ما أزال أتذكر تلك الظهيرة في قرية كوغناواغا التي وصلتها ذات صباح خريفي أتذكر صمت الكنيسة الحجرية وأنا أقف خلف النافذة الصغيرة أتأمل انسياب نهر سان لوران الأزرق الشاسع في وأرى الجسر المعدني الشاهق في البعيد وتلك الأشجار العملاقة التي تتبدى رافعة أغصانها تحت سماء كندا الخاوية خواء تراجيديا يزيده حدة غياب الهندي الأحمر عن المشهد
كنت أفكر في كل البحارة والقرصان الأوروبيين الذين جابوا بحار العالم من بحر الصين إلى خليج المكسيك على امتداد ثلاثة قرون كريستوف كولومب ، ماجيلان ، كورتيز وغيرهم… أفكر في تلك الجرائم المسكوت عنها عندما كانوا يذهبون إلى الأراضي البعيدة عن أوروبا إلى الجزر السعيدة ويختطفون الأهالي ويشحنونهم في القوارب كما تشحن الدواب… أفكر أن شعوبا وأعراق بشرية كثيرة اختفت على أيديهم.
وكان البحارة المغامرون يعودون إلى اسبانيا والبرتغال وإلى هولندا بسفنهم المرهقة بعد خوض مياه المحيطات في مغامرات حقيقية… كانوا يعودون بأنواع من الطيور الملوّنة الريش والحيوانات الغريبة والنباتات والزهور المداريّة الغامضة… وبآدميين حملوا معهم نساء وأطفالا ورجالا قنصوهم في أراضيهم كما تقنص الحيوانات ليعرضوهم على الناس في شوارع أمستردام ويلاعبونهم كما تلاعب السعادين
وفي متحف البحار بأمستردام تشاهد وثائق وصورا لتلك الممارسة اللاإنسانية القاسية رجال ممددين في السفن على ظهورهم ومكبلين بالأصفاد
كانت تلك بدايات التوحش الاستعماري. كانت الموجة الأولى التي أعقبها الغزو العسكري المنظم للقارات الخمس
هكذا عاملوا الهنود الحمر وقصص التطهير العرقي في شمال القارة الأميركية لم توثق كما ينبغي
بيد أن الهنود الحمر قاوموا ولا يزالون يقاومون هذا العدوان الاجرامي من قتل وإفناء منظم
وهكذا وعلى امتداد أربعة قرون خاض الهنود الحمر معارك رهيبة مع الرجل الأبيض وتركوا أدبا سياسيّا حزينا وجغرافيا أكثر حزنا : مشاهد قاسية وريف خاو من الانسان الذي سكنه منذ فجر التاريخ كذاك الريف البكر الذي حملني إليه فيما بعد هشام شرابي على مشارف واشنطن قال لي هشام ونحن نترجل من السيارة وبوبي كلبه الصغير مرحا يقفز من امامنا مسرعا يسبقنا إلى الغاب.
قال :
تعمّد الأمريكان ترك هذا المشهد الطبيعي كما كان على أيام الهنود الحمر
قلت في داخلي هكذا حوّلوا الطبيعة إلى محيط متحفي… وفي غياب الهندي تأملت المجال الريفي الشاسع المفتوح أمامي تلك الأشجار الباسقة التي تسافر بعيدا في سماء تعبرها غيوم فضية ورمادية وبنفسجية متقطعة كما في اليوم الأوّل لخلق العالم فتبدو وكأنّ الغابة هي التي تتحرك تسافر في السماء وليس السحب وأنا أسمع هشام شرابي ينادي بوبي المنطلق بمرح كبير وكلمات الزعيم الهندي الدببة العشرة تتردد في داخلي…
يقول الدّببة العشرة :
ولدت في البريّة حيث تهب الرياح حرّة وحيث لا شيء يكسر ضوء الشمس ولدت في بلد بلا حدود تحدّه حيث الكلّ يتنفّس الحريّة وأريد أن أموت هنا في هذا المجال الحرّ وليس بين الجدران.
و من ادب الهزيمة هذا المقطع الشعري لرئيس قبيلة الانوف المثقوبة وكأني أقرا أسى الأندلسيين وبكاءهم الفردوس المفقود بعد خروجهم من الأندلس الذي عمروه ثمانية قرون
محاربا كنت
والآن انقضى كلّ شيء
ازمنة صعبة
هكذا هو مصيري
نصوص لا أدري مدى صحتها ونسبتها للهنود الحمر فقد وقع أن رجال الكنيسة هم من وثّق ودرس ثقافة هذه الشعوب ونقلوا آدابها إلى لغاتهم بعد أن مارسوا عملية إبادة ثقافية. عدت بالذاكرة إلى الآباء البيض في شمال افريقيا فقد وثق هم أيضا تراث البربر بيد أنهم وفي الآن مارسوا إبادة ثقافية أو كما يقول الشاعر الفرنسي برنار نويل مارسوا اغتصابا ثقافيا مدمرا للشخصية وهو أشنع من الاغتصاب الجنسي
اغتصاب نشهد آثاره اليوم لدى الانتليجنسيا الفرنكوفونية في المغرب العربي الذين يمارسون معاداة الذات وتعذيبها…
أحسست في لحظة ما تماثل هذا التراث مع أعمال الكاتبة البربرية طاووس عمروش وشقيقها جون عمروش اللذين جمعا بمساعدة الكنيسة تراث البربر الشفوي
كان جون وطاووس عمروش عنوان جيل بأكمله نمى في ظل التبشير المسيحي الذي قاده الكادينال دي لافيجري
عندما بدا لفرنسا وكأن الأمر استتبّ لها ونجحت في فرنسة الجزائر وتمسيح الكثير من أهلها …
وعدت أتأمل الغابة من حولي … آه هذه هي الأرض التي نطأها هشام شرابي وأنا كانت قبل أربعة قرون لشعب آخر اقتلع منها فجأة . ربما أن هشام كان يفكر في تلك اللحظة في اقتلاعه من أرضه ويحس بتماهي مع الهندي الأحمر فالصهاينة يتبعون في فلسطين نفس الأسلوب ولكن بإخراج مختلف وسط صمت إعلامي إجرامي عالمي
كان الصوت المجهول حاضرا أكاد أسمعه إنه صوت الهنديّ الأحمر يأتيني من أغوار بعيدة وكأنه ترتيل داخل معبد. صورة المشهد الأخير من شريط كوبولا القيامة الآن
خلقت الأرض بقوّة الشمس ويجب أن تظلّ كما كانت في البدء…
العالم عند بداياته لم تكن فيه حدود وليس للإنسان أن يجزّئه
أرى البيض يثرون في طول البلاد وبدأت انتبه إلى أنّهم يريدون أن يمنحوننا أراضي بلا قيمة حياتي والأرض شيء واحد وهذا البلد قدّ على قياس أجسادنا كيف تجرأون على الزعم أنكم مرسلون من الإله لتكلموننا هل تعتقدون أن الخالق بعثكم إلينا لتتحكموا فينا كما بدا لكم ؟ لو اعتقدت بذلك لاستنتجت أن لكم الحق في التحكّم فيّ. لا تسيئوا فهمي حاولوا أن تدركوا عمق العاطفة التي أحملها لبلدي لم ادّع أبدا ملكيّة الأراضي ولم أدّع أنّي أستطيع أن أفعل بالأرض ما أريد . الوحيد الذي له حق التصرّف فيها هو الذي خلقها أمّا أنا فأطالب بحق الحياة في بلدي كما أعترف لكم بحقكم في الحياة في بلدكم
وأمر الهنود الحمر قبل مجيء الرجل الأبيض إلى القارة الأمريكية شبيه بأمر العرب في العصر الجاهلي كانت تقوم بينهم الحروب والوقائع وتعقد بينهم العهود والمواثيق… هكذا شرح لي الأب بودوان الذي أخذني معه إلى قرية لاشين لقضاء بعض المعاملات البنكية…
ولعلّ هذا النص الشعري الذي هو ميثاق سلام جاء بعد حروب طويلة بين العشائر الهندية شبيهة بحروب داحس والغبراء في العصر الجاهلي
السلام الكبير
من شجرة السلام الكبير نبتت جذور / جذر في الشمال وآخر في الشرق وفي الجنوب جذر/ وأخيرا واحد في الغرب/ إنّها الجذور البيضاء الكبيرة جوهر السلام القويّ / في أعلى شجرة السلام الكبير وضعنا صقرا قادرا على الرّؤية البعيدة. إذا ما رأى في الأفق خطرا مهدّدا نبّه سريعا أقوام الجامعة / أنا تيكاناويتا والقادة المجتمعين نفتح الشجرة الكبيرة من جذورها ونرمي في روحها كلّ أسلحة الحرب / نرميها في ظلمات الأرض في المياه الجوفيّة التي تمضي إلى المناطق المجهولة إنّنا نرمي كلّ أسلحة الفتنه/ نقبرها عميقا / ونعيد غرس الشجرة / هكذا يجب أن يقوم السلام الكبير ومستقبلا لن تكون هناك حروب بين الأقوام الخمسة والشعوب المجتمعة ستذوق طعم السّلام
روديسيا أخرى
و لكن الهنود الحمر ليسوا شعبا منقرضا كالفراعنة مثلا أو صورة سينمائيّة غرائبية تقدّمها هوليوود للعالم وإنّما هو وباختصار شديد شعب لا يتمتع بحقوقه فوق أرضه. شعب مثل كثير من الشعوب في عالمنا المعاصر التي حرمت من أرضها مثل الابروجينال في استراليا والزولو أيام تحكم العنصريين البيض في جنوب افريقيا والفلسطينيين اليوم شعب صامد رغم مؤامرة الصمت من حوله
كتب أحد المحللين السياسيين في مجلة دربي MON CHEMIN (بمعنى الدرب الذي يوصل للاستقلال) الكندية المناضلة مدافعا عن الهنود الحمر
? الانسان البدائي ينهض هناك حركة عودة لدى الأهالي في كلّ بلاد العالم؛ عودة إلى تقاليدهم الرّوحيّة والسياسية والاقتصاديّة وخاصّة عند سكان أميركا الأصليين حركة بدأت سنة 1967 إنّه لأمر عجيب أن نجد الغرب وخاصّة في أمريكا الشمالية يجهل هذه الحركة الهندية الحمراء التي تطالب باستعادة حقوقها السياسيّة. هل هو جهل أم تجاهل ؟ وهل لدينا في الدّاخل هنا في الكندا روديسيا أخرى ؟!
في بيت ثلفة كوغناواغا غطست في هذه الوثائق والأوراق كان الشاب الهندي الذي يقف حذوي يلتفت لي وكنت أرى في عينيه غيمة سعادة أن يكون هناك إنسان جاء من بعيد كشاهد على الاعتراف بوجودهم
وكنت أقرأ نصا لأحد زعمائهم اليوم وفي نفس المجلة وبلهجة مطالبة وغاضبة بالطبع
? شعبنا هو أوّل من سكن هذه ألأرض أرض يواكان نحن نعيش حياة مترحّلة ودائما تجدنا متحركين عبر الوهاد ذات المناخ القاسي في شكل جماعات عائلية يتراوح عددها ما بين 10 و15 نفرا كلّ الأراضي كانت لنا من الأنهار إلى قمم الجبال نحن نحتفي بالأرض لأنّنا نعي أنّها حياتنا. إن الاحتفاء بالأرض يعني الاستمرار . وكان شق طريق كلونديك Klondike من أجل استخراج الذهب وكذلك بناء طريق الألسكا قد أدخلا الكراهيّة إلى اسلوب حياتنا وجعل علاقتنا بالأرض مضطربة. لقد أبعدتنا وزارة الشئون الهندية عن أراضينا لتجمّعنا في مستعمرات صغيرة قريبة من الطريق وذلك لإجبار أطفالنا على الذهاب إلى المدارس التبشيرية قسم كبير من شعبنا نسي لغته وتفشّت فينا حالات الكحوليين والمرضى النفسيين. صرنا شعبا منكسرا وتقريبا متسولين في وطننا لهذا نقول لا تمدّوا خطوط النّفط قبل الاستجابة إلى مطالبنا في الأرض… الأموال ليست إلا بعضا من مطالبنا ما نريده هو الأرض؛ هو الاعتراف بحقوقنا على الأرض إن قاعدة حقنا وقاعدة التّحكّم في حياتنا هي الأرض ?
أجل للأرض دلالة عميقة وغائرة في وجدان الهندي الأحمر وعقيدته هي ركن من أركان الديانة الهندية الحمراء الأرض مرتبطة بالحياة الواقعية المباشرة والحياة الواقعية هي التي تشكل الحس الديني لدى الهندي الأحمر. أي أن الواقعي لديه مقدس والمقدّس واقعي. وهذا ما يجعل هذا الشعب أكثر رقيا من الانسان الغربي المعاصر الذي انفصلت حياته عن المقدّس… وهذا ما جعل أنطونان أرتو وجون ماري لوكليزيو وكثير من الكتاب والرحالة الغربيين يهربون إلى هذه الثقافة
ولأن الحياة في معتقدالهنود الحمر مادية وروحية في الآن فالأرض بالنتيجة هي أيضا كيان روحي غير قابل لأن يكون ملكا لأحد أيّ كان. ولعلّ هذا من الأسباب التي يسرت للإنسان الأبيض الجشع الاستيلاء على الأرض وربما هي أسطورة أشاعها الرجل الأبيض ليشرعن الاستعمار إن كورتيس بطل رواية كنراد قلب الظلام نموذج مهم للكشف عن تلك التجربة التي خاضها الرجل الابيض بدءا من القرن السادس عشر عندما بدأ يجوب بحار العالم وينشئ المستعمرات والمصارف البحرية في أراضي الشعوب الأخرى واستنادا لهذه العلاقة الدينية بالأرض نجد الرجل الابيض يستغل هذا الاحساس لشيء آخر فبعد الاستيلاء على الأرض بدعوى أنها بلا مالك نجده اليوم يستغل الهنود الحمر في بناء ناطحات السحاب مشيعا أسطورة مفادها أن الهندي الأحمر لا يصاب بالدوار في المستويات المرتفعة لأنه إبن هذه الأرض
***
يقول زعيم هندي آخر معاصر مختصرا المعاناة الهندية اليوم
بلا أرض لا يكون للهندي شيء. شعبنا مرتبط بقوة بأرضه وهذا الاحساس متغلغل في تقاليدنا نستطيع دائما الحصول على المال ولكن لا نستطيع أن نخلق الأرض إنّنا لا نتعامل مع الأرض كشيء قابل لأن يملكه فرد الأرض كأشياء كثيرة أخرى لدينا موجودة لينتفع بها أكبر قدر ممكن من الناس ونعتقد أن ليس لأحد أن يملك الأرض. لا أحد يستطيع ذلك ونحن ننتفع بها مدّة إقامتنا عليها ونرعاها حتّى يتمتّع بها أطفالنا من بعدنا وأبناء ابنائنا. وإلى أن تعي حكومة كندا قيمة الأرض عندنا وموقفنا منها ومن الملكية يومها نأمل في تفاهم معها
و الحديث عن هنود كندا وهنود الولايات المتحدة بشكل تجزيئي هو تزييف لحقيقتهم القومية فالحدود القائمة بينهم كانت وضعتها وزارات المستعمرات في البلدين فالهنود ينقسمون إلى قسمين الألغنكيان والايراكوا وحدود أراضيهم تتجاوز حدود الكيبيك الألغنكيان يقيمون فوق الأراضي الممتدّة من شواطئ الأطلسي حتّى السهول ومن خليج أونغارا حتى كارولينا أما الايراكوا فهي الشعوب التي تسكن أراضي حوض القديس سان لوران والتي تصل مساكنها حتّى بحيرة أنتاريو ثم تنحدر جنوبا حتى ماريلند… لذلك فتقسيمهم اليوم تعسّفي لأن توزيعهم الاداري لم يأخذ في عين الاعتبار هويتهم الأصلية لقد وضعتهم حكومتا كندا والولايات المتحدة في تجمعات سكانية أو مستعمرات RESERVES متجاهلة هوياتهم القومية واللغوية.
إضافة إلى ذلك فإن احصاءهم لا يشمل سوى الهنود المسجلين حسب القانون الهندي لسنة 1876
… ومن الأشياء الغريبة أن هذه القوانين استلهمتها دولة الكيان الاسرائيلي في وضع تشريعات الإقامة بالنسبة للفلسطينيين ولعل ذلك يعود إلى تشابه طبيعة أصل النشأة بين الولايات المتحدة والكندا ومن جهة ودولة الكيان من جهة أخرى فهذه الدول قامت على جريمة تصفية شعب بأكمله والحلول محله… وما تزال الصحافة العربية توصف الأمر على أنّه صراع عربي اسرائيلي يرددون كالببغاء هذا التوصيف الصهيوني في حين ما نشهده استعمار استيطاني مصحوب بتطهير عرقي.
في آخر الظهيرة يمرّ عليّ الأب بودوان ليأخذني بسيارته إلى منتريال ويروي لي في الطريق بعض ذكريات رحلته الافريقية في تونس والجزائر أواسط خمسينات القرن العشرين ويتخلل حديثه بعض الأمثال والحكم الرومانيّة حكم من القرون الغابرة والتي تبدو معاصرة . كان يتلفّظ بالحكمة ثم يصمت للحظة يترك لي مجالا لاستيعابها ثم يستأنف معلقا هذه الحكمة قيلت قبل أكثر من ألفي سنة أرأيت كم تبدو معاصرة ؟؟!!!
ويعقب
الإنسان المعاصر لم يضف أشياء كثيرة كلّ ما يقال اليوم كان قد قيل من قبل …
أتذكّر غوته العجوز في آخر أيامه عندما كان واقعا في حب تلك الفتاة التي لم تتجاوز الثامنة عشرة وكأنّه ومن خلال تلك التجربة يعيد اكتشاف العالم في ضوء جديد وفي هذا الضوء باح لصديقه إيكرمان مدون أحاديث غوتة في كتابه حوارات مع غوتة
قال : لو كنت أعرف كل هذه النصوص القديمة ما كتبت حرفا… كان غوتة في تلك الشيخوخة قد زايلته تلك النرجسية التي تستبد بالكتاب الشباب فيبدو لهم وكأن العالم يبزغ لأوّل مرّة مع تفتح عقولهم وأرواحهم… وأن ما سيكتبون بلا سبق وأنّ العالم ينتظر الخلاص على ايديهم
كان الأب بودوان يقود السيارة الأمريكية الواسعة مسترسلا في شبه مونولوغ وكنت بجانبه أتطلع على مشهد العالم من حولي وأصغي إليه بنصف وعيي وكأن صوته يأتي من زمن آخر… كنت أستعيد أحداث وصور هذا اليوم الذي قضيته عند الهنود الحمر في قرية كوغناواغا… كلّ شيء بدا غريبا طرقات المدينة الخاوية الريح التي تزيد العالم وحشة جدران الكنيسة الحجرية الصفراء العارية الشبيهة بقلاع القرون الوسطى.. جهاز التلفون الأسود فوق الطاولة الخشبية الوحيدة العارية… الكوّة الدّائريّة التي يتراءى من خلالها منحنى نهر سان لوران أزرق في البعيد… المرأة الثخينة التي تدير مخزن الصناعات التقليدية.. الأحذية الوبرية.. عقود الخرز الملونة ومعاطف الفرو وتيجان الريش الملوّن وصور القديسة تيكاكويتا الفتاة الهندية.. صور بيوت الايراكوا المستطيلة… الشاب النحيل ذو الشعر الأسود الفاحم المتهدل على ظهره الشبيه بصورة الهندي في افلام الوسترن والذي يتحدّث عن الأجداد وكأنه يحاورهم فالماضي لديه هويّة وطاقة اندفاع وحس انتماء يزيل الغربة التي يشعر بها داخل المجتمع الكندي الأبيض…
ها أنا في عالم واقعي وغير واقعي … هل كوغناواغا قرية افريقية
وبدا لي فجأة أن كوغناواغا وهم…
فكوغناواغا تقع على خلفية سديمية خاوية. انبثقت هكذا فجأة فوق غمر من الآلام السوداء الرهيبة. آلام مبثوثة في الأجواء آلام لم تختف مع انقراض أقوام تلك الأصقاع شعوب الموهاك والزّوننداغا والكيبيان والأونيد … كوغناواغا معزولة ومنسية وضائعة في الشمال الكبير قرية بلا زمن بلا مقدّس… قرية انبثقت ذات ليلة معتمة من سنة 1667 كمحطّة لجوء عندما جاء طوفان الرجال البيض من الغرب
وتجد نفسك تتمتم كلمات الشاعر الإيطالي جوزيب أنغرتّي
أصغي إلى رفيف حمامة تأتي من طوفانات أخرى…
ولكنّك تتسمّع في أعماقك إلى حشرجة شعوب بأسرها تتكلم لغات بكر لا فواصل دلالية فيها بين كلمات ماء ونهر وبحر … تصغي إلى أصوات ما تزال تتردد في الأثير أصوات مكتومة قادمة من أزمنة أخرى لآلهة وحيوات ومصائر بشرية أوغلت في الرماد… قارة بأسرها تتحوّل إلى مقبرة لشعوبها مقبرة بلا شواهد
ثمة طوفان الرجال البيض جاؤوا كالجراد ولكن لا أرى حمامة أونغرتّي وإنّما أصغي إلى ترجيع صوت ذاك الشاب الذي التقيت ببيت الثقافة في تلك الظهيرة الشمالية شاب أسمر على حمرة خفيفة شعر سبط طويل معقوص على شكل ذيل حصان ومتهدل على ظهره وعين كعين حصان فيها قوّة وبراءة وحزن دفين وأستعيد كيف سألته عن الاسم الأصلي لنهر سان لوران أنا المهووس بتسمية الأماكن والجغرافيات لم يجب على سؤالي ربما لأنّه هو نفسه لا يعرف جوابا وأتذكّر أنّي قلت له كيف تسمون البحر بلغة شعب الايراكوا فأجاب على الفور كانيا دا ري ومعناه الماء الكبير والنهر هو الماء الوسط والماء العادي يسمى أهنيغا الماء الصّغير وشعبه يسمّى كذلك شعب البيوت المستطيلة
لا.. لا.. لاتذهب إلى كوغناواغا إلى شعب البيوت المستطيلة فلن تجده هناك ستجد الأب بودوان في كنيسته ذات صباح مشرق شديد البرد والخواء.
خالد النجار*