام القائم» (ماركيوز1969: 121)، وهي أداة القمع التي يستخدمها في ترويض مواطنيه. هذه اللغة القمعية/الكاذبة يسميها ماركيوز، بما يليق بها أن تسمّى به؛ إنها لغة «داعرة»، «عاهرة»، «خرقاء». ينقل ماركيوز، في هذه التسميات، دلالات الانحلال الجنسي والتخبط السلوكي إلى لغة السياسة؛ فليست الدعارة والعهر بيع الجسد بل إفقاد الكلمات معانيها الحقيقية، وتبرير حرب يباد فيها شعب من الأبرياء (إشارة إلى حرب فيتنام).
إن لغة السياسة «الداعرة»، المسيطرة في الآن ذاته، لا تقبل الإصلاح. فهي تجتذب في فلكها كل ما يربط الإنسان بعالمه. تثبت له وضعيته، وتحدد له أعداء الوطن وأصدقاءه، والخير والشر، وكيف يسلك بإزاء كل شيء. ولكن هذه اللغة لا تخدم إلا مصالح من يمتلكها. وهكذا يعرِّف السياسيون المستفيدون من الحرب، مثلا، الفلاح الفيتنامي، الذي يدافع عن بلاده، بأنه «بشر أدنى، إرهابي قاسي القلب، وناكر للجميل». أما الطيار الأمريكي الذي يلقي النابلم على القرى العزلاء فيوصف بأنه «بطل التحرير، المحب للإنسانية»(9). هذه اللغة لا يصلح معها إلا التدمير. وأولى خطوات تدمير «الكون اللغوي القائم» هي إحداث قطيعة شاملة معه، ونفيه من واقع الاستخدام؛ «فالقطيعة مع مستمر السيطرة، ينبغي أن تجر إلى قطيعة مع مفردات لغة السيطرة» نفسه62. هذه القطيعة والنفي يتحققان عن طريق إنشاء لغة جديدة. وهو ما يتحقق بدوره، جزئيا، بواسطة «فن معالجة الكلمات»؛ الذي يستهدف «تخليص الكلمات والمفاهيم من المعاني اللقيطة التي حمله إياها النظام القائم» نفسه25. لقد شغلت ظاهرة فقدان الكلمات معانيها الحقيقية ماركيوز. ورأي فيها قمعا للبشر وتخريبا للغة. وقد نقل بإعجاب شديد عبارة دافيد س. برودير، التي يرصد فيها ما أسماه «التخريب المنهجي لمعنى الكلمات وماهيتها». وهو تخريب يُلقي السياسيون بذوره، وترعاه وسائل الإعلام. وبحسب برودير فإنه «عندما يتعود الناس سماع الكلام عن معارك عنيفة في «المنطقة منزوعة السلاح»، أو عن جرحى في حالة الخطر «عقب مظاهرة غير عنيفة»، يصبح المرء غير بعيد عن فقدان سلامة حسه» نفسه122. إن إصلاح اللغة يحتاج إلى أكثر من مفرداتها جديدة؛ إنه يحتاج إلى وعي وحساسية جديدين، يدعمان هذه المفردات وتدعمهما.
يتخلق الوعي الجديد والحساسية الجديدة واللغة الجديدة في إطار التمرد والرفض. وحين يدمَّر «الكون اللغوي القائم» سوف يتوقف «المصنع الكلامي» للمجتمعات الصناعية المعاصرة عن إنتاج اللغة «الداعرة». لقد رصد ماركيوز حالات واقعية من تهديم الكون اللغوي القائم، قامت بها جماعات الرفض في عصره (الأقليات، الهيبيين، الطلاب) التي كانت تمثل، بالنسبة له، الأمل في التحرر. هذه الجماعات قامت بما يسميه ماركيوز «انقلاب منهجي في المعاني»، أو «انتفاضة لغوية منهجية». وقد تحقق هذا الانقلاب أوالانتفاضة بواسطة عدد من العمليات المنفصلة؛ هي:
1- قيام بعض هذه الجماعات باستخدام مفردات بريئة، شائعة الاستخدام في الحياة اليومية، وإطلاقها على أفعال يصفها النظام القائم بـ«المحرمات». مثل استخدام كلمة «رحلة» (trip) للإشارة إلى ارتياد تجمعات الهيبيين، واستخدام كلمة «عشب»(grass) للإشارة إلى الماريجوانا. وتستهدف إعادة التسمية، في هذه الحالة، التخلص من الدلالات السلبية التي يلصقها النظام القائم بسلوكيات الجماعة وأشيائهم. وإضفاء طابع الألفة والعادية عليها.
2- إعادة تسمية الأشخاص بما يجدر بهم أن يسمَّوا به في الواقع. وذلك مثل الإشارة إلى أحد القيادات العليا بأنه «الخنزير فلان»، بدلا من «الرئيس فلان»، أو «الملك فلان»، أو «العاهل فلان». ويؤدي هذا الفعل، وفقا لماركيوز، إلى الخلاص من أكاذيب اللغة العقائدية ودلالاتها، وإلى تحطيم الهالة التي تحيط بأولئك الموظفين والحكام. إضافة إلى سحب «الاسم المرائي الكاذب الذي يتباهون بحمله» نفسه65. ويرى ماركيوز أن هذه الممارسة لابد وأن تندرج في إطار السياق السياسي للرفض الأكبر، لأنها تشكل بالفعل مظهرا من مظاهر التحرير.
3- استخدام المفردات السامية المتعالية، ذات المكانة الخاصة في المجتمع السائد، وتحميلها بمفاهيم عادية يومية تخص جماعة «الرفض». مثل إعادة استخدام كلمة «الروح»، ذات المفهوم السامي النقي في الكون الخطابي المسيطر، في تراكيب جديدة، لتحمل دلالة جديدة، تنزع ما تنطوي عليه من سمو، وتدخلها في سياق الكون الخطابي لجماعة الرفض. مثل تسمية جماعات السود «البلوز» (10) «غذاء الروح»، وتعريف أنفسهم بأنهم «أخوة في الروح».
4- استخدام المفردات السلطوية في سياق جديد ينزع عنها سلطويتها. مثل استخدام بعض الشباب لتعبير «سلطة الزهور»؛ إشارة إلى القوة التي يكتسبها فعل إلقائهم الزهور على الشرطة في المظاهرات. ويؤدي هذا الفعل إلى نقل السلطة ممن يُفترض فيه امتلاكها؛ أعني الشرطي ذي البندقية والعصا، إلى من يُفترض فيه عدم امتلاكها؛ أعني المتظاهر الممسك بالزهور. وينطوي كذلك على سحب السلطة من البندقية والعصا لتصبح كامنة في الزهرة.
5- إطلاق تسميات جديدة، مبنية على المجاز في معظمها، لتشير إلى إدراك خاص لماهية جماعة ما، أو شخص ما، أو شيء ما. . إلخ. ويمثل ماركيوز لذلك ببعض التسميات الشائعة في العامية الأمريكية، مثل تسمية المثقفين «رأس البيضة»، وتسمية المحلل النفسي «مضيق الدماغ»، وتسمية التليفزيون «أنبوب الفرج». . إلخ. ويرى أن هذه اللغة الشعبية «تتصدى بسخرية مثيرة وحانقة للكلام الرسمي ونصف الرسمي» (ماركيوز1964: 123). وأن في شيوع هذه التسميات وغناها وإيحائها ما يدل على أن رجل الشارع يؤكد إنسانيته في لغته الخاصة بوضعه إياها على قطب معارض للسلطات القائمة، وأن إعادة تسمية الأشياء بأسمائها يمثل انفكاكا من السيطرة وإعلانا للتمرد والرفض.
6- توليد استجابات ساخرة مثل الضحك والأهاجي والتهريج. وعلى الرغم من أن ماركيوز يصف هذه الأشكال من الاحتجاج بأنها سلبية وفوضوية وربما لا سياسية، فإنه يرى أنها كثيرا ما تقض مضاجع النظام القائم. ويرى أن عصره يشهد نموا لظاهرة احتقار قيم السياسيين التي يجهرون باعتناقها، ويجردونها في الوقت ذاته من معانيها. ويرتبط هذا باحتقار ما يسميه «روح الجد»، التي تطبع خطب الساسة المحترفين أو نصف المحترفين، وأفعالهم بطابعها. فقد «أخذ المتمردون في بعث الضحك اليائس، والتحدي الماجن الذي عُرف به المهرجون، وذلك لنزع الأقنعة عن تصرفات هذه الجماعة الجادة التي بيدها الحل والربط في كل شيء» (ماركيوز1969: 107).
ربما تكون هذه الاستجابات التي يسميها ماركيوز ب «السلبية»، من أكثر الاستجابات فعالية إزاء خطاب السياسيين. فهذه الاستجابات «الهازئة» جادة بأقصى ما يكون، خاصة حين تواجه نصوصا أو كلاما كاذبا. فاللغة التي تناقض واقعها لا تحتمل كل هذا «الجد» إزاءها. ولابد من بعض الاستهزاء الغاضب، ونحن نتلقاها. إنها تقول لنا: أنا كاذبة، وتخرج لنا لسانها. تقول لنا: أعلم أنكم تكتشفونني، لكنني سوف أظل أفعل وأسيطر؛ فأنا الأقوى. وربما يكون الفعل الوحيد القادر على إرباكها هو أن نضحك إزاءها بأعلى صوت ممكن، ضحك من القلب، ربما يربكها قليلا، وربما يولد لدى الآخرين ضحكا مشابها يحفزهم على إدراك الكذب.
يمكن إدراج معظم العمليات السابقة في إطار التحويل الدلالي للمفردات بواسطة إعادة التعريف أو إعادة التسمية. وهي عملية هدفها الأساس بناء معجم خاص لجماعات الرفض، يواجه معجم الجماعات المسيطرة. ومن المؤكد أن استبدال المعجم، مع أهميته الشديدة، لا يكفي وحده لتهديم الكون اللغوي القائم. فقواعد اللغة، أية لغة، وظواهرها البلاغية ربما تكون ذات تأثير أقوى في تدعيم السلطة القائمة. ربما كان ماركيوز معنيا باستعراض ممارسات نقدية حدثت بالفعل، على الرغم من أن هذه الممارسات لم تكن فاعلة بشكل جذري في مواجهة لغة السياسة المسيطرة. ومع ذلك فإن هذه الممارسات سوف تظل ملهمة ودالة لكونها، في معظمها، ممارسات عفوية وشعبية وتمثل جزءا من حركات رفض اجتماعي(11).
لقد ركز ماركيوز في نقده للغة السياسية على المجتمعات الصناعية الكبرى؛ خاصة الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي السابق. وعلى الرغم من تشابه بعض خصائص لغة السياسة المستخدمة في هذه المجتمعات مع لغة السياسة المستخدمة في مجتمعات أخرى، فإن لكل مجتمع لغة سياسية ذات تأثير خاص واستجابات خاصة. ولا يرجع ذلك إلى الخصوصية الثقافية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات فحسب، بل إلى خصوصية اللغة التي تستخدمها كذلك.
ربما لا يمدنا ماركيوز بتنظير لإجراءاته المستخدمة في تحليل الخطاب السياسي، وربما اتسمت قائمة مصطلحاته ببعض الغموض(12). إضافة إلى لغته ذات الطابع المجازي، والتي تميل إلى التكرار والإطناب، والتي وصفها آلن هاو (2003) ذات مرة ب «النثر المنيع، الذي لا يكاد يُفهم منه شيئا». وعلى الرغم من ذلك فإن كتابات ماركيوز تنطوي على استبصارات مدهشة خاصة فيما يتعلق بتحديده لطبيعة العلاقات التي تربط بين الإنسان واللغة والمجتمع. إضافة إلى مقدرته المتميزة على الكشف عن الظواهر المميزة للغة أحادية البعد والوظائف التي تسعى هذه الظواهر لإنجازها، والآثار التي تنتج عنها. أما نقده لنمط التحليل اللغوي السائد لدى الفلاسفة التحليليين، وتحديده لسمات التحليل الذي يقترحه، وتنظيره لأشكال مقاومة الخطاب السياسي اللغوي المسيطر، سواء تلك التي مورست بالفعل من قبل جماعات الرفض أو تلك التي يدعو لممارستها، وتفسيره، وإن كان حدسيا، للطريقة التي تعمل بها لغة السياسة- فهي مما يمكن استثماره في محاولة تأسيس إطار نظري لمقاربة نقدية لنقد لغة السياسة.
الهوامش والاحالات
1- لم أستطع العثور على أية دراسة بغير العربية تخص نقد ماركيوز للغة السياسة. ولم يرد ذكر أية دراسة عن أفكار ماركيوز حول لغة السياسة في الببليوجرافيا التي أوردها الموقع الرسمي لهربرت ماركيوز على الشبكة الدولية للمعلومات، الذي يقدم ببليوجرافيا لما كتب عن ماركيوز بالفرنسية والألمانية والإنجليزية (عنوان الموقع: www. marcuse. org/herbert، تاريخ الدخول إلى الموقع 22-06-2008. والدراسة الوحيدة التي استطعت الوصول إليها، وعُنيت ببعض أفكار ماركيوز حول لغة السياسة هي دراسة كيلنر 2006Kellner، بعنوان»من ‘1984‘ إلى ‘الإنسان ذو البعد الواحد‘: أفكار نقدية حول أورويل وماركيوز». وهي مقال صغير الحجم، لا يتجاوز سبع صفحات. ويتوقف عند تقديم مقارنة أولية بين نقد ماركيوز للغة السياسية ونقد أورويل لها. لكنه في الواقع يستنفد جل طاقته في رصد الاختلافات بين الأصول الفكرية لهما، وأسلوب كتاباتهما. وتتبقى فقرات معدودة تخص مقاربتيهما للغة السياسية. وقد أشار كيلنر لدراسة أخرى عُنيت بالمقارنة بين نقد لغة السياسة عند أورويل وماركيوز؛ هي دراسة إيان سلاتر «أورويل وماركيوز»، لكن الباحث لم يستطع الوصول إليها. ولم تحظ أفكار ماركيوز حول لغة السياسة باهتمام يُذكر من اللغويين العرب. ويمكن تبرير ذلك بأسباب مختلفة؛ من بينها غياب التوجه النقدي في الدراسات اللغوية العربية المعاصرة. إضافة إلى تناثر أفكار ماركيوز حول اللغة في ثنايا دراساته، وارتباطها الشائك بفلسفته بعامة، وامتزاج تحليلاته وتوصيفاته، بإرهاصاته ونبوءاته وتحريضاته.
2- بعض معلومات عن النظرية النقدية ونقد لغة السياسة .
3- الكتابان مترجمان إلى العربية. وقد صدر «الإنسان ذو البعد الواحد» بترجمة جورج طرابيشي وسوف نعتمد على طبعته الثالثة الصادرة عن دار الآداب في بيروت 1988. أما «مقال في التحرر» فسوف نعتمد على ترجمة عبد اللطيف شرارة الصادرة عن دار العودة في بيروت 1971، تحت عنوان «نحو ثورة جديدة». وقد احتجنا، في مواضع محدودة، إلى الرجوع إلى الترجمات الإنجليزية، حين لم تسعفنا الترجمات العربية في الفهم.
4- ركز ماركيوز في «الإنسان ذو البعد الواحد» على استخدام اللغة في المجتمع الأمريكي. وقد خص استخدام اللغة في المجتمع السوفيتي بتحليل خاص في سياق دراسته للماركسية السوفيتية، التي صدرت بعنوان «الماركسية السوفييتية: تحليل نقدي» في عام 1958.
5- من الواضح أن التركيب الإضافي الأخير «مصر ناصر» يستهدف أكثر من مجرد الربط بين الحاكم والبلد التي يحكمها. وهو ما يوضحه التصور الاستعاري الذي يقوم عليه التركيب؛ أعني: الأمة/شخص. هذا التصور يوظَّف في أحيان كثيرة لتبرير العدوان على الأمة بعد تحويلها –استعاريا- إلى مجرد الشخص الذي يحكمها، والذي يمكن تحويله –استعاريا كذلك- إلى شيطان أو إرهابي. وعلى ذلك فإن تعبير «مصر ناصر» لا ينفي الشعب فحسب، بل التاريخ كذلك. إن تركيب «مصر ناصر»، في المثال السابق، يتحرك في اتجاه مضاد لما يحدده ماركيوز. إنه لا يقيد الشخص، وإنما الوطن. فحين تتأسس علاقة إضافة/ملكية بين الرئيس والوطن لا يتحول الأفراد فحسب إلى زوائد أو تابعين لرئيسهم. . ، بل يتحول الوطن، بمواطنيه وجغرافيته وتاريخه إلى ملكية للرئيس. وهي استعارة أخرى تخفي الكثير، وتحرض على الكثير. ويمكن أن يؤدي التركيب، خاصة حين يطلق في معرض الوصف إلى ما يشبه علاقة النسب (الأبوة). إن الرئيس (الأب) هو الذي ينجب الوطن (الابن). وهو، من ثم، أب أبنائه (المواطنين). والوطن (الابن) ما كان ليوجد (أو يزدهر ويتطور. . إلخ) إلا بعمل الأب (الرئيس). والتركيب نفسه قد ينتج استعارة أخرى تختلف في طرفيها لكنها تؤدي الوظيفة نفسها، هي استعارة: الرئيس زوج، والوطن زوجته. وهي استعارة ينتجها التركيب في إطار الثقافات التي تنسب المرأة لزوجها (مثل كثير من المجتمعات الريفية في مصر). والعلاقة بين الرئيس والوطن وفق هذه الاستعارة علاقة عصمة. فالوطن في عصمة الرئيس. والمواطنون؛ أبناء الوطن وبناته، تحت وصايته. هذه الاستعارة نفسها تنتج استعارة أخرى يرددها المنتفعون من أي حكم حين يُنادون ب «زواج كاثوليكي» بين الوطن والرئيس؛ أي أن يحكم مدى الحياة. وتنطوي هذه الاستعارة على وصف للوطن بأنه أنثى، وحكم على بقية المواطنين بالخصاء، فليس ثمة ذَكَر إلا السيد الرئيس. ومن ثم فإن الأوطان (ومواطنيها) التي ترغب في أن تصل إلى الاستقلال والنضج، وفق الاستعارتين السابقتين، يجب عليها أن تمارس «قتل الأب»، و«قتل الزوج» أيضا. وأن تنتمي فحسب إلى ذاتها؛ أعني مواطنيها.
6- دراسة نقدية لاستخدام الاختصارات في أسماء الأسلحة النووية يمكن الرجوع إلى دراسة مارتن مونتجموري 1995 Montgomery بعنوان «مدخل إلى اللغة والمجتمع»231-236. ويشير مونتجموري إلى دراسة أخرى تفصيلية قدمها بول شيلتون في عام 1982، بعنوان «كلامـنووي: اللغة النووية والثقافة والدعاية».
7- يذكر إدوارد بونو في كتابه «التفكير المتجدد» ص15، الصادر بترجمة إيهاب محمد عن الهيئة المصرية العامة للكتاب في 2005، أنه» في حالة التنويم المغناطيسي يمكن الإيحاء للشخص المنوَّم بفعل أشياء غريبة بعد الإفاقة من غيبوبة التنويم. وفي الوقت المعلوم ينفذ الشخص موضوع التنويم تعليمات منوِّمه؛ فقد ينصب مظلة شاطئ في غرفة الجلوس، أو يقدم لكل من الجالسين كوبا من اللبن، أو يركض على أربع وينبح كالكلب. وعندما تسأله لماذا يتصرف بهذه الغرابة فإنه يقدم على الفور تفسيرات معقولة لتصرفاته هذه. هذا التفسير يقدم مثالا لا ينسى على قدرة العقل على التبرير (العقلنة) Rationalization. وبينما يعرف كل واحد من حاضري تجربة التنويم السبب الحقيقي لهذه التصرفات الغريبة، فإن أي مشاهد لم ير بداية التجربة، قد يقتنع تماما بمبررات الشخص موضوع التنويم. » وربما لا تختلف بعض التبريرات التي يقدمها المدافعون عن تأييدهم لبعض السياسيين عن التبريرات التي يقدمها هذا الذي «ينبح كالكلب» لنباحه. إن ربط تأثير لغة السياسة بتأثير التنويم المغناطيسي قد يولد بعض الشك في إمكانية إبطال هذا التأثير. ويمهد لتقبل وتفهم مختلف أشكال المقاومة، مهما بلغت حدتها ونوعها، من الخاضع للتضليل اللغوي.
8- كان الطلاب يرفعون لافتات مكتوب عليها «الميمات الثلاثة»، مشيرين إلى ماركس وماوتسي تونغ وماركيوز.
9- قد يكون من المثير مقارنة اللغة التي استخدمتها الإدارة الأمريكية قبيل وأثناء الغزو الأمريكي لفيتنام (1961-1975) سواء في التبرير للغزو أو وصف عملياته العسكرية والجنود الأمريكيين و»العدو»، باللغة التي استخدمتها قبيل وأثناء غزوها العراق(2003-؟). وثمة حدس مبدئي لدي بوجود تشابهات عديدة، على الرغم من فارق اختلاف الحدثين وفارق الزمن.
10- البلوز Blues أغاني يؤلفها ويلحنها ويغنيها الأمريكيون السود. يغلب عليها الشجن. وتتألف من مقاطع شعرية ثلاثية الأبيات.
(The American Heritage Dictionary of the English Language. 2000. Houghton Mifflin Company).
11- من غير العسير الوقوف على ممارسات نقدية مشابهة قامت بها جماعات الرفض الاجتماعي في معظم المجتمعات. وعلى سبيل المثال، يذكر ناصر أحمد إبراهيم في كتابه «الأزمات الاجتماعية في مصر في القرن السابع عشر» (نشر دار الآفاق العربية، 1998)، أن الأهالي كانوا يمارسون تمردا من نوع خاص على السلطة المسيطرة، تمثل في إطلاق تسميات ساخرة ومثيرة للتهكم على ممثلي السلطة. ويورد المؤلف أمثلة متعددة لهذه التسميات، مثل إطلاقهم «زلعة السم» على محمد باشا، و«الشيطان» على إبراهيم باشا، و«المجنون» على حسين باشا الدالي. . إلخ.
12- مثل المصطلح المركزي في نقده للغة السياسية، وهو «عالم الإنشاء المغلق».
عماد عبد اللطيف
ناقد وأكاديمي من مصر