غاري يونج
ترجمة لينا شدود*
تعهّد غاري يونج محرّر الجارديان أن يقرأ روايات تعود لكاتبات إفريقيات فقط على مدى العام 2018، وذلك لإحساسه بالخجل من هكذا نقص في قراءاته.
وها هو يشاركنا ما اكتشفه بعد قراءة تسعة عشر رواية تمتد من نيجيريا إلى إثيوبيا.
في سهرة عيد الميلاد الفائت التي أقامتها صحيفة الجارديان، فاق عدد الراغبين بالرقص على الراغبين في النقاش بمعدّل واحد من كل خمسة تقريباً. يومها التقيت الكاتبة النيجيرية شيبوندو أونوزو التي أخبرتني أن لدينا أنا وهي ذات الناشر، فأجبتها، أنا آسف لأنني لم أقرأ لك من قبل، حينها أشارت لي شيبوندو بلباقة كي أتوقف عن الاعتذار إذ لا ضرورة لذلك، وهكذا واصلنا النقاش حتى ونحن على حلبة الرقص. لم تبدو شيبوندو منزعجة بسبب عدم اطلاعي على أعمالها، رغم أني كنت كذلك، ولا يمكنني بالضبط معرفة السبب، ولكن لسبب ما ضايقني ذلك في الأيام القادمة.
لم أتساءل لمَ لم أقرأها وحسب، بل لماذا لم تكن على لائحة اهتماماتي.
كما أنني أحسست أن الوقت قد حان لتعديل راداري، لذا قررت قراءة روايات لكاتبات إفريقيات تحديداً وعلى مدى عام، والدافع لم يكن فضيلة مني بل فضول، وتساءلت ما الذي يمنعني عن إتمام ذلك، سيّما أنني لم أكن جاهلاً تماماً بالأعمال الأدبية التي أنجزتها النساء في ذلك الجزء من العالم.
لقد قرأت للكاتبات شيمامندا نجوزي أديشي من نيجيريا، وآمّا أتا إيدو من غانا، بيسي حيد من جنوب إفريقيا، بوتشي اميتشيتا، ليلى أبو العلا، جيليان سلوفو، نادين غورديمير، وزوي ويكومب.
وعشت في السودان لمدة عام، كمراسل في جنوب إفريقية وموزامبيق وزمبابوي وتنزانيا وسيراليون وزرت غانا في العطلة، وقد كان ذلك منذ أربع سنوات على الأقل منذ أن قرأت تلك المؤلفات، وخمسة أعوام منذ أن وطأت قدماي تلك القارة. وقبل مدة ليست ببعيدة، كان من الممكن أن يكون مشروعي أكثر صعوبة.
توضح مارغريت بوسبي، محررة كتاب” بنات إفريقية الجدد” الذي نُشِر عام 1992 ، والذي كان يضمّ مقتطفات بارزة من أعمال أدبية متنوعة لكاتبات ينحدرن من أصول إفريقية كجزء من سلسلة تثقيفية، كما أن الجزء الجديد منه سيصدر العام القادم.
“هؤلاء الكاتبات الآن تحت الضوء، كما أنني أعتقد أنه بإمكان الناشرين رؤية النجاح الذي بوسعهم تحقيقه مع كاتبة مثل شيمامندا، إذ لا شك أنهم يرغبون بهكذا نجاح أيضاً. ولكن الأمر لا يزال غير متيسّر كما يجب، وإلى أن يصبح من الصعب إحصاء عدد الكاتبات الإفريقيات اللواتي حطمن العوائق، عندها سيكون لدينا ما يجب إنجازه لاحقاً.”
مقاربتي المبتكرة لم تكن منهجية. للتو بدأت بقراءة الكتب في مكتبتي، ونشرت مناشدة على الفيس بوك من أجل الحصول على اقتراحات أخرى، ومن ثم عرضت الكتب التي قرأتها على قسم العملاء في موقع الأمازون، الذين بدورهم اطلعوا على البند، وعلى ذلك القسم ليروا ما هو متوفر أيضاً.
ولكن مع حلول عيد الفصح بدا جليّاً بالنسبة لي أنني إن لم أقم بالتنويع في قراءاتي فسأقضي العام بأكمله في قراءة الكاتبات الإفريقيات، وهذا ليس بالأمر السيء، بل هو مغاير لخطتي وحسب.
وهكذا صرتُ أبذل جهداً في انتقاء كاتبات أخريات من مناطق أخرى من هذه القارة. ومع اقتراب نهاية العام كنت قد قرأت ثمانية عشر كتاباً لكاتبات من المغرب، غانا، زيمبابوي، نيجيريا، سيراليون، السينغال، مصر، الصومال، أوغندا، إثيوبيا والكاميرون.
وتلك الأعمال كانت عبارة عن قصص حب، قصص قصيرة، ملاحم من أجيال مختلفة، روايات سياسية، أشباح، عقم، انقلابات، احتلال وقصص عن الهجرة، وجلّها كان مشوباً بأصوات الإنجليز البيض رجالاً ونساءً، وأصوات الزوجات الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وبالعبيد وتجار الرقيق؛ أصوات تتوزع بين القارات الأربع ومن كل قرن بدءاً من القرن السادس عشر فصاعداً.
الصف الأول من جهة اليسار: مازا منجيست، ليلى العلمي، دورين باينغانا، لولا شونين، أهداف سويف، نوال السعداوي وإمبولو مبو.
الصف السفلي: شيبوندو أونوزو، جينيفر نانسوبوغا ماكومبي، أميناتا فورنا وناديفة محمد الصومالية، نوفيوليت بولاوايو، أيوبامي أديبايو، يا غياسي.
أما الكتاب الأكثر توصية بقراءته بالنسبة لي هو رواية يا غياسي “الذهاب إلى المنزل”، وهي كاتبة أمريكية من غانا، وتبلغ من العمر تسعة وعشرين عاماً، وتقيم في بيركلي. إنها روايتها الأولى التي صدرت عام 2016، وقد حازت على عدد كبير من الجوائز، وهي عبارة عن ملحمة تمتد عبر الأطلسي ولعدة أجيال. حيث تبدأ في القرن الثامن عشر في قرية أشانتي التي تعود إلى أحفاد مام، والتي لديها ابنتان، إحداهما متزوجة من الحاكم البريطاني المسؤول عن إدارة قلعة كيب كوست، أما الأخرى فهي إيسي المسجونة في الأقبية.
وفي كل فصل كانت تتقصى ذريتهن في رؤية شاملة ما بين إفريقيا والولايات المتحدة. حقّاً كتاب غياسي هو عمل أدبي جريء.
غير أن محاولات تقييمي لهذا العمل كان بالإمكان أن تكون أكبر لو أنني لم أطلع على كتابين آخرين استخدما ذات الأسلوب محقّقين بذلك تأثيراً أكبر.
الرواية الأولى هي سيجو، وتروي قصة المملكة الإفريقية الغربية التي تحارب للحفاظ على تقاليدها ونزاهتها ضد التوغل والغزوات المسيحية والإسلامية الدخيلة. وتبدأ عام 1797 لمّا كانت مملكة السيجو في ذروة مجدها حتى أن نفوذها قد امتدّ إلى أطراف مدينة جيني وقد كانت مهابة وإلى مسافات بعيدة، حتى تمبكتو على سبيل المثال.
يتقصّى الكتاب ذريّة رجل البلاط دوسيكا ترور، والذي هو من أهم المستشارين الموثوقين للمحكمة في سيجو وذلك من خلال أبنائه الأربعة ومن خَلَفَهم.
توظّف كاتبة العمل ماريز كوندي والبالغة من العمر إحدى وثمانين سنة لمسة خفيفة من معرفتها التاريخية لبناء شخصياتها المعقدة التي لا تنحصر في كونها عبارة عن أحداث تاريخية. كوندي الكاتبة الفرنسية الفائزة بجائزة الأوسكار لهذا العام في الأدب والتي مُنِحت لها بدلاً من جائزة نوبل. كما أنها الكاتبة الوحيدة غير الإفريقية، والمشمولة في قراءاتي هنا. للحظة تشتّت انتباهي عن موضوع سيجو الذي يشغلني، وفي الوقت الذي تذكرت فيه أنها ليست إفريقية وأن هذا ليس بالهام، كنت قد تورطت.
أما الرواية الثانية فهي “كينتو”؛ الرواية الأولى لجنيفر نانسوبوغا ماكومبي، المولودة في أوغندة، والتي تعيش الآن في مانشستر، وقد حصلت على جائزة ويندهام كامبل الأدبية المرموقة وبقيمة 150000 دولار لعام 2018.
نُشِرت رواية كينتو في المملكة المتحدة في يناير، وهي قصة لعنة تناقلتها الأجيال والتي تُعرف الآن بأوغندة. تبدأ الرواية بقتل الغوغاء لرجل مُدان بتهمة السرقة ومن ثم تعود بالزمن إلى قصة حاكم متسلّط يطلق العنان للعنة تردّدت أصداؤها عبر الأجيال عندما قتل ابنه. إن أسلوب ماكومبي النثري مسكون بالأرواح كما القصة.
“حينما تموضعت الشمس في وسط السماء لتكون على أشدّها، آه يا لورا، حتى من على هذا البعد برزت مساحة من الأراضي القاحلة، اللحن الحزين وأوار القيظ كانا مسموعين. موجات من الأشعة تماوجت مثيرة للانتباه فيما تعبر تلك القفار معرضاً نفسك للخطر”.
ينصح بينيافانجا وينينا في مقالته الساخرة في مجلة غرانتا الأدبية والتي جاءت بعنوان “كيف تكتب عن إفريقيا”.
” أبداً لا تضع صورة حسنة التعديل لإفريقي على غلاف كتابك، أو بين دفتيه ما لم يكن قد فاز بجائزة نوبل. لا تقرب المواضيع المحرّمة، المشاهد المحلية العادية، الغرام بين الأفارقة (ما لم يكن هناك موت) ولا حتى إشارات إلى كتاب أو مفكّرين أفارقة، أيضاً تجنب ذكر أطفال المدارس الذين لا يعانون من الداء العليقي أو من حمى الإيبولا أو من تشوهات في الأعضاء التناسلية للإناث.”
أيضاً هناك المزيد من الصور المحلية العادية، ومن قصص الحب بين الأفارقة في هذه المجموعة المتنوعة. ولكن النادر منها يعود لإفريقية الغربية، وبشكل خاص الأعمال النيجيرية التي لم تجد لها مادة وافرة في مسألة تعدّد الزوجات.
إذا كنت تفكر كم يبلغ عدد الروايات التي استوحاها الأدب الإنجليزي من الزواج الأحادي، لذا علينا ألا نفاجَأ حينما يكتب الأدباء الأفارقة عن تعدد الزوجات وكيف يتعاملون في أحسن الأحوال مع الموضوع كمشكلة يمكن التحكم بها وذلك من أجل تحقيق السلام بين الزوجات، ولكن ليس بالأمر المستغرب حينما تتناول الكاتبات الإفريقيات الموضوع ذاته ولكن من زاوية أخرى.
إذ يترتب على النساء أن يواجهن الإذلال، المنافسة، الغيرة والحقد حينما يستبدل الرجل زوجته بامرأة أخرى ويساوي بينهما. هنا يبرز ترتيب مزعج بين النساء والأطفال في نطاق العلاقات التعسفية بين الرجال والنساء، وبين النساء والنساء، وبين النساء وأطفالهن مما يؤدي إلى المنافسات التي تصنع الحبكات.
والأكثر إيجازاً وتأثيراً من بين كل هذه القصص هي قصة رسالة طويلة جداً، المنشورة عام 1979 للكاتبة السنغالية ميرياما با، التي توفيت لمّا كانت في الثانية والخمسين من عمرها عام 1981 .
حيث يتخذ العمل شكل رسالة طويلة من راماتولاي فال إلى أعز صديقاتها أيساتو بمناسبة وفاة زوج راماتولاي، مودو الذي هجرها هي وأولادها الإثني عشر وتزوج من إحدى أعز صديقات ابنتهما كزوجة ثانية.
تكتب راماتولاي ” حينما أفكر أنني أحببت ذلك الرجل بشغف، وأنني وهبته ثلاثين عاماً من عمري؛ وأنني حملت اثنتا عشرة مرة بأطفاله، كما أن إضافة منافسة لي في حياتي لم يكن كافياً بالنسبة له، بل من أجل حب شخص آخر قام بحرق ماضيه مادياً ومعنوياً. لقد تجرأ على ارتكاب ذلك الفعل القاسي من النكران.”
في الروايات الأكثر حداثة يبدو أن تعدد الزوجات يشكّل تحديّاً لمعنى الحداثة.
وهو يشقّ طريقه من المراكز الحضرية نحو الأطراف، خاصة في نيجيريا ووفقاً للمسح الديموغرافي والصحي عام 2008، فإن ثلث النساء المتزوجات وواحد من ثمانية من الرجال المتزوجين الذين تتراوح أعمارهم بين (15 ــ 49) لديهم أكثر من زوجة.
وهذه الديناميكيات أكثر تعقيداً، أو تحريضاً في أحيان أخرى حيث ينتقل التركيز من السرير إلى الرحم، والإحساس بالإثم والإحباط بالنسبة للنساء اللواتي تغدو أجسادهن كمسوّغ من أجل شيء واحد وهو المولود الذي سيُضفي الشرعية على زيجاتهن وأنوثتهن. ربما يتطلّب الأمر اثنان لكي يكون هناك طفل ولكن دائماً تُفهم الخصوبة على أنها من مسؤوليات المرأة، لأنها ترمز إلى مفهوم شرف الرجل.
اكتشاف هؤلاء الكاتبات البعيدات عن الأنظار هو بعض الشيء أشبه باكتشاف لغة جديدة ومن ثم يبدأن بالفرقعة في كل مكان.
هذا هو الموضوع الحاسم لرواية “الحيوات السرّية لزوجات بابا سيجي” للكاتبة لولا شونيين، الحائزة على العديد من الجوائز والمرشّحة لجائزة أورانج عام 2011، حيث تتزوج بولان ألو وهي الخرّيجة ذات المستقبل الواعد كزوجة رابعة ضمن عائلة يكثر فيها تعدد الزوجات.
دور بابا سيجي في مجمل القضية عَرَضي تقريباً، فهو الديكتاتور اللطيف الذي يعاني من حالة كبت عاطفي، حتى أن محاولاته الجنسية كانت توصف بالتفصيل الكارثي. وكما تحكي إحدى زوجاته: كان بابا سيجي ثقيلاً، وكل شيء يخصّه كان أخرق وغير مريح. لقد كان يصب ماءه في وجهي ومن ثم ينهار على صدري.
العار في بيت بابا سيجي هو بولانل المُهانة والتي تشعر بالخوف كلياً من الزوجات الأخريات اللواتي يجربن كل شيء بما في ذلك القتل للتخلص منها،
تقاوم بولانل لتحبل. العار من كونها عاقرا، ومن حماتها المتصلّفة ونظرتها المخيّبة للأمل والمسلّطة على البطن المسطحة للمتزوجة حديثاً، والعلاجات الطبيعية والزيارات إلى المعالجين التقليديين هي سمات بارزة.
“مضى على وجود ابني بين فخذيك أكثر من شهرين وما زالت بطنك مسطّحة”
هذا ما قالته حماة بطلة الرواية يجيد في رواية أيوبامي أديبايو الرائعة ابقي معي.
” أتوسل إليك أغلقي فخذيك عليه..إذا لم تفعلي، سيموت دون أولاد، لا تفسدي حياتي. هو ابني الأول يا يجيد”
نتابع يجيد خلال الحمل الوهمي، ووفيات حديثي الولادة، والزوجة الثانية. تقوم أديبايو ببناء طاقم من الشخصيات الثانوية الذين يشهدون ويشاركون في تحطّم زواجها.
كما أن رواية “خارطة الحب” للكاتبة المصرية أهداف سويف هي واحدة من الروايات التي تسودها التوترات الأكثر شيوعاً في العلاقات الزوجية الأحادية، بما في ذلك رواية “زينة” لنوال السعداوي حيث يختفي الحب والآخرون، وكما هو الحال أيضاً في رواية ” ذاكرة الحب” للكاتبة أميناتا فورنا عام 2010 حيث يرتبطا معاً بزواج لم يتحقّق، وقصة حب غير مكتملة وتودّد يتراجع إلى الحدود الدنيا.
غير أن رواية الكاتبة المصرية أهداف سويف والتي وصلت إلى اللائحة القصيرة لجائزة البوكر تتعقّب قصص الحب المزدوجة لقائد الأوركسترا المصري الأمريكي والصحفي الأمريكي في الولايات المتحدة خلال التسعينات وأرملة إنجليزية وطبيب مصري في بدايات القرن العشرين، وهذا العمل الروائي هو الوحيد الذي يقود فيه الحب الرومانسي السرد تماماً.
“ابقي معي” هي كغيرها من الأعمال الأدبية، سواء كانت مصرية مثل زينة وخارطة الحب، أو من أوغندة مثل كينتو وأسماك استوائية للكاتبة دورين بينغانا، أو من زيمبابوي مثل رواية “نحتاج إلى أسماء جديدة” للكاتبة بولاوايو، أو من سيراليون مثل”ذاكرة الحب” للكاتبة أميناتا فورنا ، أو من الولايات المتحدة كرواية “ها الحالمون” للكاتبة إيمبولو مبو.
أغلب هذه الأعمال استخدم الاضطرابات السياسية من أجل توفير خلفية هامة، حتى وإن كانت عرضية إلى حدِّ ما أو كستار خلفي.
تكتب باينجانا في مجموعتها القصصية الصغيرة المتداخلة ” أسماك استوائية”،
” كنا في جامعة ماكيريري، وكنا زبدة المحصول. تفادينا رصاص عيدي أمين وميلتون وأوبوتي، وكل الرصاص والحرب الاقتصادية، النفي والعودة، وها نحن الآن على طريق النجاح.”
في رواية “تحت أنظار الأسد” لمازا منغيست، والتي تقع أحداثها في إثيوبيا إبان سقوط الإمبراطور سيلاسي والسنوات الأولى لديكتاتورية ديرج.
ولكن هل تحكم السياسة من خلال قصة عائلة واحدة – عائلة الطبيب هايلو وولديه، المتدين يوناس، والثوري داويت وشركاؤهم وجيرانهم. حيث نرى الفساد في عهد الإرهاب، والتوصيف للأفعال الفردية كأخلاق ومقاومة على حدٍّ سواء الرئيسية والثانوية، وغير المجدية والمثمرة – كمجتمع ينحدر إلى الوحشية والتبعية للفت النظر. يقول المرشد الثوري لداويت بعد أن حاول أن يسحب جثة امرأة يعرفها من الشارع مخالفاً أوامر الجندي.
” عليك أن تنقذ الأحياء، من ماتوا لا يستحقون الموت من أجلهم.”
على عكس العديد من الروايات البريطانية والتي غالباَ ما يكون لها جدول زمني غير منتظم، عدد قليل فقط من الروايات الني قرأتها مثل (كينتو، زينة وذاكرة الحب) كانت تتنقّل بين الماضي والحاضر، ولكن أغلب الروايات كانت تتحرّك جغرافياً مقدّمة قصص الهجرة من قلب القارة كرواية فتى مامبا الأسود للمؤلفة البريطانية الصومالية ناديفا محمد عام 2010، ورواية سيجو لماريز كوندي، ورواية الذهاب إلى البيت للكاتبة يا غاياسي. وغير ذلك.
على سبيل المثال، ها الحالمون، الذهاب إلى البيت، أسماك استوائية، ونحتاج إلى أسماء جديدة، أخذتنا إلى الولايات المتحدة، وسيجو نقلتنا إلى البرازيل.
تشعر مؤلّفات تلك الكتب من الناحية النفسية براحة أكبر بين أبناء جلدتهن أكثر من نظرائهن في الشتات أي في أوروبا والولايات المتحدة واللاتي يركزن غالباً على قضايا انتماءاتهن.
الاختلافات العرقية والقبلية والدينية تسبّبت في أن أبطال رواياتهن يشكّكون في مكانتهن في الوطن، غير أنهن لا يستَجوبن ما إذا كان هذا وطنهن أو لا، فذلك الإحساس بالثقة يتلاشى كلما طالت مدة غيابهن عن إفريقيا.
ولكن ربما كانت قصة الهجرة الأكثر جسارة والأشد وقعاً هي التي عرضتها ليلى العلمي عام 2014 في روايتها “ما رواه المغربي” والتي كانت على اللائحة القصيرة لجائزة البوليتزر وعلى اللائحة الطويلة لجائزة البوكر. وهي تروي حمْلة اكتشاف العالم الجديد الكارثية من إسبانيا حتى فلوريدا.
وذلك من وجهة نظر إستابانيكو البربري العبد الذي منحته ليلى العلمي الاسم المبتكر مصطفى. ومصطفى هو أحد الأشخاص الأربعة الناجين من الفرقة الأساسية والتي كان يبلغ عددها ثلاثمائة، وقد فُقِد بعض أفرادها وقُتِل آخرون فيما التهِم البعض من قبل أقرانهم المستكشفين.
ومع استمرار الحملة بكل هذه الوحشية والغطرسة التي تتطلّبها تلك المغامرة الإمبراطورية، تقلّصت أعدادهم وانهارَ التسلسل الهرمي بين العبد والرئيس. غير أنه كان ثمة تهديد بأن يفرض ذلك التسلسل ذاته مجدّداً حينما يجد الناجون الأربعة أخيراً طريقهم إلى المستعمرين الإسبان الآخرين .
” ويشير مصطفى إلى أنه لا يمكن التمسك بالقوانين والشكليات التي هي عادة موجودة على الأرض، إذ لا يمكن تحقيقها على الطوافّات. والأسوأ من ذلك أن وضوءنا لم يعد له خصوصية، ولكن بالنسية لشخص مثلي عانى من هكذا إهانات كان ذلك بمثابة تذكير بتلك المصائر بما في ذلك أسيادي، وإمكانية أن تنقلب الأمور رأساً على عقب. إضافة إلى أنني كنت سأبذل كل ما في وسعي كي تستقر أموري”.
في السنة الاعتيادية تكون اختياراتي الروائية صائبة جداً وغير موفقة أحياناً. قراءاتي غير الروائية تكون في المقام الأول من أجل العمل والروائية من أجل المتعة. فمن حين لآخر تكون موجهة من زاوية نقدية وأحياناً أخرى كتوصية. أستلّ شيئاً من على الرف وأطلع عليه. غالباً ما أتأخر في الوصول إلى ما هو قيّم. أحياناً أجرّب أن أطوّر ذاتي من خلال كتب كان يجدر بي قراءتها من قبل كرواية كلاسيكية روسية أو رواية فازت بجائزة حديثاً، والتي قلّما تكون ذات جدوى. وإذا ما كان لديّ نقص ما فهو خاص بالكتاب السود الغربيين – أولئك الذين سيُشار إليهم على الأرجح في أعمال الآخرين كما في أعمالي.
إنها عطلة صيفية استثنائية تلك التي لا أحمل معي فيها والتر موسلي.
غير أنني في العام الماضي التهمت رواية أنتوني دوير “كل النور الذي ليس بمقدورنا رؤيته”. وفي العام السابق قرأتُ الرباعية النابوليتانية لإيلينا فيرانتي.
وفي هذا العام استمتعت بمزيد من الكتب، أي أكثر من المعتاد، واطلعت على عدد أقل من الفاشلين.
في الواقع أكثرها إمتاعاً كانت رواية شيبوندو أونوزو “أهلاً بكم في لاغوس” . فيها تتّبعتْ الضابط العسكري تشايك أموبي الذي فرّ من الجيش النيجيري مع مساعده يمي بعد رفضه إطلاق النار على المدنيين في دلتا النيجر الذين كانوا يُقصَفون وهم يفرّون.
فينبوي شخصية بارزة قاتلَ مع الجماعات المتمرّدة. أيسوكن؛ فتاة في السادسة عشرة من عمرها أنقذها فينبوي وزملائه المتمردين من الاغتصاب هي وأوما الهاربة من زوجها المتعسّف، وهكذا التقتا معاً.
تلك المجموعة غير المتجانسة من المسافرين ارتبطت ببعضها البعض خلال سلسلة من المغامرات حيث كانوا ينامون في ظروف قاسية وبوضعية القرفصاء في مسكن كانوا يسجنون فيه وزيراً فاسداً بغرض إعادة توزيع المال المسروق على المدارس، وفي نهاية المطاف يؤسسون لحيواتهم بأسلوب جميل ومُتقَن لا يمكنني التقليل من أهميته.
بداية بدا اكتشاف هؤلاء الكاتبات القدامى منهم والجدد، والمتواريات عن المشهد كمن يكتشف لغة جديدة إلى حدّ ما، ومن ثم بدأن بالظهور في كل الأماكن ولو أنك تدرك أنهن بطريقة أو بأخرى غير مكرّسات.
مع قرب انتهاء العام أحسست بذات الشعور الذي انتابني حينما انكببت على الأعمال الروسية في مراهقتي، أو أعمال أميركا الجنوبية، ونهضة هارلم الثقافية في العشرينات من عمري، حتى أنني رغبت في رؤية هذه الأماكن، وبشكل خاص نيجيريا وأوغندة وكأنها ولِدت وبقوة لأجلي. ولذلك أسَرَتني، ولو أنني لم أشرع في تلك المحاولة لَمَا تمكنتُ من قراءة معظم هذه الأعمال وحين أستغرب الأمر أستعيد ما قالته لي الكاتبة الإفريقية الأميركية الراحلة مايا أنجيلو ذات مرة عن سبب اختيارها لعشاقها.
” يمكنني أن أقع في غرام مصارع السومو إذا كان ماهراً في روي القصص وقادراً على إضحاكي، وبوضوح أكثر سيكون الأمر أكثر سهولة لو أنه أفريقي أميركي ويقطن في الجوار ويذهب إلى ذات الكنيسة حينها لن أضطر إلى الترجمة. ولكن لو بذلت جهداً في تعلّم اللغات الأخرى واحترام الأعراف سيكون بإمكاني التواجد في كل الأماكن، ومع كل الناس. أعتقد أنني أنتمي لكل البشر أينما وجدوا.”
في مواجهة مجموعة من الخيارات والوقت المحدود، وحينما يتعلق الأمر بالأدب، ولو أنه ثمة جانب مني على وجه التحديد غير فخور بتلك الاختيارات ويحثّني على عدم بذل الجهد حتى ولو لم يكن هناك سوى القليل من الضرورة للترجمة.
ثمة جزء ما في عقلي الباطن يجعلني أجزم أن كتب تلك الكاتبات الإفريقيات ستكون أكثر صعوبة من ديموغرافيات أخرى ليست على هذا النحو.
وعلى صعيد آخر قرأتُ أعمال الكاتبات الإفريقيات كتطوير لذاتي حتى وإن لم يكن ذلك بالضرورة ممتعاً، وأكثرها كان غير مشوّق وأحياناً أخرى كلا الأمرين معاً.
مع إعادة ضبط راداري لا قدرة لي على الانتظار لأرى بمن سأرتطم في حفلة عيد الميلاد لهذا العام.