فقرة (1): محايثة الحيوان المفترس والحيوان المفتر س
أتناول الطبيعة الحيوانية من زاوية نظر ضيقة, تبدو لي قابلة للنقاش. لكن معناها سوف يتضح مع تقدم البحث. ومن زاوية النظر هذه فالحيوانية هي الفورية أو المباشرة بلا توسط, أو المثولية أو المحايثة Immanence.
إن محايثة الحيوان بالنسبة لمحيطه هي محايثة معطاة في وضع محدد ودقيق ذي أهمية أساسية. ولن أتحدث عن ذلك في كل لحظة, لكنني لن أهمله, وحتى خاتمة شروحي سوف تعود إلى نقطة الانطلاق هذه: يكون هذا الوضع معطى عندما يفترس حيوان ما حيوانا آخر.
وما هو معطى عندما يفترس حيوان ما حيوانا آخر, إنما هو المثيل لذلك الذي يفترس: وبهذا المعنى أتكلم عن المثولية أو المحايثة.
ولا يتعلق الأمر بمثيل معروف باعتباره كذلك. وليس ثمة تعال من الحيوان المفترس الى الحيوان المفترس: هناك اختلاف من دون شك. غير أن هذا الحيوان الذي يفترس الآخر لا يمكن ان يتعارض معه في تأكيد هذا الاختلاف.
إن حيوانات من نوع معين لا يفترس بعضها البعض.. هذا صحيح. لكن ليس من المهم اذا كان الباز يفترس الدجاجة ولا يميزها عن نفسه بوضوح, كما نميز نحن شيئا ما عن أنفسنا. ان التمييز يتطلب وضعا Position للشيء (للموضوع) بما هو كذلك. ولا وجود لاختلاف قابل للفهم اذا لم يتم وضع الشيء/ الموضوع. فالحيوان الذي يفترسه حيوان آخر لم يعط بعد كموضوع. ولا توجد علاقة تبعية بين الحيوان المفتر س والحيوان المفتر س, كتلك العلاقة التي تربط موضوعا- او شيئا, بالانسان الذي يرفض أن يتم التفكير فيه كشيء. ليس ثمة من شيء معطى للحيوان مع مرور الزمن. أما نحن ففي نطاق كوننا بشرا, ندرك أن الشيء يوجد في الزمن. حيث تكون ديمومته قابلة للادراك, والحيوان الذي يفترسه حيوان آخر انما يكون معطى على العكس من ذلك: من دون الديمومة, وهكذا فانه يستهلك ويتلف, ويتلاشى من عالم لا يوضع فيه شيء خارج الزمن الراهن.
لا شيء في الحياة الحيوانية من شأنه أن يندرج ضمن علاقة السيد بالعبد, لا شيء بامكانه اقامة السيادة من جانب والتبعية من الجانب الآخر. وبالنظر الى أن بعض الحيوانات تفترس حيوانات أخرى, فهي ذات قوة غير متكافئة, لكن لا يوجد بينها سوى هذا الاختلاف الكمي. وليس الأسد ملكا على الحيوانات: انه في حركة المياه مجرد موجة أعلى من غيرها, تقلب الأضعف.
وإذا افترس حيوان حيوانا آخر, فان ذلك لا يغير شيئا من الوضع الأساسي: كل حيوان هو في العالم كما الماء في الماء. ثمة في الوضع الحيواني عنصر من الوضع البشري, إذ يمكن النظر إلى الحيوان كذات, موضوعها بقية العالم, لكنه هو – بالذات- لم يعط امكانية ان يرى نفسه كذلك أبدا. ويمكن للعقل البشري أن يدرك بعض عناصر هذا الوضع, لكن ليس بوسع الحيوان استيعابها.
فقرة (2): تبعية الحيوان واستقلاليته
صحيح أن الحيوان, شأنه شأن النبتة, لا يملك استقلالية إزاء بقية العالم, إن ذرة آزوت, أو ذهب, أو جزئية ماء توجد دون أن تحتاج لما يحيط بها, وتبقى في حالة محايثة كاملة: ليست هناك أي ضرورة أبدا, وبشكل أعم, لا أهمية لأي شيء مطلقا في علاقة المحايثة بين ذرة وذرة أخرى, أو بينها وبين غيرها من الذرات. إن محايثة جسم حي في العالم هي محايثة مختلفة تماما: يبحث الجسم حوله (خارجه) عن عناصر من شأنها أن تلازمه وتكون مماثلة له ليقيم معها (بل ليرسخ نسبيا) علاقات محايثة. ولذلك فانه لم يعد كما الماء في الماء تماما. أو ان شئنا, فهو ليس كذلك إلا شريطة أن يقتات. والا سوف يعاني ويموت: إذ أن السريان (الاطراد) أو الانتقال (المحايثة) من الخارج الى الداخل ومن الداخل الى الخارج, وتلك هي الحياة العضوية, لا يدوم إلا مع توافر شروط معينة.
ومن جهة ثانية, يكون كل جسم منفصلا عن سيرورات أخرى تشبهه. فكل جسم هو منفصل عن الأجسام الأخرى: وبهذا المعنى فإن الحياة العضوية, في الوقت الذي تشدد العلاقة بالعالم تسحب وتعزل النبتة أو الحيوان من العالم, إذ يمكن اعتبار النبتة والحيوان عالمين مستقلين نظريا إذا تركت علاقة التغذية الأساسية في الخارج.
فقرة (3) الأكذوبة الشعرية المتعلقة بالحيوانية
لا شيء في الواقع يعتبر أشد انغلاقا علينا من هذه الحياة الحيوانية التي جئنا منها. ولا شيء اغرب عن طريقتنا في التفكير من الأرض وهي في حضن الكون الصموت من دون أن يكون لها ذلك المعنى الذي يضفيه الانسان على الحيوان, وكذلك من دون لا- معنى الأشياء في اللحظة التي نريد تخيلها, فإذا هي مفتقرة إلى وعي يفكر فيها. وفي الحقيقة لا يمكننا أن نتصور الأشياء من دون الوعي إلا بشكل اعتباطي, نظرا الى كون ؛نحن« و؛نتصور« يتضمنان الوعي, أي وعينا المرتبط بحضورهما ارتباطا وثيقا. ويمكننا الادعاء, من دون شك, أن هذا الارتباط هو مجرد ارتباط هش, نظرا لكوننا سوف ننقطع عن ان نكون هنا ذات يوم, بشكل نهائي, غير أن تجلي أي شيء من الأشياء لن يكون قابلا للتصور أبدا إلا في وعي يحل محل وعيي اذا ما تلاشى هذا الأخير. وهنا تكمن حقيقة مرة, لكن الحياة الحيوانية, وهي في منتصف طريق وعي »نا«, تقدم لنا لغزا أكثر ازعاجا. فعندما نتصور الكون من دون الإنسان, الكون الذي من شأن نظرة الحيوان فيه أن تكون النظرة الوحيدة التي تنفتح على الأشياء, والحال أن الحيوان ليس شيئا وليس بشرا, لا يسعنا عندئذ سوى ايجاد رؤية, فيه لا نرى شيئا, لان موضوع هذه الرؤية هو انزلاق ينتقل من الأشياء التي لا معنى لها اذا كانت وحيدة, الى العالم الممتلئ بالمعنى المترتب على الإنسان والذي يضفي على كل شيء معناه هو. ولهذا السبب لا يمكننا وصف شيء ما بدقة. وبتعبير آخر, يمكن القول ان الطريقة الصحيحة للتحدث عنه لن تكون حقا سوى طريقة شعرية, نظرا لكون الشعر لا يصف شيئا إلا وينزلق الى ما هو خفي. وباعتبارنا نستطيع التحدث عن الماضي عبر التخيل كما نتحدث عن الحاضر, فإننا لا نتحدث في النهاية عن حيوانات ما قبل التاريخ, وكذلك عن النباتات والصخور والمياه إلا بمثابة أشياء, لكن وصف مشهد مرتبط ذي صلة بهذه الشروط ليس سوى حماقة, إلا إذا كان الأمر يتعلق بقفزة شعرية. لم يكن ثمة وجود لمشهد في عالم لم تكن العيون التي تنفتح فيه لتفهم ما تراه, وحيث لم تكن العيون ترى حقا مقارنة بوضعنا. وإذا ما انطلقت الآن ببلاهة, وفي فوضى ذهنية, متأملا هذا الغياب للرؤية لأقول: ؛لم تكن توجد رؤية ولا أي شيء آخر- لا شيء سوى نشوة خاوية يحدها الرعب والألم والموت ونضفي عليها نوعا من الكثافة…) فليس في قولي هذا سوى سوء استخدام لقدرة شعرية, مستبدلا فراغ الجهل بوميض غامض. وأنا لا اعرف ذلك: لا يمكن للذهن ان يستغني عن وميض الكلمات الذي يكسبه هالة مدهشة: في ذلك غناه ومجده, وهي علامة سيادة souverainete أيضا. لكن هذا الشعر ليس سوى طريق يسلكه الانسان منتقلا من عالم ذي معنى ممتلئ, الى التفكيك النهائي لكل معنى, وهو تفكيك سرعان ما يبدو محتوما. ولا يوجد إلا اختلاف واحد بين لا معقولية الأشياء التي يكون الحيوان حاضرا فيها. فالأولى تقدم لنا أولا الاختزال الظاهري للعلوم الصحيحة, في حين تدفعنا الثانية باتجاه إغراء آخر لزج, هو هاجس الشعر, ذلك أن الحيوان الذي لا يعتبر مجرد شيء فحسب, ليس مغلقا وعصيا على الفهم بالنسبة إلينا. يفتح الحيوان أمامي عمقا يجذبني وهو عمق مألوف لدي. إنني أعرف هذا العمق بمعنى من المعاني: انه عمقي أنا. وهو أيضا أبعد ما اختلس مني, ويستحق اسم العمق الذي يعني بدقة: ما يفلت مني. لكن الشعر أيضا…. ولأنني أستطيع أيضا أن أرى في الحيوان شيئا (إذا أكلته- بطريقتي التي ليست طريقة حيوان آخر- أو سخرته أو عاملته كموضوع علم من العلوم) فان لا معقوليته ليست أقل قصرا (أو إن شئنا, أقل قربا) من لا معقولية الحجارة أو الهواء, لكنه ليس دائما, بل انه لا يكون أبدا وبشكل نهائي, قابلا للانتقاص ضمن هذا النوع من الواقع الأدنى الذي ننسبه للأشياء لست أدري ما الشيء اللطيف, الخفي, والمؤلم الذي يمدد في تلك الظلمات الحيوانية حميمية الوميض المتبقي فينا. وكل ما يسعني الاحتفاظ به في النهاية يكمن في أن ذلك المشهد يلقي بي في الليل ويبهرني, فيدنيني من اللحظة التي- ولن أشك في ذلك مطلقا- يبعدني فيها وضوح الوعي المتميز, في النهاية, عن تلك الحقيقة الخفية التي, من ذاتي إلى العالم, تتراءى لي كي تتوارى.
فقرة (4) يوجد الحيوان في العالم كما يوجد الماء في الماء
سوف اتعرض لهذا الامر الخفي فيما بعد أما الآن فيتوجب علي فصل ما يبدو, على صعيد التجربة, واضحا ومتميزا عن فتنة الشعر وبريقه.
لقد توصلت إلى القول بأن عالم الحيوان هو عالم المحايثة والفورية: ذلك أن هذا العالم المنغلق ازاءنا هو كذلك, لأننا لا نستطيع أن نميز فيه قدرة على التعالي. إن مثل هذه الحقيقة هي حقيقة سلبية ولا يسعنا توضيحها مطلقا. لكن بامكاننا على الأقل أن نتصور وجودا جنينيا لهذه القدرة عند الحيوان, دون التمكن من تمييزها بوضوح كاف. وحتى إذا تمت دراسة تلك الاستعدادات الجنينية, فلن تنجر عنها احتمالات من شأنها أن تلغي رؤية الحيوانية الماثلة أو المحايثة التي تظل محتمة بالنسبة إلينا. ولا يظهر تعالي الأشياء بالنسبة للوعي ( أو تعالي الوعي بالنسبة للأشياء) إلا في حدود ما هو إنساني. ذلك أن التعالي لا يعد شيئا إن كان جنينيا, وان لم يتشكل بطريقة صلبة, أي بثبات ضمن عدة شروط معطاة. وليس بامكاننا في الواقع أن نعتمد على كتل غير ثابتة وعلينا أن نقتصر على رؤية الحيوانية, من الخارج, في ضوء غياب التعالي. إن الحيوان أمام عيوننا هو, وبشكل محتوم, موجود في العالم كما الماء في الماء.
وللحيوان تصرفات تختلف باختلاف الأوضاع والمواقف التي يجد نفسه فيها. وتعد هذه التصرفات نقاط انطلاق لتمييزات ممكنة, لكن التمييز من شأنه أن يتطلب تعالي الموضوع الذي صار متميزا. إن تنوع السلوك الحيواني لا يقيم تمايزا واعيا بين مختلف الأوضاع. وحتى الحيوانات التي لا تفترس ما يماثلها من النوع نفسه, لا تملك مع ذلك قدرة على تمييزه باعتباره كذلك (أي من نوعها), بحيث إن وضعا جديدا لا ينطلق فيه السلوك المعتاد, يمكن أن يكون كافيا لازالة عائق ما, من دون أن يصاحبه وعي بازالته. ولا يمكننا القول عن ذئب يفترس ذئبا آخر, انه خالف القانون القائل بأن الذئاب عادة لا تفترس الذئاب. فهو لا يخالف هذا القانون, لكنه, بكل بساطة, وجد في ظروف لم يعد يسري فيها ذلك القانون. وبرغم ذلك فان ثمة بالنسبة للذئب استمرارية للعالم واستمرارية له. تحدث أمامه تجليات جاذبة أو مقلقة; وأخرى لا علاقة لها بأفراد من النوع نفسه أو بأنواع من من الغذاء أو بأي شيء آخر جاذب او نابذ عندئذ لا يكون للأمر معنى أو يكون له لا يشبه علامة دالة على شيء من آخر. ولا يأتي شيء ليقطع تلك الاستمرارية التي لا يعلن فيها الخوف نفسه عن أي شيء من شأنه أن يكون متميزا قبل حدوث الموت. وحتى صراع المنافسة ما هو الا تشنج واختلاج تندفع معه الاستجابات الحتمية للمنبهات, خارجة من الأعماق الخفية. وإذا كان الحيوان الذي يصرع منافسه, لا يفهم موت الآخر كما يفهمه إنسان يسلك سلوكا معبرا عن النصر, فذلك يعني أن منافسه لم يقطع تلك الاستمرارية التي لن تعود بسبب موته. إن تلك الاستمرارية لم تكن موضوعة موضع شك, لكن تماثل الرغبتين لدى الكائنين جعلتهما يتواجهان في معركة مميتة. أما تلك اللامبالاة التي تعبر عنها نظرة الحيوان بعد المعركة فهي علامة على وجود يتساوى جوهريا مع العالم ويتحرك فيه كما يتحرك الماء في الماء.
فقرات من الفصل الثاني:
الإنسانية وتهيئة العالم
فقرة (8) الحيوان المأكول, الجثة والشيء
إن تعريف الحيوان كشيء هو تعريف أصبح على الصعيد الإنساني معطى أساسيا. لقد فقد الحيوان جدارة مماثلة الانسان, والإنسان الذي يتبين الحيوانية في نفسه, لا ينظر ليها إلا كطرح tare ولاشك ان هناك قسما من البهتان في النظر إلى الحيوان على أنه شيء.
فالحيوان يوجد لذاته. وينبغي أن يموت أو يدجن كي يصبح شيئا. والحيوان المأكول لا يمكن طرحه كموضوع إلا شريطة أن يؤكل ميتا. وهو ليس شيئا تماما إلا في شكل لحم مشوي أو مطبوخ. ومع ذلك فان اعداد اللحوم ليس له معنى البحث المتعلق بفن الأكل اساسا: انه يتعلق قبل كل شيء بكون الإنسان لا يأكل شيئا قبل أن يجعل منه موضوعا. والإنسان في الأوضاع العادية هو حيوان لا يشارك في ما يأكل. لكن قتل الحيوان وتحويله حسب الرغبة لا يعني فقط تحويله إلى شيء, والحال أنه لم يكن كذلك في البداية, بل يعني أيضا تحديد الحيوان الحي, مسبقا, باعتباره شيئا. وما أقتله وأقطعه وأطبخه انما اعتبره, ضمنا, شيئا. أما تقطيع الإنسان وطبخه وأكله فهو بالعكس فعل شنيع. ومع ذلك فإن دراسة التشريح لم تعد مقبولة إلا منذ عهد قريب. وبرغم المظاهر, لا يزال الماديون المتصلبون متعلقين بالدين بطريقة تجعلهم يعتبرون عملية جعل الإنسان شيئا- مشويا أو حساء… جريمة شنيعة. زد على ذلك أن الموقف الانساني إزاء الجسد ذو تعقيد مذهل. ومن بؤس الإنسان, باعتباره روحا, أن يملك جسد حيوان ويكون بالتالي مثله مثل الشيء. إن مجد الجسد الانساني يكمن في كونه قواما للروح. والروح على صلة متينة جدا بالجسد- الشيء, بحيث لا يني هذا الأخير مسكونا, ولا يكون شيئا أبدا إلا في أقصى مدى, إلى حد انه إذا ما حوله الموت إلى شيء, تصير الروح أكثر حضورا من أيما وقت: فالجسد الذي خان الروح يزداد ظهورا أكثر من ظهوره عندما كان يخدمها. والجثة, بمعنى من المعاني, هي أكمل تأكيد للروح, ذلك أن العجز النهائي وغياب الميت هما اللذان يكشفان جوهر الروح, مثلما تكون صرخة الذي يقتل أقصى تأكيد للحياة. وبالعكس, تكشف جثة الانسان عن تحويل جسم الحيوان تحويلا مكتملا إلى حالة شيء, وبالتالي تحويل الحيوان الحي. فهو مبدئيا عنصر تابع حصرا, ولا قيمة له في حد ذاته. ونافع أيضا مثل النسيج والحديد أو الخشب المصنع.
فقرة (9) العامل والأداة
يتم ادراك عالم الأشياء, بصورة عامة, كسقوط, وهو يؤدي إلى استلاب من خلقه, والمبدأ الأساسي: إن الاستتباع لا يعني تحويل العنصر التابع فحسب, بل يعني تحويل الفاعل نفسه أيضا. إن الأداة تغير الطبيعة والإنسان في آن: فهي تخضع الطبيعة للإنسان الذي يصنع الأداة ويستخدمها, لكنها تربط الإنسان بالطبيعة المسخرة. تصبح الطبيعة ملك الإنسان لكنها تكف عن كونها ماثلة فيه. وهي ملكه بشرط ان تكون مغلقة دونه. وإذا أخضع العالم لسلطته فان ذلك لا يتم الا في نطاق كونه ينسى بأنه هو نفسه العالم: انه ينفي العالم فينفي نفسه. إن كل ما هو خاضع لسلطتي يعلن بأنني حكمت على كل ما يشبهني بألا يوجد لغايته الخاصة بل من أجل غاية غريبة عنه, وهكذا فان غاية محراث غريبة عن الواقع الذي صنعه, وكذلك غاية حبة قمح, أو عجل. ولو أنني أكلت القمح, أو العجل, بطريقة حيوانية لتحولا بدورهما عن غايتهما الخاصة, وأتلفا فجأة باعتبارهما قمحا وعجلا, ولن يتمكن القمح والعجل, في أي وقت, من أن يكونا الشيئين اللذين كانا في البداية. إن حبة القمح توجد كوحدة انتاج زراعي, والعجل هو رأس ماشية, والذي يزرع القمح مزارع, ومن يربي العجل هو مربي حيوانات. والحال أن غاية المزارع في اللحظة التي يزرع فيها ليست غايته الخاصة, وغاية المربي في اللحظة التي يربي فيها الحيوانات ليست غايته الخاصة. إن المحاصيل الزراعية والماشية أشياء, والمزارع أو المربي, في لحظة عملهما, هما أيضا شيئان. وكل ذلك غريب عن امتداد المجال الماثل حيث لا توجد انفصالات ولا حدود. وفي النطاق الذي يكون الإنسان فيه هو الامتداد الماثل, وهو الكائن, ويكون من العالم, يصير غريبا عن ذاته, ليس المزارع إنسانا: إنه محراث من يأكل الخبز, وفي أقصى مدى, يكون فعل الآكل نفسه هو عمل الحقول أصلا, إذ يتزود له بالطاقة.
فقرات من الفصل الثالث
التضحية والعيد ومبادئ العالم المقدس
فقرة (1) الضرورة التي تستجيب لها التضحية ومبدؤها
يقام الاحتفال ببواكير غلال الأرض, أو التضحية برأس من الماشية, لاخراج النبتة أو الحيوان من عالم الأشياء, وكذلك المزارع ومربي الحيوان.
إن مبدأ التضحية هو الإتلاف, وبرغم أن هذا المبدأ يذهب أحيانا الى حد الاتلاف الكامل (كما في »التضحيات« الكبرى- الهولوكوست-), فان الاتلاف الذي ترمي إليه التضحية ليس الإبادة. إنما الشيء- والشيء وحده- هو ما ترمي التضحية إلى إتلافه في الذبيحة. تقضي التضحية على صلات التبعية الواقعية لموضوع ما, وتنتزع الضحية من عالم المنفعة لتعيدها الى عالم النزوات الغامض. وعندما يدخل الحيوان المقدم كذبيحة إلى الدائرة التي سيضحي به الكاهن فيها, فانه ينتقل بذلك من عالم الأشياء- المغلقة دون الإنسان الذي يعتبرها بمثابة لا شيء ويعرفها من الخارج- إلى عالم ماثل فيه وحميمي ومعروف كما المرأة في استهلاك الجسد. وهذا يفترض انه لم يعد منفصلا عن حميميته كما هي حاله في تبعيته للعمل. إن الانفصال المسبق بين الكاهن (مقدم الذبيحة) وعالم الأشياء هو انفصال ضروري من أجل العودة إلى الحميمية والمحايثة بين الإنسان والعالم, وبين الذات والموضوع. يحتاج مقدم الذبيحة الى التضحية كي ينفصل عن عالم الأشياء ولا يمكن للضحية أن تنفصل عن عالم الأشياء بدورها إذا لم يسبقها المضحي إلى ذلك. يقول المضحي: ؛أنا أنتمي حميميا إلى العالم السامي للآلهة والأساطير, إلى عالم السخاء العنيف وبلا حساب, كما تنتمي امرأتي الى رغباتي, انني انتشلك ايتها الضحية من العالم الذي كنت فيه مجرد شيء, مع معنى خارج عن طبيعتك الحميمة. أدعوك الى حميمية العالم الآخر, ومحايثة كل ما هو كائن.
فقرة (2) لا واقعية العالم.. ..
إنه مونولوج – مناجاة- طبعا, ولا يمكن للضحية أن تسمع أو تجيب. لان التضحية أساسا تعرض عن الصلات الواقعية, ولو أنها أخذتها بعين الاعتبار إذن لخالفت طبيعتها التي تعد تحديدا, نقيضا لعالم الأشياء المؤسس للواقع المتميز. ولا يمكن للتضحية أن تؤدي إلى اتلاف الحيوان بما هو شيء من دون نفي واقعه الموضوعي. وهذا هو ما يطبع عالم التضحية بطابع مجانية ساذجة. غير أنه ليس بالإمكان تحطيم القيم التي تؤسس الواقع وتقبل حدوده في آن. وتتضمن العودة إلى الحميمية المحايثة وعيا مبهما: ذلك أن الوعي مرتبط بوضع الأشياء كأشياء مدركة مباشرة, خارج أي إدراج غامض, بعيدا عن الصور اللاواقعية دائما لفكر مؤسس على المشاركة.
فقرة (3) الترابط الاعتيادي بين الموت والتضحية
يذهب اللاوعي الساذج للتضحية إلى ما هو أبعد بحيث يبدو القتل فيه بمثابة طريقة لمسح الاهانة التي ألحقت بالحيوان بعد تحويله إلى شيء بطريقة بائسة. وليس القتل في الحقيقة ضروريا بأتم معنى الكلمة. لكن أكبر نفي للنسق الواقعي هو الأنسب لظهور النظام أو النسق الأسطوري. ومن جهة أخرى يقدم القتل القرباني حلا بطريقة مقلوبة للتعارض الشاق بين الموت والحياة. فالموت ليس شيئا في المحايثة, ولكن بما أنه لا شيء, فما من كائن أبدا ينفصل عنه حقا, ونظرا لكون الموت يفتقر إلى معنى, ولا فرق بينه والحياة, ولا وجود لخوف أو دفاع ضده, وانه لذلك يكتسح على شيء دون أن يثير أية مقاومة. وتفقد الديمومة قيمتها أو أنها لا توجد إلا لكي تبعث الاحساس بلذة مرضية ناجمة عن الحصر أو القلق النفسي angoisse وبالعكس فان الوضع الموضوعي لعالم الأشياء, وهو وضع متعال بمعنى من المعاني بالنسبة للذات, إنما يتأسس على الديمومة: ولا شيء في الواقع يملك وضعا منفصلا أو معنى إلا إذا طرح وقتا تاليا يتشكل خلاله كشيء. ولا يتحدد الشيء كقوة فاعلة إلا إذا انطوى على الديمومة. وإذا أتلف, كما هو شأن الغذاء أو الوقود, فإن الاكل والشيء المصنوع يحافظان على قيمة ذلك الغداء والوقود ضمن الديمومة مثل الغاية الدائمة للفحم أو للخبز. والزمن القائم يشكل ذلك العالم الواقعي بطريقة جيدة إلى درجة أن الموت لا يجد فيه مكانا له. لكن ولهذا السبب بالذات, يكون الموت فيه, هو كل شيء. والواقع انه من ضعف (تناقض) عالم الأشياء أن يترك للموت مظهرا لا واقعيا, برغم أن انتماء الإنسان لذلك العالم يرتبط بوضع الجسد كشيء في نطاق كونه فانيا.
إنه في الحقيقة مظهر سطحي. وليس الموت تحديدا هو الذي لا يملك مكانا في عالم الأشياء, واللاواقعي في العالم الواقعي. ذلك أن الموت يفضح تضليل الواقع, ليس لان غياب الديمومة يذكر ببهتانه فحسب, بل لانه التأكيد الاكبر على الصرخة المفتونة بالحياة. يلغي النظام الواقعي نفي الواقع الذي هو الموت أقل مما يلغي تأكيد الحياة الحميمة المحايثة, التي يشكل فيها العنف, بلا حدود, خطرا على ثبات الأشياء, وهو خطر لا يظهر بوضوح إلا في الموت. يتوجب على النظام الواقعي أن يلغي- يحيد- هذه الحياة الحميمة ويستبدله بالشيء الذي هو الفرد في مجتمع العمل. لكنه لا يستطيع أن يحول دون كشف اختفاء الحياة في الموت; ذلك البريق اللامرئي للحياة الذي ليس شيئا. إن قوة الحياة تعني ان العالم الحقيقي لا يستطيع أن يملك عن الحياة سوى صورة محايدة, وان الحميمية لا تفصح عن هلاكها المتألق إلا لحظة زوالها. ولم يكن أحد ليتعرف إلى وجودها عندما كانت موجودة, لأنها كانت مهملة لصالح الأشياء الواقعية: لقد كان الموت شيئا واقعيا شأنه شأن أشياء أخرى. لكنه يظهر فجأة أن المجتمع الواقعي كان يكذب. عندئذ لا يكون فقدان الشيء, العضو النافع, هو الذي يؤخذ بالحسبان, وما فقده المجتمع الواقعي ليس عضوا منه, بل حقيقته. هذه الحياة الحميمة التي لم تعد لها سلطة كي تبلغني مليا والتي كنت افتكرها وأتبينها كشيء, لا يكمن أن تعود كليا إلى حساسيتي إلا بالغياب. فالموت يكشف الحياة في امتلائها ويقضي على النظام الواقعي. ولا يهم كثيرا أن يكون هذا النظام الواقعي هو الذي تطلبه ديمومة ما لم يعد له وجود, وفي اللحظة التي يتخلف فيها عنصر ما عما يتطلبه, لا ينتج عن ذلك وجود كيان مهدد بالزوال, ويكابد: هذا الكيان, النظام الواقعي, يتلاشى دفعة واحدة. ولا يعود له اعتبار, أما ما يأتي به الموت عبر الدموع فهو إتلاف غير مجد للنظام الحميم.
إنه رأي ساذج ذاك الذي يقيم صلة وثيقة بين الموت والحزن, ذلك أن دموع الأحياء التي تستجيب أيضا للفرح, هي أبعد من أن تكون ذات معنى مضاد للفرح. وهي بعيدا عن أن تكون مؤلمة, تعبر عن وعي حاد بالحياة المشتركة بإدراكها ضمن حميميتها. صحيح أن هذا الوعي الحاد لا يبلغ ذلك المستوى من الحدة إلا عندما يعقب الغياب الحضور فجأة, كما في الموت, أو مجرد الانفصال. وفي هذه الحال يكون العزاء (بالمعنى القوي للكلمة كما ترد عند المتصوفة) مرتبطا بمرارة كونه لا يدوم, ولكن تلاشي الديمومة تحديدا, ومعها عدة تصرفات محايدة مرتبطة بها, هو الذي يكشف عمقا للأشياء, بريقه يعمي (وبتعبير آخر, من الواضح أن الحاجة الى الديمومة هي التي تختلس منا الحياة, واستحالة الديمومة وحدها مبدئيا هي التي تحررنا), وفي حالات أخرى تستجيب الدموع, بالمقابل, للنصر غير المتوقع وللحظ الذي نبتهج به, ولكن ذلك يتم دائما بطريقة خرقاء, بعيدا عن هموم زمن مقبل.
فقرة (4) استهلاك التضحية
إن القوة التي يتميز بها الموت عموما, توضح معنى التضحية التي تعمل عمل الموت, نظرا لكونها تعيد قيمة ضائعة بواسطة التخلي عن هذه القيمة, لكن الموت ليس مرتبطا بالتضحية ضرورة, ويمكن لأكبر تضحية احتفالية ألا تكون دموية. فالتضحية ليست القتل وانما هي التخلي والعطاء. وليس فعل القتل إلا عرضا لمعنى عميق, والمهم هو الانتقال من نظام دائم يكون استهلاك الموارد فيه مرتبطا بضرورة الديمومة, إلى عنف الاستهلاك غير المشروط, وما يهم إنما هو الخروج من عالم الأشياء واقعية تنبع واقعيتها من عملية ذات مدى طويل وآجل- وليس عاجلا أبدا- من عالم يخلق ويحفظ (عالم يخلق لصالح واقع دائم). إن التضحية هي نقيض الانتاج الذي يرتبط أيضا بالمستقبل, إنها الاستهلاك الذي ليس له من منفعة إلا في اللحظة الحاضرة, وبهذا المعنى فهي هبة وتخل, لكن ما يوهب لا يمكن أن يكون موضوع حفظ من قبل متلقي الهبة: إن تقدمة القربان تحديدا تجعله ينتقل الى عالم الاستهلاك السريع. وهذا ما يعنيه القول ؛تضحية للآلهة« وجوهره المقدس يقارن بالنار. التضحية هي العطاء كما نعطي الفحم الحجري للأتون. لكن للأتون, عادة, فائدة لا تنكر, يخضع لها الفحم, في حين أن الهبة في التضحية مجردة من كل منفعة.
هذا هو المعنى الدقيق للتضحية تماما, بحيث إن التضحية لا تتم إلا بما يستخدم, وليست هناك تضحية بالاشياء الباذخة. كذلك لا يمكن أن تكون هناك تضحية إذا كان القربان تالفا مسبقا, والحال أن البذخ يجرد عملية الصنع من النفعية فيتلف هذا العمل ويبدده في هالة غير مجدية, بل انه يضيعه في اللحظة نفسها نهائيا. إن التضحية بشيء فاخر تعني التضحية بالشيء نفسه مرتين.
كذلك ليس بالامكان التضحية بما لم يتم سحبه أولا من المحايثة, بما لم ينتم إليها أبدا, وبالتالي لم يخضع إليها ثانيا ويدجن ويتشيأ. وتتم التضحية بأشياء كان من الممكن أن تكون أرواحا مثل الحيوانات والخلاصات النباتية. لكنها صارت أشياء وينبغي إعادتها إلى المحايثة التي جاءت منها, إلى الدائرة المبهمة للحميمية الضائعة.
فقرة (5) الفرد والقلق النفسي والتضحية
ليس بالإمكان التعبير عن الحميمية استدلاليا
الانتفاخ المفرط, المكر الذي ينفجر مع صرير الأسنان, والبكاء والانزلاق الذي لا يدري من أين يأتي والى أين يذهب; في الظلام الخوف يترنم بأعلى صوته; الشحوب والعيون البيض, الهدوء الحزين, الهيجان, القيء… كلها منافذ للهروب.
ويعد حيميما, بمعنى قوي, كل ما له نزق غياب الفردانية واحتدامه, وخرير النهر وصفاء السماء الخاوي: انه تعريف سلبي أيضا يعوزه الجوهري.
هذه الإيضاحات لها قيمة غامضة, هي قيمة ما يتعذر بلوغه, وبالمقابل فان التعريف الواضح والمفصل يحل الشجرة محل الغابة كما يحل الوضوح المتميز محل الشيء المطلوب توضيحه.
وبرغم ذلك سوف ألجأ إلى التوضيح.
إن الحميمية بشكل متناقض هي العنف, وهي الاتلاف, لأنها ليست منسجمة مع وضوع الفرد المنفصل, ولو أننا وصفنا الفرد أثناء عملية التضحية, لأتصف بالحصر والقلق النفسي I`angoisse وإذا كانت التضحية مقلقة فان ذلك يعود إلى كون الفرد يشارك فيها, إنه يتماثل مع الضحية أثناء الحركة المفاجئة التي تعيدها إلى المثولية (إلى الحيميمة) لكن التماثل المرتبط بالعودة الى المثولية لا ينبني فقط على كون الضحية هي الشيء, والمضحي هو الفرد. إن الفرد المنفصل هو من طبيعة الشيء نفسه, وأكثر من ذلك فإن القلق من الديمومة الشخصية, والذي يطرح ويؤكد الفردانية, مرتبط بدمج الوجود في عالم الأشياء. وبتعبير آخر فان العمل والخوف من الموت أمران مترابطان, الأول يتضمن الشيء والعكس بالعكس. بل ليس من الضروري أن يعمل المرء كي يكون في درجة معينة من اتصافه بشيء الخوف: إن الإنسان فرداني لأن فهمه يربطه بنتائج العمل. لكن الإنسان ليس شيئا لأنه يشعر بالخوف كما يمكننا أن نذهب إلى الاعتقاد. لم يكن ليشعر بالقلق لو لم يكن هو الفرد (الشيء), وقلقه لم يكن ليتغذى إلا من كونه فردا. وهو لا يتعلم القلق إلا لكي يستجيب لمتطلبات الشيء, في نطاق كون عالم الأشياء قد وضع ديمومته كشرط أساسي لقيمته ولطبيعته. إنه يخاف الموت حالما يدخل صرح المشاريع الذي هو نظام الأشياء. الموت يفسد نظام الأشياء ونظام الأشياء يمسك بنا. والإنسان يخاف من النظام الحميمي غير القابل للتصالح مع عالم الأشياء. ولولا ذلك لما كانت هناك تضحية ولا كانت هناك إنسانية أيضا, وما كان النظام الحميمي لينكشف في الإتلاف والقلق المقدس للفرد. وتكون الحميمية خلال اضطراب الفرد مقدسة, جليلة ومحاطة بهالة من قلق لأنها تقبل منه عبر شيء مهدد في طبيعته (وفي المشاريع التي تشكل طبيعته).
فقرة (6) العيد
المقدس هو فوران الحياة المفرط الذي يكبله نظام الأشياء كي يضمن ديمومته فيدفعه التكبيل إلى الهيجان والانطلاق, أي إلى العنف, من دون انقطاع يهدد بتحطيم الحواجز ومعارضة النشاط المنتج بحركة استهلاك فذة, مندفعة ومعدية. والمقدس قابل للمقارنة تحديدا بتلك الشعلة التي تأتي على الغابة فتستهلكها وتتلفها. والحريق غير المحدود هو ضد الشيء وعكسه, انه ينتشر, ويشع حرارة ونورا, يحرق ويبهر. وما يحرق ويبهر يحترق بدوره فجأة ويبهر, والتضحية تحرق مثل الشمس التي تتلاشى رويدا رويدا من إشعاعها الفائق الذي لا تتحمل عيوننا سطوعه, لكنها ليست معزولة أبدا بل هي, في عالم متكون من أفراد, تدعو إلى النفي العام للأفراد باعتبارهم أفرادا.
العالم الآخر معد وعدواه خطرة ومهلكة, ويكون المنذور للتضحية كأنما يدخل لعبة الصاعقة: لا حدود للاحتراق, والحياة البشرية, لا الحيوانية, هي المناسبة لذلك, والمقاومة المعارضة للمحايثة هي التي تأمر بانفجار الدموع الموجعة ولذة القلق الذي لا يوصف, ولو كان الانسان يستسلم للمحايثة بلا تحفظ لكان من شأنه أن يخفق في الإنسانية, لن يكملها إلا ليفقدها ومع مرور الزمن تعود الحياة إلى الحميمية الخالية من التيقظ كما لدى الحيوانات, أما المشكلة الملحة التي تطرحها استحالة الوجود الإنساني من دون أن يكون الإنسان شيئا, واستحالة إفلاته من حدود الأشياء من دون العودة الى النوم الحيواني, فإنها تجد حلها المحدود في الاحتفال بالعيد.
إن الحركة الأولية للعيد معطاة في الانسانية الأصلية, لكنها لا تبلغ الامتلاء المتدفق إلا إذا أطلقها التركيز القلق أثناء التضحية. يجمع العيد أناسا يهيئهم استهلاك القربان المعدي (التناول) لحماس محدود بحكمة ذات دلالة عكسية: ثمة تطلع للإتلاف يندلع في العيد, لكن ثمة أيضا حكمة حافظة تنظمه وتحده. فمن جهة تجتمع كل امكانيات الاتلاف: الرقص والشعر والموسيقى ومختلف الفنون التي تساهم في جعل العيد مكانا وزمانا للتفلت والاندفاع المشهدي. لكن الوعي المستيقظ في القلق يميل, في حركة مقلوبة يتحكم فيها عجز عن التصالح مع التفلت وعجز عن إخضاعه, إلى حاجة نظام الأشياء- وهو المكبل من حيث الجوهر والمشلول من تلقاء نفسه- إلى تلقي دفعة من الخارج. وهكذا فإن تفلت العيد, إن لم يكن في النهاية مكبلا, فهو على الأقل مقتصر على حدود واقع, هو نفي له (للواقع). ولا يتم تحمل العيد إلا في نطاق توفيره لضرورات العالم المدنس.
فقرة (7) التحديد والتأويل النفعي للعيد ووضع الجماعة
العيد صهر للحياة البشرية. وهو بالنسبة للشيء والفرد, بمثابة بوتقة تذوب فيها التمايزات بفعل الحرارة القوية للحياة الحميمة. لكن الحميمية تنحل في الوضع الواقعي والمتفرد للمجموع المشارك في الطقوس. ومن أجل بلوغ جماعة واقعية- وواقع اجتماعي معطى كشيء- وبقصد عملية مشتركة في سبيل زمن مقبل- يكون العيد محدودا: وهو مندمج بدوره مثل حلقة في سلسلة الأعمال المجدية. وباعتبار العيد نشوة وبلبلة وعربدة جنسية في حدوده القصوى فهو يغرق في المحايثة ويتجاوز حدود عالم الأرواح الهجين, لكن حركاته الطقسية لا تنزلق نحو عالم المحايثة إلا بتوسط الأرواح. وهذه الأرواح التي تستدعى في العيد للتضحية بتقديم الذبائح إلى حميميتها, تنسب إليها قوة فاعلة كما للأشياء. وحتى العيد نفسه يتم النظر إليه في النهاية كقوة فاعلة لا يرقى الشك إلى فعاليتها. إن امكانية الانتاج وإخصاب الحقول والمواشي تكون معطاة ضمن طقوس, غاية أشكالها الفاعلة والأقل استعبادا أن يتم فيها التخلي والتنازل عن جزء معين حتى لا يخسر الكل أمام أشكال العنف المخيفة في العالم الآخر. وفي كل الأحوال تبدو الجماعة في العيد بمثابة شيء بالدرجة الأولى- فردانية محددة وعمل مشترك من أجل الديمومة- سواء أكان ذلك بالإيجاب أثناء الإخصاب أو سلبا أثناء الاستعطاف. وليس العيد عودة حقيقية إلى المحايثة, لكنه تصالح ودي, ممتلئ بالقلق, بين الضرورات المتعارضة.
ولا تطرح الجماعة في العيد كشيء فقط بل كروح بصورة أعم (أي كذات- موضوع) لكن وضعها هو حد لمثولية العيد, ولهذا السبب فإن الجانب الذي يبرزها كشيء يكون أكثر وضوحا. فإذا لم تكن تلك المثولية موجودة أو لم تعد موجودة, تكون صلة الجماعة في العيد معطاة ضمن أشكال فاعلة غايتها الأساسية هي منتجات العمل والجني والقطعان. وليس من وعي واضح لما هو العيد حاليا (لما هو العيد لحظة تفلته) وهو ليس موجودا بتميز في الوعي إلا ضمن اندماجه في ديمومة الجماعة, ذلك هو العيد (التضحية بالحرق والحريق) كما يوجد في الوعي (تابعا لديمومة الشيء المشترك الذي يمنعه بدوره من أن يدوم), لكن هذا يوضح جيدا الاستحالة الخاصة بالعيد وحدود الإنسان المرتبطة بوعيه الواضح. فالعيد يحدث العيد كي يعيد الانسان إلى المحايثة, لكن شرط العودة هو ظلامية الوعي. ليست الإنسانية إذا- باعتبار الوعي الواضح تحديدا هو الذي يميزها عن الحيوانية- هي التي تعود إلى المحايثة. وليست فضيلة العيد مندمجة في طبيعة الإنسانية, وبالعكس لم يكن تفلت العيد ممكنا إلا لعجز الوعي عن إدراكه كما هو, ومشكلة الدين الأساسية معطاة في هذا الإنكار المحتم للعيد. ذلك أن الإنسان هو الكائن الذي فقد, بل استبعد ما يكونه, بغموض, أي حميميته غير المتميزة. ولم يكن للوعي أن يبلغ الوضوح مع مرور الزمن لو لم يحد عن مضامينه المعوقة, لكن الوعي الواضح نفسه يبحث عما أضاعه بنفسه, وعما يضيعه مجددا كلما اقترب منه أكثر. وليس ما اضاعه, طبعا, خارجا عنه, لأن الوعي الواضح للأشياء يحيد عن الحميمية الغامضة للوعي ذاته. والدين الذي يعد جوهره بحثا عن الحميمية الضائعة يعود الى جهد الوعي الواضح الذي يريد أن يكون في مجمله وعيا للذات: لكن هذا الجهد يذهب سدى, لأن وعي الحميمية ليس ممكنا إلا في المستوى الذي لم يعد الوعي فيه, عملية تنطوي نتيجتها على الديمومة, أي في المستوى الذي لم يعد فيه الوضوح, وهو نتيجة للعملية, معطى.
فقرة (8) الحرب: أوهام اندلاع العنف واندفاعه نحو الخارج
تتحدد فردانية المجتمع التي تصهرها بوتقة العيد بادئ ذي بدء على صعيد الأعمال الواقعية- الإنتاج الزراعي- التي تدمج التضحية في عالم الأشياء. وبهذه الطريقة تكون لوحدة الجماعة قدرة على توجيه العنف المدمر نحو الخارج. والعنف الخارجي تحديدا يتعارض من حيث المبدأ مع التضحية أو العيد الذي يمارس العنف فيه ثماره في الداخل. وحده الدين يؤمن استهلاكا يتلف الجوهر الداخلي لمن يحركهم. أما العمل المسلح فإنه يدمر الآخرين أو ثروة الآخرين. وفضلا عن ذلك يمكنه أن يمارس فرديا داخل جماعة, لكن الجماعة المتشكلة تبدأ بممارسته نحو الخارج وعندئذ تبدأ بتطوير نتائجه.
وللعمل المسلح في المعارك القاتلة والمجازر وعمليات النهب, معنى قريب من معنى الأعياد, في نطاق عدم معاملة العدو كشيء. لكن الحرب لا تقتصر على تلك القوى القابلة للانفجار, وهي ضمن تلك الحدود لا تعتبر عملا بطيئا كالتضحية, ولا تشن بقصد العودة على الحميمية المفقودة, إنها هجمة غامضة المصير, ينتزع اتجاهها نحو الخارج من المحارب تلك المحايثة التي يبلغها. وإذا كان صحيحا أن فعل الحرب يميل بطريقته الخاصة الى اذابة الفرد عبر تعريض قيمة حياته الخاصة للخطر النافي فان هذا الفعل بالعكس, لا يتمكن, مع مرور الزمن, من تفادي التأكيد على تلك القيمة ذاتها وذلك بجعل الفرد الناجي من الحرب هو المستفيد من ذلك الخطر المهدد.
تحدد الحرب تطور الفرد فيما هو أبعد من الفرد- الشيء, في إطار الفردية المجيدة للمحارب. يقوم الفرد المجيد, بواسطة نفي أولي للفردانية, بإدخال النظام الآخر إلى مقولة الفرد (المعبرة أساسا عن نظام الأشياء). وله الإرادة المتناقضة لجعل نفي الديمومة عملية دائمة, وهكذا فإن قوته, هي في أحد جوانبها قدرة على الكذب. وتمثل الحرب تقدما جزئيا, لكنه الأشد فظاعة: لا يحتاج المرء بسذاجة- او بحماقة- الا أقل من القوة كي يبدي عدم اكتراثه تجاه ما يبالغ في تقديره ويتباهى بتلك اللامبالاة.
فقرة (9) إخضاع اندلاع الحروب إلى تكبيل الإنسان- السلعة
لهذا الطابع الكاذب والسطحي عواقب وخيمة, فالحرب لا تقتصر على أشكال من الدمار لا حصر لها. إن المحارب الذي يحافظ بغموض على وعي لنزوع يلغي السلوك المتعلق بالاهتمام بالعمل, يقوم أيضا بإخضاع أمثاله من الناس إلى العبودية. وهو بذلك يجعل العنف يخضع الإنسانية إلى نظام الأشياء, وليس المحارب بلا شك هو المتسبب في عملية الإخضاع. ذلك ان العملية التي تجعل من العبد شيئا تفترض تأسيسا مسبقا للعمل. لقد كان العامل الحر شيئا بطريقة طوعية ولفترة محددة من الزمن. أما العبد فهو وحده الذي جعله النظام العسكري سلعة وبالتالي فهو الذي يتجشم عواقب الإخضاع كاملة. (انه لمن الضروري التدقيق بأن عالم الأشياء لم يكن ليبلغ امتلاءه من دون الاستعباد). وهكذا فان اللاوعي الفظ لدى المحارب يعمل أساسا باتجاه هيمنة النظام الواقعي. وما المجد المقدس الذي يدعيه سوى المبرر الكاذب لعالم ينوء في العمق تحت وطأة النفعية. كذلك ليس نبل المحارب سوى بسمة انثى سيئة حقيقتها المنفعة.
فقرة (10) التضحية البشرية
توضح لنا التضحية بالعبيد ذلك المبدأ الذي بموجبه يكون ما يستخدم منذورا للتضحية والتضحية تعيد العبد, الذي يؤكد استعباده اذلال النظام الإنساني, الى حميمية التفلت المشؤومة.
إن التضحية البشرية, بشكل عام, هي اللحظة الحادة في صراع تواجه فيه حركة عنف مفرط النظام الواقعي والديمومة. إنه الصراع الأكثر جذرية حول أولية المنفعة, وهو في الوقت نفسه أعلى درجات التفلت للعنف الداخلي. ويؤكد المجتمع الذي تستفحل فيه هذه التضحية أساسا على رفض عدم التوازن بين هذا العنف وذاك. ومن يدفع بقواه التدميرية نحو الخارج لا يبخل بمصادر ثروته, وإذا تم له استعباد العدو فإنه يحتاج إلى استخدام هذا المصدر الجديد للثروة استخداما مجيدا لا يخلو من استعراضية. وهو بحاجة إلى إلحاق إتلاف جزئي بهذه الأشياء التي تخدمه, لأنه مأمن وجود لشيء نافع بقربه إن لم يستجب, أولا, لمقتضيات استهلاك من النظام الأسطوري. وهكذا فإن التجاوز المستمر نحو الإتلاف ينفي, فيما هو يؤكد في آن, الوضع الفردي للجماعة.
غير أن هذه الحاجة إلى الإتلاف تسري على العبد في نطاق كونه ملكه وشيئه. وهي حاجة لا ينبغي خلطها بحركات العنف التي تتخذ من الخارج- العدو- موضوعها. وفي هذا الصدد تكون التضحية بعبد أبعد من أن تكون خالصة. إنها, بمعنى من المعاني, تمدد المعركة الحربية, بحيث لا يتم فيها إشباع العنف الداخلي الذي يعتبر جوهر التضحية. والإتلاف المكثف يتطلب تجاوز إتلاف ثروة الشعب النافعة إلى أتلاف ذلك الشعب نفسه كثروة لضحاياه, أو على الأقل تلك العناصر التي تعبر عنه والتي سوف تنذر هذه المرة للتضحية, ليس بسبب الابتعاد عن العالم المقدس- بسبب السقوط- بل بالعكس, بسبب اقتراب أو قربى نادرة, مثل الملك أو الأطفال (إذ يؤدي قتلهم في النهاية إلى إنجاز التضحية مرتين).
وليس بالإمكان التوغل أكثر في رغبة اتلاف الجوهر الحيوي بل ليس بإمكاننا التقدم بتهور أكبر. إن حركة الإتلاف المفرطة تستجيب لاحساس بالقلق خالقة إحساسا آخر أشد (…) وثمة علامات كثيرة تدل على أن تلك المتطلبات الفظيعة كانت سيئة التحمل. لقد أدى الغش والخداع إلى تعويض الملك بعبد منح ملكية مؤقتة. ولم تتمكن أولية الإتلاف/ الاستهلاك من الصمود أمام أولية القوة العسكرية.
ترجمة: محمد علي اليوسفي شاعر وكاتب من تونس