لقد بذلت قصاري جهدي لأنقل ببساطة لأولئك المهتمين بالجزيرة العربية بعض المعرفة التي اكتسبتها خلال اقامتي بين البدو، وأعتقد أن بعض هذه المعارف ستكون جديدة ومن الخسارة بمكان الا تدون. لاسيما ما يتعلق منها بالصفات البدوية الساحرة وغير القابلة للتشويه التي يتمتع بها بدو شرق الجزيرة العربية.
وسأشعر بأني كوفئت بأكثر مما أستحق إذا وجد بعض الذين يقودهم عملهم الى الجزيرة العربية العزاء والمتعة, ولكني أكون كوفئت مس تين إذا نجحت في إثارة الاهتمام بواحد من أكثر الشعوب لطفا ومبعث افتخار أنهم «عرب الصحراء».
وعرب الصحراء هو عنوان كتاب جديد صدر هذا العام عن دار الفكر بدمشق, ودار الفكر المعاصر في بيروت. مؤلفه رجل السياسة البريطاني ديكسون الذي عاش فترة طويلة في الجزيرة العربية خلال الثلاثينات من هذا القرن, وقد ترجم الكتاب الى العربية موسى الزعبي، ومنذر المصري ويقع في 600 صفحة, ويتألف من قسمين يحتويان خمسة وأر بعين فصلا.
وفي الكتاب نقرأ كما يقول الناشر: وصفا حيا وكاملا لحياة البدو في شمال وشرق شبه الجزيرة العربية فقد أقام المؤلف وعمل في المنطقة قرابة ربع قرن, وعاش مع البدو في خيامهم, واندمج في حياتهم, ورافقهم في حلهم وترحالهم.
ولم يدع المؤلف شيئا من حياة البادية إلا وأشار اليه, ودونه, فالكتاب سجل حياة ووثيقة تاريخية هامة نكتشف من خلالها طبيعة البادية, وحياة البدو في مختلف المجالات والميادين.
فهو على سبيل المثال يتحدث عن الصحراء والارتحال ونباتات البادية, وحيواناتها، وطيورها، وعواصفها، ورمالها.
كما يتحدث عن الحياة الاجتماعية والسياسية, والاقتصادية وأنماط العيش ومظاهر السكن, والعادات والتقاليد والأعراف البدوية.
ويشير المؤلف الى حياة الغزو، والارتحال, وأثر البيئة الصحراوية على الانسان العربي وهو في كل ذلك يقف موقف الباحث الذي يتحرى أدق الأشياء، وأصغرها فيعرض لنا وصفا لحياة القبائل البدوية في جميع فصول السنة, وينقل لنا عبارات الترحيب. والأمثال, والحكم,والحكايات, وقصص المغامرات المثيرة, مضيفا الى ذلك الرسوم, والأشكال, والصور التي توضح, وتغني وتفيد.
حياة البدو:
وهو عندما يتحدث عن البدو يقف عند المكونات الدينية والنفسية, والخلقية والجسدية التي صاغت شخصية البدوي، تلك الشخصية التي حازت الكثير من الصفات والفضائل حيث يعترف بذلك قائلا: "إن الفارق العظيم – وأنا واثق أنه لمصلحة البدوي – بين رجل الصحراء في الجزيرة العربية وأخيه الغربي هو أن الحياة بالنسبة للأول غير مؤكدة, فهي مهددة بالخطر الدائم, وهذا ما جعله يتوجه بتفكيره نحو خالقه واضعا شقته بإله واحد، يمكنه أن يحميه من أعدائه, ومن الجوع أو المرض. إله تتبدل الفصول بأمره, ويمنح الماء والمطر، ومن هنا اكتسب البدوي شعوره الديني العميق وقناعته الراسخة أن كل شيء إنما هو بأمر الله سواء كان خيرا أم شرا، وعليه تقبله دون تذمر".
ويقف كثيرا عند أثر العقيدة الدينية في تهذيب نفس البدوي، وصقل طباعه الانسانية النبيلة قائلا: "إن فكرة الاله تلازمه دائما، واسم الله لا يبارح شفتيه, وهو يصلي بانتظام خمس مرات في اليوم ولا يقوم بعمل إلا ويسأل الله العون فيه, وباختصار فإن الدين يزرع في نفس البدوي أعظم الفضائل ".
الشرف العربي:
ويحتل هذا الموضوع حيزا كبيرا من اعجاب الرحالة والمستشرقين الغربيين الذين زاروا الجزيرة العربية, وعرفوا أهلها
عن كثب.وهو في هذا الجانب يركز على قضية الضيافة, وحقوقها ويصف المعادة الحقيقية التي يشعر بها البدوي عندما ينزل الأضياف في خيمته.
ويصف ديكسون طريقة استقبال الضيف, وتقديم القهوة والطعام له, ويتحدث عن مدة الضيافة وعن الهدايا التي تقدم أحيانا للضيوف ويقول في ذلك: إن منح المضيف الهدايا لمضيفه امتياز للأول اذا كان ذا منزلة, والآخر فقيرا".
وفي إطار الحديث عن مفهوم الشرف العربي يشير الى رابطة الممالحة, وحرمة النساء، وحماية الدخيل, ورعاية حق الجار، ويرى أن تلك القيم هي جوهر الشرف العربي، وهوما يطلق عليه الشيمة ويرى أنها تعني عند العرب جملة القيم النبيلة, وهي توازي مفهوم الشرف لدى الأوروبيين.
الخيل العربية.
ومن الموضوعات التي أثارت اهتمام المؤلف تلك الأهمية التي يوليها البدوي لفرسه, وهي مكانة عزيزة, بحيث تبدو الفرس في نظر البدوي وكأنها أحد أفراد أسرته, أو ربما يؤثرها أحيانا على بعضهم وخاصة في الطعام والشراب والرعاية.
وهو يتحدث بإسهاب عن تربية الخيل, وأجناسها, وسلالاتها فيقول: الخيل الأصيلة في الجزيرة العربية هي: الكحيلات, الصقلاوي، الهدبان, عبيان، الحمداني، وتعرف باسم الخمسة, أو الخمسات الرسول, وتليها في الشهرة سلالة الخمسة الديناري وهي: الدهمان, المعنقية, الشويمان, الجلفان, أبو عرقوب ويعطي ديكسون معلومات دقيقة عن السلالات التي تنتج عن تلاقه الأصناف السابقة ويسمي من ذلك:الموج, ريثان, خويزان, وضحان, خرسان, اذا كان الحصان من فئة "صقلاوي" و"ملوه, وسعدان, ورطبان, وسمحان, وخبيصان, ومخلد اذا كان الحصان من سلالة عبيان أو المعنتي.
أما أسماء الخيل حسب أعمارها وذلك منذ الولادة وحتى نهاية العمر فهي تأتي على التسلسل كما يلي: فلو, حولي, جده, الثني, الربع, الخمس, السبع, الغرة. ولا ينسى المؤلف أن يورد الكثير من الحكايات والقصص والقصائد التي قيلت في الخيل كما أنه يتحدث عن صفاتها, وخصائصها وتكاثرها، وطريقة بيعها، وسروجها وأعنتها، وسباقات الخيل, بالاضافة الى أمراضها وطرق المعالجة والعناية بها.
ابل الصحراء:
واذا كانت الخيل قد نالت اهتماما خاصا لدى أبناء الصحراء لقوتها، وسرعتها، وجمالها. فإن الابل حازت أهمية فائقة لقدرتها على الصبر والتحمل في بيئة قامت حياة الناس فيها على الارتحال الدائم.
ويذكر المؤلف الكثير عن خصائص الابل, وصفاتها, ويعدد أنواعها، وسلالاتها المشهورة في الجزيرة العربية ومن ذلك: العمانية, الحرة, الباطنية, الأرضية, عطية, حبيش راحلة, ملحة, المجهم, الشهلة.
ونراه يسمي لنا الابل من حيث أعمارها, وهي حسب العمر: القاعود، البكرة, الحوار، الحدر، اللقى، الجذع, الجنبية, الدس, الناقة, الهرش, الفاطر.
وفي هذا الجانب نقرأ تفصيلات كثيرة أو معلومات واسعة عن طعام الابل, ولحمها، وحليبها وأمراضها ومعالجتها، ويفرد صفحات عن وسم الابل, ويمثل لذلك بالرموز، والاشارات التي كانت شائعة بين القبائل العربية في تلك المرحلة.
صيد اللؤلؤ:
ومن الجوانب التي تستحق الذكر نظرا لأهميتها الاجتماعية والاقتصادية يتطرق ديكسون الى صناعة السفن, ويذكر أشكالها وأسماءها.
والسفن من الوسائل الهامة على الصعيد التجاري والاقتصادي، فقد لعبت دورا هاما في تجارة الخليج, وفي مهنة خاصة هي الغوص واستخراج اللؤلؤ.
ويعطينا المؤلف معلومات قيمة عن ازدهار صناعة اللؤلؤ في الخليج العربي وخاصة في مرحلة ما قبل الحرب العالمية الأولى فهو يذكر على سبيل المثال أنه كانت تنطلق 700 سفينة من الكويت وحدها في موسم الغرص وأن عدد العاملين في هذه المهنة يتراوح ما بين 10000- 000 15 انسان ما بين السياب والغواص والعاملين الآخرين.
ويتحدث ديكسون عن وسائل الغرص, ومعداته كما يتحدث عن الأخطار والأمراض التي يتعرض لها الغواصون ويشير الى كساد صناعة اللؤلؤ ولاسيما بعد ظهور وانتشار اللؤلؤ الصناعي.
أما أشهر أنواع اللآليء فهي كما يذكر: الجيوان, الشرين, الغلوار, الغات, البدلة.
والواقع أن تقديم صورة شاملة عن محتوى هذا الكتاب النفيس من الأمور الصعبة, لأن الكتاب يستحق قراءة متأنية لكل صفحة من صفحاته, وحسبنا مما سبق أن نشير الى أهميته والى الملامح العامة, والمنطلقات الأساسية التي شكلت مضمونه ومحتواه.
وعدا الفصول الكثيرة التي احتوت على معلومات دقيقة وتفاصيل أصبحت بالنسبة لنا مجهولة أو منسية, فالكتاب احتوى مجموعة من الملاحق حول أنساب بعض القبائل كما احتوى على وثائق عن بعض الشخصيات التاريخية التي لعبت دورا هاما في حياة شبه الجزيرة العربية في تلك المرحلة ذات الحساسية الشديدة.
واذا كان البعض يأخذ على المؤلف بعض المغالطات, وخاصة في تفسير أو فهم بعض المواقف والعادات فهذا لا ينفي بل ولا يتعارض مع رغبته وحرصه على رسم صورة نقية عن عرب الصحراء، ولاسيما في أذهان أبناء قومه الأوروبيين, الذين حمل بعضهم انطباعات خاطئة عن العرب, وجزيرتهم, كرستها بعض الكتابات غير النزيهة لرحالة, وتجار غربيين طافوا هذه المنطقة, وانتشروا بين قبائلها. ولكنهم لم يتمكنوا من فهم وادراك خصوصية وتفرد عرب الصحراء.
واذا كان ديكسون قد لبى نداء الصحراء، واستجاب لسحرها، فقد خلد ومن موقع الحب والاعجاب مرحلة زمنية أصبحت أصداؤها بعيدة عن حياتنا المعاصرة ولكن أثرها يظل يشدنا الى جاذبية الصحراء، وندائها العميق.
عرب الصحراء
تأليف :ديكسون
عرض وتحليل : أحمد الحسن (كاتب من سوريا)