1 -على سبيل التذيع والتسميع:
ماذا يستطيع الشعر فعله هنا والآن؟ ماذا بمقدوره أن يضيف على عالم يتبنى طريقة أخرى عنوانها ومحجتها: تكنولوجيا الصورة والمعلومات، ونهجها القوة في كل شيء: في الاقتصاد، في السياسة، في الرأي الواحد والوحيد ما أفضى الى العولمة مباشرة في تصدير قيم معطاة ومعلبة؟ ومن ثم، هل يستطيع مع الابداع عموما، أن يسهم في فك الحصار عن كوى الضوء الباقية التي تفضح الظلام والغطرسة، وتشيئ الانسان؟
هل بمكنته أن يلقي الحصاة، وينفذ الى ما وراء الدوائر والأشكال؟ ويسبر بالتصميم والإرادة، العتمات والمجاهيل، ليرجم بالورد والعطر، والندى، طيور الدم، والسماسرة، ومشعلي الحروب؟ الا تقودنا هذه الأسئلة بعيدا عن الإلغاز والاضمار- إلى الكلام عن رسالة الابداع، وبالتالي الى مراجعة ما تكرس من مفاهيم متجاذبة متنابذة، عن كيفيات وماهيات الإبداع ؟.. وطرق التواصل والتوصيل، وأسس التلقي والاستقبال ؟! لكن، أليس لهذه الرسالة من أقنية أخر، ومجالات تفعيل وتصريف.. لعل أهمها الصحافة والاعلام والمقال والتعليم؟، ثم كيف تشكل الشعر وانبنى وتبلور في العصور السحيقة حتى نعود إلى النشأة.. والى الطفولة البشرية؟ وهل له حدود إبستمية مرسومة بالطباشير، وذائقة مورثة متفق عليها، ومعايير قياسية نرتد ونركن اليها غب الخلاف والاختلاف؟ وفي الألسن والجغرافيات المختلفة كلها، ألم يعتبر الشعر الحق سحرا.. وضوءا منفلتا.. هاربا متمنعا على القبض؟ أليس خلود الآثار الشعرية الباذخة، المخترقة للأزمنة والأمكنة، تلك التي تلتمع في ليل الحضارات، حداثة واختلاجا ترعش كلما لمسناها، وتسكرنا بالطيب كلما فركناها، متأت من ديمومتها الخضرة، وجمرتها المتوهجة، ومائها الزغرب الدافق، وضوئها المتلألئ الملفوع في مشيمة من اثير وهواء ونور؟ أية رسالة بلغت تلك الأشعار فادحة الجهد والمعاناة والوحي والنحت والبناء، إن لم تكن رسالة الجمال والمحبة، والرعشة الأشهق بالحياة.. للحياة؟! ومن الغريب أن تستمر كثير من الدعاوى المعطوبة – في ظني- على سبيل لاحب، مطالبة بالوضوح، وتقريب المأتى، والإنصات إلى الواقع المنكسر من أجل عكس نتوءاته، وتضاريسه في النص، وفقا لعمود فني يابس، وصور تكلست بفرط الاستعمال والوط ء، وبلاغة عجوز بله حيزبون تتكئ على منسأة منخوبة ومهترئة… ولغة تهتف قبل أن تفكر، وتبوق بالشعار والخشب والانتصار الوهمي على عدو موهوم: يحدث هذا عندنا- في العالم العربي- ويسري التصور إياه – وذلك مكمن الخطورة – إلى مناهج التربية والتعليم، مما يترتب عنه فصام معرفي ولغوي وفني في آخر المطاف، وفئوية اجتماعية منقسمة تختلف في الثرثرة والميوعة، أكثر مما تختلف في الواقع على مشروع مجتمعي بين أو مغبش المسالك والشعاب والهدف. وتلك احد مطبات السياسة التعليمية، وجريرة أصحاب القرار.. سدنة الماضوي والبالي والمتآكل، وأعداء التطور والانفتاح والتفاعل الحي بين بني الإنسان .
ألم ينتبه هؤلاء السدنة، بل قل – تظاهروا بذلك- إلى أن الحداثة تغلغلت فينا نحن الهاتفين بها، كما تغلغلت فيهم هم الكارهين لها، وان على إيراد واستيراد ومجلبة؟ المهم ان الامور أخذت طريقها وأصبحت ملء السمع والبصر والحياة والمعيوش… المهم أن نواصل التحديق الواعي في الجديد بعيون واسعة يقظة منتشية لا عشواء ولا مبهورة، وأن نرهف السمع، ونرهف القراءة والمتابعة لنستحق رهاننا بله عصرنا.
لقد آن أن يعمق الشاعر – وقد فعل – اتصاله الحميم بالعالم.. بالانسان، بالأسئلة المطروحة، بكينونته وأبعاد هذه الكينونة، بالتجارب الكونية في الفلسفة والعلوم، كما في الفكر والابداع عموما. ذلك ان هناك تجارب بالغة الغنى والثراء والإدهاش شعرا ونثرا وتشكيلا وموسيقى. ولا يظن امرؤ أننا نقطع الحبل أو نرومه مع تجربتنا التراثية الشعرية والفكرية المضيئة، وكيف السبيل الى ذلك، وهو دمنا ونبضنا الذي به حياتنا؟!
إن الشعر سيظل ضرورة وجودية وجمالية ما ظلت الحياة لأنه صنوها.. ولأنه كذلك، فإن قسطا من الاعتكاف والاستغراق فيه، واعلان المحبة والعشق له، موصل الى التقاط رعشاته واختلاجاته، ومفض إلى أغراره وقيعانه حيث الوجود والذات مسطوران، والقلق العاتي مستعلن ونابح، والماء مندفق وسلسبيل. كل شعر لا يقول الوجود والقلق والموت بالمعاني كلها، والأنا المشطورة المذبوحة والمتجددة ، والذات في انسحاقها اليومي وتراجيديتها، ماله الانحسار والنسيان في غمرة التبدلات المهولة، والابدالات والزحف الزمني. ذلك أن ما يبقى هو الجوهر.. والجوهر في الشعر هو الاستجابة الأولى والأخيرة لنداء الذات وايقاعها.. ونداءات الشعر.. واذا كان الشاعر العظيم وهو لدرلن قد قال: "إن اللغة أخطر النعم" فقوله هذا مدعاة الى التسبيح والتمجيد لهذه النعمة الخطيرة، والحرص- كل الحرص – على صيانتها بامدادها بالجهد والحب والمراودة. وعلينا أن نتمثل قول "رامبو" الخالد الذي أدرك باكرا، عمق اضافاته للشعرية العالمية، وأدرك قيمة ابتداعه التاريخية: "ابتدعت أزهارا جديدة ونجوما جديدة، ولغات جديدة …".
2- صهيل الحواس في برية الصورة:
ضمن السياق إياه.. والإطار العام هذا، يندرج كتاب عزيز الحاكم الشعري الموسوم ب:
عطر الذاكرة؟ فماذا عن عطر الذاكرة؟ إن عطر الذاكرة هو عطر الشعر أيضا، وهو عطر الجغرافيات والامكنة الملونة. وعطر النساء الوضيئات المضيئات، والبضات المضات المترعات شهوة وملذة ومتاعا. والكتاب أيضا، استعادة للروائح التي تلبثت بالحجرات الفارغة والردهات الباردة والرطوبة الماحقة. بالعطر المتعدد والغزير، يستقوي الشاعر على اليومي الكريه، والواقع الآسن.. وعلى المنفى والاغتراب في الذات والوطن، وعلى الاقفاص الضيقة والوسيعة، ثم على الموت الذي يتهدد الروح باليباس، والمعنى بالامحال والمحو. ثمة إصرار على قول الذات وتشريح الرغبة الحسية، وان لفت في قماط سوريالي النسج، صياغيا على مستوى البنية الفعلية والمصدرية.. وهما البنيتان المهيمنتان على البناء اللغوي والاستعاري العام. هكذا يتسيد الفعل المضارع أجواء الديوان، فيشيع النامة أولا.. ثم الدبيب والحركة تاليا، يذيع الدخول الى الوادي المقدس: الى مجرى اللهب، مستحضرا العطر، والمعطور، وقاطفا الطيوف، وبعضا من الفواكه المحرمة!!
ومحتشدا بالمرارة حتى العظم، يقول خيبته، فيضحى العطر مواربة وزوالا.. أو حصصا زمنية وردية يتيمة مقتطعة من عمر وممارسة حياتية موسومين بالأسى والتفتت والضياع، فكأن العطر مجرد سيمولكر I( (Simulacreلميتم مقيم، يقول الشاعر حيرته وقلقه الوجودي ورعدته الأليمة كما طائر منزوع الريش والعش وسط عاصفة ثلجية سوداء!:
– بوهيمي أرقته النهارات العارية ..
– بوهيمي حيران ظن أن الحب مجاهدة
– وأن البلاد التي أطعمته المرارة
– قد تحمي قدميه
من أشواك الاقامة ..(هارا كيري)
– وهو قناص مولع بالهواء.. حتى انه: (كلما انتابني رحيل ساحر
أورق ضحكي..)
الظمأ أس الديوان، ونسغه اللاهث في شريان المكتوب: (بالمعنيين)!.. هل للظمأ نسغ؟
والشاعر عطشان بله صديان لما يرتو برغم الماء والينابيع المتاحة الوفيرة، هل هي وفيرة حقا ومتاحة؟ وفي "خميس الأميرة" يتجسدن خشبا مسندا، وجذع نخلة خاوية، وأعمى ثقب ضوء إبصاره سهاد لا يريم :
– (دليني ايتها الأميرة الكتوم على باب الصباح فقد هرم السهاد في شراييني…)
لكنه يضحك.. تتردد الملفوظة في الديوان كثيرا.. غير انه ضحك كالبكا..
كما قال المتنبي الشامخ:
وكم في مصر من المضحكات
لكنه ضحك كالبكا
مصر؟ سيان او أي بلد عربي. فجميعها تستلف الوجه والسمت والنعت من واقع الحال، فتضحى هي هي!! تتجاور الصور الشعرية تحكمها عروة وثقى، وحواس صادمة، تتلألأ في المتن، فيشقى بها الوعي، وينفطر لها الخاطر، حواس تتراسل صاهلة، فينتسج العذاب ضفيرة غدافية.. وأرضا ماحلة، وخرابا تظلله الغربان: الطيور الجنائزية بامتياز، ويقود فيه العميان العميان الى حفر لا قرارة لها: الصفعة المحظوظة -عاصفة بكماء- البرد العجوز- الجاثوم – الكابوس الأخضر- صولجانات الأسى- ازدهار المرارة …. الخ .
لقد أصبح الشعر يصدر عن منابع ومصادر بالغة التنوع والثراء، تتبنك العين فيه مكان الذهن والاستحضار، ويصدر عنه بنية معرفية تتقاطع ضمنها وفيها، كليات ومنجز ثقافي ذو رؤى ومرتجعات كونية، واستلهامات متخالطة متشابكة، يعسر على المتعجل استبارها.. ولنا عودة متقصية الى ذلك لاحقا.
وينهض نص: "ما تبقى من عطرها" ص88، على تورية ذكية ذات قاع وأجنحة، ومشترك خفي عميق ذي صفاق وسدادة، لأن امكانية تداخل الدلالتين بل الدلالات، قائمة ومستشزرة، وامكانية التوازن بين معنيين عريضين يتشاكلان ويتخالفان وفقا لزاوية القراءة والتأويل او اتصال بالسياق النصي العام، تنتشر ظلالها على: "ما تبقى من عطرها" أو هو نص يلحم مقاطعه الهواء، ويبلور وحدة بؤرته ضوء رهيف وبعيد، إنه ضوء الشعر، وهكذا تتم التورية على مستوى الملفوظات الآتية:
الأصابع – الشعر- لا تبكي (وقصدي استكناه معنى الالتفات الخبئ) التي تدخل، على التوالي، ضمن العنوان، وضمن الابيكرامين – الشذرتين: أوج – "هنيئا لي بأصابعي"، و"عبقرية مبتذلة" إذا تساهلنا.
إن اللمس: "الأصابع"، والشم: "العطر"، والعين: "الجغرافيات والأمكنة التي رادها الحاكم" والسمع "ضحك الغيب – خرير الجاذبية= – النحيب الحلو- أسنان المغامرة التي تصطك"، والذوق: "عصير الدهشة – حليب الصدمة – رضاب العزلة – الماء الصلد…." والاستبصار إذا اعتبرناه حاسة أخرى.. حاسة عرفانية وباطنية: هواء الخيبة – دبيب الخسارات القادمة – الكسوف المجيد الآتي. كل هاته الحواس تتواتر، وتتبادل المواقع في قماط من الفكاهة السوداء، والخيبة المريرة والبهجة/ الفقاعة، والباروديا بعامة: صاهلة ومنجزة وعدها ورهانها: كتابة تجربة حياتية حادة المراجع، وخضراء الروح لها مسارها ومصيرها، وتجربته كتابة شعرية لها ألقها، ومغايرتها ولغتها.
3- قياسات الفقدان، وتقشير المرايا:
لا تقوم التجربة الابداعية على فراغ، ولا تصدر عن ذهن خال من تعاقب المر والحلو، والنييء والمطبوخ، كما انها لا تقطع حبل سرتها مع السابق والماهد، والمنجز التجاربي المحلي والإنساني. إن الخطاب الشعري كتجربة أو ممارسة مبنينة ضمن مصطلح ونسق متواضع عليهما بوصفه جنسا تعبيريا ولغويا راقيا يكهرب اللغة ويضيئها، يموسقها ويوقعها أيا كان الايقاع وزنا وقافية أو جماليات متجاورة أو مجانسة وسجعا أو تشقيقا للألفاظ، وتوليدا لضفيرة من المعاني متشحة بألوان الطيف، وهاربة من اللمس والمواقعة المعممة، هو محاورة وانصات، وتفاعل مع الموروث والمحايث والمجايل، وامتصاص وتناص، لقد قال ايليوت: "ليس من شاعر يؤدي معناه وحده، بل إن ما يؤديه من معنى هو ثرات يؤكد حضوره بعنف، جميع الموتى من الشعراء أسلافه".
على أرضية هذا الكلام ، يفضح ديوان الحاكم عن حواراته الخفية المطلولة بالجهد والاستقصاء بغية توسيع التجربة واغنائها وشحذها، وقصد تسنين الرؤية والرؤيا، واستنفار كل الحواس، وتأليب الوعي الجمالي على الاستزادة من المعرفة، والعب من حياض/ أعمال المشائين الرائين، والعابرين الهائلين بتعبير "ملارمه" عن رامبو: العابر الهائل، أولئك الذين يمشون بنعال من ريح حسب قول فيرلين "في رامبو دائما: (LHimme aux semelles de vemt) وهي وجوه وأقنعة أيضا، تنتسج بمضاء الماء ورهافة الهواء، مع تجربة عزيز الحاكم، كما أعرفها، يستمد منها عنفوان عمله ويستوحي بعضا من همومها وقلقها الأنطولوجي، وأفكارها، وحواملها الرمزية المشعة، يتوحد معها فتنتصب متبنينة في المفاصل والأوردة مرئية ولا مرئية.. ساطعة الغياب، شاهدة على التقاء الممسوسين في الألم الكبير، وتماس الروح في النياحة والعويل والعواء، أمام البشاعة والشر. هكذا تستضيف الذاكرة المتوقدة والموشومة كلا من الحوري حسين – محمد عزالدين النازي- زاهر الغافري- عمر الخيام – موتسارت من خلال كلبه الوفي- الحلاج – بورخيس – سيوران – نيرودا- كير كغارد. كما تتنزل المدن والعواصم الديوان مؤثتة إياه بما يرفده، ويعلن عن غنى التجربة.. واستواء عودها، وغنى الكتابة بالتلازم والعضوية .
إن القاسم المشترك بين الأ علام المذكورين يكمن في تواشج رؤاهم، وتصاقب احساسهم بالانسحاق والفجيعة في عالم لا يستحق أن يعاش، مما قاد بعضهم الى الانتحار الفعلي أو المجازي: حوري حسين الموندرامي صاحب "الحرباء" والصلب الشنيع للحسين بن منصور الحلاج الذي قال وهو يجر كخروف للذبح: "ركعتان في العشق لا يصح وضوؤهما إلا بالدم" بعد أن رفع يديه الى نافورة الدماء المتحدرة من أنفه المجدوع للتو. فغسل رسغيه وتوضأ بالدم . الحلاج الذي صرح علانية وعلى رؤوس الأشهاد، برغبته في أن يموت من أجل الانسانية، ومن أجل إحقاق الحق، لقد كان يكتب الشعر- تماما- كما يحياه .
يستدخل الحاكم هؤلاء الأ علام مضيئا بهم تجربته، وقادحا شرارته الى الأقصى، مرعوشا حتى النخاع كمن يرقص ذبيحا وهو يقرأ هؤلاء الأصحاب والخلان والأخدان، ويواريهم نبض قلبه متحننا، فكأنما يقول على لسان رامبو الهائل: (كفى ثرثرة إنني أواري الأموات في أحشائي).
– (وينزع من وصايا "سيوران"
أو أي مرتاب مقدس
ريشة قلقة
ويكتب بمرح لا يضاهي:
وسلاما ايتها النزهة اللاذعة )!
وللحق ، فإن ظل "سيوران" الروماني الفرنسي، وعلى الرغم من هذه الإشارة المختزلة لكن العميقة، ينتشر في أعطاف وذرات الكتاب، موحيا وهادرا بالحكمة الأسني: ان نحطم المعنى من أجل خوض تجربة اللامعني، ذلك أن (كل تجربة عميقة تصاغ بعبارات فيزيولوجية. سيوران الذي يصف الشاعر "بالوحش الذي يراود خلاصه عبر الكلمة، والذي يملأ خواء الكون برمز الخواء تحديدا: أي الكلمة".. كما يعتبر أن "تاريخ الوعي هو تاريخ محنته". وبالجملة، فان أهم التيمات المعتادة لدى سيوران، والتي مدار كتاباته عليها، هي: رعب الخواء- الخيبة – الخطاط الكائن – تأصل الشر، وأن الكل يدور حول الألم.. أما البقية فاكسسوارات، (كل هذه النتف المضيئة مأخوذة من ترجمة محمد علي اليوسفي/ نزوى). ومن الشيق أن نرى الى هذا العمل : "عطر الذاكرة" على أنه تنويع أجناسي نبيه على كتابات الحاكم المختلفة وترجماته.. وأنه اذا كان من فضيلة للترجمة فهي التعلم والعلم والانتشاء بما عند الآخر، وبالمنجز الانساني القادم من قرارات ولغات وتجارب مختلفة، يقود التمرس بها، وتعاطيها إلى الكوسبوليتية، والى المتاهات والعوالم المتصادية والمتضايقة والمتداخلة، متاهة كولن ويلسون مثلا، ومتاهة بورخيس المتعدد:
– (أهكذا، إذن يا بورخيس
تبنى المتاهات ؟) (هاراكيري ص 16)
– ومن أين يأتي ذلك الضياء العذب المضياف الذي ينساب على تفاحة الضرير الخضراء؟"
(في نص: نهار مشوب بالغبطة).
وتلك التفاحة، تفاحة أي ضرير هي؟ هل هي تفاحة تيريزياس أم تفاحة هوميروس، أم تفاحة المعري أم تفاحة ضرير بفأس أم تفاحة بورخيس المتاهي؟! والمتاهة هي مطلق تسمية على كل أدب بورخيس:(وعدا عن مدينته / المتاهة : "بوينس ايريس". التي تسكن أعماله، كانت المرايا-المتاهة – النمر- السيف هي الرموز المتكررة، والمضادة أحيانا التي أصبح سجينا لها). يقول: "لقد سئمت من المتاهات والمرأيا والنمور وكل ما تبقى"، وكتب ذات مرة يقول: انه واجبنا الثمين ان نتخيل ان هناك متاهة وشعاعا، لن نمسك بذلك الشعاع أبدا، ربما نستوعبه أو نفقده في فعل إيماني أو في ايقاع.. في حلم.. في الكلمات التي نسميها فلسفة، أو في السعادة الواضحة والبسيطة ".
(عن مرام المصري = ملف بورخيس – نزوى)
إن ما يتغياه الحاكم هو الاقامة االإقامة الكريمة التي تحدث عنها شاعر الشيلي الكبير "بابلونيرودا" لا على الجحيم الأرضي، فالإقامة على أرض جحيم مع الرتابة القاتلة، والتكرار الممض، تجعل حياته نائسة بين صدأ العيش بتعبير أبي تمام، ومطواة اليومي القاطعة، لكن الحاكم يسري عن مزاجه المعتكر بتقشير المرأيا حيث تثوي القامات والوجوه و"الدهشة الزرقاء"، ورمان المعرفة، وتفاح الخطيئة، و"بلل البرتقال"، وحيث النشوة في، والانخطاف الى حدائق وجنان أشبه ما تكون، بجنان بودلير الاصطناعية: حيث العشبة الليلية مليكة، والمرأة فراش وقطيفة، والنبيذ نديم وخليل، مرددا مع "سورن كيركغارد" الفيلسوف الدانماركي الفاتن: "أيتها النشوة الفريدة ما أعذب هذه الحياة !".
حضور كيركغارد الباذخ على مستوى المقولة/ المفتاح، يمنح رؤية الحاكم ورؤياه شحنة أخراة من الضوء فلسفية وشعرية، ويضفي على تجربته الحياتية معنى ودلالة، متجسدنة في اختيار الجادة الوجودية، والتوجه العام للشاعر قراءة وكتابة وترحلا، فإلى اعتباره أي كيركغارد- مؤسسا حقيقيا لفلسفة الذات بوصفها مركز الوجود، فان سورن كيركغارد (عاش حياة معلقة على وتر فوق هاوية الوجود الهامشي. وقد كان يعي العمق السحيق لهذه الهاوية..)، ومن ثم، فان مهمته كانت هي تكثيف شعور الانسان بالقلق والرعب تحذيرا من السقوط في الهاوية).
ويهدي "انحناءات" الى "زاهر الغافري": الطيف العماني الجميل.. لأن الغافري انقذف حياتيا وكينونيا مع شلة من أصدقائه، وانكتب في الذاكرة هبوبا شهيا، وواقعا خداجا، وطيفا عارك الوقت المغربي ذات قيامة فبصمه، وانتشى برفقة وصحبة المارقين صعاليك الحواري والحارات. ثم تبخر في الأجواء وأصبح أثرا بعد عين. هكذا تنضفر الكتابة متواجشة متعاضدة ملتقية فيما يصنع الألم المشترك، ويصنع الحكي الموجع، والبورتريه التوثيقي.. فيلتقي الشاعر الجميل عبدالله الريامي مع عزيز الحاكم حول "الغافري" موقعين مرثاة لعمر جميل.. وحجة على صداقة مركوزة، واشادة "براهب اشعل البكاء" وبرجل عبر وترك عطرا ودخانا:
1 – يقول الحاكم : (جلست إلى تعبي
تداولنا نبيذا وشتائم
فوقنا فضيحة حسناء
تمسح أعناق الزهو
أعرفها حدائق الانسلال
– جند سالون
– وقبائل راقية
– لشحن الأحقاب بالنفايات..)
2 – ويقول الريا مي في نص: "لست للنسيان" من مجموعته (فرق الهواء):
-(ماذا تفعل وحدك في مقصورة العميان ؟
إلى متى تظل تسوس الكهنة والهواء والحنين الوفي
يتمرغ في الاسطبل المجاور لسريرك لك عيون المحفات
وقلب نهشته صقور
ومدن تتداعى الآن في مراتك
قصصا وهمية .
وحدنا نعرف أن ليل طنجة
مصير معلق
في بنطال زاهر الغافري
لابد للشاعر من حتف أنيق يلقاه ..).
4- عطور ودبابيس:
رغم أن الاختزال يسيء الى العمل الشعري، والتجربة الكتابية بعامة، بما هي خيط ممدود، ومشدود إلى مفاصل المقروء وصوى المنجز والمتراكم عبر الكتابة والمحو، والنتوء والضمور، والى علامات ومنعطفات تطبع الحياة ، وكيفيات ممارستها وترويضها، أو سوقها الى حافة الجنون، وشفير الخبل والعصيان ودوس القيم، رغم معرفتي بذلك، فلا مناص من الاختزال والقول بأن "عطر الذاكرة"- وبعض النصوص تشي بذلك- لم يكن عطرا كله وأطايب،واغتلاما ونشوة وشهوة مهراقة، بل كان في طرف منه، في أطوائه دبابيس غير ودية على الاطلاق، تشك الجنب، وتنكأ الجرح، وتهيج الرجع، وتستصرخ "نسيم الأرق" ص 84.
-(فلتدعيني لأحلامي النفيسة التهمي ما شاع من حماقاتي ولا تطرقي بابي بعد الآن
لست هنا
لست أنا
ولست أريد
سوى وردة بيضاء تشبهني).
ليطل "نهار مشوب بالغبطة" ص 74، أحمر العينين من فرط السهاد والسهر.
وهي غبطة حسية وروحية سرعان ما تنقلب الى تبكيت حين يتداعى الشرق العربي الى الرأس المجهدة صدئا.. غارقا في النعاس والذباب، مما يضطر معه الشاعر الى توقيع: "رقصة الطاووس الأعمى" على حطام تاريخي، وحريم متثائب، وكتب صفراء معصوبة بضمادات المكسورين والمرضى، وخرق الحيض المستعلمة! وهكذا يجيء الحاكم:
– (أجئ كالرعد
محمولا
على فوهة المستحيل
اسكب الغضب النظيف
في مرمدة زرقاء
وأدخن تاج العروس
تحت سقيفة الكون ). ص 77
وهو أحد قياسات الفقدان والغياب على نص نزار قباني: "حوار مع أعرابي أضاع فرسه):
-(… وجلدت المهمزة في لغتي وجلدت الياء
وذبحت السين وسوف، وتاه التأنيث البلهاء
والزخرف والخط الكوفي، وكل ألاعيب البلغاء
وكنست غبار فصاحتنا
وجميع قصائدنا العصماء….)
وليس من شك في أن الصور ذات الميسم والنزع السوريالي، والصور القائمة على المفارقة والباروديا، و"الخيبات الجليلة"، والديوان حفيل بها بما لا يقاس، تشكل مجتمعة ومتجاورة، دبابيس ناخسة تقض المضجع، فتحرم نعمة السكون والصفاء، فلنتمثل بعضها على سبيل التزكية والحجة، علما أننا نقترف جرما في حق الكتابة التي لا تكون إلا وحدة مندغمة العناصر، ونسقا مبنينا:
– يقطف من منحدرات العطش
رعشة الندم الأخيرة
– دنف الأتقياء
ونبل الغواني
– ناوليني شفتيك
كي أنعم بافتضاض الهواء
– عجوز يتهادى
وغراب يطفيه الأعاصير
في عيون الرعشة ..
قتامة تقود صبية حدباء
– ثمة دوما اغتصاب عابر
يدفع بالعربات الذاهلة
إلى مسكن البداهة …
لقد اخترنا لهذا الفصل عنوانا فرعيا كما هو بين : عطور ودبابيس، اخترناه، وفي البال والخاطر، ان العطر ناتج الوردة، وانه دون الوردة، الشوك/ شوكها والسياج، وأن الذاكرة تنتشي لحظات مسروقة – في غفلة – عن عين الزمن – لتستفيق على دبابيس وابر ونمال تركض في الدم والشعر والحياة .
5- على سبيل الترصيع والتوديع:
عودا على بدء أقول: لا ينبغي تجاهل حقيقة أضحت في حكم البداهة والمسلمات لفرط ما أثيرت في المحافل وتعاورتها الاقلام والاقدام حتى، وهو أن الشعر قادر، إن لم يكن على تغيير العالم، فعلى قبوله واحتماله بالمراهنة الدائمة على الغد الريان.. والانتظار الذي يحمل بشارات الأمل وارهاصات التحول نحو الخير والمحبة بعد الحرب والاظلام . إن الشعر هو نداء خافت وعال في آن، للانسان فينا من أجل أن نشنق الحيوان المستشرس، والوحش المسخ الذي يسكننا حتى يصبح في طوقنا البناء الجماعي لكاتدرائية شاهقة الخيطان خضراء الأحلام، زرقاء النوافذ والممرات والمرأيا، ولقبة وسيعة رحيبة تحفها الملائكة، وتملؤها الترانيم والمزامير والطيور.
لقد "تساءل مرة هانريتش هاينه" إن كان الشعر مرض الإنسانية (مثلما هي اللؤلؤة مرض المحار المسكين؟). وحين يكون "هاينه" على حق، فان هذا المرض فريد من نوعه، بل هو جميل، من أكثر الأمراض جمالا، ولم نكن – يوما- بحاجة الى الجمال مثل حاجتنا اليه الآن، هل الشعر جمال محض إذن، أم ثمة نفع يرتجى منه؟ نعم، الشعر مفيد دائما، مفيد لأنه جميل".
محمد بودويك (شاعر من المغرب)