أظن أن من يقرأ كتاب الشاعر عبده وازن «قلب مفتوح» الصادر عن (الدار العربية للعلوم – بيروت ومنشورات الاختلاف –الجزائر) سوف يجد نفسه حائرا أمام تصنيفه, خاصة أنه يتجاوز المفهوم التقليدي لتصورنا عن كتب السير الذاتية الموجودة بالأدب العربي.
وأحسب أن أي عمل إبداعي يقاس نجاحه بمدى قدرته على الخروج على التصورات الراسخة عن الجنس الأدبي الذي ينتسب إليه. وكلما انحرف بعيدا عن النموذج أو المثال المتعارف كلما كان أكثر جرأة وتمردا وخرقا لأفق توقعات القراء.
ولعل هذا ما نراه -بشكل لافت- في هذا الكتاب,حيث يوهم عبده وازن القارئ بأنه يكتب سيرته الذاتية فحسب, فإذا به يأخده إلى عوالم أخرى أكثر انفتاحا, أشبه بعالم الرواية في ثرائها وتعددها, فتارة يستدرج القارئ ليشركه معه في تأملاته وأفكاره الفلسفية, حيث يفاجأ قارئ الكتاب مثلا بصفحات كاملة أشبه بالمقالة الأدبية وتارة أخرى يجد نفسه أمام مقاطع شعرية خالصة تنهض على لغة بها درجة عالية من الرهافة .
يكتب عبده وازن سيرته الذاتية بجرأة طفل يتعرى أمام أمه دون خجل ودون رهبة, وبحيرة مبدع تتقاذفه الأسئلة الوجودية, ويحاول فك التباسات وعيه بالعالم من خلال فعل الكتابة.
وأزعم أن جماليات تلك الكتابة ليست في كونها «اعترافية» أو على الأقل هذا ما توهم به القارئ, خاصة أن عنوان الكتاب نفسه «قلب مفتوح» يحيل القارئ على فكرة الاعتراف وبأن الكاتب سوف يمنحه كل أسراره الخفية. ولكن لأن الكاتب أي كاتب مبدع – في تصوري الشخصي- يكذب حتى وهو يقول الحقيقة, بل إن جمالياتها تكمن في بساطتها وقدرتها على جعل القارئ متواطئا في السر مع كاتبها.
يكتب بعبده وازن وكأنه يؤرخ لسيرة روحه متأملا وجعها وعزلتها وانكساراتها وهزائمها المريرة, كاشفا عن اللاطمأنينة التىتسكنها, والتي خلفها الفقد المبكر للأب, وعن علاقته بأمه الورعة التي لم يستطع أن يراها سوى أم, ولم ينجذب إليها كأمرأة قط,حتىإنه كان يبحث في كل فتاة يقابلها عما لا يذكره بها.يتأمل طفولته البعيدة وكأنها طفولة شخص آخر. يؤرخ عبده وازن من خلال هذ العمل أيضا لأفكاره عن الحياة والموت , لا لشيء إلا ليكتشف نفسه في مرآة الذات. فنجده يتناول موضوعات وأفكاراً كثيرة مثل الانتحار والحلم , والجنس والكآبة, وعلاقته بالدين وبالليل وبالألوان وخاصة اللون الأبيض الذي تنتشر دلالته في مناطق متعددة من الكتاب.
ولعل لحظة الكتابة في «قلب مفتوح» تبدأ بعد إفاقة الراوي من عملية جراحية «قلب مفتوح» إثر تعرضة لأزمة قلبية كادت أن تفضي به إلى الموت. ومن هنا صارت الكتابة أشبه بمحاولة لاستعادة الزمن وتثبيت لحظة بعينها, ومحاولة في الوقت نفسه لاستعادة الذاكرة, والتي بدت لصاحبها كأطياف عابرة بخفة تارة وكأشباح تطارده تارة أخرى, أو مجرد مجموعة من الصور لا يربطها خيط, مبعثرة في ذاكرة كأنها استيقظت للحين, ذاكرة تذكر كل شيء ولا تذكر شيئا:
«إنني أتذكر الآن , أستعيد لحظات كأنني لم أعشها، بل أشك إن كانت في صميم الزمن أم خارجه, الزمن الذي فقد معالمه فأضحى لا زمنيا, طويلا أو سريعا, أو».(ص 6).
والتذكر هنا أو محاولة الالتصاق بالذاكرة –إن جاز التعبير-أشبه بآلية دفاعية ضد الموت أو العدم -الذي يقف قاب قوسين أو أدنى- والذي يهرب منه الراوي بعد أن خاض تجربته المريرة وأدرك شيئا من أسراره الغامضة:
«عندما فتحت عينيّ جيدا وعاد صوتي إليّ تذكرت ,أول ما تذكرت , كيف مددوني على سرير العربة البيضاء ثم كمثل رجل ثمل أو مخدر استسلمت لنعاس لطيف تشوبه حال من النشوة .
كانت هذه اللحظات آخر ما أذكره قبل أن يقودوني إلى غرفة الجراحة . كانت خطواتهم تلك حاسمة, فإما أن أخرج حيًّا من هناك وإما …». (ص5)
يتأمل الراوي الماضي ويقلب صفحاته, كمن يقلب كتابا مفتوحا أمامه, وهو على مشارف الخمسين من عمره , الأمر الذي يسمح له بالوقوف على مسافة من هذا الماضي و يمكنه من أن يجعله مزيجا مركبا من التاريخ والخيال, من الحقيقة الوقائعية والحقيقة الجمالية. ولا يمكن بأية حال تجاهل نبرة الحنين التي يتحدث بها الراوي, وهو الحنين الذي يمتزج بالأسى والرثاء, وبالرغبة في استعادة كل تفاصيل الماضي الذي لم يكن جميلا في معظم الأحيان:
«الذكريات تختلط عليّ, أنا الجالس إلى أوراق بيض, الذكريات أو الصور التي لا أعلم كيف تهب و من أين, أغمض عيني لأبصر هذا الشخص الذي كنته, هذا الشخص الذي كان إياي. كأنني والد ذلك الفتى الذي كان أنا ذات يوم, كأنني طفل الشخص الذي هو أنا الآن, الذي يتذكر, الذي لم يبق له إلا أن يتذكر و«كأن عمره ألف عام».(ص203)
الذاكرة قد تعني هنا الوجه الآخر للهوية «هوية الكاتب» التي يتشبث بها كحتمية حياة, هذا إذا اعتمدنا التعريف الذي يقول بأن الهوية هي القدرة التي يمتلكها كل فرد منّا على أن يظل واعيا لاستمرار حياته عبر التغييرات, عبر الأزمات والقطيعات» ,فالإنسان الذي بلا ماض , هو بلاهوية حتما, غائص في لحظة متغيرة باستمرار,فارغ من المعنى, ولنا أن نعرف مثلا أن إبادة الذاكرة أوالهوية لدى المعتقلين- باعتبارها إحدى وسائل التعذيب- تسبق تصفيتهم الجسدية , ولعلها تبدأ بإزالة التسمية عنهم وتحويلهم إلى مجرد أرقام فحسب تنوب عن أسمائهم, كذلك تحرم عليهم الاحتفاظ بأشياء لذكريات لهم «كصور لهم مع عائلاتهم» كشكل من أشكال التجريد من الهوية.
غير أننا نلاحظ أن الواقع الحقيقي في «قلب مفتوح» يختلط ببعض المشاهد والصور المتسارعة والذكريات. هي كتابة إذن -إذا شئنا التوصيف- تقف ما بين الوعي واللاوعي, أو لعلها أشبه بأحلام اليقظة , وهو ما جعل الراوي يرى الكتابة مثلا «الوجه الآخر للحلم», أو يظن – كما يصرح في حديثه- أن الكتابة هي أقرب إلى حلم اليقظة منها إلى أي شأن آخر,وأن المرء يكتب في أحيان ليحلم أنه يحلم , ليصنع عالما لا يمكن أن ينهض إلا في مثل تلك اللحظات المتوهمة التي يعيشها بحواسه كافة.
فثمة أشياء كثيرة بالفعل تتقاطع فيها الكتابة الإبداعية مع الحلم, فكلاهما يكشف بجرأة عن مكبوتات اللاوعي ويفصح عن مناطق مسكوت عنها طوال الوقت ولا تجد متنفسا لها إلا عبر الأحلام والكتابة, لذلك لن يدهشنا أن الزمن في «قلب مفتوح» متداخل و لا يمضي في نظام تسلسلي: «لقد اختلطت الأحلام بالذكريات , وبتّ كأنني أحيا في عالم حائر بين أن يكون ماضيا أو حاضرا محلوم به».(ص 30)
ولعل هذا ما يبرر لنا مشهد الحلم الذي يسرده الراوي في أول الأمر كأنه حقيقة, والذي يرى فيه – وهو ممدد على السرير الأبيض في غرفة المستشفى- فتاة صغيرة ترتدي زي ممرضة وتطرق باب الغرفة فجرا, والتي أدرك من النظر إليها أنها حبيبته الأولى التي ارتبط بها عاطفيا وهو في الرابعة عشرة من عمره, لكنها ما زالت طفلة لم تكبر بعد, كأن الزمن لم يعبر عليها, رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما, يستعيد الراوي ذكريات هذا الحب البريء النقي كأنه كان بالأمس, فيكتشف أنه حاضر بقوة في الذاكرة رغم الزمن ورغم العلاقات العاطفية والتجارب الجنسية التي خاضها في الحياة:
«لقد أبصرتها أجل , أقصد حلمت بها, أقصد زارتني في الحلم, إنها المرة الأولى التي أبصرها في المنام, كنت فقط أتخيلها في بعض الليالي, عندما أقبل على النوم, فأغفو أو لا أغفو . لكنها المرة الأولى التي تطرق باب النوم وتدخل. لم يفاجئها أنني كبرت, لكنني فوجئت بها لا تزال مثلما كانت عندما كنّا, في أول حبنا, العاصف البريء والنقي. أين تراها اختبأت طوال تلك الأعوام لئلا تكبر كما كبرت أنا, حبها الأول».(ص24)
ورغم أن الكتابة في «قلب مفتوح» أشبه بحلم اليقظة – كما أشرت من قبل- إلا أنها عمل محكم البناء, فالعمل الفني في النهاية يكون صاحبه أكثر قصدية ووعيابه من حالة الحلم, وتتدخل فيه- بشكل جذري- مهارات الكاتب وحرفيته, ووجهة نظره, لذا فالكاتب حين يتكئ على الذاكرة ويستعيد الماضي فهو لا يكرره أبدا, لأنه يعيد بناءه من جديد على طريقته الخاصة .
فحتى الذاكرة الإنسانية نفسها- التي يمتلكها كل منّا تصورية بطبيعتها- وتختلف قطعا عن ذاكرة الحواسيب التي تعرض فحسب.
فالذاكرة الإنسانية ترتبط –دوما- بالعلاقة التي تقيمها مع الماضي: نزاعية, منقسمة لأنها مصنوعة من ضروب من التبني والرفض , ومن ضروب الرضا والكبت, ومن ضروب الانفتاح والانغلاق, ومن ضروب القبول والتخلي, ومن النور والظل, ومن الذكريات ومن ألوان النسيان.
ولعل ما أدهشني حقا في هذا الكتاب ليست جرأة الكاتب الفنية فحسب, وإنما نظرة التسامح الثقافي والديني التي تنطوي عليها تلك الكتابة في رؤيتها للآخر. ولربما ظهر هذا التسامح في إشارات متفرقة في الكتاب على لسان الراوي الذي أصبح بعد سنوات من المكابدة والبحث كائنا دينيًّا تمتزج فيه كل الأديان على طريقة الحلاج.
منها ما يذكره الراوي مثلا عن علاقتهم بجيرانهم المسلمين, فيتذكر مثلا جارته «أم فوزي» المسلمة التي كانت ترقي لأطفال الحي كله: مسيحيين ومسلمين إذا أصابتهم عين شريرة, وكيف كان يشعر هو براحة شديدة وهو طفل بعد كل رقية تقوم بها له,وفي المقابل يتذكر بسخرية – في موضع آخر- حديث جدته لأمه مع جاراتها- الذي ينم عن شيء من التعصب الساذج -عن أن للمسيحيين رائحة تميزهم عن الآخرين «أي المسلمين»: «كنّ يقلن إن رائحة المسيحيين تختلف عن رائحة المسلمين. فالمسيحيون حين يُعمّدون بالماء المقدس والميرون تصبح لهم رائحة لا تفوح من الآخرين, الذين هم المسلمون طبعا.وكان الكثيرون يصدّقون هذا الأمر ببراءة أو بسذاجة تامة. هذه الجملة لم تفارقني, وكلما تذكرتها أضحك.وأذكر كيف أنني اقتربت مرة من ابن جيراننا محمد ورحت أشمه ووجدت أن رائحته مثل رائحتي تماما.لم يكن اختلاف بيننا مع أنّه لم يُعمَّد.»(ص146)
وهناك موقف آخر يذكره الراوي, ولعله يعكس مدى ليبرالية الكاتب وجرأته في الوقت نفسه, حين يعمد إلى فضح بعض ممارسات أهالي الحي الذي كان يعيش به, حيث يذكر أنه في طفولته كان يرى الأهالي يصفقون للطائرات الإسرائيلية عندما كانت تجتاز سماء وطنهم , وكيف كانوا يسخرون من جمال عبد الناصر الذي كانوا يكرهونه بشدة, وأقاموا تظاهرة ابتهاجا لموته:
«وما زلت أحفظ تلك الجملة التي يرددونها : «قومي ذيعي يا بيروت , عبد الناصر ما بيموت». كان المسيحيون أو الموارنة في الحي يحبّون إسرائيل ويكرهون العرب. وكلمة عرب كانت تعني لهم الإسلام».(ص145)
نجاة علي
شاعرة وباحثة من مصر