تحمله أمه على كتفها وهو رضيع بينما يتعلق اخوته بتلابيبها وهم حفاة ينتظرون أن تقودهم بوصلة أرجلهم إلى المجهول
المنافي كثيرة ولكنها متشابهة من حيث كونها بكل ما فيها من حزن ومذلة. بقي الوالد يمتشق (عصمليته) معتقدا أنه يستطيع تغيير الوضع أو خلخلة المعادلة، لكنها كانت أصعب من اعتقاده، وأعقد من تصميمه وأكبر من حلمه، وأبعد من طموحاته. سقط حوله الكثير من الأصدقاء ومنهم شقيقه، وعندما بدأت أصوات الأعيرة النارية تتلاشى ودبت البرودة في ماسورة (العصملية)، آثر الخروج ليطمئن على الأقل على مصير عائلته وأطفاله الصغار.
وكانت الفيحاء محطة لم يلبث أن تم تبديلها إلى ارض الله الواسعة، فالفرق بين المنافي يكاد يكون معدوما لا يقرره في النهاية إلا درجة المرارة في لقمة العيش.
طفولة في المخيم، تنتصب الخيام بنسق منتظم وسط الأوحال والرياح وتحت المطر، ليبدأ اصطكاك الأسنان في الخريف ولا يتوقف إلا استجابة لرحمة الصيف وشمسه الدافئة. لا ملابس، لا فراش، لا غذاء، وعند ذلك سيكون الحديث عن الألعاب ضربا من الترف الزائد ومن العيب الخوض فيه . فللحياة أولوياتها، أو هكذا تقول الفطرة البشرية.
j j j
علبة سردين تم نبش المزبلة لاصطيادها تربط بخيط قذر، قد يكون سلسلة من أربطة الأحذية المستهلكة. أغلفة الحلوى الملونة يجرى تشكيلها لتصبح صالحة للمراهنة بين الصبية، أغطية زجاجات (الكازوز) تعتبر مكسبا حقيقيا إذا تم جمع عدة عشرات منها كمادة توحي بحظ جيد.
ربما يكون التطور من سنة الحياة والذي قد لا يكون نافعا دائما. تجري عملية الحصار على المخيم بعد أن تطورت حالته نحو شيء من الاستقرار المؤقت. فمن خيمة، إلى كوخ قصديري إلى أكواخ طينية تملأ شقوق جدرانها وأسقفها حشرات البق والبراغيث . يضرب سياج شائك حول المخيم ويترك منفذ واحد وحيد يقابله مخفر الشرطة .
هنا يتفتق الذهن الطفولي عن اختراع جديد قد يسد حاجة الروح إلى امتلاك لعبة حقيقية ترمز إلى أشياء عديدة أهمها القدرة على التعبير عن الحركة، والتي تؤدي إلى امتلاك شيء من الحرية. الدقّ بحجرين بصبر عجيب على السلك الشائك حتى يتم قطعه من الجهتين، ثم وبقبضة غلاية قديمة مثقوبة تجري عملية التجليس حتى يأخذ السلك في النهاية شكلاً مستقيما.
شكل (السيارة) التي سيتم تشكيلها ليس مهما بقدر حجمها وقدرتها على الحركة السريعة على تراب أزقة المخيم. حركة (السيارة) وهي تدور بدواليبها السلكية المنتظمة الاستدارة قدر الإمكان يوحي بشيء من التمتع بحق إنساني، علما بان الوعي الطفولي لم يدرك أبعاد هذه العملية (السياسية)!
تنحنح المختار، ورفع حزامه العريض حول كرشه وقال ان ما يقوم به الصغار من تقطيع للسلك الشائك عملية خطيرة، وطلب من الحاضرين وضع حد لهذه العملية، بل وحمل المسؤولية عن النتائج الوخيمة التي تترتب في حال استمرار هذه الظاهرة، بينما كانت عينا الشاويش تنتقل من وجه لآخر تقيس ردود الأفعال، ثم أضاف المختار ان عملية التسييج حول المخيم تهدف إلى الحفاظ على أمنه من الأعداء، وأن تقطيع السلك يغضب الحكومة والتي لن تتوانى عن الضرب بيد من حديد على الأيدي العابثة.
الصمت يخيم على الاجتماع المنعقد في بيت المختار، ويتدخل بعض الجالسين من كبار السن قائلين ان الأولاد صغار والهدف ليس سياسيا بقدر ما هو انعكاس لغريزة اللهو واللعب وكمضيعة للوقت، لكن عقيرة المختار ترتفع مهددة بالويل والثبور وانه اذا كان الصغار لا يدركون ما يفعلون فإن الكبار يجب أن يدركوا ذلك.
رفع صاحبنا يده من آخر الجلسة فساد الصمت، أتى صوته عميقا قويا مستفسرا عن (الأعداء) المتربصين بالمخيم وماذا يريدون بعد أن اقتلعوا سكانه من وطنهم وأصبحوا لاجئين لا حول لهم ولا قوة؟ تعكر الجو وتكهرب، ولم يجد الشاويش ولسان حاله المختار ما يقولان فانفضت الجلسة تحت وقع التهديدات والعقاب.
كان صاحبنا موضوعا للنقاش المسهب بين المختار والشاويش حيث طلب الأخير وضع صاحبنا على رأس قائمة من تجب مراقبة تحركاتهم ليل نهار.
j j j
تحت وقع أمطار كانون الثاني(يناير) المسجل في عام سفر الوطن الأول، تفتح البرقوق في (بيسان) مبكرا وزغردت السماء في (عيلبون)، وغنى الشباب: يا موج البحر يا عالي .
انطلقت الكلاب البوليسية تقص اثر الخطوات على ضفاف النهر بين نباتات الخوص العالية وأشجار العوسج.
j j j
قادمة تحمل جرة الماء على رأسها فتسيل القطرات على العنق لتدخل في فتحة الصدر فينتقض وهو يتذكر امطار كانون على ضفة النهر وارتفاع المنسوب ليصل إلى أعلى الجسد، فيرفع يديه ليقي حديد الرشاش من البلل، ويهمس وهي تمر امامه بظلها العالي إن تخبر والدها إن العرس سيكون نهاية الأسبوع فالوقت يداهمه.
تلتئم السهرة على أضواء (اللوكس) ويرتفع صوت الحادي وتتشابك الأيدي لتردد:
طلت البارودة والسبع ما طل
يا بوز الباروده من الندى مبتل
البلل من النهر، تحت أمطار كانون، والبلل من النفق، والبلل من الندى يزرع في رحمها الخصوبة.
قال وهو يمسح دموعها بشفتيه بينما تتلمس أصابعه بطنها الذي دبت فيه حياة جديدة أن عليها إرضاعه حليب الوطن.
شهقت وهي تؤكد أنها بانتظاره حتى آخر العمر، قلق يستبد بها ويطغى على تفكيرها.
ذهب عدة مرات واجتاز النهر وكان يعود كل مرة سالما معافى، أما هذه المرة فالحاسة السادسة تتحرك بشدة ووجع، تحاول إن تغض النظر عن صور تتراءى لها باستمرار، لكن دون جدوى، قلق وتوجس طيلة الليل وحتى في النهار الذي تحاول فيه الانشغال بأمور البيت بشكل مبالغ فيه. دموعها لا تكف عن الانسكاب دون نحيب، تساءلت من أين تأتي كل تلك السوائل؟ ربما هو البلل، من يدري؟
j j j
طرق عنيف على الباب بعد منتصف الليل، الزوار على الباب، زوار الفجر. يسأل من الطارق فيأتيه الجواب جافاً قاسيا بأنه مطلوب، أجاب انه يعرف ذلك منذ زمن.
كان المختار يقف وراء الشاويش وعلامات الشماتة تملأ وجهه. وقفت على الباب تنظر نحو الثلاثة وهم على وشك الانعطاف عند زاوية الزقاق وهي تتلمس بطنها بهدوء وتستطيع تحسس الحركة الخفيفة تخفق هناك، وعند الزاوية التي سيغيب وراءها نظر خلفه وابتسم، كان هناك طفل يمشي ويجر خلفه قطعة طويلة من السلك الشائك.
عيسى عبد الحفيظ
كاتب وقاص من فلسطين