مساء اليوم الثاني، فاجأني طارق الخال بمجيئه مع صديقه الأستاذ محمود الى حفل توقيع كتابي «مجنون بن بيروت» في جناح «دار الفارابي» في معرض الكتاب العربي والدولي الـ 55 في مركز البيال، حاملاً بيده كتابا عن والده «يوسف الخال ومجلته «شعر». فانتبهت الى الكتاب قبل ان أقول: مرحباً لكني مددت يدي وأنا أنهض عن الكرسي من خلف طاولة التوقيع وسلمت على الأستاذ محمود أولاً، ثم على طارق وهو يقول لي: Hi (هاي). بعد التحية والسلام شكرتهما على حضورهما، وبخاصة الاستاذ محمود الذي اشترى نسخة من كتابي وأنا كتبت كلمة مع اسمه وتوقيعي «المتورخ» بشيء من المودة ولو اني لم أعرفه من قبل .
إذ ان حضوره مع طارق زادني دهشة بعد ان اندهشت بحضور طارق غير المتوقع فهو لم يأتِ أثناء حفلات توقيع كتبي الأربعة خلال السنوات الثلاث الماضية، وبالطبع انا لم أزعل منه في الماضي ولا سأزعل منه اليوم اذا لم يحضر ولا غداً. وأنا أفهم ذلك تماماً. كما اني لم أنس عدم حضوره مع إلحاحي عليه لمرات عديدة، وحدث الإحتفال بإعادة طبع العدد الأول لمجلة والده «شعر» وتوزيعه مجاناً بمبادرة قيمة ومشكورة من قبل الاستاذ سليمان بختي مدير «دار نلسن» في إطار احتفالات بيروت عاصمة عالمية للكتاب في مركز جميعة خريجي الجامعة الأمريكية في بيروت قبل سنتين. وكنت يومها قد زعلت منه، لكن سرعان ما زال زعلي، متفهماً وضعه على مضض. اما في هذه اللحظة فقد شعرت وكأني غير مصدّق بأني أنظر إليها والى الكتاب. فبدا لي الأمر وكأني قد وجدت ورقة مهمة جداً. بالاضافة الىكل «البرايات والمحايات» والأقلام.
وفي اللحظة التي وضع فيها طارق يديه مكتفتين وهو مستمع لكلام صديقه لي ظهرت بوجهي تماماً صورة يوسف الخال على غلاف الكتاب، فاقتربت قليلاً نحو طارق بعد أن أنهى محمود كلامه، وسألته من أين اشترى هذا الكتاب؟
فرد: «من دار النهار» ومباشرة سألته عن ثمنه. فأجاب: «ثلاثة آلاف ليرة». ثم ضحك قليلاً وهو «يتلوح» بوقفته شيئاً ما ثم أضاف كلمة: «يا بلاش»! وعلامات التعجب باديةعلى وجهه. أما محمود فقد ابتسم قليلاً محاولاً الحفاظ على ملامح وجهه بشيء من الجدة نحو طارق الذي تأفف ولربما قال لنفسه وبداخله كلام لا يريد قوله أمامنا ولنا بما يتعلق برخص سعركتاب والده. ثم تراءى لي بأن طارق لربما تذكر مشهده وهو يقبض مبلغا من المال لا بأس به، ثمن لوحة رسم لوالدته الفنانةهلن الخال. وبلحظة كنت سأقول له لماذا لم يشترِ خمسة نسخ بسعر خمسة عشر ألف ليرة، أي ما يوازي عشرة دولارات ويكون منهم نسخة لي كهدية مثلما أنا أهديته بعضا من كتبي وبخاصة لأني كنت قد تحدثت معه مطولاً ولمرات عديدة عن دور والده في حركة الشعر والأدب العربي الحديث. وبخاصة على مستوى اللغة وتحديداً الكتابة النثرية ما بين الفصحى العربية والعامية اللبنانية وهذا الموضوع كان هاجسي لفترة طويلة. لكني عدت وغيرت رأيي بآخر لحظة، وذلك كي لا يظهر طارق أمام نفسه وأمامنا بأنه غير مبالٍ بكتاب والده، ولم «يرم» عشرة دولارات «كرمال بيو». هنا وبسرعة البرق انتبهت إلى أن طارق سيشعر ربما بالإحراج.فغيرت الحديث قائلاً أو سائلاً او مبرراً بكلمة ثم بكلمات أخرى. وذلك كي لا تكتمل صورة طارق غير المبالي وبالطبع قلت له كي يقرأ الكتاب وأنا سأشتريه لاحقاً. فرد علي مباشرة بكلمة: «لشو تدفع مصاري» ثم أضاف: «السبت أو الأحد لما تجي لعندي بعيرك كتابي من بعد ما أنا فلفش فيه»، وهكذا حصل. إذ بعد ثلاثة أيام بدأت أقرأ في الكتاب مباشرة بعد الغداء. حيث نام طارق على الصوفا في الدار معتذراً مني ومبرراً حاجته للنوم لمدة نصف ساعة، فأجبته: «نم ساعة»، دون أن أرفع وجهي عن الصفحة في الكتاب. وبعد لحظات سألته أن يقفل التلفزيون من «الريمونت كونترول» بقربه ففعل وختم بكلمة باللغة الإنحليزية «I need a short nap» «أنا بحاجة إلى قيلولة قصيرة».
حملت الكتاب بين يدي وأنا أحدق في صورة يوسف الخال بنظارتيه الكبيرتين وفي عينيه شبه المحدقتين بفكرة ما لا بل أفكار كثيرة كما في عين الكاميرا. ثم قرأت اسم الكاتب جاك أماتاييس السالسي. وعدت وقرأت اسم الكتاب، منزلاً رأسي فرأيت عبارة نصوص ودراسات 94. وبجاننبها صورة ديك «دارالنهار». وحين قرأت اسم المعهد الألماني للأبحاث الشرقية في بيروت، قلت: «هيئته كتاب مهم». فتحت الغلاف وقرأت اسم المؤلف. وعلى الصفحة الثانيةتاريخ طبعته الأولى شباط 2004. وهنا لفتتني عبارة (طبع جزئياً على نفقة وزارة الثقافة والأبحاث العلمية التابعة لجمهورية ألمانيا الاتحادية) وزاد اهتمامي بالكتاب بعد أن قرأت آخر عبارة وهي «يطلب في البلدان غير العربية من أرغون فرلاغ فورتسبورغ»، والعنوان باللغة الألمانية. ثم قلبت الصفحة «وشردت» في محتويات الكتاب وبعد دقائق قلت بداخلي: «هاي بحبشة حرزانة» وغرقت «فلفش» في صفحاته بشيء من البطء حتى ظهرت صفحة فيها عنوان: «أهم المآخذ على اللغة الفصحى» في أعلى الصفحة 183. «فتنحنحت» قليلاً وأخذت نفساً عميقاً وبدأت القراءة. قرأت الصفحة بكاملها بكل اهتمام وقليلاً ما أخذت نفساً قصيراً. لكن حين ما وصلت إلى كلمة أدونيس في أواخر الصفحة وهو يحمل بعنف وضراوة على هذه اللغة الجامدة … بلعت ريقي وقلت لنفسي لابد أن يكون رأي يوسف الخال مغايراً لرأي أدونيس. وهكذا شعرت حين وصلت في القراءة إلى آخر سطرين في الصفحة: «بينما يعبر يوسف الخال بالمقابل عن قناعته بضرورة تطويع الفصحى وتقريبها من اللغة المحكية حتى إيصالها إلى لغة الكلام العادي أو اللغة الدارجة». وبعد لحظة قلبت الصفحة. وبعد سطرين بدأت بقراءة «موقف يوسف الخال من قضية اللغة على صعيد مجلة «شعر» فقرأتها إلى آخر كلمة على «سحبة» واحدة. واستوقفتني فيها أمور عدة. الأول طرح قضية اللغة في العدد الأول لمجلة «شعر» والثاني نشر قصيدة بالعامية لميشال طراد «رح بتكون بالمستقبل حجر الزاوية». (بحسب تعبير يوسف) والأمر الثالث محاولات طلال حيدر بالغة العامية كما ورد في أحد اجتماعات الخميس. كما لفت انتباهي موقف يوسف الخال من الشعراء الشيوعيين الذي أخذوا يضمنون شعرهم بلغة بسيطة قريبة من النثر تفهمها العامة، حيث تساءل: «هل نظل نحن مساجين اللغة، أم نعبر عن حقيقتنا بإخلاص وبلغة طبيعية حية؟ (…) لقد جمدنا العرب بالبيان ولغة الخطابة، فهل يدفعنا اليأس من الفصحى أخيراً إلى اعتماد العامية؟ فاعترض أدونيس قائلاً: «انه لا يجوز المبالغة في الموضوع وأن العامية لا تستطيع أن تتحمل قضايا إنسانية عميقة وضخمة».
وكانت الجملة الأخير في الصفحة هي: «ويتضح من هذا الكلام أن تململ يوسف الخال كاد يبلغ حده وإن صبره كاد ينفد». وبالطبع نظرت في بداية الصفحة الثالثة وقرأت جملتين ثم توقفت، متفكراً بالعدد الأول القديم – الجديد لمجلة «شعر» فوعدت نفسي بقراءته الليلة حين أعود إلى البيت. لكني عدت وافتكرت بأن أنادي طارق و «وعيه» (أيقظه) من النوم وأسأله عن العدد الأول ذاك. لكن بعد لحظة قلت لنفسي «لشو؟ خليه نايم أنا بفتش»، وبدأت أبحث عنه، وبعد «برمة» وجدته على أحد رفوف المكتبة المصنوعة من أحجار مدهونة بطرش لون أسود وألواح خشب وعدت وجلست بمكاني وأنا «أفلفش» بكتاب المجلة شاكراً طارق بداخلي على احتفاظه بهذا الكتاب وأنه لم يعطه لأحد. نظرت في الغلاف قارئاً «شعر» ورقم1 ودار نلسن وعدد تذكاري بمناسبة بيروت عاصمة عالمية للكتاب بالتعاون مع وزارة الثقافة. وبالطبع عدت وقرأت للمرة الثانية كلمة سليمان بختي ناشر العدد الجديد. ثم «فلفشت» في صفحات المجلة باحثاً عن فهرس فلم أجد. ترددت ما جعلني أبحث عن قصيدة ميشال طراد فوجدتها وكانت بعنوان «كذبي» حيث قرأتها بشيء من الاندهاش والابتسام. وبعد لحظات ما بين أن أتابع القراءة في الكتاب الأول أو أبدأ القراءة في الكتاب الثاني. وفجأة وضعت ورقة «فاتورة» المعرض ما بين صفحتي 184- 185 في الكتاب الأول وأغلقته. وتابعت «الفلفشة» في كتاب العدد الأول لمجلة «شعر». عام 1957. للوهلة الأولى عزّ عليَّ التاريخ. إذ أنه تاريخ ولادتي (شتاء 1957) بحسب ما قالت أمي وأكدت : «بالعلامة كانت الدنيا تالجي» (ثالجة). ثم شعرت بشيء من الحنين إلى تلك الأوراق «السكرية» اللون وحرف الصف في الطباعة وشكل الإخراج الفني البسيط بدون أي زخرفة أو افتعال وبلحظة رغبت بقراءة مقالة يوسف الخال وهكذا فعلت. كانت المرة الأولى منذ سنوات عديدة أختار أن أقرأ شعر. ولو أني في بعض الأحيان أقرأ مطالع قصيدة أومقطع شعر وأنا أتصفح الجرائد صباحاً، وذلك لأسباب عدة وهذه قصة أخرى شرحها يطول. كما وكانت المرة الأولى لي التي أقرأ فيها شعرا وأفهمه مع بعض التفكير والتأمل. أي بعكس مما قرأت «من وقت لوقت» بضع قصائد شعر ولم أفهم منها شيئاً يذكر لذا تابعت قراءتي بشيء من الشغف وبخاصة لناحية اللغةوتحديداً النثر ما بين الفصحى والعامية. أي تماماً مثلما أنا أكتب. فشعرت بالقاسم المشترك بينه وبيني. وبعد لحظات تمتمت بكلمة: «بكتب مثله وما معي خبر». لكن حين قلبت الصفحة لكي أقرأ الصفحة الثالثة وهي «على دربي» تفاجأت بالكلمة الأولى وهي: تماسيح وأشباه تماسيح وبوم ملأ الدار وغربان وغيم أسود ينذر بالعاصفة الهوجاء بالطوفان بالموت على قارعة الدرب: وتوقفت لأعود وأقرأها للمرة الثانية. ثم تابعت ولما وصلت إلى المقطع الرابع قرأت باهتمام ملحوظ البداية لمرتين وهي: «عبيد نحن للماضي، عبيد نحن للآتي، عبيد نرضع الذل من المهد إلىاللحد. أما المقطع الخامس فكان له تأثير أقوى علي وبخاصة آخر كلمة وهي: «وتطوى سيرة الموت على الأرض». بيروت 15/10/56
قلبت الصفحة مباشرة وقرأت مقالة إبراهيم شكر الله وهي بعنوان «موقف اللذة» طرابلس الغرب 1943. وفي آخرها القاهرة 21/9/1956. وهي قصيدة طويلة من أحسن ما يكون.
بعد حين قطع طارق قراءتي وهو ينهض رافعاً «البطانية» (الحرام) عنه ويقول شيئاً ما، لربما طلب مني فنجان شاي فتناولت ورقة من جيبي ووضعتها ما بين صفحتي 64-65 ووضعت الكتاب على الطاولة قائلاً له بأني أيضاً أرغب في قراءة هذا الكتاب، فرد قائلاً بكل انتباه بأني أنا كنت قد أعطيته هذا الكتاب ولدي نسخة منه في مكتبتي. فأجبته موضحاً بأني أرغب في قراءته وليس باستعارته. حان وقت العودة إلى بيروت وعلى طريقتي بختم أو اختتام الزيارة بكلمة لها معنى قلت لطارق بأني معجب بالدور الذي لعبه والده في بيروت منذ خمسين سنة وهو بالطبع هزّ رأسه بشيء من الإعجاب والابتسام. وختم بكلمة: «thanks man» «شكراً يا رجل». ثم تحدثنا عن الوضع السياسي اللبناني والعربي والدولي «على طريقتي» وباللغة الإنجليزية مع شيء من اللكنة النيوركية التي أحب التكلم بها مع طارق، وهو كذلك يشعر بالارتياح وبخاصة حين نتحدث عن أميركا ولبنان كأميركيين من أصل لبناني ويهمنا توضيح الصورة. أو بالأحرى «الإسطوانة»!
في الباص إلى بيروت حاولت قراءة بضع صفحات متباعدة، وبعد دقائق شعرت برغبة ما للنوم «سحبة» ربع ساعة. فأغمضت عيني وأسندت خدي بيدي على طرف الشباك وحاولت أن أنام. وعلى ما يبدو نمت وفجأة تراءى لي أن لا أقرأ نصا كي لا أعود وأرغب بالنوم بل أن أطل على ملاحق الكتاب حيث فيها صور عن علامات يوسف الخال في المدارس والجامعات ورسائل منه وعنه حين أسس مجلة «شعر» وبسرعة فتحت الكتاب على صفحة الملاحق. فقرأتها وهي من 23 صفحة ثم نظرت في بداية الكتاب وقليلاً ماقرأت لعدم وضوح الخط في قصيدة على القافية التي كتبها يوسف الخال وهي بخط كمال خولي. ثم تابعت «الفلفشة» مع ريق خفيف على أصابع يدي لقلب صور الرسائل. فاستوقفتني صفحة الملحق رقم9 وهي صور، لقصيدة بخط يوسف الخال ألقاها بمناسبة تنصيب اللك السنوسي في ليبيا 1952. وبعد صفحتين صورة الملحق رقم 13 وفيه صورة فوتوكوبي عن قرار وزير الأنباء بمنح يوسف الخال ترخيصاً بإصدار مطبوعة شهرية «شعر» بيروت في 31 كانون الاول (ديسمبر) 1956. ثم وصلت إلى الملحق رقم19 وفيه قرار دارالنهار للنشر الاستغناء عن خدمات يوسف الخال في الدار. وعلى قفا الصفحة الملحق رقم 20 صورة عن ورقة «خرتوش» بخط يوسف الخال عن هيئة التحرير لمجلة «شعر»: يوسف الخال، أدونيس، فؤاد رفقة، نديم نعيمة، أنسي الحاج. وهناك أسماء «مشطوبة» أو «مشطوب» عليها، وبالمستطاع قراءتها. في أسفل الصفحة لا رقم لصندوق البريد. أما في الصفحة الثالثة فمكتوب عليها 26 اسما بخط يوسف الخال تحت عنوان: أسماء المساهمين في التحرير. وهي تحوي نخب بيروت في ذاك الزمان الذهبي. فسررت كثيراً من تلك «الجمعة» التي استطاع يوسف الخال لم شملها وجمعها على طاولة شعر وفكر وسلة عنب وتين وكأس وأمل. وحين نزلت من الباص في ساحة الدورة هممت على شيء من العجل بالركوب في «فان» المطار وأنا أعد نفسي بقراءة كتاب مجلة «شعر» الليلة قبل أن أتابع القراءة في كتاب طارق عن والده يوسف الخال ومجلته شعر. وهكذا حصل إذ أن أول شيء فعلته بعد أن فتحت الباب إذ دخلت غرفتي لـ«التفتيش» عن كتاب مجلة «شعر» فوجدته مع نسخة أخرى بجانبه فتناولته ووضعته على الطاولة وخطوت ووضعت إبريق الشاي على الغاز ثم خلعت حذائي وثيابي وقضيت حاجتي ثم ارتديت البيجامة وحضرت كباية شاي كبيرة وجلست على كرسي وبدأت القراءةمن حيث قد توقفت. سهرت مع مجلة «شعر» بشعور فيه الكثير من «البحبشة»، وكانت سهرة «غير شكل». وسرعان ماخطر في بالي التعبير المصري وهو «شكل ثاني» (حبك أنت)، وابتسمت مع شيء من «الدندنة». للوهلة الأولى، افتكرت بالحدث لمفاجأة لي. إذ أني ما كنت أحسب أن أقرأ كتاب المجلة من قبل وحين صدوره تصفحته وقرأت بعضا من صفحاته وخزنته في المكتبة. والمفاجأة الثانية كانت ردة فعلي المغايرة عن العادة تماماً حين أقرأ الشعر. حيث أني هذه المرة قد قرأت بتمهل ملحوظ ومتابعاً القراءة بشيء من الشغف الذي يأتي من عبق الزمان والمكان ورونق الكلمة التي أقرأ من ذاك الزمان وفي نفس المكان. بيروت أواخر الخمسينيات من القرن الماضي نصاً مطبوعاً حيث كان للكلمة معنى وسمع وأثر وحضور.فيما اليوم وأنا أقرأ ينقلب المجتمع العربي «فوقاني تحتاني» «upside down» بعد أن فرغ الكلام من معناه وسال الدم حبراً في الوجدان وفقدت بيروت ضميرها ومعناها. هذه المرة بدأت القراءة من أول صفحة فقرأت كلمة أرشيبولد مكليش واستوقفني جملتين أرغب في «تدشين التدوين بهما» وهما: «ولكن الشعر وحده يستطيع السماح للانسان الفرد كانسان بالدخول مباشرة إلى اختبار الحياة الفردي الحي». «وما لم تكن مدركات الانسان خاصة به ومتصلة باختباره للحياة فلن يستطيع أن تكون له حياة إلا عن طريق سواه. انه لا يملك نفسه. بل «لا نفس له». وبالطبع عدت وقرأت الجملتين لمرتين قبل أن أبدأ بقراءة القصيدة الأولى في العدد الأول للشاعر سعدي يوسف من البصرة بعنوان حكاية ( فلاح شيخ من «بلد سلامه» بالعراق يسقط عن نخلة ويموت. وهي قصيدة مؤثرة. ثم قرأت بشيء من الغموض قصيدة طويلة للشاعر بدوي الجبل بعنوان «اللهب القدسي» موقعة بتاريخ 8/12/56 بيروت. ثم كانت مفاجأة أخرى من قصيدة طويلة للشاعرة نازك الملائكة موقعة بتاريخ 1/11/56 بغداد. وقصيدة قصيرةبعنوان «هيام» للشاعر بشر فارس من القاهرة وعدت وقرأت للمرة الثانية قصيدة «كذبي» بالعامية اللبنانية للشاعر ميشال طراد. وقبل أن أرتاح قليلاً من القراءة قرأت قصيدة « تشك بحبي؟» للشاعرة فدوى طوقان من نابلس. ثم قرأت الصفحة الثانية وفيها قصيدة بعنوان «صبر» لألبير أديب. أما «مجنون بين الموتى» لأدونيس وهي مأساة في أربعة مشاهد فارتأيت بأن أقرأها لاحقاً وبمفردها ثم رغبت بالنوم ونمت.
مع طلوع الفجر استيقظت من النوم كعادتي لأقضي حاجتي بتبويل «فنتورة» ففعلت وعدت متثائباً إلى فرشتي لكني حين مددت يدي لأطفئ الضوء توقفت يدي عن الحركة وأبقيت الضوء «شغال» ثم هبطت يدي على كتاب يوسف الخال و مجلته «شعر» فحملته وأنا أجلس على الكرسي شاعراً بشيء من رهبة القراءة التي أحببتها منذ أن كنت طفلا وما زلت.
هامش
j جزء من سردية قيد الطبع بعنوان بحبشة كاتب (عودة إلى يوسف الخال).
فيصل فرحات
كاتب من لبنان