[ 1 ]
..الكتابة عن محنة الوطن المجنون:يقول عتيق رحيمي السيناريست والرّوائي الأفغاني، الفائز بالغونكور الفرنسية لسنه 2008..» لا يوجد بلد واحد في العالم عرف وجرّب خلال أربعين سنة كل الأنظمة السياسية التّي يمكن تخيّلها كأفغانستان، أنظمة لا تخطر على البال دفعت بوطني إلى شفير الهاوية..»، هذا ما قاله للصحفيين معبّرا عن ألمه وحزنه لما يحدث لوطنه المجنون إن صحّ التّعبير، عتيق رحيمي المولود سنة 1962 في عائلة محترمة، متعلّمة وغربية الثّقافة، درس في الثانوية الفرنسية في كابول، أما والده فكان حاكم مقاطعة البانشير، ملكي الانتماء والنّزعة، أصبح فيما بعد قاضي تحقيق، وعندما جاء انقلاب1973أرسله العسكر إلى السّجن لثلاث سنوات، وبعد انقلاب الشّيوعيين وفي سنة 1978 تحوّل أخاه إلى الشّيوعية وحاول إقناع عتيق بالانضمام إلى الحزب الشّيوعي لكنّه رفض ، ولما وجد عنده من ميول فنيّة[السّينما]عرض عليه دراسة الفن السّابع في موسكو، ودبّر له منحة دراسيّة في معهد ايزنشتاين ذائع الصّيت آنذاك لكن عتيق رفض العرض، وعندما وجد أن أفغانستان لا تسع أحلامه هاجر إلى فرنسا واستقرّ في[l>Eure ] قرب مدينة روان وحصل على اللّجوء السّياسي عام1984أما أخوه فلقي مصرعه على يدّ رجال حكمتيار، أما والداه فيعيشان في الولايات.المتحدة الأمريكية مع أحدى أخواته بينما بقيت الأخرى في كابول، عتيق رحيمي الكاره لوطنه البيولوجي الذّي يمارس بإسراف ثقافة الموت والانتحار الذّاتي منذ سبعينيات القرن الماضي، رحيمي هو ابن هذا الوطن الأطلال منه جاء وله يكتب نعيه وتعازيه في شكل روايات وسيناريوهات أفلام تسرد قصص الحلم الشّخصي الميت[رواية وسيناريو أرض ورماد]، هي في نفس الوقت أحلام جماعيّة لآلاف من رحيمي داستهم الصّنادل الخشنة واغتالتهم فوهات بنادق هي التباسا أقلام دمويّة تكتب بخطّ اليدّ نعي الوطن القاتل والمقتول، الرّوائي الأفغاني الهارب بجلده إلى غرب مستقطب للتناقضات الشّرقية المعقّدة ويحوّلها إلى تجارب ثقافية شخصية ناجحة ومثيرة للجدل[سلمان رشدي، تسليما نسرين، اورهان باموك، ياسمينه خضره]، رحيمي الحالم بفانتازيا مشرقيّة ساحرة بدل التّراجيديا الجّاثمة على العقول والنّفوس والحواس الخمسة، تسكنه ظاهرا باطنا وتحرّره من غواية حمل السّلاح والانخراط في لعبة الجّاني والضّحية، عقدة قابيل وهابيل، هو ذاته الرّوائي المبدع وبامتياز لعوالم سرديّة تمتزج بين الأمل والأسى، الجّنوح للتّصوف والهروب من دوامة صراع دموي قال عنه انه ليس قضاء وقدر شعبّ كان في ما مضى شعبا مسالما ومحبّا للحياة ومذواقا للفن والجّمال، تؤثث عوالمه المحكيّة حكايات لذيذة وآسرة مأخوذة على قدر من الإبداع الجّميل من فضاء الحكايات الفارسيّة القديمة، تراث شعبي قديم زاخر بما هو رائع ومذهل ومثير، تنقذ روح صاحبها من جحيم واقع أفغاني محكوم عليه بمصير أحمر وأسود، هي بالطّبع سرد يجمع بين الحقيقة والخرافة المعبّق بجاذبية الأمكنة والأزمنة وشاهد عيان على عذريّة وطن قبل أن يغتصب، في السّابق، ايام الزمن الجّميل الذّي يحنّ إليه عتيق رحيمي كانت بلاد الملوك المؤسّسين والخانات الفاتحين والأميرات العذراوات الجّميلات والفرسان الارستقراطيين الأشاوس والقصور الفارسيّة تحفة عمرانية قلّ نظيرها والجنّ والعفاريت والبرابرة القادمين من تخوم الفوضى والدمار والشّعب المكافح من اجل لقمة الحياة الكريمة، حتما هو التّماهي مع أثر الجّنة المفقودة أو رائحتها في جغرافيا وطن استباحه الجّنون والهستيريا والحروب العبثية وايدولوجيا الحقد والكراهية، كلّ هذا محرّرا إياه من شكل الإنسان المضطهد إلى إنسان حرّ وسعيد تملأه الأحلام اليقينية ولو على استحياء…
[ 2 ]
..البدايات الأولى:لم يصدق نفسه عندما التقى بمارغريت ديراس في المعهد الفرنسي في كابول وهي بالمناسبة أحبّ الرّوائيين الفرنسيين لديه، يعتبر روايتها[هيروشيما حبي] الرّواية والفيلم الذّي أخرجه[Alain Resnais]احد أهم وأرفع الأفلام الفرنسية في السّنوات السّابقة، حيث قال «جئت للسينما بفضل هذا الفيلم، لم أفهمه في بادئ الأمر لكنّه صدمني وقلب روحي وجعلني أنظر للحياة بمنظور آخر، قلت في نفسي، بالطبع كابول هي هيروشيما حياتي..»، في احد المكتبات الكابولية المتواضعة عثر بالصّدفة على نسخة من الرّواية باللّغة الفارسية.. «كانت نسخة مهلهلة، الصّفحات تتمزّق بمجرد لمسها أو تقليبها، لكنّها أصبحت بالنّسبة لي كنز لا يمكن الاستغناء عنه..» ، لهذا لم يكن مستغربا أن يصبح رحيمي مثقفا فرنكوفونيا إلى حدّ الإعجاب والانبهار، وعندما فكّر في منفاه استقر في فرنسا دون غيرها، ويتذكّر انه عند تسلّمه أول مساعدة مالية كلاجئ اشترى رواية[العاشق]لمارغريت ديراس.. «بـ70 فرنكا اشتريت الرّواية، مازلت لحد الآن محتفظ بها..»، وفي 2000، كان قد أنهى أحد أهم أعماله الرّوائية وهي[ارض ورماد] التّي قال بان أجواءها تشبه أجواء هيروشيما حياتي، سلّمها لمترجمته وصديقته صابرينا نوري التّي بدورها أرسلت نسخا منها للعديد من دور النّشر الفرنسية ، ولم يصدّق عندما أخبرته أن النّاشر Paul Otchakovsky-Lauren وافق على نشرها . . «بول اوتشكوفسكي هو ناشر أعمال مارغريت، يالها من صدفة رائعة..»، لكنه لم يكتب أول عمل روائي بالفرنسية إلا سنة 2008 وهو بالطّبع[حجر الصّبر]التّي فتحت له باب النّجومية على مصراعيه والأغرب من هذا انه وهو يشتغل على الرّواية كان يعتمد أساسا لإثراء ثقافته الفرنسية على قاموس روبير بأجزائه الخمسة، مثله مثل الرّوائي اليوناني فاسيليس اليكساكيس..
[ 3 ]
..ارض ورماد: أول أعماله كانت أرض ورماد صدر سنة 2000، وقد كتبه بالفارسيّة في إيران وحقّق نجاحا لم يتصوّره، هو ذات العمل الذّي ستترجمه صديقته صابرينا نوري وسيقدّمه للمشهد الأدبي الفرنسي وسيصنع شهرته قبل أن تأتي رواية حجر الصّبر ليجعل منه نجما وظاهرة روائيّة مستقطبة للاهتمام، خاصة وانّه حقّق الغونكور عن عمله الرّوائي الخامس فقط بالمقارنة مع روائيين كبار أمثال ميشال لو بريز صاحب رواية[جمال العالم]وياسمينه خضره الطامح لهذا الجائزة أيّما طموح، أرض ورماد هي رواية إدانة للبربريّة بشتّى أشكالها، ففي أحد مشاهد الفيلم المقتبس من روايته بنفس العنوان وكان هو مخرجه، نرى شيخا أفغاني تلفحه حرارة الشّمس والغبار، ينتظر عبور سيارة لتقله إلى الجّانب الآخر من الوادي الكبير حيث يوجد منجم الفحم الذّي يعمل فيه ابنه، بجانبه يقطف حفيده حبات التّوت حينا وحينا أخرى يجمع الحصى ويرميه، حفيده الذّي فقد السّمع بسبب قصف الرّوس للقرية، لم يفهم لماذا الجّميع من حوله فقدوا القدرة على الكلام، يسأل جدّه.. «جدّي، هل لدي صوت؟، نعم، إذا لماذا أنا على قيد الحياة؟..»، بالنسبة له اللّعب هو أفضل شيء تقع عليه نفسه بعدما فقد كل ما يربطه بالعالم الخارجي، ثم يسأل.. «جدّي، هل قدم الرّوس لأخذ أصوات الآخرين؟، ماذا سيفعلون بكلّ الأصوات التّي يسرقونها؟..»، العجوز يفكّر، يتأمّل ويتذكّر اليوم المشؤوم الذّي قصف فيه الرّوس القرية، صراخ النّساء والأطفال، النّيران في كلّ مكان تلتهم كل شيء، الإنسان والمكان، زوجته التّي مزقتها قذيفة قاتلة، جيرانه الذّين هلكوا برصاص الجّنود الرّوس العشوائي، انّه الجّنون، الهمجيّة، البربريّة، كلّ هذه المفاهيم بمصطلحاتها المعقّدة والقذرة مطالب بشرحها لحفيده، أن الجّميع مات، الجّميع بما فيهم زوجته وزوجة ابنه، أنهم لن يعودوا بعد اليوم، لكن كيف يقدر على شرح كلّ هذا له ؟، وبأي لغة سيتكلّم؟، سيشرح الفجيعة التّي ألمّت بوطن، كيف سينتقي الكلمات المناسبة التّي لا تصدم ولا تفجعه في مصابه الكبير، أما بالنسبة لعتيق رحيمي فلقد وجد الطريقة والأسلوب والجّمل والتّراكيب والكلمات المناسبة للتّعبير عن مرارة فقدان وطن واستبداله تحت تهديد التطرف والسّلاح بأطلال هي أشبه بالمقبرة الجّماعيّة لشعب فقد كلّ شيء من اجل لاشيء، هو شعب بريء، ضعيف، مسالم ومغلوب على أمره، فاللّغة التّي كتب بها رحيمي أرض ورماد تصدم القارئ، تشحنه بحزمة من الأحاسيس والمشاعر الغاضبة من القاتل والمتعاطفة مع الضّحية، تخاطب العقل والقلب، مستعملا ضمير المخاطب أنت ومرّة أخرى ضمير المتكلم..
[ 4 ]
..المتاهة:في سنة 2002 ، صدرت له رواية[الألف منزل للحلم والرّعب]، بعض النّقاد اختصروها في كلمة[المتاهة]، فالألف منزل أو قد تكون أيضا الألف غرفة وفي التّراث الفارسي هي المتاهة، في هذا المنزل المخيف والغامض والواسع بأبوابه التّي لا تعدّ ولا تحصى، حيث المداخل هي المخارج والمخارج خديعة، من يدخله لا يخرج، يتيه، يفقد عقله ويجن أو ربّما ينتحر، عندما يتوقّف الزّمن أو يضمحل أمام هالة الرّعب والعتمة الباردة ماذا يحدث؟، عندما يصبح ضوء الشّمس أو بقعة ضوء صغيرة بحجم قطرة الدمّ أمل للنّجاة، وعد بالخروج، بالتّحرّر من اللّعنة، في عهد الديكتاتوريات القمعيّة التّي حكمت أفغانستان كابول هي هذا المنزل المتمفصل إلى ألف غرفة وكلّ غرفة هي بمثابة الفخّ، فخّ الموت، في ذات الرّواية نجد خمس شخصيات تتصارع وتناضل من أجل إنقاذ نفسها والهروب من امتداد المتاهة المفترس وهذا كلما تفسخت هزيمة الإنسان إلى هزيمة الأخلاق على إيقاع جنون بشري يأتي على الأخضر واليابس وكأن بكلّ شيء يتمسّخ إلى وحش ميتافيزيقي يبتلع العباد والبلاد وهو بالطبع الميناتور الشّرقي الوحش أو غول الخرافات الفارسيّة، عندما يفشلون في الهروب من المتاهة يسكرون، يدمنون الأكاذيب وأحلام اليقظة، يصنعون من الصّمت الموحش والخوف من الرّموز رموزا شخصية تكون أشبه بالأمل الهشّ لعل ينجيهم من الجّنون، أو يرغبون في موتة هادئة لا تؤلمهم كآخر الحلول، أو قد تحدث معجزة كاعتناق الحبّ فلسفة ومذهب لمجالدة قسوة الحياة، لأنّه الخلاص والخيار الأفضل للعيش في وسط المتاهة دون أن يحدث الانهيار المشؤوم، تقول النّاقدة الفرنسي نتالي كروم[جريدة لاكروا-14 مارس 2002]عن الرّواية..[في روايته الثانيّة برهن عتيق رحيمي مما لا يدعو للشّك على موهبته كروائي متفرّد في أصالة لغته التّي تعبّر عن الألم والمعاناة التّي تلاحقه حيثما ذهب وعاش، هذا العالم الشّعري القويّ والنفّاذ صنيعة مخيلته التّي تجمع بين الخيال والواقع، بين الحلم والحقيقة، بين الرّاهن والذّاكرة، ذاكرته المعذّبة والمريضة، في عوالمه هذه يتعايش الآني الأكثر مرارة وفضاعة، الحقيقة صعبة الشّرح والفهم، مدّ وجزر الأحلام الشّبه الميتة، السّرد الأسطوري والخيالي، قصص مليئة بالألغاز والأسرار من التراث المحلي]، أما النّاقد ج .ب.بيرين من ليبيراسيون فيقول عن الرّواية[بالنّسبة لعتيق رحيمي فتاريخ أفغانستان الحديث يحكمه رعبان، الأول ايدولوجي والثاني ديني]، تدور أحداث الرّواية أثناء الحكم الشّيوعي، قبل الاجتياح الرّوسي، عندما تعثر الشرطة على الطالب فرهاد بطل الحكاية، تعثر عليه مخمورا في أحد أزقة كابول فتطارده، يفرّ، تنقذه مزهاد الجّميلة وتخبئه عندها، مزهاد هي ضحيّة النّظام الذّي أعدم زوجها، تعيش مع ولديها، الصّغير يحيى الذّي يرى في الضّيف الجّديد أبا له، ثمّ ينضم إليهم عبر أطوار السّرد أخ يحي الذّي فقد عقله بسبب التّعذيب، الفصول الأولى من الرواية هي لفرهاد واستيقاظه من غفوته المخمورة، إحساسه بتأنيب الضّمير، مساءلته لنفسه، مساءلة دينية ، استيقاظ الوازع الدّيني، الخوف من العقاب، من الجّحيم، من هذا المنطلق تبرز للسطح الثّقافة الدّينية التّي تسكن كيان الإنسان الأفغاني ، ثقافة دينية سطحية، سطوة الثقافة التّرهيب على العقل والإحساس الأفغاني، في الفصول الباقية من الرّواية يولد الحبّ، المعجزة بالنّسبة لرحيمي، سقوط فرهاد في غرام مزهاد الأرملة، التّخطيط للهروب الذّي أصبح حتمية، الفراق الصّعب والمرّ بين الحبيبين، ستكون نهاية الرّواية كبدايتها ويضيع فرهاد من جديد، يضيع في المتاهة الأفغانيّة وكان بالرّوائي يقول للقارئ بان كل الدّروب والمسالك في بلاده تؤدي كلها إلى نهاية واحدة وهي المتاهة، اللاخروج، التّيه، لقد حققت الرّواية نجاحا كبيرا بحيث صدرت في طبعات اسبانية ونرويجية وايطالية، وجاءت أحداث 11 سبتمبر لتزيد من نجاح الرّوائي وروايته التّي صدرت ب 11 لغة أخرى ..
[ 5 ]
..الفوتوغرافيا في خدمة الألم والذّاكرة:عندما يشتاق رحيمي لبلاده التّي يراها على شاشات التّلفاز عبارة عن كومة من نار ورماد وجثث أطفال مزقتهم قنابل الغزاة الجّدد، بالنّسبة له كل من يقدم إلى أفغانستان حاملا السّلاح فهو غاز، روس البارحة وروس اليوم حتّى ولو كان الأمريكي محرّر البلاد من ديكتاتورية الطالبان، وعندما يشتاق لكابول أيام زمان، كابول السّبعينيات، يرحل إليها، يصوّرها ويكتب خواطر ومذكّرات عن مدينته التّي لم تعد كما كانت عليه سابقا، ما يحدث لها هو اغتيال النوساتالجيا، وأد الذاكرة القديمة بالأبيض والأسود، يقول..[تنظر إلى ماذا، تشاهد ماذا؟، تلمس ماذا؟، إذا أردت لصورك الفوتوغرافية أن تربطك بماضيك، أترك ، تخلّ عن آلة التّصوير المعلّقة حول رقبتك، لأن ما يلزمك ليست آلة تصوير تلتقط صوّرا صماء لا تتكلّم، لا تتحرّك، لا تعبّر عن نفسها، في الحقيقة تلزمك آلة تصوير أخرى تعرف وتشاهد ما لا تشاهده أنت، أقصد، الرّوح، روحي أنا..»، وروح رحيمي هي لغته الجّميلة التّي يروّض بها الألم، المأساة التّي تنغص عليه حياة المنفي، لغة تصنع فنّ القصص والحكايات منها يسرق الزّمن الآني ويهرب بروحه المعذّبة إلى ماض كان قريبا منه عبر تلك الصّور الفوتوغرافية ومن هذا المنطلق جاء عمله الثاني بعنوان[العودة الخيالية] سنة 2005، والعمل يجمع بين الصّور الفوتوغرافية الملتقطة لكابول ويوميات الكاتب فيها وخواطر ذاتيه عن همس الأزمنة وصمت الأمكنة الحزينة، يقول في هذا الإطار[أريد تصوير الجّراح قبل المكان والإنسان، لكن قبل أن تأتي لتصوّر كابول، جاء قبلك مصورين كبار والتقطوا أروع الصّور، بالطبع صوروا نفس الجّراح، لا أبحث عن الجّمال، أبحث عن ما يعيد أحاسيس إنسان يشعر بالألم وهو يرى ويشاهد عن قرب ندوب هذه الجّراح، في كلّ مرّة عندما نرى هذه الندوب التّي لا تندمل نعجز عن نسيان الألم، لذا لا تنس ، هذه ندوبي أنا، ولهذا أنا أبحث عنها حتى لا أنس]، لقد حدث هذا الرّجوع بعد عشرين سنة من المنفي، اكتشف رحيمي مدينة أطلال، وطنا ميتا ومدن منهارة على الدوام وشعب يستغيث بمن يحرّره من أثار حروب ماراثونية، صوّر كل شيء، المكان، الإنسان ورائحة الزّمن تفوح جنائزيته في كلّ لحظة وقوف أو تصوير أو تأمّل حزين، يرافق الصورة الكلمة، الجملة والنّص يعبر عن حجم التراجيديا التّي لا يستوعبها إلا شاعر أو روائي ابن الأرض المنهوبة عبر عصور التاريخ، الصّور، ما عددها؟، خمسون صورة ملتقطة بتواطؤ مع حنين الذّاكرة المريضة، آلة تصوير تقليدية كالتّي تستعمل في ثمانينات القرن الماضي، سيكتشف وللصّدمة الكبيرة كم هو مأساوي أن تحبّ وطن وتصوّره مقبرة ..
[ 6]
..تلميذ بهاء الدين مجروح:يطغى بشكل ظاهر الطّابع الصّوفي على كتابة عتيق رحيمي بما فيها طريقته في الحياة، أسلوب عيشه، ويصبح الشّعر برونقه الفلسفي هو القوّة النّابعة من موسيقى الرّوح، هي الوسيلة المثلى والحكيمة لمواجهة عالم فقد عقله وانتصب عدوّا للإنسانية، ولا يخفي تأثره الكبير بالشّاعر الأفغاني الصّوفي[بهاء الدّين مجروح]، يقول..»في سنّ الخامسة عشرة كنت اشتري كتبه، اشتريت ذات مرّة بالصّدفة من أحد مكتبات كابول كتاب له بعنوان الوحش الدّاخلي، مازلت لحدّ الآن أتذكّر غلافه الخارجي البرتقالي المميّز، تظهر عليه صورة وحش ميتافيزيقي من مخيال الأساطير الفارسيّة منكفئ حول نفسه، حدث نفس الشّيء مع رواية هيروشيما حياتي، تعلّق أولي، انجذاب، انبهار ثمّ جاء الاعتناق والارتباط العضوي بالكتاب وكاتبه، رغم انه كتب بالفارسيّة إلا أنه كان هناك نوع من الجاذبية التّي لا تقاوم..»، ثمّ يتابع قوله..»فيما بعد قرأت لفرويد، جونغ وهكذا قال زاراهوستا لأتمكّن من استيعاب أشعار مجروح، الولوج لعوالمه المتاهتية المعقّدة، كان فهمه أشبه بقراءة حكاية معقّدة، على المرء أن يكون قديسا أو درويشا لفهمه، فيما بعد قرأت كلّ كتاباته المترجمة إلى الفرنسيّة..»، وينعكس هذا الشّغف الفلسفي على معتقده الدّيني فعند ما سئل عن علاقته بالدّين أجاب قائلا .. أنا بوذي لأنني متأكّد من ضعفي وأخطائي، أنا مسيحي لأنّني أبوح بأخطائي، أنا يهودي لأنني أسخر منها، وأنا مسلم لأنني أحاربها وأجاهد نفسي كي لا أقع في فخّها وأنا وثني إذا كان الرب جبارا ..» ..
[ 7 ]
..حجر الصّبر، حجر المعجزة:يعتبر فوز رحيمي بالغونكور عودة تقليدية للاحتفاء بالكتابات المناضلة، كتابة الآخر، المختلف وهذا بعد حصاد السّنوات السّابقة والذّي كان من نصيب الرّواية التّاريخية، ولم يكن مستبعدا خاصة أمام التّوجه العالمي وخاصة الفرنسي منه للتّعرف على الآخر والاهتمام بما يحدث في العالم العربي الإسلامي وهذا بعد أحداث 11 سبتمبر وتداعياتها المأساوية، وتأتي أفغانستان في المقام الأول بسبب ما يحدث فيها من حروب وآخرها الحرب على الإرهاب ومشاركة فرنسا فيها، وانشغال الرّأي العام الفرنسي بما يحدث هناك خاصة وان هناك جنودا فرنسيين ومنهم من دفع ثمنا لهذا الوجود الذّي مازال يطرح أسئلة حول جدوى حرب طويلة الأمد غير مضمونة النّتائج، وفوز حجر الصّبر[Syngué sabour ]هو بمثابة الإشادة بالإبداع والكتابة والدّفاع عن حرية الفكر والرّأي في بلد يعيش أجواء قرون أوسطيّة أو أنها جمهورية الخوف والجّوع والملتحين المتشدّدين.. «من المهمّ أن تستعيد الغونكور تقليدها القديم وهو التّحدّث إلى العالم عن العالم..»، والرّواية الفائزة تأتي في هذا السّياق، رواية المرأة المقهورة والمتمرّدة على وضعها البائس، هي ذاتها المرأة الأفغانيّة التّي أنجبت ومازالت تنجب رجالا يشكّلون ميليشيات وزمرا وعصابات متطرّفة مشحونة بثقافة السّلاح والقتل، تتقاتل فيما بينها من أجل سراب سلطة لا محل لها من الوجود، هو أيضا نضال المرأة الضّعيفة في مواجهة الرّجل الأفغاني القاسي، العنيف والمتشدّد، وهذا ليس غريبا على غرب عوّدنا دائما على أحكامه المسبّقة وضيّق أفقه وعدم فهمه للآخر، في حجر الصّبر كان على رحيمي أن يقول كل شيء، أن يعبّر عن غضبه ونقمته وتمرّده على ما يحدث في بلاده بلسان امرأة قرّرت في لحظة ما من الاستيقاظ من غيبوبة مكانية وزمنيّة ووعيية تصفية حسابها مع زوجها الغارق في جراح أخطائه وخطاياه، البعض يقول أن المرأة في الرّواية قد تكون نفسها أفغانستان، أفغانستان الوطن الأنثى المؤودة التّي لم تعد قادرة على السّكوت والإذلال والخنوع، في الرّواية نعثر على زوجة تسهر على راحة زوجها المصاب بجروح بليغة تعرّض لها في حرب يقول عنها رحيمي أنها أكثر الحروب عبثية ولا جدوى، زوجة تنعي حزنها وألمها في صمت وعلى مرأى زوج قيد الموت البطيئة أو أنها الموت الآتية لا محالة، شفتاها ترتعش، تصلي، تسبّح بمسبحة، تتمتم بأسماء الله الحسنى التّسعة والتّسعين ..»القهار، القهار، القهـــــار..»، تصدر تنهيدة حزينة، متألّمة، متوسّلة، تتهادى في سكون مع صلواتها الشّفوية التّي لا يسمعها أحد، ترغب في أن لا يخونها إيمانها، أن لا تفشل، تأمل، خائفة من أن الجّسد الذّي لا يتحرّك، لا يصدر أي حركة أن يتكلّم، أن تعود إليه الرّوح التّي ترى فيها تهديدا لها، ذات الجّسد يهمس لها بأشياء غير منطقيّة، لم تسمعه منها البتة، كأجزاء من ذاكرة عاطفية ماتت منذ عهد طويل، سراب حياة زوجيّة قديمة كانت في أوج عطائها بدت لها الآن مرفوضة وغير مرغوبة فيها، يطفو على وجهها قلة الصّبر، انسداد سعة صدر زوجة تحملت كلّ شيء من أجله، ثمّ، تتنصّل من جسد المرأة الطائعة والمقهورة وتترك للكلمات المرّة متنفسا على رأس لسانها، هي كلمات غاضبة، ناقمة، مدفونة منذ أمد طويل في أحشاء جرح صبر امرأة جالدت كثيرا لألا تنهار، وهي اليوم تطلب التّحرّر من فكي كماشة كبيت لا يرحم، تخرج هذه الكلمات، تندفع دفعة واحدة لتقول أشياء كثيرة، كل الأشياء، لا تعرف كيف والكلمات المحرّمة في حضرة الرّجال المتشدّدين تخرج من فمّها، كلمات خطيرة، متمرّدة، مارقة، ليس من عادة نساء بلدها النطق بها وإلا حدث ما لا يحمد عقباه، متوعّدة إياهم بالله وجحيمه التّي لا تخطئ أحد، تشتم، تسبّ الرّجال وحروبهم، تلعن زوجها، طل مهزوم بكبرياء الرّجل المعطوب، جهله وتخلفه، حقده على الآخر، تصلي، تصرخ، سابقا كانت حبيسة الصّمت والخوف والولاء المطلق والتّضحية من أجله أما الآن فلا، الآن تريد أن تصبح امرأة جديدة، تريد أن تنزع عنها شيئا يقرفها اسمه زوجة مخلصة وفية، في حجر الصّبر وضع رحيمي كلّ قدراته الكتابيّة التي تحمل بصمته الشّعرية في الفصل الرّابع من روايته، جاءت الرّواية بالفرنسية، هي أوّل رواية يبدع فيها بلغة موليير، ربما قد وجد أن الوقت قد حان للتخلي عن لغة الأم الفارسية، أن يتلبّس الفرنسية ظاهرا وباطنا ليدخل في جلد امرأة شجاعة، التماهي مع الآلام القديمة والجّديدة، أن يعيد لها شيئا من الكرامة المهدورة، أن يسلّحها بكلمات تقتل عدوّها خوفا، تربكه، نستشفّ منها كلّ الرّغبات المعطوبة، المقيّدة، كالحبّ الذّي أصبح مستحيلا، الجّنس الممنوع والمحرّم، في يوم ما، بدون وعي منها، رغبة في الانتقام من زوجها المتسلّط، ستثير غضب كلّ الرجال المسلّحين، سيلحقون بها أقذر التّهم والسّباب..» القحبة، الفاسدة..»، لكنها ورغم الحصار الذكوري المطبق عليها ستتسلّح بقوتها وعزيمتها وشجاعتها المعنوية التّي ستحميها لكنها لا تؤذي أحدا، ستفضح نفاق مجتمع.. «أبيع جسدي كما تبيعون دماءكم..»، هناك في البلاد الفارسية التّي كانت كبيرة يحكى انه كانت توجد حجر ذات قدرات عجيبّة يلجأ إليها النّاس للبوح بشكواهم.. «الحجر يسمعك، يمتص كلّ كلماتك، كل أسرارك، وفي أحد الأيام الجّميلة ينفجر، وفي هذا اليوم ستتحرّرين من آلامك، من كلّ آهاتك..»، من هذا الحجر الخرافي صنع رحيمي الحكاية ومن رحمها انشقت ألام وأمال الشّهداء وكل النّساء اللّواتي خرجن من خلف العتمة، الظلال الباردة، وكأن به يهدي لهم جميعا ذاكرة جديدة، يقول لهم بان نضالهم ليس نكرة بل اصطلاح مرادف للحقيقة والحرية، هذه المرأة التّي حمّلها رحيمي أكثر من طاقتها، دور تراجيدي يجعلها في نظر القارئ الواعي رمز للتحرّر والحريّة..»هذا الصّوت المتدفق من حنجرتي، انه صوت مدفون منذ آلاف السنين..»، في غرفة، في مكان ما من بلاد يتنازعها الخراب والدّمار بامتياز، امرأة تسهر على رعاية زوجها، هل هو حي أم ميت؟، أما في الخارج، تسمع طلقات النّار، خطوات أقدام مهرولة، ثمّ يسرقها من شرودها تأوّهات زوجها، ثمّ الصّمت من جديد، في وحدة مطلقة، هي وحدة نهاية العالم، تنزع المنديل النّسائي الذّي تغطي به رأسها، تختلي بنفسها، تستعيد وعيها بالجّسد الذّي يحويها، تتمتم اسم الله، لكن ذكرياتها، أحلامها المجهضة، زواجها القسري، أختها التّي بيعت لشيخ طاعن في السنّ، شرف العائلة المتزمّت والمتشدّد، سلطة القوي على الضّعيف والفقير، ثمّ حروب الإخوة الأعداء من اجل لاشيء، حروب لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد، لذا تعتبر رواية حجر الصّبر بالنسبة لقارئه نشيد الحرية والحبّ، تملأه كموسيقى دينية صافية، كتيمة ساحرة وآسرة تشبه تماما حجر الصبر…
محمـــد بومعـــزة
كاتب من الجزائر