كانت أربعون سنة على التقريب تفصل بين عمرى وعمر أبي، وظلت هكذا إلى أن مات، وكانت ثلاثون على الأقل تفصلني عن أمي، وظلت الثلاثون راسخة كما هي إلى أن ماتت، وبعد موتهما اتسعت الأزمنة، وقبل أن أفتقدهما كنت قد بدأت السير في تلك الطرق الضالة غير الموصلة إلى الشعر إلا بعد مسافات وأحايين، وأدركت أنهما، أبي وأمي، لا يصلحان للسير معي، وأنني في حاجة إلى من يؤيدون خطتي، فإن كان يحق لشخص ما ان ينشغل بالبحث عن رفاق سبقوه وساروا على هذا الطريق، أعتقد أنني هو هذا الشخص المقصود، هذا ما كان يخطر ببالي أيامها، ولما كنت قد بدأت الانتباه إلى عدم استعدادي للتكيف مع المؤسسات كلها، مؤسسة اللغة، ومؤسسة الدين، ومؤسسة الحلم، ومؤسسة الدولة، ومؤسسة الثقافة، فقد تعلقت بغير المتكيفين..
وصادفت وصادفني كثيرون منهم، كان ضجيج بعضهم لافتا، وكان ضجيج آخرين منهم يشبه السراب، عبدالحميد الديب، ومحمود السعدني، والحطيئة، ومحمد مستجاب، وبشار بن برد، وصلاح عيسى، إلا أنني اكتشفت أن هؤلاء استمروا مثل ريح صفراء يدافعون عن ذواتهم ورغباتهم وطموحاتهم أكثر مما يدافعون عن العالم الجميل المنشود، والميؤوس كثيرا في وجوده، فتركتهم إلى سواهم، وتركت سواهم إلى آخرين، وكنت مثل الطفل الضائع أبحث عن الممسوسين بالعالم الجميل المنشود، عن صوفيتهم وفنائهم واستغنائهم عن المديح، وعندما صادفت بعض أصدقائى في جماعة أصوات، كنت قد صادفت أيضا ابراهيم عبدالقادر المازني، عند ذاك اطمأننت وأحسست أنني اهتديت إلى اليابسة التي تتسع له ولغيره، ووقفت أمام صحراء خيالية وبحر خيالي وبشر خياليين، واستندت بذراعي على إفريز شرفة خيالية تسمح لي أن أرى ظل المازني، يمشي ويعرج ويضحك ويعبس، ويتذكر أمه، ويسمع الناس المتكيفين حوله، يقولون عنه: هذا الرجل، هذا الرجل، إنه يكره الآخرين ويكره نفسه، المازني يسمع، ويمشي ويعرج ويضحك ويعبس، ويتذكر أمه، ويستمر في سيره، كأنه يعرف الطريقة، وأهل الطريقة، مشيت خلفه، كان يقترب من حديقة أسراره وفضائله، قادني المازني إلى محبوبيه ومحبيه، وإلى خصومه وكارهيه، حتى تعثرت مصادفة ووقعت على مقالة كتبها عنه شخص جعلني أحس وكأنني أوشك أن أتعرف على رفيقي الثاني، كان هذا الشخص هو فاروق عبدالقادر، وبعد أن أفقت من عثرتي، ووقفت بطول قامتي، وقفت كأنني حرف الألف، كأنني إيليف، استندت إلى إفريز شرفة خيالية، هي شرفتي السابقة، فوجدتها تسمح لي أن أرى ظلين، ظل المازني، وخلفه بخطوتين ظل الفاروق، ووراءهما وشيش أصوات ميّزتُ بينها أصوات مسؤولى الثقافة الحكوميين، السابقين والحاليين، كأنها تتمتم بإيقاع جماعي: هذان الرجلان، هذان الرجلان، إنهما يكرهان الآخرين، ويكرهان نفسيهما، أذكر أنني رأيت يوسف السباعي في المقدمة، ورفضت أن أنظر إلى الذين معه، شممت فقط رائحة عرقهم، كانت تذكر برائحة عرق الأراضى البور والبشر الأقزام، وكنت أسمعهم يهتفون كالآخرين: هذان الرجلان، هذان الرجلان، وذلك على الرغم من أن مقالة فاروق عن المازني آخذته على سخريته الذاهبة إلى المتعة فقط، وجعلته، أي فاروق، يتأخر عنه بمقدار خطوتين، المازني في المقدمة، وفاروق الذي يليه، المازني في المقدمة، والعقاد الذي يليه، ففاروق ظل طوال حياته يجري ويلهث وراء الفن الهادف والأدب الهادف والسخرية الهادفة، بينما كان المازني يسير بمزاجه وراحته وأعصابه وراء الفن فقط والأدب فقط والسخرية فقط، فاروق كان يكد ويتعب، والمازني كان يحب ويلعب، فاروق معه بوصلة اجتهد حتى وجدها، وكان ينظفها يوميا خشية أن تتلوث، والمازني ورث بوصلة اجتهد حتى فقدها، وكان يتأكد يوميا من عدم عودتها خشية أن يتلوث، فاروق ابن الواقع، والمازني ابن الطبيعة، واقع فاروق جعله رصينا وصادقا في قسوته ونقده للتفاهة، وطبيعة المازني جعلته طفلا وصادقا في قسوته ونقده، لكن الاثنين اجتمعا على نظافة اليد وعدالة اللسان، اجتمعا على لذة التناقض بين الهدف الخالص والمجانية الخالصة، وشقوة التفاني في أحدهما، أو نعمته، مجانية المازني رفعته درجات في سلم الفن وفقه المبنى، والتزام فاروق رفعه درجات في سلم الرسالة وفقه المعنى، ربما يبدو للبعض أن الأولى أبقى على مدار الأزمنة، ربما يبدو للبعض أن الثاني أجدى على مدار الزمن الواحد، الأكيد أن بينهما برزخا، في سبعينيات القرن الماضي، أشرف فاروق عبدالقادر على ملحق الأدب والفن، الذي كانت مجلة الطليعة القاهرية، طليعة لطفي الخولى، تحتويه بداخلها، وذلك بعد أن تركه غالى شكري، فانكشف غطاء الملحق بسبب اختلاف العهدين، انكشف عن براعة غالي ووحشية فاروق، وكلتاهما البراعة والوحشية ظلت تلازم صاحبها، منذ تلك الأيام وأنا أحاول أن أسرق من يد فاروق خاتم العالم المصنوع من النور الأبيض بحواف مصقولة ناعمة، الخاتم لايناله سوى الباحثين عن النار، في الحقيقة كانت مقالات فاروق تكاد تساعدني على ذلك النوال، فيما كانت أصابعي الأنحل من الخاتم تتسبب في فقدانه، قرأت في الملحق رحلات فاروق إلى الشام وإلى بغداد، ونطقت أسماء أبطاله بطريقتي حتى تعرفت عليه فيما بعد، وأعدت نطقها بطريقته: سعيد حورانية وعبدالسلام العجيلي وزكريا تامر وشوقي بغدادي وحنا مينه والجواهري والبياتي وسعدي يوسف وفؤاد التكرلي وغائب طعمه فرمان ومحمد خضير، كانت طريقة فاروق في حفظ الأسماء ونطقها تستمتع بالحرص على تمام الأسماء، كأن يقول أبو فرات محمد مهدي الجواهري، محمد كامل الشناوي، محمد مأمون الشناوي، ابراهيم عبدالقوي عبدالمجيد، سعيد سلامة الكفراوي، محمد صلاح الدين عبدالصبور، الفاروق عبدالقادر السيد حسين، أدونيس على أحمد سعيد أسبر، قبل تلك الأيام كنت قد اطلعت على جزء من فروة رأس بيروت، وبدأت مطاردتي المحمومة والأثيرة لجماعة شعر، وملاحقتها في كل مظانها، وفي ملحق فاروق، ملحق الطليعة، انتبهت إلى ما كتبه عن أدونيس، كان يحاول تفكيك النسيج المتشابك في أحد دواوينه، ويرده إلى خيوطه الأولى، كأنه يريد لنا أن نرى يد النساج البارع، كأنه يريد لنا أن نمشي معه على حافة الأخدود، صحيح أنني انتبهت أيضا إلى أن فاروق لا يحب أن يضع اسمه بجوار الأسماء الغفل أو أسماء المبتدئين، إنه يحب الأعلام، بشرط أن يكونوا أعلام التحول، أعلام تغيير المسارات والإشارات، ولهذا السبب بخسه أعداؤه وقالوا عنه أنه لا يكتب إلا عن الأدباء العرب، ليلتمس منهم البركة، ونسوا أنه يكتب عن نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي وفتحي غانم والمازني والبساطي ومحمود دياب وميخائيل رومان والفريد فرج وطه حسين ولويس عوض، يكتب عن الأعلام المصريين والعرب، محمولاً على فكرة أن اللغة هي أرض اللـه الواسعة، أرضه الخصبة، وأنه يكتب عن أدب اللغة العربية في أماكنها المختلفة، وانشغاله باللغة صرفه أحياناً إلى ملاحقة الكتّاب الذين لا يجيدونها ويسيئون إليها، وكأنهم غربان الزرع يخدشون عظمها ويهرسون لحمها، كان فاروق لا يحب الغربان، كلنا نذكر كيف فتح صفحات رواية وقائع حارة الزعفراني لجمال الغيطاني، أعترف دائما أنني أحبها، كلنا نذكر كيف أحصى أخطاءها دون كلل، حتى ظهر لنا أن الكلمات الصواب أقل عدداً من الكلمات الخطأ، لم يكن فاروق آنذاك يكره الغيطاني، بل كان يحب اللغة أكثر من حبه للغيطاني، في ملحق الطليعة، واصل فاروق عبدالقادر معركته مع المؤسسة الثقافية الرسمية في كل صورها، وزارة الثقافة واتحاد الكتاب وقوانين النشر وفوبيا الجوائز، وتربص كأنه محموم بكراهية المسؤول الثقافي الخاضع بالضرورة لكتاب التعاليم، أيّ مسؤول ثقافي، حتى لو كان قادماً من خارج الوسط الثقافي أو من خارج الثقافة، حتى لو كان أجوف، حتى لو كان أستاذ تاريخ أو أستاذ فلسفة أو أستاذ بانجو، كان شعار الفاروق الذي التمس منه جادة الرؤيا وجادة الصواب هو: يسقط المسؤول الثقافي القادم، تربص بيوسف السباعي ورشاد رشدي، وأشبال رشاد رشدي الذين، أصبحوا قادة الثقافة طوال الثمانينيات، تربص بسمير سرحان ومحمد عناني وعبدالعزيز حمودة ونهاد صليحة، ولما تغيرت القيادة وانتقلت إلى فاروق حسني وجابر عصفور لم يتغير موقفه، تربص بهما لأنه رآهما أكثر من مرة وهما يختبئان داخل فستان الهانم، ويغسلان سوتيانها، ويدلكان أظافرها، كانوا جميعا يحيطونه بالشبهات التي تسقط عنه سقوط الورق الذابل، وكان يحيطهم بالحقائق التي تلتصق بهم التصاق العار، أشهد أنه رآهم، يموتون وهم أحياء فدفنهم، وأشهد أننا رأيناه يحيا بعد أن مات فجالسناه، في أوائل الثمانينيات تعرفت عليه للمرة الأولى، كنا في مقهى زهرة البستان، ولما أصبحت بجواره سألني: أين نشرت قصائدك، قلت له في مجلات الطليعة الأدبية والبيان الكويتية والثقافة العراقية، لم يعبأ بالأوليين، وسألني عن الأخيرة: أيهما؟ قلت: التي يرأس تحريرها صلاح خالص، صمت قليلاً، ثم أهملني، عرفت فيما بعد، أنه كان سيصبح أكثر أهتماما لو أنني ذكرت له المجلة الأخرى المسماة بالثقافة أيضا، مجلة الشيوعيين العراقيين، فهي هكذا مجلة أعلام، ذلك اليوم بدأت أحس وخزة بروحي، يدعونها وخزة المعرفة الأولى، وفطنت إلى المشكلة بالنسبة لي، هي أن فاروق عبدالقادر كان يعرف كيف يبدأ، ثم كيف يسير، فهو بطريقة غريبة تدعو إلى التأمل، كان يحمل تحت قشرة قلبه، صورة كاملة للآداب والفنون التي ينبغي أن نحبها، والتي ينبغي أن نحيا من أجلها، وكان يحمل فوق لسانه لهجة ناصعة للدفاع عنها، شرط أن تجلس معه بمفردك، وأن تشاركه الشراب، كأس نبيذ بكأس نبيذ، وكوب بيرة بكوب بيرة، وإبريق ماء بإبريق ماء،وأن تنصت إذا تكلم، وأن تتكلم إذا أنصت، وشرط ألا تكون مخادعا أو لئيما أو نكدا، وألا تحاول تقليد أحد من هؤلاء، في أواخر الثمانينيات، كنا، أقصد جماعة أصوات، قد أصدرنا العدد الأول الذي أصبح العدد الوحيد من مجلة الكتابة السوداء، وفي بهو أتيلييه القاهرة، كان فاروق يجلس بمفرده، وبارتياح، بارتياح كبير في الواقع، الآخرون في البهو لم يكونوا معه، بالتحديق إلى وجهه لم أستطع أن أخمن لون مزاجه، كنا أول الليل، اقتربت منه وأعطيته نسخة من مجلتنا، وقلت له بمحبة، ظننت أنها واضحة: نحن نبيعها بخمسة جنيهات، ولكنك أنت وبوضعك الخاص ستدعمنا بأكثر من ذلك، ففوجئت به يمط عنقه كأنه يقف، ويقول بغضب: أنت تكلم فاروق عبدالقادر، أعقبتها كلمات أخرى غير مفهومة، في تلك اللحظة أحسست وكأنني دون قصد أدخلته غرفة مغلقة، أنا أعرف أنه في حياة معظم الناس توجد حجرات أُغلقت ذات مرة ولا يتم الدخول إليها أبدا، لكنها مع ذلك تظل ضاغطة على القلب مثل هواء قديم، مثل هواء ساخن، نظرت إلى وجهه طويلا، كان عنقه قد انكمش وعاد إلى طبيعته، وعيناه ابتعدتا عني، انصرفت في صمت، فيما بعد أرسل لي رسالة شفهية مع أحدهم، أنه يريد أن يقابلني ويعتذر، فقلت: إننى أنتظر لقاءه وأستعجله، ولكنني لا أحب لنفسي أن أرى فاروق وهو يعتذر لي، ثم التقينا، دعاني إلى كافيه الشاي الهندي بشارع طلعت حرب، وشربنا الكابتشينو، حكى لي عن أستاذه يوسف مراد، فأحببت الاثنين فاروق ويوسف، حكى عن صداقة يوسف مراد وبشر فارس، حكى عن دراسته بكلية الآداب قسم علم النفس، وحكى عن شغفه المبكر بمسرحيات تنيسي وليامز، عند ذاك ارتعشت، كنت ومازلت مدعوما بمحبة تنيسي وليامز، حتى أنني أشتهيت أن أرى أصول كتبه، وأن أردد أسماءها بشغف، قطة على سطح من صفيح ساخن، عربة اسمها اللذة، صيف ودخان، الحيوانات الزجاجية، هبوط أورفيوس، الزوجة العذراء، فجأة في الصيف الماضي، وتذكرت ما كتبته غادة السمان، عن ظاهرة تنيسى القصيرة العمر، الظاهرة العابرة، فأشاح بيده، سألته: لماذا لا تكمل ترجمة أعماله، قال: لا، إنها كانت تلائمني أيام الشباب، أيام فورة الجسد، ثم أوقفني كأنه اكتفى من سيرة وليامز، وكلمني عن رواية مدن الملح لعبد الرحمن منيف، كان مفتونا بالرواية، وظل يفك شفرتها، هذا فيصل الذي هو فنر في الرواية، وهذا سعود، واستطرد في اتجاه قراءة تاريخية، تضع الفن في عربة يجرها حصانان، أحد الحصانين أسود غطيس مثل الواقعية، والآخر أحمر غطيس مثل الاشتراكية، والعربة تدوس الحشائش بالطريقة التي تدوس بها الحصى، وأنا أسمعه أحسست أنه يحب رائحة العرق النازف من جسد الحصانين، الذي يشبه رائحة عرقه شخصيا، عموما كنت أخالفه الرأي، كنت أخالفه السبيل إلى الإعجاب، وليس الإعجاب، دون أن أنطق بكلمة فاجأني بإدراكه لذلك الاختلاف، كان يناديني: يامنعم، مثل صديقين قديمين، أمي في أحيان قليلة كانت تناديني: ياالحسن، لأنها فاطمة بنت محمد، هذا هو اسمها، أبي كان يناديني: يامنعم، في المرات التالية حدثني عن عمله مع صلاح عبدالصبور في مجلة المسرح، أحسست غرامه بصلاح، أحسست تفاديه لذكر أحمد عبدالمعطي حجازي، لم يخطر ببالي أنه تفادى ذكر أمل دنقل أو عفيفي مطر، أظن أنهما لم يردا على باله، كأنهما في مكان بعيد، في اللقاءات التالية أهداني بعض كتبه، نفق معتم ومصابيح قليلة، وخيوط الزمن، الكتاب الثاني سيرة لبيتر بروك، والترجمة بقلم فاروق، في كل مرة قابلته فيها، رأيته يملأ حيزا أكبر فأكبر من العالم، يملأه بقدر كبيرمن ذاته، لم يكن ينفق وقتا في الكلام عن خصومه، كان يميل أكثر إلى هواه الخاص، إلى هواجسه في الإمتاع والمؤانسة، لأنه يؤمن بتمارين إمتاع الحواس، حدثني مثلا عن طقوسه في الطعام، سواء الطقوس التي تعلمها من الآخرين، أو التي ابتكرها، وكيف كان أخوه الأكبر، الطبيب فيما أظن، من أجل بلوغ اللذة، يبدأ طعامه بالأكل المتأني البطيء لقطعة أو قطعتين من الكبدة، واثقا أنها ستسد تجاويف الأسنان، وتفتح الشهية لما عداها، كان فاروق مغرما في كتابته بالكشف عن الثقوب في الثوب الأسود، ثوب الكتابة، وبالحنين إلى سدها، لكنه كان يخاف من ثقوب الذاكرة، ويسعى وراءها، نال فاروق جائزة العويس ، ولم يكن قد تقدم إليها، كبرياؤه وخجله الذي يتغطّى بغضبه، يمنعانه من التقدم إلى جائزة، ولكنه (علي الراعي) هو الذي طلب منه أن يفعل، لأن الراعي كان رئيس لجنة التحكيم، أذكر أنه بعد أن حصل على الجائزة، ذهب ومعه مجموعة من كاسيتات عبدالحليم حافظ، وجلس في زهرة البستان، وطلب من النادل أن يضع شريط كاسيت في جهاز التسجيل، وأعطاه خمسة جنيهات، وحتى عندما كانت الموسيقى فقط وليس صوت عبدالحليم، هي ما يصدر عن الجهاز، عندما كانت ثورة الحنين والذكريات قادرة على رفع رأسها إلى أعلى، قادرة على فرد جناحيها وعلى الطيران، كان فاروق يهتز ويطرب، وبنهاية الوجه الأول للشريط، يطلب من النادل أن يقلبه ويمنحه خمسة جنيهات، وهكذا مع كل حركة تقليب، وكان يروقه رؤية حماسة الآخرين إذا شاركوه حماسته، في تلك الفترة لم يكن فاروق عجوزا، بل أنني أكاد أزعم أنني لم أره عجوزا قط، خاصة عندما كان يكتب آراءه من الأعماق التي لا يمكن الوصول إليها، رأيت أبي وهو يبلغ الشيخوخة ويصبح طفلا عجوزا، وتعلمت منه أن جزءا كبيرا من الحياة، يعيشه المرء وهو عجوز، ثم تعلمت من فاروق ومن شيرين وناريمان ومها، أن جزءاً كبيراً من الحياة، يعيشه المرء وهو يرفض أن يكون عجوزاً، ظل فاروق ينتمي إلى أشخاص اختارهم طواعية على مرّ حياته، لذلك كانت أحلامه في أثناء وجودهم بالجسد أو وجودهم بالروح، تطلق روائح البهجة المسكونة بروائح الفقدان، شاهدته هكذا، ممسكاً بالقطبين، قطب السرور وقطب الشجن، لاسيما عندما كان يجلس إلى جوار عبدالوهاب البياتي وشوقي بغدادي، في سنة 1995 ذهبنا إلى المغرب، صبري حافظ ورضوى عاشور وحلمي سالم وابراهيم عبدالمجيد وسعيد الكفراوي وفاروق عبدالقادر، وهناك التقينا بآخرين بينهم البياتي وبغدادي، كان ينادي البياتي بكنيته يا أبا علي، ويسيل نزيف الذكريات، وينادي شوقي باسمه الظاهر، يا شوقي، ويسيل نزيف الذكريات، أما ابراهيم عبدالمجيد وسعيد الكفراوي فقد كان يناديهما بالغائب من اسميهما، الأول يناديه يا عبدالقوي، والثاني ياسلامة ، ثم يجمعهما معاً في مانشيت واحد، عبدالقوي وسلامة، وكنا نحن المصريين نتذكر معها أيام الإذاعة القديمة، أيام (موهوب وسلامة)، وهو اسم لمسلسل هزلي ستيني أو سبعيني، ونوقن أن فاروق يلعب ويتناص معها، في الدار البيضاء ظل فاروق متماسكا، يمتنع عن الشراب، ويتعزى، بصحبتنا، ويمشي مشية المحروم، ويكرمش فمه وشفتيه، حتى أنجز محاضرته التي كانت بالجامعة، ذهبنا معه ، وجلسنا بين جمهور الحضور من الطلبة المغاربة، على المنصة شاركه اخرون لا أذكر منهم سوى عبدالفتاح كيليطو، قرأ فاروق بحثه عن الرواية ، قرأ بموضوعية وحياد، والتزم منهجه ورؤيته، هذه هي المرة الوحيدة التي أراه فيها على منصة، وامتلأت ثقة بأنه أكثر جمالا عندما يضع أمامنا أوراقه المكتوبة ويختفي، كانت المغرب أيامها، وكنا مثلها، نعطي لتيارات ما بعد الحداثة الساعية على قدمين فرنسيتين في الغالب، ما لم نعد نعطيه لسواها، لذلك عندما شرع كيليطو في إنشاد بحثه، وتمثيله، أجبرنا على مقاطعته أكثر من مرة بالتصفيق، كنا مخفورين ومغمورين في كلامه الجديد، خارج القاعة التففنا الكفراوي وحلمي سالم وأنا حول كيليطو، نشرب الشاي المغربي، ونلتذ، ونسأله إن كنا سنراه ثانية، وكان يجيبنا، بالتأكيد ستروننى مع كل وليمة عشاء، فنضحك لأن جسد عبدالفتاح ولحيته يشبهان جسد شيخ لا يأكل إلا مكرها، لم نكن نعلم أن هذه الندوة ستكون السبب في تبديد تماسك فاروق، في تبديد التصاقه بنفسه، أدركت فيما بعد، عندما اكتشفت أننا نتعلق كثيراً بما لم نره، أدركت أن فاروق لا يحب أن يكتب عن شيء لم يره تماما، ربما لهذا السبب لم يشأ أن يكتب سيرة جسده، فهناك أجزاء منه، من الجسد، لن يتمكن أبدا من رؤيتها، وربما لهذا السبب أيضا لم يحاول كما حاول الجميع أن يكتب رواية، قبل ندوة كيليطو وفاروق، كنا قد ذهبنا إلى مسجد الملك الحسن الثاني، ورأينا الميضأة على الطريقة القديمة، ورأينا الصحن العلوي للنساء، لكننا أمام المحراب تلكأنا، ووقفت إلى جوار فاروق، فرد سبابته وأشار إلى شجرة العائلة المالكة التي تزين المحراب، وقرأ بصوت مسموع، هو صاحب الجلالة أمير المؤمنين الحسن الثاني ولد عام 1929 وتولى الملك عام 1961 ابن صاحب الجلالة محمد الخامس ولد 1909 وتولى الملك 1927 وتوفي 1961 ابن يوسف بن الحسن الأول بن محمد بن عبدالرحمن بن هشام بن محمد بن عبداللـه بن اسماعيل بن علي الشريف دفين باب هيلانة من مراكش ابن محمد بن علي بن يوسف بن علي الشريف دفين سجلماسة ابن الحسن بن محمد بن حسن الداخل ، أول داخل من الأسرة إلى المغرب عام 664، ابن القاسم بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن الحسن بن عبداللـه بن أبي محمد بن عرفة بن الحسن بن أبي بكر بن على بن الحسن بن أحمد بن اسماعيل بن قاسم بن محمد النفس الزكية بن عبداللـه الكامل بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن الإمام علي وسيدتنا فاطمة الزهراء بنت سيدنا محمد صلى اللـه عليه وسلم، عند ذاك صمت فاروق وأعاد القراءة في سره، أدركت غرامه بالأسماء الكاملة، أمسك يدي وغادرنا المحراب وخرجنا جهة المحيط، وأمام المحيط قال: كان عرشه على الماء، ملوك العرب ورؤساؤهم المحدثون والقدامى، زعموا دائما مثل هذا النسب، زعمه فاروق مصر وصدام العراق، ولم يكونا صادقين، النسب المكتوب على المحراب نسب صحيح تؤكده صحف التاريخ، وبأطراف أصابع يده اليمنى، أمسك ذراعي أعلى الكوع، ثم أضاف لم أكن أتصور أنه سيأتي اليوم الذي أنحاز فيه إلى مثل هذه الشجرة، يقصد شجرة العائلة، كما أنني لم أكن أتصور أنه سياتى اليوم الذي أعلق فيه خشبة خلاصي على سفينة جماعة حماس وحزب اللـه، فهما الآن البندقية والمدفع والسلاح الأبيض، الحديث الودي مع فاروق يبدو دائما وكأنه بداية لشيء ما، كان يحدق إلى وجهي مباشرة، ويقوم بأدائه اللافت، ويستعرض قدرته على نبش الذاكرة، واستعادة الضائع منها، في كل مرة تذكر فيها صلاح عبدالصبور، استرخت عضلات وجهه، وامتلأت بالبشاشة، وحاول لسانه استعادة كل جملة وكل كلمة، فإذا ردد الكلمة والجملة، كان صوته يزداد عمقا بتأثير المحبة، هذا زمن الحق الضائع، لا يعرف فيه مقتول من قاتله ومتى قتله، ذات مرة شعرت أن لديه رغبة شديدة في أن يتشرّب جسده بعض لعثمة صلاح عبدالصبور، التي ظهر أولها على طرف لسانه، ثم خرجت مفعمة بآخر حدود اليأس، كأنها نبوءة، أو كأنها الرشفة الأخيرة من كأس نبيذ ينتظره، في أثناء ذلك لم أره يتلجلج، أو يتردد ولو لمرة واحدة، كنت آن ذاك أتخيل صلاح عبدالصبور يقرنه بتشيكوف ويسميه عدو التفاهة، أحيانا، عندما أتذكره، أتجاسر وأسأل نفسي، هل من المحتمل أن حياته كانت ستختلف لو أصبحت له زوجة أو أبناء، لماذا لم تسنح لنا فرصة واحدة لنتحدث معا حول الحقيقة الأكيدة، حول الموت، عندما فقد تماسكه في الدار البيضاء، عكف على الشراب، كنا حراسه، إلا أن صبري حافظ كان حارسه الأول، ولما ذهبنا إلى مراكش، ضاع منا، وظللنا ليلة كاملة وعندما وجدناه لم نجرؤ على لومه، أحيانا أتمادى وأقول لنفسي، إنه كان خائفاً من النظر داخل نفسه، خشية أن يراها خاوية، كنت أظن أنه يمتلئ، ويكتب ليفرغ ما بداخله، ثم يمتلئ، ويكتب، ولا تبقى غير الرواسب، ثم يمتلئ وهكذا، في سنواته الأخيرة كان قد استقر على استقبال أصدقائه ومريديه مساء كل يوم أحد بكافيتريا سوق الحميدية، صاحبها شامى يتيح لفاروق ما لا يتيحه لغيره، والكافيتريا ملاصقة تقريبا لمقهى الحرية، الذي كان المازني يستريح فيه أحيانا،لما ظهرت جماعة الديوان ،العقاد والمازني، واشتهرت بالهجوم على أحمد شوقي وحافظ ابراهيم والمنفلوطي، وكان العقاد هو صاحب الهراوة الضخمة المخصصة لشوقي، آن ذاك قال أحدهم لشوقي: يابك، دعك من هذا الولد الطويل، يقصد العقاد، فالقصير الأعرج، يقصد المازني، هو الذي يحرضه، يمكنك أن تدعوه للعشاء في قصرك وسوف ينبهر ويخجل ويكف لسانه عنك، فأجابه البك: سأنتظركما يوم كذا، وفي الموعد المحدد ذهب المازني بصحبة الرجل الذكي إلى مأدبة شوقي، ولما انصرفا معا، قال الرجل للمازنى أرأيت كيف عاملك، أرأيت كيف وكيف وكيف، هل مثل هذا النبيل يستحق أن تهاجماه، فقال المازني: نعم رأيت، وفي اليوم التالي خرجت الصحيفة بمقالة للمازني يحمل فيها هراوته ويحاول أن يشج بها تمثال شوقي، يمكننى الآن أن أتلاعب بالحكاية وأن أبدل الأسماء، أرفع اسم المازني وأضع مكانه اسم فاروق، وأرفع الرجل الذكي وأضع قائمة من الأسماء تبتدئ بالغيطاني وتنتهي بجابر عصفور، وسوف لاتتغير الحكاية، فالاثنان، المازني وفاروق، وضعا أقدامهما على ظهر العالم، فأحسّا أنه فجأة بدأ يزداد عمقا، وفي الوقت ذاته، بدأ يتغور ويتبلور ويتكور ويصبح في الخاتمة على هيئة سنبلة أو بذرة من النقاء التام، وأن السعادة إذا جاز لها أن تحدث، ستحدث هكذا، بأن تنمو قرب كرسيه، المازني أو فاروق، ونافذته وفراشه وعلى أطراف يديه وحواف شفتيه، وأنها لا يمكن أن تُسرق أو تُوهب من أواني الآخرين، التي قد لا تفيض إلا بالأذى، في الخمسين من عمره توقف أبي عن أن يكون من أجراء الحكومة، وفي عمر مبكر توقف المازني وفاروق عن أن يكونا أجيرين للحكومة، يوم الأربعاء 23/6/2010 توقف فاروق عن أن يكون أجيرا لأي أحد، توقف عن أن يكون أجيرا للدنيا، كانت يده فيما قبل تحب أن تصل بسهولة إلى موسوعته الضخمة التي يحب الرجوع إليها دائما، الإنسيكلوبيديا البريطانية، وكانت على بقية الأرفف كتبه الأثيرة ، عبدالرحمن منيف وجبرا ابراهيم جبرا وسعداللـه ونوس وإميل حبيبي ومحمود دياب والطيب صالح ومحمود درويش، وفي مكان منزو كانت ليلة السحلية وفترة التوافق، لعله في أيامه الأخيرة كان يستعيد صوت خطوات أخته كأنها تحمل اليه كوب شاي أو طبق طعام، لعله أيضا في الأيام الأخيرة كان يأسف على عجزه عن منح محمود الورداني جائزة الرواية عندما كان رئيسا للجنة التحكيم، ولعله كان يبتسم حينما يتذكر أنه تنازل عن قراءة بيان اللجنة، يبتسم لأنه يعلم أنه لا يستطيع أن يفعل خلاف ذلك، يوم الأربعاء 23/6/2010 توقف فاروق عن أن يكون أجيرا لأي سيد، كان قبلها قد تنقل بين عدة مستشفيات عامة ومجانية، ثم توفي بسلام في مستشفي القوات المسلحة، مرضه لم يكن طويلا بالقدر المزعج، وموته لم يكن مفاجئا ولا منتظرا، ومع ذلك سبّب الحزن الشديد لطائفة من أصدقائه، وسبّب الشماتة لطائفة لا أحب أن أتخيل الابتسامات التي أخفوها بأكمام قمصانهم، ثم الابتسامات التي ملأوا بها وجوههم عندما أصروا على أن يمنحوه جائزة لم يقبلها في حياته، ظانين أنهم هكذا يقطفون زهوره الحمراء والبيضاء والبنفسجية، تاركين له شجرة الشوك، ومثلما فعل ابن أخيه الذي بسبب دوافعه الدينية أصر على ألا يرقد فاروق رقدته الطويلة في مقبرة العائلة، وأجبر الحاضرين على نقله ودفنه وحيدا في مقبرة وحيدة بائسة، ثم فتح يديه وجيوبه وتضامن مع خصومه، خصوم فاروق، وقبل جائزتهم، ودمر مخطوطات عمه ورسائله لأنها دنس ورجس، لن أخاف إذا ختمت حياتي وجاءت جنازتى مثل جنازته، ولم يحضرها سوى النفر القليل، لأن هذا هو التتويج الملموس لمشروع حياته، مشروع ألا تهادن أو تتواطأ كان على أحد ما أن يتذكر أن الفاروق عبدالقادر السيد حسين ولد يوم الإثنين 24/1/1938 ، كان على أحد ما أن يتذكر أن الموت هو الموت، وأن العدم للآخرين، كان على أحد ما أن يتذكر أن البحارة ذهبوا وتركوا لنا سفينتهم وأن أعراس الربيع في الطرقات.