حاورته: ليندا نصار
يعدّ الشاعر عباس بيضون من الشعراء الذين طبعوا الشعر الحديث ببصمة خاصة، وتعتبر كتاباته من أنضج التجارب في الشعر والنثر لما فيها من فلسفة وتأمّل في الحياة والوجود. يقول بيضون في أحد الحوارات السابقة: “لست مطمئنًّا إلى شيء، ولست من دعاة الاطمئنان، ولست من أهل اليقين”… إنّه الشاعر الذي يعيش حالاتٍ من القلق المستمرّ والتّفكير في الكون والإنسان بتركيبته البسيطة والمعقّدة.
لا يخفى ما لعبّاس بيضون من انفتاح على الأجناس الأدبيّة بحيث يتجلّى ذلك من خلال اعتنائه بجماليّات الأدب والفنّ. كذلك إنّه القارئ المثقّف الذي يقيم في المسافة الفاصلة بين الماضي والحاضر ليخرج بقصيدة تطلّ من نافذة مستقبل الشعر.
في كتاباته مقاومة للحزن والموت ونضال ضدّ الألم، ورواياته تعبّر عن مزيج خاصّ للأشخاص والأشياء والأماكن لا يمكن أن يتقنه إلا من امتلك أدوات الكتابة. يبثّ الشاعر رؤياه وأفكاره وأحاسيسه الخاصّة في مساحات من التخييل، ليخرج بقصيدة تفتح أبوابها على التأويل. هذه التجربة الإبداعيّة جعلته يحاول استعادة لحظات الذات من الذاكرة أحيانًا لترميم أعطابها وترتيب حضورها.
ترجمت أعمال بيضون إلى لغات أجنبية عديدة منها الفرنسية والألمانية والإيطالية والإنكليزية والإسبانية. وصدرت كتبه المترجمة في كبريات دور النشر العالمية. وقد صدر للكاتب في الشعر: “الوقت بجرعات كثيرة” (1983)، و”نقد الألم” (1987)، و”خلاء هذا القدح” (1990)، و”حجرات” (1990)، و”أشقاء ندمنا” (1993)، و”لفظ في البرد” (2000)، و”شجرة تشبه حطابا” (2005)، و”ب.ب.ب.”( 2007)، و”الموت يأخذ مقاساتنا” الذي توج بجائزة المتوسط (2008) “صلاة لبداية الصقيع” (2014)، و”بطاقة لشخصين”(2010)، وفي الرواية: “مرايا فرانكشتاين (2010)، و”ألبوم الخسارة” (2011)، و”الشافيات” (2013)، و”خريف البراءة” (2015) التي توجت بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب، و”ميتافيزيق الثعلب”( 2017) و، (والحياة تحت الصفر 2021). كما شارك في العديد من المؤتمرات الثقافية في العواصم العربية والعالمية، وقدمت شهادات عن تجربته في الكتابة، وأنجزت دراسات حولها.
نزوى التقت عباس بيضون في بيروت وكان لها معه الحوار الآتي:
-جاء ديوانك الأخير “الحياة تحت الصفر” مفعمًا بقوة الأثر داخل الشعر، وخصوصًا علاقته بالحياة؛ هذه الحياة تقلّصت بفعل تحويل الشعر إلى منظومات من الرمزية التي قطعت علاقتها مع الدلالة. لماذا الإصرار على الحياة حتى وهي في درجة الصفر؟ وهل لبيروت الحلم أثر في هذه الحياة؟
لا أعرف تمامًا ما الذي جعلني أكتب هذه القصائد التي خرجت على نحوٍ ما من داخل الواقع، وجدت نفسي أكتبها ووجدت نفسي بكلمة واحدة أكتب الشعر مع أنه كان قد مضى عليّ عامان توقّفت فيهما عن كتابة الشعر. يمكنني أن أتكلم هنا عن حدث لا أفهمه تمامًا، كنت في منتهى الضيق والضجر والانقطاع والانعزال يومها، وهذه حالات لا تناسب الشعر أو أي إنتاج، إذ إننا في حال كهذه نتخبط في أنفسنا، ونشعر أنّنا على درجة من الجفاف والامتلاء والاستنفاد بحيث لا نستطيع أن نتخيّل ولا أن نذهب إلى الأمام أو نلمح وحيًا، لكن بالرغم من ذلك وفي هذا الظرف الضيق، والذي كنت فيه في حالة من الانفصال عن نفسي وإهمالها، أجد أنني أكتب شعرًا. لا أعرف إذا كنا نستطيع أن نستخرج من ذلك فكرة ما عن علاقة الشعر أو عن علاقة الفن بشكل عام بالحياة. بل إننا لا نستطيع في لحظة واحدة أن نميّز هذه العلاقة الشائكة تمامًا بين الفن والحياة. لا بدّ من أنّ الفنّ جزء من الحياة وهو موجود فيها وهو بعض شيء من نتائجها، وشيء من مكوّناتها مع ذلك يظلّ بين الفن والحياة هذه الصلة الشائكة، نظل نفكر بالطريقة التي تتجلى فيها فنًّا وتستطيع الحياة فيها أن تغدو فنًّا. إنّ الحياة لا تصبح فنًّا بمجرّد أن تعرض نفسها وعناصرها وموادها، إذ لا بدّ من أنّ الفنّ هو نوع آخر من الحياة وهو حياة أخرى ولا بدّ أنّ الحياة في الفنّ تصبح شيئًا آخر لكن مع ذلك تبقى حياة.
لا نستطيع أن نقرأ شعرًا إلا على أنه مستوى ما من الحياة. لا أريد الدخول في التنظير لكنني مع ذلك أظل أفكر بأن الحياة التي تظهر وتتجلّى في الفن هي نوع مما هو فوق الحياة، أو ما نسميه نوع من حياة عليا أو فليكن نوعًا ما من حياة دنيا. لكن الفن الذي هو أحيانًا تحت الحياة وأحيانًا فوقها هو أيضًا مستوى من معاناتها وتفكيرها وقوتها؛ لأنّ الحياة لا تكوّن من الفن إلا حياة منقولة ومعادة . وهي التي نعيد النظر فيها ونعيد إنتاجها من الفن، إعادة إنتاج لحياة مكثّفة تتخيل نفسها موازنة للحقيقة.
فرضت علينا حيوات كوفيد 19 نمطا آخر من الحياة ولربّما كانت تجربة الكتّاب أرحم في ظل نزوعهم الأسطوري نحو العزلة. ماذا تعني العزلة كفلسفة للعيش بالنسبة إلى عباس بيضون؟
لا أعرف كيف يكون المرء في عزلة لأنني من هؤلاء الذين يحتاجون إلى لقاء أحد مرة في اليوم أقلّه سواء أكان شاعرًا أم بعيدًا عن الشعر والثقافة. طبعًا هذا ما عدا أولئك الذين ألتقيهم في بيتي كابنتي بشكل خاص. أظن أننا حين نفكر في العزلة لا نفكر في إجراءات وتدابير لها، أو في نوع من الانفراد الموضوعي أو العملي أو بنوع من الانحباس في غرفة. حين نفكر في العزلة نفكر في نوع من الحياة العميقة التي هي وراء الحياة أو في عنقها، إنّه نوع من الحياة العميقة التي ترافقنا حتى حين نكون مع آخرين، نحن مع آخرين في هذا النوع من العزلة، لكن أحيانًا يزيد الآخرون من عزلتنا وأحيانًا أخرى يشاركوننا هذه الحياة العميقة. العزلة اذًا هي وجود ما نسميه طي الحياة أو الحياة في الخلف، بل ما نسميه إذا جاز التعبير الحياة الأخرى التي يعيشها المرء حتى بين آخرين. يمكنني إذًا أن أفكر في هذا المكان بالعزلة فعلًا؛ لكنّ الفن هو أيضًا نوع من العزلة وهو عودة إلى هذه الحياة العميقة ومحاولة استخراجها أو استيحائها أو استجلائها. الفنّ هو إعادة إنتاج هذه الحياة العميقة؛ بل هو بحدّ ذاته حياة عميقة. في هذا المعنى قد يكون الفن عزلة إذا اعتبرنا العزلة شيئًا مختلفًا عن الانفراد والبقاء وحيدًا أو إذا اعتبرنا أن العزلة هي أيضًا نوع آخر من الحياة ونوع آخر من ممارسة الذات وممارسة الوجود.
في ديوان “الحياة تحت الصفر” يقاوم الشاعر سطوة الأشباح والمرايا المخاتلة والساعات المعلّقة وتجربة الفراغ داخل المدينة المختبئة. كيف يمكن أن يدوس الشاعر على الصمت وسط هذا المحو الذي يتهدّدنا؟
لا أعرف إذا كانت هذه مهمة الشاعر، أنت تتكلمين عن ظروف وحياة عدّت بكاملها “أخرى” وعزلة أخرى ومعاناة أخرى أو عن حياة عدّت نفسها على نحو آخر من الفن. نحن في حياتنا وفي فترة الكورونا خصوصًا جميعًا أمام أنفسنا وأمام وجودنا وأمام مصائرنا ومستقبلنا وقد كنّا نعيش حياة لا تستطيع إلا أن تعتبرها حياة أخرى، أظنّ أننا جميعًا كنّا مسوقين إلى أن نغدو إمّا سطحيين حتى الموت وإمّا شعراء، إذ إنّنا في لحظة تصبح فيها الحياة سؤالًا يومًّيا نستيقظ في مواجهة كينونتنا بكاملها لنجد أنفسنا خارج أنفسنا ومطروحين خارجًا. في هذا الشكل كنّا نستيقظ في الكورونا والحجر لنباشر بناء صلة مع أنفسنا، وبناء يوم جديد ومعاناة جديدة، جميعنا كنّا غرباء وجميعنا آخرون؛ بل نحن جميعًا صرنا مختلفين عمّا كناه.
نحن فلاسفة أحيانًا أحياء وأموات، وأحيانا أخرى نحن جميعًا إذا ما جاز التعبير أمام سؤال وجودنا الذي يُطرح يوميًّا، نحن يوميًّا نتفلسف على أنفسنا وبذلك قد نكون أيضًا شعراء أو فنانين أو سخفاء أو لا شيء. المهمّ أننا لا نعود ما كناه.
أصدر الشاعر عباس بيضون ما يقارب عشرين مجموعة شعرية؛ فارضًا اسمه بوصفه واحدًا من أهمّ شعراء اللغة العربية. هل ما زلت مطمئناً إلى حال الشعر وسط مطاحن الترجمة التي تسربّت خلسة إلى لغة الشاعر العربي؟
هذا التسرّب للترجمة هو تسرّب للشعر العالمي وهو أحد عناصر ومكوّنات القصيدة الحديثة التي تشبه الترجمة على نحو ما. يعني أنّ اللغة التي وصلت إليها الكتابة بشكل عام، لا تنفصل كثيرًا عن الترجمة. هذه اللغة التي هي أيضًا لغتنا اليومية هي لغة الصحيفة والتلفزيون والسينما وهي التي نعتبرها عربية، اليوم. لا أستطيع أن أعثر على ما تسمّينه ترجمة تشكّل مشكلة فعليًّا؛ أستطيع أن أقول إن ما تسمينه ترجمة هو مكوّن أساسي للغة اليوم، فنحن جميعًا نتكلّم عربية أخرى وهذه العربية الأخرى، لا بدّ من أن الترجمة هي من مكوّناتها. أنا لا أعتبر أنّ ما يحدث هو اعتداء على اللّغة أو كارثة حلّت عليها. بالنسبة إليّ اللغة ليست جوهرًا نقيًّا صافيًا خالصًا ليست عقيدة ولا دينًا وليست اذا جاز التعبير أصيلة باستمرار. اللغة بصورة دائمًا مهجّنة، هكذا كانت باستمرار في الأدب العربي، لم تكن الآن فحسب بل بدأت هكذا منذ كان القرآن ومنذ كان الأدب القديم العباسي مثلًا لا أستطيع في هذه الحال أن أنظر إلى اللغة بوصفها غير حيّة فقط ولكنها متلوّنة مستقبلة متقلّبة متغيّرة. الترجمة لم تكن في يوم مشكلة ولا تستطيع إطلاقًا النظر إليها على هذا النحو الآن، الترجمة موجودة في لغتنا في أساسها وما يسمّى ترجمة لم يعد ترجمة بهذا المعنى بل صار لغة ولهجة يومية.
كيف تعيش الشعر الآن مع تجربة الرواية؟ وهل تخلّصت فعلًا من أفق الشعر في منجزك السرديّ؟
لا أستغرب أن أكتب رواية أو أن يكتب الشاعر رواية لأنها فيما أظن هي طموح كلّ كاتب. فكل كاتب يفكّر بين حين وآخر في أن يكتب رواية قد يكتبها وقد لا يكتبها لكنّه باستمرار لا ينفصل عن هذه الفكرة، وباستمرار يظنّ أن هناك ما يمكن أن يصبح رواية الشعر أيضًا، قد يقطن الرواية أو قد يكون الشعر في جزء منه شبيهًا بالسرد، وقد يكون أحيانًا أيضًا لونًا من ألوان الرواية؛ لأنّنا في الرواية لا نجد شعرًا فحسب؛ لكننا نجد فيها نفسها محطات حقيقيّة هي قصائد ليست بالشكل الذي نعرفه للقصائد؛ ولكنّها قصائد بمعنى أنها تملك كثافة وتركيزًا ونهائيّة الشعر. لا أعرف شخصيًّا كيف وصلت إلى الرواية لكنني لا أعرف أيضًا كيف وصلت إلى الشعر بدأت ناثرًا ووصلت إلى الشعر، أظن أنني أيضًا وصلت إلى الرواية على النحو نفسه، بمعنى أنّ حاجتي إلى كتابة الرواية هي نوع من حاجتي إلى أن أتكلم. الشعر ليس كلامًا بالمعنى الذي نقصده بالكلام. الشعر هو نوع من الصمت والحصول على شكل موازٍ ومقابل للصمت وهو مضمر تحت الكلام، أو ما هو سرّ الكلام. والشعر في هذا المعنى هو نوع المداولة وملاعبة الصمت، أمّا الرواية فهي حاجة إلى الكلام.
الشعر هو الذي يجدنا ويختارنا وهو في هذا المعنى يتخطّانا دائمًا. نحن لسنا في الشعر سوى رسل أو وسطاء. كان هايدغر يقول إنّ اللغة تتكلم فينا والشعر فعلًا هو أن تتكلّم اللغة فينا. الرواية ليست تمامًا كذلك ففيها نحن نتكلم في غالب الأمر. في الرواية نملك هذه القدرة على أن نتكلم الكلام الذي يغدو في أعمق اللحظات شيئا يشبه الصمت لكن الرواية فيها كلام ودرجة من الإفصاح ومن تبادل الأشياء ومكالمتها واللعب بها.
كيف ينظر عباس بيضون إلى حضور الرواية العربية اليوم في الأدب العربي والأدب الإنساني؟
أشعر أنّ هذا السؤال فوق طاقتي، فأنا لا أستطيع أن أدّعي أنّني عالم بالرواية العربية أو الرواية العالمية. قرأت روايات كثيرة، وأظنّ أني في الفترة الأخيرة قرأت مجموعة من النتاج الجديد، وكتبت عنه. أظنّ أنّ الرواية العربية تتغيّر فنحن لا نجد رواية عربية وحيدة، ما أقرأه الآن هو عبارة عن روايات تؤسس لتجارب، كمؤسس لروايات جديدة أظنّ أنّ الجيل الجديد يحاول باستمرار أن يباشر جديدًا في الرواية العربية الآن إذا جاز التعبير ثمّة محاولة لأسلبة مختلفة وعناصر أخرى تدخل فيها، بتنا نجد اليوم شيئًا كثيرًا ممّا يشبه الشعر وأحيانًا أخرى ما يشبه الفلسفة ومما يشبه التعليق والمذكرات واليوميات، إننا نجد في الرواية الواحدة روايات أخرى دخلتها، هذه الرواية الشابة طمحت شيئًا فشيئا وباتت تقف على قدميها لتقدّم أعمالًا أخرى.
توّجت روايتك “خريف البراءة” بجائزة الشيخ زايد للكتاب فرع الآداب عام 2017 وفيها سعي إلى حكي فاجعة الفقد التراجيدي الذي تحمله ذاكرة الطفل “غسان” التي حولته إلى كائن مجرم إرهابي لا يعترف سوى بقوة القتل والفتك ضدّ كل أشكال التهميش التي تعرض لها. هل غسان هو شكل من أشكال فهم هذه الأصوليات المتطرفة التي تهدد خريف براءتنا خلسة منا؟ وهل يمكن تأويل تعاطف عباس بيضون مع شخصية “سارة” حين اختار لها مصيرًا مأساويًّا من جهة “الخنق” وإدانة المجتمع لها في سياق تفسير قتلها بالخيانة” أنه ينتصر للمرأة في درجة ضعفها داخل بنية ذكورية لا تنتهي؟
إنّ رواية (خريف البراءة) في ناحية منها لها علاقة بتاريخنا الراهن، لا نستطيع مثلًا أن نقرأها من دون أن نفكّر بالأصوليات الإسلامية بصورة خاصة. الأصوليات المحاربة كداعش على وجه ما، ثم إنّ هذه الرواية لا تبنى فقط على هذا الواقع وإنما تستعيد بعضه. هناك ما يشبه أخبارًا وصلتنا من سوريا وغيرها، وشخصيّة الأب تشبه على نحو أو آخر هو ممّا ورد إلينا عن شخصيات أصولية أخرى.
خريف البراءة في جانب منها رواية تعمل على التاريخ وتشتغل إزاءه . بطبيعة الحال، كلامك عن الذكورية هو صحيح، هناك هذا التناول للحرب والمحاربين وهنا تبدو ذكورية المحارب البطل غسان الموسوم بالبراءة على نحو ما، هو أيضًا خارج هذه الذكورية المخيفة إنه يدفع ثمن براءته موته.
تحضر مدينة “ًصور” الأثرية والأسطورية بقوة في أدب عباس بيضون شعرًا ونثرًا. هل ما تزال هذه المدينة تمارس سحرها كما في ذاكرة الطفل عباس بيضون أو أنّها أصبحت تشبه كل المدن البيروتية؟ وما علاقة عباس بيضون الشاعر بالمدينة؟وكيف يقرأ تحوّلاتها اليوم؟
لطالما أحببت مدينة صور وما زلت أحبها، بتحولاتها وتغيراتها، هي تشبه التحوّلات والتغيّرات التي تقع على مجتمعنا كلّه، لا نستطيع أن نعتبر مدينة صور حالة فريدة، إنها اليوم فيما صارت إليه تشبه بيروت وصيدا ودمشق وربما القاهرة، هذه المدينة التي عشت فيها والتي لا يزال يفتنني فيها أنها مدينة تأسست من الخارج، من الوافدين إليها من كل الأماكن: من الريف العاملي الجنوبي من جونية المسيحية من جيش ابراهيم باشا، وهذه العناصر الثلاثة هي التي كوّنت صور الجديدة.
هذه المدينة كان تاريخها كلّه خرابًا ودمارًا. المرة الأخيرة التي دمّرت فيها صور كانت أيام الصليبيين. تتميّز هذه المدينة بعناصرها المتعددة بأهاليها الذين أتوا جميعهم من الخارج، يملك هؤلاء الآن صفة الغرباء ويتعاملون هكذا مع بعضهم بعضًا. في صور نوع من التسامح الذي يمكن أن يغطّي على علاقة الغرباء، هؤلاء لا يملكون في صور مجدًا قديمًا ولا تاريخًا ماضيًا، هؤلاء يفتنونني بصفة أنهم هكذا، فهم على درجة من الليونة والتقبّل. وهذه المدينة لا تملك في راهنها سكانًا ما يمكن اعتباره زعامة خاصّة؛ فزعامتها تأتي من الخارج، وهي هكذا مدينة تتصل دائمًا بالخارج وتوجد دائمًا في الخارج، تتلقّى تأثيره وفيضه. صور هي مدينتي بالرغم من أني جئت إليها في التاسعة، وحين جئت لم أتحوّل بالرغم من كل الوقت الذي قضيته فيها. لم أكن من عائلة صورية، عائلتي جاءت من مكان خارج صور تمامًا ككل العائلات، وأنا عشت فيها من دون أن أملك فيها كيانًا مع ذلك كنت ولا أزال أجدها أليفة بالنسبة إليّ ألفة الأمّ، أنا في صور أجد نفسي ومكاني.
يسعى عباس بيضون في ديوان “الموت يأخذ مقاساتنا” إلى صوغ العالم من منظور أسطوري وخصوصًا تلك الهوامش الصغيرة بهدف تفكيك “سطح النفس” أو كما يقول: “إنه الكلام الذي يموت منذ مئات السنين ويتحجّر مع الوقت، ويزداد صمته، ثقلًا. نتساءل معك من الديوان نفسه: كيف جعلت قلبكَ المقطوع حذاء للسفر ومشيت أميالًا على نفسك وحدكَ؟ وهل هناك أسفار لم يكتبها شاعرنا عباس بيضون؟
بالتأكيد هناك أشياء لم أكتبها ولا أعرف إذا سأكتبها؛ لكنها ليست واضحة تمامًا بالنسبة إلي، أكتب الآن ما يأتيني، ما أجده متوفرًا وممكنًا لي. كتبت شعرًا في الفترة الأخيرة بعد أن كنت موقنًا أني انتهيت مع الشعر وأنهيت علاقتي به ومكاني فيه. أكتب ولا أعرف ماذا سأكتب، وما الذي لم أكتبه، لا أملك الشعور بأنني كتبت كل شيء، لا أملك شعورًا بأنني كتبت شيئًا في الأساس، لا أعرف ماذا فعلت، إلا أني فعلت ما أعرف أني أريد فعله أو ما يلحّ عليّ أن أفعله.