جرجس شكري
التقيته في مدينة بلا قلب منذ ما يقرب من ربع قرن، ورحت أقرأ مجموعاته الشعريّة في مجلد صغير الحجم، ثم بعد ذلك تابعت بشغف مقالاته في الأهرام، الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الذي أثار جدلاً كبيراً ليس فقط لكونه أحد روّاد قصيدة التفعيلة والمجددين في الشعر العربي، الذي دافع بضراوة عن موقفه وكان خصماً للعقاد عملاق الأدب في عزّ مجده؛ بل وأثارت حياتُه في كل مراحلها جدلاً لم ينقطع، فهو ليس الشاعر الموهوب أحد رواد التجديد، وليس فقط المثقف في برجه العاجي، لكنّه الشاعر صاحب الرسالة، ليس فقط في أشعاره التي ازدحمت بالشخصيات والمدن والشوارع والأحداث الجارية وقضايا اللحظة الراهنة، بل ومن خلال معاركه العنيفة في مواجهة التطرف الفكري والقوى الظلاميّة التي هددت العقل المصريّ وهويته، ففي بداية حياته كانت أشعاره شريكاً وشاهداً على الوقائع التي شهدها الوطن، وفي العقود الأربعة الأخيرة ومنذ عودته من منفاه في باريس تبنى من خلال مقالاته قضايا اللحظة الراهنة ودافع بإخلاص عن الهوية الثقافية، ودفع ثمناً باهظاً في سبيل حراسة العقل المصري.
وأذكر أنني قرأت أعماله منذ فترة مبكّرة في طبعة دار العودة، ومازلت أذكر شعوري بالفرحة أثناء القراءة ولم تنقطع الصلة مع أحد رواد الشعر الحرّ الذي كنا نحفظ قصيدته في هجاء العقاد خلال سنوات الجامعة، ونثني كثيراً على شجاعته، ونناقش تأثيره على أمل دنقل والأجيال التالية، وفي طريقي من الشعر الحرّ إلى قصيدة النثر سقط كثيرون ولكن ظلّ حجازي وصلاح عبد الصبور خارج الانحيازات الشعرية، خارج المدارس والتيارات، ظل الشعر صامداً، وحين قرأت أعماله الشعريّة الكاملة في طبعتها المصرية حديثا، عدت مرة أخرى إلى قاهرة الخمسينيّات التي بناها حجازي في مدينة بلاقلب «وسرت يا ليل المدينة/ أرقرق الآه الحزينة/ أجر ساقي المجهدة للسيدة «وفي نهايتها يهجو المدينة «يا قاهرة! أيا قبابا متخمات قاعدة/ يا مئذنات ملحدة/ يا كافرة/ أنا هنا لا شيء، كالموتى، كرؤيا عابرة/ أجر ساقي المجهدة، النصوص التي كنّا نحفظها لنحتمي بها من قسوة القاهرة في بداية الطريق حين قذفنا القطار القادم من الجنوب إلى شوارعها التي لا ترحم غريباً ولا تقيم علاقة مع شاعرٍ، وعدت معه إلى ماضي المدينة من خلال مذبحة القلعة ودراما أمين بك الذي هرب بحصانه من الموت، وقصيدته الأولى عن جمال عبد الناصر رئيس الجمهورية في ذلك الوقت، فثمّة معمار شامل للمدينة سياسيًّا واجتماعيًّا وتاريخيًّا، ثم تشرّدت معه في شوارعها «وأنا الذي هرولت بلا مأوى بدون رغيف كي تخرج الكلمات راجفة مروّعة بكل مخيف». وتوقفت طويلاً أمام سلّة الليمون القصيدة التي أدهشتني وحفظتها عن ظهر قلب في تسعينيّات القرن الماضي حين قرأتها للمرة الأولى وما زالت «سلة ليمون/ تحت شعاع الشمس المسنون/ والولد ينادي بالصوت المحزون عشرون بقرش بالقرش الواحد عشرون» المدينة القاسية التي أصبحت غابة من أشجار الإسمنت حين عاد من منفاه، المدينة التي ظل طيلة حياته يحرسها تارة بالشعر وتارة بالنثر. لكنني توقفت هذه المرة أمام الكم الهائل من الأسماء الواردة في النصوص وأيضا الأماكن والبلاد والأحداث فهناك أسماء توفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ ورجاء النقاش ولومومبا وجورج البهجوري وعبد الرحمن منيف وعدلي رزق الله بالإضافة إلى جمال عبد الناصر الذي تكرّر اسمه مرات وغيرهم، فمنذ ديوانه الأول، ومروراً بأعماله التالية؛ سيسافر القارئ إلى دمشق وبيروت وبغداد وأوراس وطليطلة وباريس والقاهرة وفلسطين أثناء القراءة، توقفت كثيراً أمام هذه الظاهرة! المدن والشخصيات التي ازدحمت بها أشعار حجازي الذي كلما قرأته شعراً أو نثراً أفكر في موقفه من الشعر وموقفه من الكتابة بشكل عام، والذي يبدو واضحاً منذ ديوانه الأول، أنّه قد استجاب لما يفرضه الوجدان، وجدان الشاعر، الذي ظلّ مخلصاً لواقعه وزمنه بدءاً من تمرّده على عمود الشعر؛ ووصولاً إلى تسخير الجانب الأكبر من حياته دفاعاً عن العقل في مواجهة قوى الظلام، ففي معاركه التي خاضها دفاعا عن الشعر وعن أفكاره التنويرية كان مخلصاً لنفسه في علاقته بواقعه ومنحازاً لزمنه، وليس صدفة أن تكون المدينة/ القاهرة مسرحاً لقصائده الأولى، فالقارئ يشاهد المدينة بكل تجلياتها في هذا الديوان، مدينة قوامها الكلمات، كلمات الشاعر حيث جسّدت المعاني عمارة المدينة وشخصياتها وتفاصيل الحياة اليومية، الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ بل ولمحات من تاريخ هذه المدينة، فهذا الديوان مرآة لقاهرة الخمسينيّات من القرن الماضي، فأنت لا تقرأ بقدر ما تعيش المدينة في ذلك العصر، ليكتب بعد ثلاثة عقود على صدور مدينة بلا قلب حول المعنى «المعنى في الشعر ليس فطرة أو غريزة بل هو ثمرة الكتابة وغايتها، وليست هناك غاية بلا قصد، فالمعنى يشمل الموضوع وصور الحسّ والخيال وعمل الذّاكرة والخبرات واللاوعي والمهارات الثقافية واللغوية» لقد وقف حجازي في صفّ المعنى ضد التيّارات العدميّة والشكليّة التي تُنكر وجوده في الشّعر وانحاز لمشروعها الثقافي الكبير، فالقصيدة عنده لا تبدأ من فراغ دون شك ومنذ ثلاثة أعوام قال لي في حوار حين سألته عن الشعر والواقع «دائما أعتقد أن الواقع الذي نعيشه بتفاصيله هو مصدر الإبداع وأنه لا ينبغي للشعر أن يصبح وصفا أو تقريراً أو ثرثرة نثرية، وأيضا لا يصح أن نتعمد صناعة قطيعة مع الواقع، بل بالعكس علينا أن نذكر مكاننا في هذا الواقع ونسميه بأسمائه» «وظني أنه لا يمكن قراءة حجازي وجيله دون الأخذ في الاعتبار طغيان السياسة على المشروع الثقافي دون مراقبة الأحلام التي تسرّبت وتلاشت وخاصة أحلام الوحدة العربية التي راودت جيلين من الكتّاب في الخمسينيات والستينيات، وراح بعضهم ضحية هذه الأحلام.
منذ ثلاثة أعوام سألته كيف توقف عن كتابة الشعر؟ فقد لاحظت وأنا أقرأ تواريخ المجموعات الشعرية: مدينة بلا قلب عام 1959 ثم أوراس 1962، لم يبق إلا الاعتراف 1965، مرثية للعمر الجميل، 1972 ثم تباعدت المسافات فاحتجت ثماني سنوات لكتابة كائنات مملكة الليل 1978، ثم أكثر من عشر سنوات لكتابة أشجار الأسمنت 1989، ثم أكثر من عشرين عاما للمجموعة الأخيرة طلل الوقت، لقد توقفت كثيراً عن كتابة الشعر! كيف يبتعد الشاعر، يومها صمت وسرح ببصره بعيداً، وكأنه يعود إلى الوراء سنوات وقال «شعري مرتبط إلى حد كبير بالحياة في الواقع المصري تماما، وخروجي من هذا الواقع كان له تأثير».
وفي باريس كتب عام 1974 «أنا والثورة العربية نبحث عن عمل في باريس، نبحث عن غرفة/ نتسكع في شمس أبريل، إن زمانا مضى وزمانا يجيء! قلت للثورة العربية: لابد أن ترجعي أنتِ، أما أنا فأنا هالك» لكنه لم يهلك بل هلكت الثورة العربية وعاد الشاعر إلى وطنه ليصبح من كُتَّاب الأهرام، ويحلّ محل توفيق الحكيم وزكي نجيب محمود وقال لي «هذه مسؤولية، وكنت في البداية أكتب الصفحة كاملة كل أسبوع، هذا أيضاً له تأثير سلبيّ علي كتابتي للشعر، فأصبحت مقلاً « كان عندي فضول أن أعرف كيف يتوقف الشاعر عن الكتابة سنوات، وراح البعض يفسر توقّف حجازي عن كتابة الشعر كما يحلو له، ودون شك من الطبيعي أن يحدث هذا من شاعر ومثقف كبير حريص على أداء واجبه وحريص على أن يحمي نفسه من الاعتماد علي السلطة، فقط الاعتماد على عمله ككاتب وقناعته بأن المثقف صاحب رسالة نحو المجتمع.
لم يكن حجازي يوما ضد قصيدة النثر، ولكنه كان ضد الجرائم التي تم ارتكابها في حق الشعر باسم قصيدة النثر حين ظن البعض أن الخواطر التي يكتبونها، والتي لا تتخلّى فقط عن موسيقى الشعر التقليدية بل تتخلى عن كل مفردات الشعر، عن اللغة، الخيال، الصورة الشعرية، عن كل شيء، أي إنها تتخلى عن الشعر، وفي تسعينيات القرن الماضي حين كنت أذهب قاصداً مجلة إبداع، فقط أسلّم عليه، نتبادل التحية، أترك له القصيدة يبتسم وأغادر فورا، ليس بيننا حديث أو كلام، وفي العدد القادم أجد قصيدتي منشورة، وما زلت أذكر أيضاً حين قدمت له قصيدة عنوانها «قداس فاطمة» عام 1995 نظر في الأوراق، وشعرت بدهشته وابتسم وغادرت مقرّ المجلة، وبعد أسبوعين كانت المجلة مع باعة الصحف، ولم أصدّق وجود القصيدة في العدد، لكن كيف كان ضد قصيدة النثر، فهل تكره قصيدة النثر يا أستاذ حجازي؟ حدّق في الأفق، نظر بعيداً وهب واقفاً وقال لي: أستطيع أن أقرأ قصيدة النثر الجيدة وأتذوقها وأشهد بجودتها، ولكن لا بد أن أميّز بينها وبين القصيدة الموزونة، فأنا لا أعترض على وجود قصيدة النثر؛ ولكن أعترض على أن تكون قصيدة النثر طوراً يحلّ محل القصيدة الموزونة، وأيضاً أعترض على اعتبار أن الوزن زائد وأن القصيدة يمكن أن تستغني عنه؛ لأنني أعتقد أن الوزن إضافة أيضاً، أداة أخرى تجعل اللغة شعرية لأنك في الشعر تصنع لغة أخرى، وحين أطلقت عليها القصيدة الخرساء بمعنى أنها ليست للغناء والإلقاء والإنشاد، أي ليست لغة صائتة ولكن في الوقت الذي أعلنت فيه هذا الرأي أقرأ قصيدة النثر وأعبر عن أعجابي بها.
فقلت له: وأنا من شعراء قصيدة النثر وقناعتي الشخصية تجعلني أوافقك تماما في أنه لا يمكن أن تحل قصيدة النثر محل قصيدة التفعيلة كما لا يمكن أن تحلّ التفعيلة محلّ عمود الشعر. فأنا أقرأ المتنبي أكثر من كل شعراء قصيدة النثر، ربما خلافي أو عدم قناعتي بفكرة أن الوزن ضرورة، ومرتبط بعروض الخليل ولا يمكن الاستغناء عنه، وأنت قلت إنه ضمن الأدوات وليس كلها.