حازت رواية الكاتب السوداني عبد العزيز بركة ساكن «الجنقو: مسامير الأرض» جائزة الروائي الراحل الطيب صالح.. وإذا كان الفوز يمثل استحقاقا يدل عن كفاءة واقتدار، فلقد تمت موازته بالمنع من التداول، حيث أعيد صدور الرواية في طبعة ثانية عن دار «رؤية» (مصر/2011)، إضافة لبقية الآثار الروائية التي قام بإبداعها الروائي بركة: الطواحين، رماد الماء، زوج امرأة الرصاص، العاشق البدوي والجنقو: مسامير الأرض..
على أن ما يحيل عنه عنوان الرواية «الجنقو» الطبقة العمالية في السودان التي تتشابه في نوعية اهتماماتها وتطلعاتها، إلى الألبسة التي تعمل على ارتدائها.. ومن تم تتغير أسماؤها بتغير المهن والحرف التي تأتي على القيام بها: تنظيف الأرض، زراعتها ومحاربة آفاتها..فالرواية سيرة حياة هؤلاء العمال، ومن خلالهم السارد بحكم كونه جنقو جواري.).. وهي رصد دقيق للحياة الاجتماعية المطبوعة بالعجائبية والأساطيرية إذا حق، تلكم المظاهر المجابهة للتحولات الحديثة التي يعرفها الواقع مجسدة في طرق التعامل الجديدة التجارية والاقتصادية، كمثال ظهور النظام البنكي في حياة هؤلاء وما يستلزمه من ترتيبات وضوابط ترى فيها فئة من هؤلاء إجحافا في حق مطالبها: «..ويعتبر البنك والحكومة نفسها يعملان على زيادة غنى التجار، وأنهم ضد الجنقو.. »(ص/249).. ومن تم اقترحت «ثورة الخراء»، وتم تنفيذها ضدا على رفض النظام البنكي التعامل مع الجنقو، من منطلق أن غاندي ولكي يحارب الأنجليز نحا ذات المسلك..وبرغم ذلك شقت التحولات مسارها متجسدة في: مشروع ناس البنك، الحافلات المريحة، الاتصال والتنقلات والموبايل الذي دأب مدير البنك مضاجعة عشيقته من خلاله..
ولقد تم توزيع بنية الرواية على عناوين عبارة عن فصول متفاوتة من حيث الطول، إلا أنها غير مرقمة.. والملاحظ أن هذه العناوين تتراوح بين أسماء الأمكنة، الشخصيات ثم الأحداث..وهي محكمة من حيث البناء إحكاما منطقيا دقيقا، كمثال: مصائر الموت التي ينتهي إليها أزواج كلتومة بنت بخيته النوباوية تباعا وآخرهم: عبدارمان.. فالشخصيات المتفاعلة على امتداد مساحة الرواية تتحدد في شخصية السارد المتحكم في إدارة لعبة الحكي والسرد: (أنا الجنقوجوراي)، وهو الزوج الثاني لـ«ألم قشي»، ثم «ود أمونة» الذي يصعب تحديد ما إن كان رجلا أو امرأة، والأمر ذاته ينسحب على شخصية «الصافية»، الأنثى التي تمارس ذكوريتها على الرجال، و «العازة» التي وعدت ودأمونة وهو في السجن إلى جانب أمه صغيرا بتحمل أعباء تمدرسه، إلى شخصية «أدي » و«أداليا دانيال »..
بيد أن ما يمكن تسجيله عن هذه الشخصيات، قوة حضور الأنثى على امتداد صفحات الرواية، حيث ينظر إليها كعاملة على السواء:
«..هنا النساء إما أن يعملن كجنقوجورايات، وإما كصانعات خمور بلدية وإنما كعاهرات أو أن يمارسن أكثر من مهنة في وقت واحد.. »(ص/253)
على أن السارد وإن كان متحكما في بنية الحكي كما سلف، فإن «ود أمونة » يشكل النواة المستقبلة والتي تصدر عنها الأحداث، مادام يمتلك قدرات تؤهله للوصل والفصل بين بقية الشخصيات:
«..الله يسخته.. ما بتعرفو، مرا ولا راجل..»(ص/157)
«..مهمته الأساسية هي أن يجمع امرأة برجل وأن يستمتعا.. »(ص/170)
ويبدو من خلال تحركاته وكأنه الوجه الثاني لـ«الصافية».. فإذا كانت الأخيرة تجمع بين كونها امرأة ورجل، فـ«ود أمونة» بمثابة رجل وامرأة، وهي صيغة التمرئي التي تطبع أكثر من شخصية روائية في «الجنقو »..
على أن المعنى الذي تعمل هذه الشخصيات على إنتاجه وتوليده «حرب» الأقوال والإشاعات والأخبار التي تتناقل وتتداول بأقصى سرعة ممكنة، ويمتزج فيها الواقعي بالخرافي والسحري والأسطوري على السواء:
«البلد دي غير القوالات والإشاعات ما فيها شي.. بلد نكد. »(ص/156)
«..أليس صحيحا أن الجن وحده هو المسؤول عن نقل الأخبار في هذه البلاد؟.. »(ص/179)
«الناس هنا لايتنبأون، ولكنهم يعرفون، يقرأون المستقبل دون لبس أو تشويش، بل يرونه..»(ص/188)..
والملاحظ أن كل شخصية تشكل ضمن نظام المعنى، وحدة حكائية صغرى بمثابة رواية في حد ذاتها، إذا ما تمت لملمة عناصرها الموزعة على امتداد مساحة الرواية.. ولعل ما يزكي هذا التصور الاقتران شبه العائلي بين طرفي رجل وامرأة.
بيد أن الرهان في هذه الرواية يتم على الحكاية، مادام السارد خبر تفاصيل الحياة من الداخل..وكي تعطى لهذا الرهان قوته ودلالته، تم اللجوء إلى مستويين لغويين: المستوى الحكائي، حيث اللغة الوسطى تجمع بين الفصيح والدارج المحلي الذي يتحقق شرحه بمقابل بحكم خصوصيته..وهذا المستوى يساير واقع مجتمع زراعي متخلف تتحكم فيه الخرافة والأسطورة.. ويتمثل المستوى الثاني في اللغة السردية الروائية المنتقاة، والدالة عن تحول المجتمع إلى تقني صناعي، برغم عراقيل وصعوبات الانتقال..
إن رواية «الجنقو: مسامير الأرض»، وبقدر ما تعري الاجتماعي وتفضحه، وبالتالي تكشف عن تناقضاته وتباين مستويات الوعي والإدراك، فإنها على السواء تستحضر السياسي متجسدا في الحروب الأهلية وغيرها: (السودان/ إثيوبيا/ إريتيريا) وهو ما يشكل عائق مضاعفا يجابه فكرة التحول والتقدم بغاية إرساء بنية اجتماعية متماسكة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا..
يبقى القول بأن تجربة الروائي السوداني «عبدالعزيز بركة ساكن»، تمثل وبقوة إضافة للميراث الروائي الذي أرسى قواعده كل من: الطيب صالح، أمير تاج السر وطارق الطيب، وغيرهم ممن لم يتح الظرف التعرف على تجاربهم الرائدة.. والواقع أن اكتمال التصور النقدي لا يمكن أن يتأتى إلا بالإحاطة الكلية بالمتن الروائي المبدع من طرف عبد العزيز بركة ساكن../..
نص الحوار:
v كيف انبثقت فكرة انجاز رواية عن الجنقو؟
في العام 2004 ذهبت في رحلة قصيرة إلى قرية صغيرة على الحدود الأثيوبية السودانية تسمى ود الحليو، وهنالك لأول مرة انتبه إلى الجنقو، ولو إنني اعرفهم منذ صباي الباكر وكثير من أفراد عائلتي منهم. وعندما غادرت القرية إلى أول مدينة إثيوبية على الحدود وهي الحمَرةَ حدثتني امرأة عن شجرة يسميها الناس اسما غريبا، وهي «شجرة الموت»، وتدلل بـ«فارقنا أعز الناس»، يذهب إليها «الجنقوجوراي» طواعية عندما يفقد الأمل في الحياة، أو تأخذه إليها صاحبة المنزل التي يقيم عندها عندما يمرض ويصبح عاطلا عن العمل ودفع تكاليف إعاشته. يقوم أصحابه بإطعامه ومده بالمكيفات إلى ان يدركه الموت. وهو عادة لا يقيم كثيرا في ظل هذه الشجرة ولا يعود حيا منها أبدا.
فأخذت أفكر بجدية في حياة الجنقو، في مصائرهم، في دورهم الاجتماعي والاقتصادي، في الظلم الذي يحيق بهم من قبل أرباب العمل، في المباهج الصغيرة التي تبقيهم على صلة بالحياة، في جماليات تلك المباهج، في علاقتهم بالأرض، بالمرأة، بالخرافة، عن التحولات الاجتماعية والثقافية التي تحدث في المكان وتؤثر على حياتهم وفرص العمل . وبدأت أتردد على المكان، ثم أخذت أكتب رواية الجنقو مسامير الأرض، والاسم مأخوذ من مقولة مشهورة لهم، فعندما تدور الخمر برؤؤسهم يهتفون: «نحن الجنقو مسامير الأرض».
v من هذا المنطق هل الرواية تراهن على فكرة التحول من مجتمع زراعي متخلف الى تقني يساير التحولات العلمية والمعلوماتية.
بالطبع، ولكن كان هذا المجتمع المتخلف يعرف كيف يدير شؤونه ويمتلك الآلية البسيطة التي تجعله ينمو ولو ببطء ولكن تدخل البنك واستجلاب الآلات الزراعية الحديثة وشركة الاتصالات والوافدون المثقفون من المدن الكبيرة، بدأ ينقل المجتمع نقلة سريعة غير موفقة وعجلة، أضرت بمصالح الجنقو «هم العمال الموسميون» والفئات المجتمعية التي تعيش عليهم ومن ضمنها كبار المزارعين، وبدأت في إنتاج نمط سلوك معقد وغير معتاد، فالرواية لا ترفض التحولات التقنية والمعلوماتية ولكنها تثير أسئلة حول علاقتها بمجتمع الجنقو، هل تمثل لديهم أدوات استغلال وقهر أم أدوات تقدم وازدهار؟
v لكن لا يمكن القول بأننا أمام رواية سيرة ذاتية، وفق الوارد في ختام الرواية.
هي ليست رواية سيرة ذاتية، ولكني اتخذت وسيلة سردية تجعل الرواية كما لو أنها رواية سيرة ذاتية، ومن ذلك عدم ذكر اسم الراوي واسم صديقه حيث تسهل إحالته إلى الكاتب شخصيا.اعتماد المدينة المنطقة التي عشت وأعيش بها الآن مسرحا للرواية بما في ذلك عمل والدي بالسجون واستخدام أسماء أصحابي وأسماء لمدن وقرى وغابات ومزارع حقيقية على ذات مواقعها الجغرافية. وما أشرت إليه أنت أيضا في نهاية الرواية. وهذا الأسلوب يعطي الرواية روحا حية وصدقا فنيا عالياً أي انه يثري العمل، ولو انه كثيرا ما يورط الكاتب في تهمة انه ذات الفاعل في العمل الفني. هنا استعير آليات كتابة السيرة الذاتية لكتابة العمل الروائي التخيلي، وفي ذات الإطار يفسر استخدام الحوار الذي هو أصلا أداة مسرح والتصوير من السينما والفن التشكيلي وهكذا.
v موضوعيا لقد جاء بناء الرواية منطقيا ومحكما، الا ان الحكاية تشغلك كثيرا، على حساب تقنية الكتابة الروائية.
الحكاية هي الركيزة الأساسية لهذه الرواية، وتنهض عليها تقنيات السرد الأخرى، وتقنية الحكاية في الرواية مستقاة من الطريقة التي يحكي بها الجنقو عادة في أمسياتهم ومجالسهم العامرة أثناء ساعات العمل أو بعد الدوام اليومي الشاق أو في مجالس الندامة، وقد لاحظت إنهم يحبون ان يحكوا ولا تجد رجلا أو امرأة لا تجيد هذا الفن، والشيء الآخر كل فرد منهم يرى في نفسه البطل الأوحد للمجلس وهو بالتالي راوٍ أساسي، لذا فانك في هذه الرواية تجد رواة كثراً، كل يحكي بطريقته، ود امونة، الصافية، الصديق الآخر، المسلاتي، أداليا دانيال وغيرهم إلي جانب الراوي. ففكرة كتابة رواية عن مجتمع كهذا يحتفي بالحكاية لابد ان يكون له أثرة الواضح وان يستفاد منه في كتابة تشبه المجتمع وخصوصيته. وعلى الرغم من ذلك أظنني قد عملت في الشكل والبنية الفنية بمستوى أو بآخر.
v يمكن للمتلقي المتمكن الوقوف على مستويين لغويين في الجنقو، مستوى حكائي يجسد صورة مجتمع زراعي متخلف، ومستوى سردي يعكس أفق التحول نحو مجتمع تقني وعلمي، ترى أتوافق هذا التصور؟
اللغة كانت همي الشاغل في هذه الرواية، لأنه كان علي ان استخدم في الحوار اللغة التي تخص كل شخص على حدة، وتحمل بين طياتها خلفيته الاجتماعية مستواه التعليمي وأيضا المنطقة التي جاء منها، حيث ان اللغة لا تعمل أبدا كوسيط محايد فهي كما قال عنها كارل ماركس «حَمَّالة للقيم» . فالجنقو جاءوا من كل أنحاء السودان وهذا يعني أنهم يتحدثون أكثر من مائة لغة أم، وعشرات اللهجات الدارجة القائمة على اللغة العربية، وهنالك المصطلح الأجنبي الوافد مع دخول التكنولوجيا الحديثة، الآلة والمثقفين المنبتين الذين تخرجوا من الجامعات وجربوا الحياة في مجتمعات كثيرة متفرقة قبل ان يأتوا إلى موقع السرد. أنا لا أستطيع ان أعكس كل ذلك في رواية واحدة ولا مائة رواية، ولكني كنت أبحث عن الحد الأدنى الذي يجعل كل شخصية لها ما يميزها والنقاط المشتركة بينها أيضا. على سبيل المثال، عندما تقول شخصيةٌ لشخصيةٍ أخرى: أنت ماك راجل؟ أو: أنت ما راجل. أو: أنت مو راجل. أو: أنت مش راجل. أو: الست أنت برجل؟ كل جملة من هذه الجمل تشير إلى الخلفية الأثينية والجغرافية للقائل، وهذا يجب ألا يهمل في بنية رواية سودانية أو في رواية دولة متعددة اللغات والأثينيات، وهو من جانب آخر معالجة سردية لمشكلة الهوية التي أورثتنا الحروبات الدائمة. هذا من جانب ومن الجانب الآخر، عليَّ أيضا ان أميز بين لغتين، لغة السرد وهي المطية الجمالية للفكرة، ولغة قول الفكرة طالما كان القول يتم عن طريق جمهرة الشخصيات بالرواية، من خلال الحوارات التي تجريها والأفعال التي تقوم بها، أو بصورة عامة بنية الشخصية في الرواية زائدا الشكل الفني.
v هل ترى في تجربتك من منطق كونها تعكس امتداداً للأثر الذي اختطه رائد الرواية العربية الطيب صالح؟
هذا أثر كبير وورثة تضعنا أمام تحد إنساني وجمالي. وتجربتي المتواضعة تعمل على اختلاق رواية يمكن ان يطلق عليها رواية سودانية، مستفيدا من طرائق النسق السردي المحلي، التنوع اللغوي والأثيني والمكاني في السودان.
v ختاما كيف تفسر ان روايتك أحرزت جائزة الطيب صالح وهو اعتراف وتكريم له قوته ودلالته، ليتم منعها من التداول لاحقا؟
هذان شيئان في السودان، مختلفان. ان تنال جائزة وان تمنع من النشر. وذلك لعدم وجود مؤسسات تعني بالشأن الأدبي ويكون لها القول الفصل فيه. فتترك المسألة لأهواء الأفراد وقيمهم الخاصة وميولاتهم الشخصية وهي ليست بخالية عن الأغراض مثل: الغيرة الأدبية.
تقديم وحوار: صدوق نورالدين
ناقد من المغرب