يجيء الميت مستندا بقوائمه الاربعة على أربعة رجال ماتوا قبله بسنوات، تنصهر أجسادهم بدءا بالقدم وتذوب، تتحول الى بقع صفراء ذابلة، يستقر الجسد المسجى الى ابتسامة داخل القفص، أعمدة حديدية طويلة تطوق الجسد والابتسامة وطفل يتخلص من يد أمه المقبضة عليه "أريد ان أقفز فوقه".
يصرخ الحاجب "محكمة" تقف الاعمدة والام والطفل وتتشكل البقع الصفراء أقزاما اربعة ثم تعاود الانصهار.
يلكز رجل ملتح آخر ذد شعر كثيف ليتوقف عن الشخير، فينتبه ويمسك بالورقة المطوية ادانه اليوم الخامس عشر قبل المائة وواحد من القرن السابع بعد الذوبان وفي الساعة التاسعة والعشرين سالب تعقد محاكمة (بسمة)، في القضية التي رفعها (اجلال) يطرق الطاولة بعود خيزران تتعلق في طرفه جمجمة، يعاود الشخير.
يقفز الطفل ويصرخ "اريد ان انتف شعره".
يتنحنح اجلال سبع نحنحات وينظر بغضب الى بسمة السابح في بقعه الصفراء "هذا النكات – سيدي – تجرأ على اطلاق نكاته في وجهي البشع دون ان يخاف كالآخرين".
شهق الملتحي وقذف الطفل المزعج بعين أسد تسكن قارورة بجانبه يزدحم بداخلها مزيج من العيون، "هذا النكات – سيدي – تسبب في تحويل سحنتي القميئة الى شئ شبه جميل".
شهقة أخرى وعين أخرى وشخير عال "هذا النكات – سيدي- ارسل باحدى نكاته الى سوسة تسكن نخاعي الشوكي فطردتها وافترشت النخر المتوطن في عمودي الفقري".
يحاول الطفل الفكاك مرة أخرى "سأفقأ عين النكات" تشده أمه الى حضنها وتلقما ثديا نابضا بحليب أحمر اللون.
"سيدي، ما تزال نكته السمجة تققافز بين فقرات عظامي تدغدغها، سيدي انني أكاد اضحك، اكاد أقهقه، أمرته ان يخرج سمه كما ادخله، رد بصفاقه لا استطيع، أمرته ان ينتزعها بيده أو بلسانه او بقلبه فرد بصفاقه لا استطيع، كدت أموت ضحكا سيدي، مددت يدي الى حلقه لاخرج تلك الاداة الشريرة، أداة اطلاق النكات لأخلصه منها وأخلص نفسي من شرورها، فإذا به – سيدي- يسقط أرضا لا يتحرك ولا يتكلم، أدخلت يدي الى جوفه واستللت أمعاءه ولم اجد شيئا، خبأها الخبيث تحت ابتسامته اللعينة، أطبقت شفتيه المنفرجتين أبدا، ظلت الابتسامة تتحداني والنكتة وصلت الى دمي حتى أكاد أضحك، ولا استطيع..، سيدي لا استطيع ان اضحك.. قل له سيدي ان يعطيني نكتة أخرى.. سيدي أرجوك، مره أن يعطني نكتة أخرى.. أقبل قدميك سيدي كما قبلت أعضاءه الضامرة، سيدي قل له أن يمنحني نكتة أخرى او ليخرج أفعاه من لحمي الذي لا يقبل الشواء. سيدي أطلب العدالة.. العدالة ولا شيء سوى العدالة.. سيدي نفخ الملتحي نفخة ساخنة أسقطت القارورة ارضا فانكسرت، تبعثرت العيون المتزاحمة بداخلها، تدحرجت عين الذئب ونظرت الى (اجلال) باجلال فهرسها بقدمه، والتقطت الام عين خروف لم يضاجع نعجة في حياته فأكلتها فازداد حليبها احمرارا، واستبدل الطفل عينيه بعين ثعلب لم يخدع الا الفقراء من البشر وعين قطة لم تولد، واقتربت باقي العيون من البقع الصفراء فابتلعتها، هش الملتحي ذبابة حاولت ان تضع بيضها في لحيته بعود الخيزران فسقطت الجمجمة على رأس الرجل ذي الشعر الكثيف فصرخ (محكمة)- ليفعل المتهم ما يؤمر به.
خرجت فراشة من بين أسنان (بسمة) اسقطت نقطة سوداء على طاولة القاضي ولم ينطق. "هذا شأنه منذ اخرجت أمعاءه سيدي، فلتنصفني العدالة بنكتة أخرى.. أرجوك سيدي"
تنحنح القاضي سبع نحنحات وطرق بالجمجمة سبع طرقات واعتدل "نحكم بامالة التراب على جسد بسمة لتهرب نكاته المختبئة فتنقذ صاحب الدعوى المسكين" قفز الطفل وقد انتفخت عضلاته وطالت ساقاه وعصر ثدي أمه فاخرج جبلين من التراب الناعم، ألقاهما على جسد بسمة المسجى خرجت من البقع الصفراء أسراب من النمل والقمل والبراغيث، اعتلت منصة القاضي، نظر اجلال الى القاضي ذي الشعر يأكله النمل والقمل والملتحي تحرقه البراغيث بنيران صغيره قبل أن تسرق دمه فابتسم، ضحك، قهقه، علت قهقهاته.. "شكرا سيدي القاضي" من تحت التراب خرجت فراشة أخرى وطارت.
هدى النعيمي (كاتبة وأكاديمية من قطر)