يعد المخرج السينمائي الياباني أكيرا كوروساوا، الذي ولد عام 1910 ورحل عن عالمنا في عام 1998، واحداً من أهم المخرجين الذين عرفتهم السينما اليابانية على الإطلاق، ومن المعتقد أن فوز فيلمه «راشومون» بالجائزة الكبرى في مهرجان البندقية السينمائي عام 1951 كان هو المدخل الذي من خلاله انفتح المجال لتعرف العالم على السينما اليابانية ومنجزها الفني الكبير. وعلى الرغم من أن الاهتمام العالمي بإبداع كوروساوا وصل إلى ذروته قبل ربع قرن من الزمان، إلا أنه يعود اليوم ليتجدد بقوة، مع صدور العديد من الكتب عنه، وإعادة إطلاق أعماله في إصدارات حديثة متعددة على امتداد العالم، باستخدام أحدث منجزات تقنيات العرض الرقمية.
إننا نعرف أن كوروساوا قد درس فن الرسم، وأراد الانطلاق في حياة عملية تعتمد على الإبداع من خلال هذا الفن، ولكنه اضطر للتخلي عن الرسم مهنة ومسار حياة، ليطرق أبواب العمل في السينما منذ عام 1935 بالتحاقه بشركة «بي.سي.إل» كمساعد مخرج متدرب. ولكن الرسم سيظل مهيمناً على حياته، حتى ليصل به الأمر إلى تحويل سيناريوهات أفلامه، التي كان يكتبها أو يشارك في كتابتها، إلى لوحات، قبل الوصول إلى مرحلة البدء في التصوير.
لهذا، بالضبط، فإننا نهتم هنا بعنفوان الصورة كوسيط للإبداع عند أكيرا كوروساوا، مع اهتمام خاص بهذا الجانب على نحو ما تجلى في فيلمه الشهير «راشومون» المقتبس من قصتين للروائي والقاص الياباني الكبير رايونوسوكي أكوتاجاوا، هما «في غابة» و«راشومون»، وقد كان الاهتمام بهذا العمل هو، على وجه الدقة، ما دفعني إلى ترجمة مجموعة «راشومون» التي تضم هاتين القصتين، وتقديمها في كتاب أصدرته الدائرة الثقافية بالشارقة عام 2004 مع مقدمة بقلمي تقع في 16 صفحة كاملة.
في البدء كانت الصورة
الذين تابعوا، بحب وتعاطف، أفلام أكيرا كوروساوا لابد أنهم يعرفون أنه منذ فيلمه الروائي الأول «سانشيرو سوجاتا» الذي أطلقه عام 1934 أظهر تمكناً واقتداراً كبيرين في التعامل مع الوسيط الإبداعي الذي يطل عبره، فلا مجال لتردد البدايات، ولا لتقليد الآخرين، وما نراه من إبداع في الاشتغال على الأسلوب في هذا الفيلم المبكر مرده العكوف على شكل بصري قوي وعميق يبحث عن مضمون أو محتوى مناسب.
ومنذ البداية، فإن كوروساوا لا يفعل ما كانت هوليوود تقدمه في الأربعينيات، سواء في حركة الكاميرا أو القطع أو المونتاج، حقاً إن حركة الكاميرا تنطلق ابتداء لأنها تقدمها حركة الشخصية، وهي تقوم بمتابعة هذه الحركة، تماماً كما في التقليد الهوليوودي. ولكن كوروساوا بعد ذلك يترك الشخصية التي أطلقت حركتها التتبع الأولى الذي تقوم به الكاميرا، ويعمد إلى إطالة الاطار المتحرك إلى أن يضم الشخصية. وعمليات التكرار والإرجاع لهذه اللقطة ستمهد للكاميرا التتبعية إلى درجة تتجاوز أي شيء نجده في أي فيلم أميركي يعود إلى الأربعينيات.
هكذا فإن كاميرا كورساوا، منذ البداية، تتحرك بشكل مختلف، بطريقة تكاد تكون طقوسية تقريباً، وتكرر وتعيد تكرار نمطها الاستهلالي. ومن المحتم أن النتيجة هي صورة مختلفة، عما تقدمه السينما اليابانية نفسها من خلال مخرجين يابانيين آخرين، وأيضاً مختلفة عما تقدمه هوليوود.
هذه الصورة المختلفة ستصبح أحد العناصر الأكثر أهمية التي ترتبط بسينما أكيرا كوروساوا، تماماً كما سنجد صورة مختلفة، بلغة فنية أخرى، عند ياسوجيرو أوزو.
هذه الصورة ستحلق إلى ذروة رفيعة في العديد من أفلام كورساوا، كما سنجدها في «الساموراي السبعة» وفي «ران» وفي العديد من أفلام المخرج الياباني الكبير الأخرى.
لكن ما يعنينا هنا أن نتوقف عنده طويلاً بالتأمل ومحاولة التحليل والفهم هو الصورة كما تتجلى لنا في «راشومون».
دعنا نلاحظ ابتداء أنه شأن كل عمل فني عظيم فإن «راشومون» لا يمنح أسراره بسهولة، لكنه قد يكون من المفيد هنا أن نتوقف عند ما يقوله كوروساوا نفسه في كتابه «ما يشبه المذكرات»، حيث يصارحنا، وكأنما في لمحة تأمل، في لحظة شجن، في التفاتة هاربة من صرامة الفنان الذي يجيد الصمت خارج إطار أفلامه، بما يلي:
«يعجز البشر عن أن يكونوا صادقين مع ذواتهم حيال أنفسهم، فهم لا يستطيعون الحديث عن أنفسهم من دون تجميل، وهذا السيناريو يصور مثل هؤلاء البشر، النوعية التي لا يمكنها أن تواصل البقاء من دون أكاذيب تجعلهم يحسون بأنهم أناس أفضل مما هم عليه حقاً. بل أنه يظهر هذا الاحتياج المفعم بالخطيئة إلى الزيف المتضمن للمجاملة وهو يمضي إلى ما وراء القبر، فحتى الشخصية التي تموت لا يمكنها أن تتخلى عن أكاذيبها عندما تتحدث عن حياتها عبر وسيط روحاني. إن الأنانية خطيئة يحملها الكائن البشري معه منذ الميلاد، وهي الخطيئة الأكثر صعوبة من حيث إمكانية التخلص منها».
هذا هو الجوهر، إذن، ولكن كيف ينتقل إلينا بصريا عبر هذا الوسيط الفني المراوغ الذي نسميه السينما؟
في هذا الفيلم نحن على موعد مع ساموراي وزوجته يمضيان في رحلة في منطقة نائية، حيث يصادفان قاطع الطريق تاجو مارو، ويعقب هذا اللقاء مصرع الساموراي واغتصاب الزوجة.
هذه القصة، التي تبدو لنا لأول وهلة واضحة وبسيطة، تروي لنا عبر أكثر من منظور، فهناك الرواية كما يقدمها لنا حطاب تصادف وجوده في المنطقة، وثمة شهادة كاهن بوذي جواب آفاق، ومن ثم شهادة الشرطي الذي ألقى القبض على تاجومارو، ثم رؤية حماة الساموراي للأحداث، وهناك اعتراف تاجو مارو، ورواية الزوجة، وأخيراً تأتي قصة القتيل على نحو ما رويت من خلال وسيط روحي.
مرة أخرى كيف ينقل لنا هذا المضمون المعقد علي الصعيد البصري؟
تداخلات النور والظل
إننا نعرف أن أكيرا كوروساوا استخدم في تحقيق هذا الفيلم الأسلوب الذي تم توظيفه بعد ذلك مراراً وتكراراً في السينما العالمية، والذي يتوازى مع أسلوب «تيار الوعي» في الرواية، حيث تتذكر الشخصيات المجموعة ذاتها من الأحداث، أي الاغتصاب وما يبدو أنه جريمة قتل، في أطر مختلفة بصورة ملفتة للنظر.
وقد لا يعلم كثيرون من عشاق فن كوروساوا أنه قد أراد «راشومون» أصلاً فيلما صامتاً، ولما كان هذا متعذراً إلى حد الاستحالة، فقد بادر إلى تقديم ثاني أفضل خيار، وهو الفيلم الماثل بين أيدينا اليوم.
وفي هذا الصدد يقول كوروساوا:
«إنني أحب الأفلام الصامتة، وقد أحببتها دوماً، وهي غالباً أجمل بكثير من الأفلام الناطقة. وربما يتعين أن تكون كذلك. وعلى أي حال فقد أردت استعادة بعض هذا الجمال. وأتذكر أنني فكرت في هذا الأمر بهذه الطريقة: إن أحد الأساليب الفنية لفن الرسم الحديث هو التبسيط، وبالتالي فلابد لي من تبسيط هذا الفيلم».
من هذا المنطق نحن أمام مجموعة مهمة من الملاحظات حول عنفوان الصورة كوسيط للإبداع في هذا الفيلم:
– أولاً: عنفوان الصورة كأداة لإعادة اكتشاف جوهر ما تعنيه السينما ــ يعتقد الكثير من النقاد أنه ربما منذ إيزنشتاين ومورانو لم يقدر لأي فيلم أن يبتكر سرده من خلال صور شديدة العنفوان بلا هوادة على نحو ما حث في «راشومون»، حيث تبدو الصور حقاً كما لو كانت تعيد اكتشاف جوهر المقصود بالسينما. وفي ضوء هذا يبادر بوسلي جروثر في نقده للفيلم في مقال مطول في صحيفة «نيويورك تايمز» إلى الإشارة إلى أن: «كل من يشاهد الفيلم سيذهله علي الفور جمال التصوير ورشاقته والاستخدام البارع لنور الغابة وظلها لتحقيق تنوع من التأثيرات البصرية القوية والرهيفة». ويستعصي على النسيان حقاً الوصف الذي استخدمه جيسي زونسر في مراجعة فيلم «راشومون» الواردة في كتاب دونالد رايتشي «راشومون في البؤرة» حيث يصف زونسر الفيلم بأنه: «سيمفونية من البصر، الصوت، النور والظل».
– ثانياً: تداخل النور والظل متاهة روحية وعاطفية مقصودة ــ ترجع جوانب من الشعور بالصدمة في تلقي هذا الفيض من الصور المتتابعة في «راشومون» إلى الجهد الكبير الذي بذله الفريق الفني في الفيلم لتوظيف تداخل النور والظل في الصور المتتابعة في الغابة. وتبدو هذه الصور اقتحاماً فريداً من نوعه في السينما العالمية للغابة، وهي التجربة التي سيكررها كوروساوا، بلغة فنية مختلفة في فيلم «درسو أوزالا» الذي حققه عام 1975 في غابات سيبيريا. ولكن هذه الصور في تتابعها الهادر ليست اقتحاماً للغابة وحدها، فنماذج النور والظل في تداخلها أراد بها كوروساوا أن توحي بنوع من المتاهة الروحية والعاطفية. وبالتالي فمشاهدتها ولوج للقلب والغابة معاً. وفي هذا الصدد يقول كوروساوا: «هذه النبضات القريبة للقلب البشري سيتم التعبير عنها من خلال استخدام تلاعب مقصود بالنور والظل. وفي الفيلم فإن الناس الذين يضلون في أغوار قلوبهم سيضربون ضائعين في برية أكثر اتساعاً، ولذا فقد نقلت موقع التصوير إلى غابة أكبر». هكذا فإنه كما قال كوروساوا نفسه فإن ألغاز الفيلم هي ألغاز القلب البشري، وليست ألغاز الصورة نفسها، وهذه نقطة بالغة الأهمية في فهم الصورة كما يقدمها «راشومون».
– ثالثاً: عنفوان الصورة ليس مقصوداً لذاته وإنما يوظف لتوصيل المعلومات السردية وتحقيق التأثير العاطفي عبر التصوير ــ أوحى عنفوان الصورة في هذا الفيلم، الذي يصفه البعض بأنه وصل إلى حد العدوانية، لبعض المشاهدين بأنه مقصود في حد ذاته، وهذا بالطبع ليس صحيحاً، ففي هذا الفيلم نحن على موعد مع متتاليات طويلة من الصور ركبت كمقاطع بصرية خالصة، أو على نحو ما ما كان هيتشكوك يسميها «السينما الخالصة»، أي متتاليات الصور التي توصل المعلومات السردية، والتي تحقق تأثيراً عاطفياً من خلال الصور حصراً. والحوار في هذه المشاهد يصل إلى حده الأدنى أو يغيب كلية. ونتوقف هنا بصفة خاصة عند متتالية الصور الطويلة المؤلفة من تسع عشرة لقطة، والتي تقدم لنا بالتفصيل اللمحة الأولى التي يشاهد فيها قاطع الطريق تاجومارو المرأة والساموراي في الغابة، حيث تتواصل هذه المتتالية بلا حوار، فيما كورساوا ينقل لنا عبر الصورة حر النهار الشديد، وجاذبية المرأة الغامضة، وتظاهر تاجو مارو بالضجر الذي يخفي اشتهاءه للمرأة، وتمدد حركة الكاميرا الإطار بحيث تلتقط ديناميات التوتر والخوف والغضب، وتصور خط بصر تاجومارو المتنقل فيما الزوجان يمضيان عبر الأشجار. ونتوقف طويلاً أيضاً عند متتالية اللقطات التي تظهر الحطاب وهو يسير في الغابة قبيل عثوره على أداة الجريمة، حيث تتألف المتتالية من خمس عشرة لقطة، جميعها لقطات تتبعية، بحيث تصبح في النهاية إيضاحا مطولاً لقدرات الكاميرا المتحركة. ويقوم كوروساوا بقطع متداخل على لقطات تتبعية منخفضة الزاوية للأشجار، والتي من خلالها تنسل الشمس بصورة متقطعة ولقطات تتبعية من زاوية مرتفعة للحطاب وهو يتحرك في الغابة ولقطات شديدة القرب للشخصية بكاميرا تقوم بالتتبع من الأمام والخلف. وتعد هذه اللقطات من أكثر اللقطات حسية وإيحاء بحركة الكاميرا في تاريخ السينما العالمية، والمتتالية بكاملها لها قوة تنويم مغناطيسي مذهلة. ويرجع جانب كبير من تأثير هذه المتتالية إلى الصمت الذي يسودها، إلى غياب الحوار، وإلى التأثير الصوتي الإيقاعي البديع الذي يعد المصاحب الوحيد للصور. وهناك متتاليات أخرى من اللقطات تشمل مقاطع من الحوار، ولكنها من نوعية خاصة للغاية، ومنها على سبيل المثال تذكر الكاهن الأول للقاء الزوجين في الغابة وتقرير رجل الشرطة عن العثور على تاجومارو وقد ألقاه الجواد عن صهوته فتمدد على الأرض إلى جوار النهر والصورة التي يقدمها تاجو مارو نفسه عن امتطائه الجواد وتوقفه للشرب. ونلاحظ أن الحوار الذي يشكل الحد الأدنى لا يؤطر للغة تذكر، وليس متزامناً مع الصورة والحدث.
الثـراء والرحابة
– رابعاً: عنفوان الصورة كأداة للثراء والرحابة ــ حرص كوروساوا علي أن يجمع بين عنفوان الصورة في «راشومون» وبصفة خاصة المتتاليات الملتقطة في الغابة وبين إبقاء الحوار في الحد الأدنى، مما يتيح التركيز على إبداع صور تتميز في آن بالثراء والرحابة. ومن الأمثلة البارزة في هذا الصدد المتتالية التي يمضي الحطاب عبرها شاقاً طريقة في الغابة. حيث يقوم كوروساوا بصياغة أنماط حركة الكاميرا بحيث تصبح معمار السرد، وتولد الرمز، وهكذا نرى الحطاب يستجيب بصورة حدسية لإيقاعات الغابة، حيث يعبر نهيراً قفزاً، وينحني متجنباً غصناً يعترض طريقه، ويعبر جسراً من الجبال وكتل الخشب، وهو لا يدرك هذه الأشياء بصورة واعية، وإنما ينزلق فوقها استجابة لحالة باطنية. والكاميرا التتبعية تقلد إيقاعات سيره وطوبوغرافية الغابة، وبالتالي فهي مؤشر شكلاني لهذه الحالة. لكن استغراقه في التفكير ينكسر عندما يكتشف أداة الجريمة. وفيما يعثر على عدة قبعات وحافظة تميمة وحبل وجثة أخيراً، فإنه ينطلق في العدو مرتبكاً وقد سيطر الخوف عليه. وبينما يقوم بهذه الاكتشافات تتوقف اللقطات التتبعية، ذلك أن الأشياء قد أزعجته وجعلته عقلانيا، وقد عاد ذهنه للعمل، وفقد استجابته الحسية والحدسية للغابة. وينعكس هذا التغير في الانتقال من الكاميرا المتحركة إلى اللقطات الثابتة التي تسجل اكتشافات الأشياء والجثة. وهكذا فقد تغيرت متتالية اللقطات على المستوى الشكلي والدرامي من الحركة الحسية إلى منظور الاهتمام الثابت والضيق، من الاستجابات الحدسية المنتمية إلى وضعية الزن إلى المنظور المقسم والمتصلب للعقل المنطقي.
– خامساً: عنفوان الصورة في مواجهة الأساليب اللغوية ــ من المهم أن نلاحظ في «راشومون» توظيف عنفوان الصورة ليشكل اختلالاً مقصوداً في التناسب مع الأساليب اللغوية التي يوظفها الفيلم. وأحسب أنني كنت محظوظاً عندما حصلت على نسخة للفيلم من مجموعة كرايتيريون الشهيرة خلال وجودي في كيوتو، معقل الثقافة التقليدية في اليابان وعاصمة الإمبراطورية علي امتداد أكثر من ألف عام، وهي النسخة التي تتميز بصورة وأصوات مستعادة رقمياً. فكما هي الحال في السينما الصامته نجد في «راشومون» أن الحركة تصبح تجسيدا للسرد ومؤشرا ضروريا للحالات الانفعالية والنفسية. والعواطف هنا يتم الإعراب عنها بالحركة من خلال تخارجها عبر أداء مؤسلب، وقد كان أسلوب الأداء المتسم بالعرض والمبالغة موضع جدل محتدم لدى عرض الفيلم للمرة الأولى في الغرب. والأسلوب التبسيطي المنتمي إلى السينما الصامتة الذي أراد كوروساوا العودة إليه شمل الأداء العريض والإيماءات المبالغ فيها التي جلبها توشيرو مفوني إلى شخصية تاجومارو وجلبته ماتشيكو كايو إلى شخصية الزوجة ماساجو. ولكن كوروساوا يعالج أيضاً اللغة التي تبنياها بما يشدد على رحابتها وغرابتها، فينما يصرخان ويصيحان بضراوة ويبكيان تبدو لغتهما غريبة من خلال طابعها التجاوزي ذاته. هكذا فإن المألوف تسلب منه ألفته بالطريقة التي قصدها الناقد الشكلاني فيكتور شكلوفسكي. هنا بالضبط يوجد كوروساوا اختلالاً بين البصري وبين الأساليب اللفظية، حيث يعمد إلى التشديد على المتتاليات البصرية الخالصة، في مواجهة استخدام وصفي للغة، حيث يبدو جلياً عدم الاتساق بين الجانبين، فأسلوب التمثيل المغرق في تجاوزه ينتزع الكلام انتزاعاً من السياق الطبيعي. وتلاعبات كوروساوا بالصورة والحوار في هذا الفيلم تقدم لنا نماذج من ذلك الميل في الفن الياباني نحو التعقيد المتطرف مع العناصر غير المتجانسة التي توضع في علاقات معقدة. هكذا نجد أنفسنا أمام عنفوان الصور المتدفقة وهي تتصادم مع هستيريا ألوان الأداء. ولا يتردد بعض النقاد، ومنهم ستيفن برنس في كتابه «كاميرا المحارب: سينما أكيرا كوروساوا» في القول إن الاختلال بين الجانبين هو بمثابة جوهر هذا الفيلم. وهو يشير في هذا الصدد إلى أن جريمتي قتل الساموراي واغتصاب زوجته ترويان بأربع طرق مختلفة، ويعاد لفظياً بناء هيكل العالم العضوي للأحداث والأشياء، ولكن اللغة وسيط لا سبيل للاعتماد عليه، فالقصص لا تتطابق، والتناقضات والاختلافات تسود بين الكلمة والواقعة. و«العلاقة الداخلية» بين الكلمة والواقع يتم إنكارها. وهذا الانفصال الاتصالي ينظر إليه في الفيلم من خلال المفاهيم الانطولوجية باعتباره فضاء يتجذر فيه الشر والخطيئة البشريان. وعدم استيعاب اللغة لعالم الوقائع هو قصة تدور حول السقوط البشري إلى عالم شوهه التباين والتعدد.
انحسار عنفوان الصورة
– سادساً: عندما ينحسر عنفوان الصورة: كل من شاهد «راشومون»، بحب وتعاطف، يعرف أن هذا العنفوان في صوره المتتابعة لايسود الفيلم كله، وإنما هو ينحسر عن مشاهد بعينها في الفيلم، ربما كانت أبرزها مشاهد بوابة راشومون التي تؤطر السرد، فالمرء لا يحتاج إلى كثير من التعمق في تحليل هذه المشاهد لكي يدرك أنها تم إنجازها بالمفاهيم التقليدية، حيث يغيب الاهتمام الكبير بإعادة بناء العلاقات بين الصورة والصوت الذي تابعناه طويلاً، فالصوت في مشاهد البوابة يدعم الصور لا أقل ولا أكثر ولا يتم تطوير صراع يذكر بين ما نراه وما تقوله الشخصيات، والانفصال بين الصورة واللغة اللفظية هو في أفضل الأحوال ميل أو اتجاه يتلقى تطويراً غير مكتمل في هذه المشاهد. هكذا فإن المفارقات وألوان التضارب هنا تنبع من الشخصية وليس من الشكل الفني. ويذهب بعض النقاد الذين انتقدوا «راشومون» بشدة إلى أنه هنا بالضبط في هذه المشاهد المتعلقة ببوابة راشومون يمكن طرح وضعية الفيلم كعمل من أعمال السينما الحداثية موضع التساؤل.
هذه النقطة الأخيرة المتعلقة بالتساؤل عن وضعية «راشومون» كعمل من أعمال السينما الحداثية تظل، في اعتقادي، موضع نقاش، فجزء من ثراء هذا الفيلم هو قدرته على إثارة هذه النوعية من المناقشات علي وجه التحديد.
وقد كان المخرج الياباني الكبير نفسه شديد الاهتمام بالصورة في مشاهد بوابة راشومون على وجه التحديد، فقد كان حريصاً على أن تبرز الكاميرا الطابع الصرحي والعملاق للبوابة، وذهب إلى حد تصور إمكانية توظيف تصوير الشمس لتحقيق هذا الغرض. وهو يقول في كتابه «ما يشبه المذكرات» إن ذلك كان مثار قلق كبير بالنسبة له، حيث أنه سبق له اتخاذ قرار باعتماد تداخل النور والظلال في الغابة كنغمة بصرية رئيسية في الفيلم بأسره، ومن ناحية أخرى ففي تلك الأيام كان توجيه الكاميرا إلى الشمس مندرجاً في المحرمات الفنية، ولكن هذا بالضبط ما تم تحديه.
أياً كانت الإشادات والانتقادات التي توجه إلى «راشومون»، فإنه يظل صحيحاً أن جانباً ليس باليسير من هذه وتلك يستمد من الصورة علي نحو ما قدمها لنا كوروساوا في هذا الفيلم، وعلى وجه الدقة من عنفوانها، الذي رأينا أن البعض لا يتردد في وصفه بالعدوانية، ومن طبيعة العلاقة بين الصورة والصوت.
أخيراً، بقيت نقطة مهمة يتعين التشديد عليها هنا، فنحن نعلم أن الأهمية الفنية والثقافية التي يتمتع بها «راشومون» تتجاوز بكثير وضعيته كفيلم، لأنه أصبح تجسيداً للمفهوم الثقافي العام المتعلق بنسبية الحقيقية. ومن المؤكد أن جانباً ليس بالهين من نجاح الفيلم في مهرجان البندقية في صدر النصف الثاني من القرن العشرين مرده إلى تناغمه الجلي مع التيارات المعاصرة آنذاك في الفكر والفن الأوروبيين، وبصفة خاصة مع الفلسفة الوجودية.
وقد نظر إلى الفيلم كذلك كحليف مفيد من قبل من كانوا يخوضون، في ذلك الوقت، غمار نضال محتدم لتكريس قيمة السينما باعتبارها فناً مؤثراً، تماماً كما ستكون عليه الحال في أواخر الخمسينيات بالنسبة لأفلام برجمان، فإن «راشومون» قد فجَّر قدراً هائلاً من النقاش والتعقيب حول ما نظر إليه على أنه رموزه الأساسية، أعنى بوابة راشومون العتيدة، المطر، الغابة، الوليد الذي يتم إنقاذه وتداخلات النور والظل على امتداد اندياح الصور الهادرة التي يتشكل منها الفيلم.
في اعتقادي أن هذه الرموز نفسها، وخاصة ما يتعلق بالجانب البصري منها، تعد شديدة الأهمية، في هذا المنعطف الذي يمر به العالم اليوم، والذي يحتدم فيه الصراع بين تيارات فكرية تشدد على مفاهيم نهاية التاريخ وصراع الحضارات، والعنف المطلق كأداة للحركة السياسية وإعادة تشكيل مصائر الدول وأقدار الشعوب، وبين تيارات تؤكد على تحالف الحضارات والطابع الإنساني والإتصالي للعالم اليوم قبل الغد، وتشدد على الأهمية القصوى للقاء البصر والبصيرة والضمير الإنساني، وتدعو إلى تفسير إنساني رحب للوجود بأسره.
كامل يوسف حسين
كاتب ومترجم من مصر